في اليوم الثامن من شهر أمشير عيد دخول السيد المسيح طفلا إلي الهيكل,في تمام الأربعين يوما من ميلاده بالجسد,(أو بالحري تجسده) أي ظهوره لابسا جسد إنسان.
لقد أمرت الشريعة الإلهية من قبل,أن تأتي كل أم إلي الهيكل بطفلها وتظهر به أمام الله في هيكله أي بيته,تعبيرا عن شكرها لصاحب العطية وخالقها,وتقدم مع طفلها تقدمة شكر لله.فإن كانت الأم غنية قدمت عن تطهيرها حملا حوليا(خروفا ابن سنة) محرقة, ومعه فرخ حمام أو يمامة,ذبيحة خطيئة.فإن كانت الأم فقيرة قدمت عن تطهيرها يمامتين أو فرخي حمام:أحدهما محرقة,والآخر ذبيحة خطيئة,فيكفر عنها الكاهن فتطهر (سفر اللاويين12:2-8).
هكذا صنعت العذراء القديسة مريم,صعدت إلي الهيكل بعد أربعين يوما من ولادتها ليسوع المسيح,حملته علي ذراعيها,وذهبت به ومعه يوسف النجار لتقدمه للرب,ولتقدم عن نفسها ما أمرت به الشريعة لتطهير الأم النفساء بعد إتمام تطهيرهاوهي أربعون يوما إن كان ولدها ذكرا,وثمانون يوما إن كان مولودها أنثي (اللاويين12:2-5).ولما كانت مريم العذراء امرأة فقيرة,فقدمت ما أمرت به الشريعة بالنسبة للمرأة الفقيرة,ذبيحة,هي:زوجا يمام أو فرخا حمام.
قال الإنجيل:ثم لما تمت أيام التطهير علي مقتضي شريعة موسي صعدوا به أورشليم ليقدماه للرب,عملا بما هو مكتوب في شريعة الرب من أن كل فاتح رحم من الذكور يدعي مكرسا للرب,وليقدما الذبيحة التي تفرضها شريعة الرب,وهي زوجا يمام أو فرخا حمام(لوقا 2:22-24, 27, 39).
وهنا نتوقف لنتأمل:هل كان مفروضا علي مريم العذراء أن تقدم عن تطهيرها محرقة وذبيحة خطيئة للتكفير عنها؟
نحن نعلم أن القديسة مريم لم تحمل بالمسيح يسوع بزرع رجل,فقد قالت عن نفسها للملاك الذي بشرها بالحبل الإلهي:أنا لا أعرف رجلا(لوقا1:34).وقال الملاك عنها ليوسف رجلها:إن الذي سيولد منها إنما هو من روح القدس(متي1:20).وإذن فقد حملت بالمسيح يسوع من غير دنس الخطيئة الأصلية,لأنها لم تعرف رجلا.
وإذن فالعذراء حملت بالمسيح من غير دنس الخطيئة الأصلية,فلماذا كان التطهير؟ولماذا كان تقديم المحرقة وذبيحة الخطيئة التي تقدمها طبقا للشريعة كل امرأة حملت بدنس الخطيئةبالإثم حبل بي,وبالخطايا اشتهتني أمي(مزمور50:5).زاغ الخطاة من الرحم,ضلوا من البطن(مزمور57:3),ومن البطن سميت عاصيا(إشعياء48:8)؟!
لماذا ذهبت العذراء إلي الهيكل تحمل المسيح علي ذراعيها بعد أربعين يوما من ولادتها له؟ولماذا قدمت زوجي الحمام,عن تطهيرها وعن ابنها وهو قدوس القديسين(لوقا1:35)؟
ليس هناك غير تفسير واحد:إن العذراء مريم خضعت للشريعة الإلهية حتي وهي تعلم أنها ولدت بالمسيح من غير دنس الخطيئة الأصلية.
وهذا الخضوع للشريعة بينة علي تقوي العذراء وورعها ومخافة الله فيها.ثم هو دليل علي تواضعها واعترافها بأنها امرأة كسائر النساء,ومع أن إليصابات العجوز-وهي تبلغ من العمر سبعة أمثال عمر مريم-حيتها بالروح القدس:وصاحت بصوت عظيممباركة أنت في النساء.....(لوقا1:42). لكن العذراء مريم لم تتخذ تحية أليصابات لها بالإكبار والإجلال, أو التحية الخاصة التي حياها الملاك بها(لوقا1:30) ذريعة لتعفي نفسها مما أمرت به الشريعة سائر النساء.
وهذا هو التواضع الصحيح والحقيقي والعملي.إن المتواضع علي الحقيقة هو من يضع نفسه موضع غيره من أترابه,ولا يترفع عنهم,ولا يدعي لنفسه امتيازا عليهم,أو يتخذ من مكانته أو منصبه ذريعة تعفية من الإلتزام بما يلتزم به غيره.
وهذا الموقف من العذراء مريم,ومن السيد المسيح يكشف لنا عن حقيقة في غاية الأهمية, ويحدد موقفنا نحن أبناء العهد الجديد من شريعة العهد القديم.
لقد أعلن السيد المسيح هذه الحقيقة صراحة فيما بعد إذ قال في موعظته علي الجبللا تظنوا أني جئت لأنقض الشريعة أو الأنبياء.ما جئت لأنقض بل لأتمم.فالحق أقول لكم إنه إلي أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة حتي يتم كل شئ(متي5:17, 18).وقال للأبرص بعد أن شفاهاذهب إلي الكاهن,أره نفسك,وقدم عن تطهيرك القربان الذي أمر به موسي(مرقس1:44),(لوقا 5:14),(متي8:4). إن الله الذي وضع الشريعة كيف يهدمها؟وإذا كان هو الذي أمر بها فكيف ينقضها؟
إن شريعة العهد الجديد لم تهدم شريعة العهد القديم,إنما تتممها.والتتميم قد يقتضي إحداث تغيير,ولكن في الشكل لا في الجوهر.لذلك لم ولن يحدث في العهد الجديد تغيير في شريعة العهد القديم إلا في نطاق التتميم والتنفيذ,بمعني أن شريعة العهد القديم أمرت بتقديم ذبيحة من الحيوان والطير للتكفير عن الخطيئة,ولكن ذبيحة الحيوان لم يكن مقصودا إليها لذاتها لأن الحيوان-وهو أقل مرتبة من الإنسان-لا يكفر في الواقع عن خطيئة الإنسان.إنما كل قيمة الذبيحة الحيوانية أنها إشارة ورمز إلي الفادي الحقيقي الذي لم يكن قد أتي بعد.فقيمتها إذن مؤقتة,وموقوتة بمجئ الفادي والمخلص.من هنا فما كان يرمز إلي ذبيحة المسيح,قد تم إبداله بذبيحة المسيح,وذبيحة المسيح ننال استحقاقاتها في المعمودية(للتكفير عن الخطيئة الأصلية التي نولد بها)وننال استحقاقاتها في سر القربان(للتكفير عن الخطايا الفعلية اليومية).وفيما عدا هذا فلا تغيير في التزامنا نحن أبناء العهد الجديد بشريعة العهد القديم,سواء في الوصايا العشر(وهي الشريعة الأدبية مفهومة في نطاقها المسيحي),أو في الشريعة الطقسية(وهي مراسم العبادة من صلاة وصوم,وتقديم ذبائح السلامة والعطاء,وحرق البخور...وتدشين أماكن العبادة,والاحتفال بالأعياد-إن هذه جميعها لم تتغير في جوهرها,وإنما اكتسبت علي ضوء مكاسب العهد الجديد معاني أوسع مما كان لها في العهد القديم).
نقول هنا توكيدا علي أن المرأة في العهد الجديد كانت ولاتزال ملتزمة بشريعة الله كما جاءت في العهد القديم بأن تظل بعيدة عن الأقداس طوال مدة نفاسها(وهي أربعون يوما إذا كان مولودها ذكرا,وثمانون يوما إذا كان مولودها أنثي)وإلي المقدس لا تجئ حتي تكمل أيام تطهيرها(اللاويين 12:4) فإذا تمت أيام تطهيرها تأتي إلي الكاهن,فيقرأ علي رأسها التحليل الخاص بذلك,والمدون بكتاب التعميد,فتدخل إلي الكنيسة بعد ذلك.
إن العذراء القديسة مريم- رائدة العذاري وفخر النساء-خضعت لأمر الشريعة,ولم تتذرع بذريعة ما لتتنصل من أحكام الشريعة.
علي أنه مما يجدر التنبيه إليه هو أن شريعة التطهير للمرأة النفساء أو الحائض ترتبط جوهريا بالخطيئة الأصلية,التي تنتقل لوثتها إلي كل الجنس البشري بالتوالدبالإثم حبل بي,وبالخطايا اشتهتني أمي(مزمور50:5).وإلا فلماذا كانت المعمودية ضرورية لكل طفل مولود حديثا علي الرغم من أنه لم يخطئ بعد خطيئة فعلية؟!
يقول القديس أوغسطينوس في تفسير المزامير تعليقا علي قول النبي داود:بالإثم حبل بي وبالخطايا اشتهتني أمي.
هل ولد داود من زني,أن ولد من يسي,وهو رجل بار وزوجته؟إذن فلا يمكن أن تكون هذه الآثام التي حبل به فيها سوي الآثام التي تحدرت إليه من آدم....وقد قال أيضا نبي في موضع آخرليس أحد طاهرا في عينيك حتي الطفل الذي عمره يوم واحد علي الأرضلأننا نعرف عن معمودية المسيح أن الخطايا تنحل,وأن معمودية المسيح نافعة لمغفرة الخطايا فإن كان الأطفال مبررين فلماذا تركض بهم إلي الكنيسة أمهاتهم....؟ماذا يغفر بتلك المعمودية؟....ماذا تغسل المعمودية؟ماذا تحله تلك النعمة؟إنها تحل عقاب الخطيئة.لأنه لو استطاع ذلك الطفل الرضيع أن يتكلم لقال لك,لو كان له فهم داود لأجابك قائلا:لماذا تهتم بي أنا الطفل الرضيع؟....لأنني بالإثم حب بي,وبالخطايا غذتني أمي في البطن...إذن فكيف يمكن أن يولد بدون رباط الخطيئة من حبل به وزرع في جسد ميت بسبب الخطيئة؟إن اجتماع الرجل بزوجته ليس فيه خطيئة,لكن أصل الخطيئة ينجم عنه قصاص واجب...لهذا لاق أن يقاللأنه يموت جميع الناس في آدم(1.كورنثوس15:22) وكما يقول الرسولكما أن الخطيئة دخلت في العالم بإنسان واحد,وبالخطيئة دخل الموت,هكذا سري الموت إلي جميع الناس,لأنهم جميعهم خطئوا فيه(رومية5:12).وهكذا القول في آدم أخطأ الجميعواضح ومحدد.إذن فلا يمكن أن يولد طفل برئ,إلا هذا الطفل الواحد الذي لم يولد من عمل آدم(وهو المسيح).
ويقول الشهيد كبريانوس من آباء القرن الثالث في رسالته المجمعية إلي فيدوسfidus والتي ترجع إلي سنة252/251م إن الطفل...المولود حديثا لم يرتكب خطيئة إلا أنه إذ ولد في الجسد من آدم,فقد أصابته عدوي الموت القديم منذ ولادته...وخطاياه التي تغفر له ليست هي خطاياه هو ,بل هي خطايا آخر.