رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
النبي والبلوطة ونحن ننتقل هنا إلى المنظر الثاني في مسرحية الرجل، إذ نتحول من النظر إليه مع يربعام إلى جلسته تحت البلوطة، ونحن نسأل: لماذا جلس تحت البلوطة وقد أمره الله أن يفر من المكان، ويتباعد عنه، بأسرع وأقوى ما يمكن أن يكون التباعد؟، وما هي العواطف التي أحاطت أو سيطرت عليه أو اجتاحته، أو قادته إلى التجربة هناك؟؟ لعل أول عاطفة، كانت تجربة الإعجاب بالنفس، لعلنا نذكر ذلك الواعظ العظيم -وأغلب الظن أنه يوحنا ويسلي- الذي جاءه واحد من المستمعين ذات مرة ليقول له: ما أعظمك واعظاً، وما أروع عظتك وأعظمها تلك التي سمعتها في هذا اليوم،.. وأجاب الرجل الناضج الكبير: لقد سمعت كلمتك من آخر سبقك، فقال له الرجل متلهفاً: ومن هو؟ فأجاب: الشيطان!!،.. لقد جلس النبي تحت البلوطة، ودغدغ الشيطان إحساسه، وهنأه بالشجاعة التي لا مثيل لها، المثالية العظيمة التي من حقه أن يفاخر بها، وربما حدثه عن شخصيته العظيمة المنفردة، التي لا تعرف الأمة بأكملها نظيرها، وكيف يكون الحال، لو أنه لم يكن موجوداً،.. وكم تكون الخسارة البشعة، لو لم يوجد نظيره أو مثيله أمام الأزمات العظيمة، والصعوبات الهائلة المروعة... إن هذا الرجل كان أبعد من أن يدرك أن واحداً من أعظم الرجال في العصور كلها، رأى الله أن يحفظه من مثل هذا الخطر الداهم بشوكة قاسية: "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع".. أيها المصلح: أيها النبي: أيها الواعظ: احذر وصل ليلاً ونهاراً حتى لا تجلس تحت بلوطة النجاح، وأنت تنظر إلى شخصك بالكبرياء والخيلة والإعجاب بالنفس،.. فإن هذه تجربة الشيطان تدري أو لا تدري، وليحفظك الله من تجربة النجاح، كتجربة الفشل سواء بسواء!!.. على أن التجربة الثانية كانت: تجربة الجوع وهي تجربة أخرى تختلف تماماً عن التجربة الأولى،.. فإذا كانت التجربة الأولى أشبه بتجربة الشيطان للمسيح عندما أخذه على جناح الهيكل في المدينة المقدسة، وطلب إليه أن يطرح نفسه إلى أسفل ليراه الكل محمولاً على أيدي الملائكة دون أن يصيبه أذى، فيتملكهم الإعجاب، ويرون فيه المسيا المنتظر،.. فإن التجربة الثانية أشبه بالتجربة في البرية وهو جائع، الذي وإن كان ابن الله فليقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً، والله الطيب لابد أن يهتم بجوع ابنه، ورفض المسيح التجربة بقوله المعروف العظيم: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله"!!... جلس النبي تحت البطمة، وربما قسا عليه الجوع واشتد في تلك اللحظة ليسأل: كيف يمكن أن يتركه الله جائعاً، وهو النبي الذي يقدم خدمة ناجحة أمينة لسيده؟!.. هذه هي التجربة التي تتشكل بآلاف الصور تحت أية شجرة بلوط، عندما يجلس الخادم في وحدته القاسية ليسأل: أليس من حقه أن يأكل ويشرب كما يأكل ويشرب غيره من جميع الناس؟!... أليس من حقه أن يجد ضروريات الحياة، قبل الكماليات، كما ينبغي لأي ابن لله يرعاه الآب السماوي القادر على كل شيء!!.. فلماذا يجوع؟!! ولماذا يشقى؟!! ولماذا يتألم؟!! ولماذا يحتاج أولاده إلى الطعام والكساء وقد يجدهما أو لا يجدهما مع الصعوبة البالغة القاسية، وأين حنان الله، وحبه ورحمته وجوده؟!! آه أيتها البلوطة كم يحدث تحتك في السريرة من التجارب وأنت لا تدرين؟!!.. وكانت التجربة الثالثة: تجربة المجد العالمي، وكما أخذ السيد إلى جبل عال ليرى ممالك العالم ومجدها، والشيطان على استعداد أن يعطيه إياها جميعاً بشرط أن يخر ويسجد أمامه،.. جاء المجرب إلى النبي ليقول له: ترى هل كان من الضروري أن يرفض دعوة الملك يربعام؟، وألم يكن من الأفضل أن يتريث قليلاً قبل رفضها، حتى يقدم الخدمة الناجحة لإلهه؟!! أليس يربعام بن نباط في حاجة إلى من يرشده ويهديه إلى التصرف الصحيح؟.. وأليس هو في حاجة إلى نبي يعلن له الحق، ويصحح له السبيل؟!!، وأليس إذا ترك يربعام إلى شأنه، هل يضمن أحد أن يستجيب لدعوة الله، وينتفع بالرسالة الواضحة التي تبينها؟!!... هذه أسئلة كثيرة ربما تكون قد أتت له،.. لأنها تأتي إلى خدام الله الكثيرين، الذين يسألون مرات متعددة: هل من الضررة أن يفصل الإنسان بين الدنيا والدين؟، بين الحكمة البشرية وكلمة الله؟!!. وألا يصبح الأمر هنا نوعاً من العزلة التي لا ينتفع بها العالم، أو تغير المؤمنين أنفسهم،... ولماذا لا يدخل الخدام في قصور الملوك حتى تكون لهم الفرصة للخدمة والوعظ، والتعليم والإرشاد؟!!... ما أكثر الخدام الذين يجلسون مع النبي القديم تحت البلوطة تملأهم مثل هذه الأفكار والعواطف، وتهز عقيدتهم ووجدانهم ومفهومهم الديني هزا عنيفاً عميقاً من الأساس!!.. |
|