رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الصليب ومشورة الله المحتومة يظن البعض، لقصور في الفكر عندهم، أن الصليب بمأساته كان أمراً عارضاً أو مفاجئاً لخطة الله. لكن من كلمة الله نرى عكس ذلك على خط مستقيم؛ فلا هو كان أمراً اضطُرّ الله عليه، ولا هو كان قاصراً وعاجزاً عن منعه، حاشا. إن الصليب هو ترتيب أزلي وذبيحته مقرَّرة، والحمل كان معروفا سابقاً قبل تأسيس العالم. وعن هذا قال الرسول بطرس «هذا أخذتموه مسلما بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه». وسنذكر هنا أدلة سباعية على سيطرة يد الله على كل الأمور في مسالة الصليب، حتى أنه في ذلك اليوم، عندما بدا وكأن الشيطان انتصر والشر غلب، فإن يد الله العلية وخطته الحكيمة كانت مسيطرة على أكبر الأمور وأصغرها على السواء. هذه الأدلة السباعية هي: ميعاد الحكم طريقة الحكم مكان الحكم حيثيات الحكم عنوان علة الحكم خاتمة الحكم ما بعد نهاية الحكم. أولاً: ميعاد الحكم من متى 26 نفهم أن قادة أمة اليهود كانوا قد قرروا نهائياً قتل المسيح، لكنهم قالوا «ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب». فهم تفادوا قتل المسيح في العيد حيث تكون أورشليم مكتظة بالقادمين إليها من كل حدب وصوب، وخشوا أن يسبب القبض على يسوع المحبوب من الكثيرين هياجاً لا تُحمد عقباه. كان العيد يدنو بسرعة، وكانوا هم يجهزون أنفسهم للجريمة بعد أن يمر العيد بسلام، لكن موت المسيح جاء أسرع مما خططوا هم أنفسهم. ومات المسيح، ليس بعد العيد ولا قبله، بل يوم عيد الفصح نفسه. أتعرف لماذا؟ لأن المسيح هو حمل الفصح الحقيقي. وما كان خروف الفصح المذبوح والمشوي بالنار إلا صورة باهتة لشخصه الكريم في موته فوق الصليب. فلأن الفصح رمز له، فكان من الضروري لينطبق الرمز على الحقيقة انطباقاً مذهلاً، أن يموت المسيح، لا كما قال قادة اليهود، بل كما قال الكتاب المقدس. ثانيا: طريقة الحكم لقد حاول اليهود قتل المسيح مِراراً. مرة بسيف هيرودس، ومرة ثانية بمحاولة طرحه من فوق جبل الناصرة، وثلاث مرات في الهيكل برجمه. هذه المحاولات كلها لم تنجح. أما محاولتهم هذه المرة فكانت أن يُصلب المسيح لا أن يُرجم، وذلك لأنه قبل مولد المسيح بنحو ألف عام تنبأ داود بطريقة الموت هذه عندما قال «ثقبوا يديَّ ورجليَّ». لكن ليس فقط داود تنبأ بهذه الميتة، بل إن المسيح نفسه حدد ميتة الصليب. فلقد قال لنيقوديموس «كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان». فكان ينبغي أن يموت مصلوباً. إن ميتة الصلب هي ميتة اللعنة، و«المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لنه مكتوب ملعون كل من عُلِّق على خشبة». ويعلق يوحنا قائلاً «ليتم القول الذي قاله مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يموت»! (يو18: 32). ثالثا : مكان الحكم كان لابد أن يموت المسيح في أورشليم، فهو الذي قال لا يمكن أن يهلك نبي خارج أورشليم. ثم كان لابد أن يموت خارج المحلة، تماماً كما كانت «الحيوانات التي يُدخل بدمها إلى الأقداس تُحرق أجسادها خارج المحلة» (لا16؛ عب13). لكن ليس فقط مات المسيح في أورشليم خارج المحلة، لكن كان لابد أن يُصلب على الصليب الأوسط. ولقد اهتمت البشائر الربع بإبراز هذا الأمر، لكن علق مرقس عليه بالقول «فتم الكتاب القائل وأُحصي مع أثمة». رابعا: حيثيات الحكم لقد حاول بيلاطس أن يوفِّق بين شراسة وحقد اليهود، وبين اقتناعه ببِرّ المسيح، ففكر، ضمن ما فكر، أن يصدر الحكم باستذناب المسيح ثم يطلقه حراً كهدية العيد، وبذلك يرضي اليهود ويرضي ضميره. لكن مشورة الله كانت عكس ذلك تماماً: أن يعلن الحاكم برائة المسيح ثم يصدر حكماً بصلبه. فالمسيح لو كان فيه أي عيب لما صلح أن يكفِّر عن الخطاة. وخروف الفصح لو كان به عيب أو دنس لَمَا صلح أن يكون فصحاً. وهكذا فقد فحص الوالي يسوع وشهد مراراً ببراءته، ثم أمر بصلبه! خامسا: عنوان على الحكم بحسب قوانين الدولة الرومانية كان ينبغي أن يُعلَّق فوق صليب المحكوم عليهم حيثية الحكم التي صدرت على المصلوب. فماذا يُكتَب بيلاطس كعنوان لعلة من اقتنع هو نفسه ببرائته؟ هذ هو لقد كتب يسوع الناصري ملك اليهود. ولما احتج رؤساء كهنة اليهود على هذا العنوان رفض بيلاطس التغيير المقترح بقول صار فيما بعد بمثابة مثل، إذ قال «ما كتبت قد كتبت». ونحن ندهش كيف خضع الوالي لإرادة أولئك القتلة في أن يحكم بصلب البريء، رغم اقتناعه ببراءته، ثم يرفض في تصميم الخضوع لإرادتهم في مسالة تبدو شكلية. لكن الحقيقة العجيبة أن بيلاطس عندما خضع لليهود كان يتمم دون أن يدري مشورة الله، وعندما رفض الخضوع لهم كان أيضاً يتمم مشورة الله. ويا له من عنوان لعلّة لا تتضمن أي عِلّة على الإطلاق، إلا إذا كانت عِلّة في اليهود أنفسهم، الذين صلبوا ملكهم، رافضين أي ملك آخر سوى قيصر. ولقد كان العنوان الذي كتبه بيلاطس مُساقاً بيد علوية هو أول نبذة تُكتب في العالم، خلص بواسطتها اللص الذي عرف منها مجد المصلوب إلى جواره، فقال له «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك»، فجاءه الجواب «الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس». سادسا: خاتمة الحكم كان الوضع الطبيعي أن يظل المحكوم عليهم بالصلب يومين أو ثلاثة أيام، فيها يذوق المصلوب ألواناً من العذاب وهو يقاسي الموت البطيء. وكان من الممكن أن يحدث هذا مع المسيح لو سارت الأمور في مسارها الطبيعي، لكن الله في هذا الأمر، كما في كل أمر آخر، كان مسيطراً تماماً، فطلب اليهود من بيلاطس أن تُكسر سيقان المصلوبين ويرفعوا، لا إكراماً للمصلوبين طبعاً، بل إكراماً للسبت العظيم! وفعلا أصدر بيلاطس الأمر، وبدأ جنوده في التنفيذ. لكنهم بعد أن كسروا ساقي الأول والآخر المصلوب معه أتوا إلى يسوع لكنهم لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات. لكن يوحنا رأى في هذا الأمر إتماماً لنبوة وردت عن المسيح «عظم لا يكسر منه». وطبعاً نحن لا نقول إن المسيح لم تكسر ساقيه لأن خروف الفصح ما كان يكسر منه عظم، بل العكس هو الصحيح، فلقد كان لا بد أن الفصح، لكي يشير إلى المسيح، أن لا يكسر منه عظم. وأما المسيح فلأنه هو التقي الحقيقي فلقد حفظ الرب جميع عظامه وواحد منها لم ينكسر. لكن أحد العسكر، ولكي يقطع الشك باليقين في أمر موت المسيح فإنه غرز حربته القاسية في جنب يسوع، فخرج دم وماء. ونلاحظ أن هذه الطعنة في جنب المسيح لم تكن عادة رومانية متبعة، ولا هي أمر من بيلاطس. فماذا إذا؟ إنها ببساطة لكي يتم الكتاب. فذلك الجندي لم يكن في طعنة الحربة مُنفِّذاً لأمر بيلاطس، لكنه دون أن يدري نفذ أمر الله. سابعا: ما بعد نهاية الحكم لقد مات يسوع فعلاً. وكان كل تلاميذه المخلصين قد هربوا إذ ملأ الخوف قلوبهم، وكان هذا تتميماً للنبوة «اضرب الراعي فتتبدد الغنم». ولقد كان تصور اليهود، بل ومنتهى أمانيهم، أن يُدفن المسيح بلا كرامة مع المذنبين، وتعلوه رجمة من الحجارة، وينتهي كل شيء. لكن عين الله الساهرة ويمينه العلية رتبت شيئاً آخر، بل إن مشورة الله المحتومة كانت قد خططت ذلك الأمر وسجلته في التوراة التي بين أيدي اليهود أنفسهم. ففي نفس أصحاح آلام المسيح، أعني إشعياء 53، ترد هذه النبوة «جُعل مع الأشرار قبره (لكن) مع غني عند موته (لأنه) لم يفعل ظُلماً ولا وُجِد في فمه غش». ولذلك فلقد تقدم أحد أثرياء اليهود واسمه يوسف الرامي تلميذ ليسوع في خفية، لم نسمع عنه من قبل، ولا سمعنا عنه بعد ذلك، تقدم إلى بيلاطس وطلب أن يُعطى جسد يسوع فأذن له. والأرجح أنه هو لم يفكر ولا فكر سواه في نبوة إشعياء، وبدا وكأن الأمر محض صدفة. شأنه شأن كل ما تم في ذلك اليوم العصيب بأحداثه السريعة المتلاحقة. وكان لهذا الأمر، بالإضافة إلى أنه كان إتماماً للنبوة، له أهمية مزدوجة: الأولى لإكرام جسد المسيح القدوس «لن تدع تقيك يرى فساداً»، وثانيا: ليمكن إعلان حقيقة القيامة، والتي تُعتبر مع موت المسيح ركناً أساسياً في الإنجيل الذي آمنا به. نعم قارئي العزيز إن كان الصليب من جانب هو مأساة الدهور، لكنه في نفس الوقت هو العمل الذي وضع أساساً لنهاية كل المآسي. وإن كان قد ظهر عند الصليب أعظم شر، فقد نتج عنه أيضاً أعظم خير. وإن كان هو أفظع ظلم، لكننا ايضاً في الصليب نشهد العدل الدقيق، إذ استُعلِن برّ الله. وإن كان الشيطان بدا ووكأنه منتصر، لكن في الصليب وُضع أساس إبادته إلى أبد الآبدين. مُبْدِعُ الكَونِ القَديرُ فَرَّ عَنهُ كلُّ خِلٍّ حَسِبُوهُ كأثيمٍ ألبَسوهُ تاجَ شوكٍ سُمِّرَ فوقَ الصليبْ مِثلَ إنسانٍ غَريبْ مُستَحقٍ للغضَبْ بَدَلَ تاجِ الذهبْ قَاسَى ربي كلَّ هذا بل وسيفُ العدلِ جازَ نكَّس الرأسَ أخيراً فلَكَ نجثو بحبٍ وتحمَّلَ العنا فيه كي أنجو أنا مائتاً عن الخطاةْ أيُّها الربُّ الإلهْ |
|