رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الأبدية هي رجاؤنا لَيْتَ كَلِمَاتِي الآنَ تُكْتَب. يَا لَيْتَهَا رُسِمَتْ فِي سِفْرٍ [23]. تكشف العبارات التالية عن روعة حياة أيوب ورجائه وأفكاره ومفاهيمه، بل وتعطينا أن نعيد النظر في تفسير كل ما سبق، لأنه حتى أحاديثه التي كانت تبدو كما لو حملت عتابًا شديد اللهجة، وقد انتقده كثير من المفسرين بكونه قد تعدى حدوده، لكنها صدرت عن قلبٍ يشتهي أن يرى الله. لا نجد في كل كلمات الحوار الواردة في هذا السفر بين أيوب وأصدقائه ما هو أبلغ مما بين أيدينا الآن. يحدثنا في روعة عن السيد المسيح وعن السماء كوطنٍ أفضل. يتحدث عن إيمانه بالله الولي الحي، وعن قيامة الأموات وحياة الدهر الأتي. في العبارات السابقة نشتم رائحة اليأس وقطع الرجاء، أما هنا فيرفعه روح الله، وينير بصيرته، ويهبه كلمات محيية. يرى البعض أنه منذ هذه اللحظات لا نسمع بعد تذمرًا أو شكوى من الله، أو من عنايته الإلهية كما سبق. لهذا يرون أن روح الله القدوس العالم بإخلاص قلبه وصدق نيته وإيمانه قد رفعه ومزق أمامه الحجاب ليتعرف على سرّ الخلاص وحب الله الفائق، فتغيرت نغمة حديثه تمامًا، واستراحت نفسه فيه وسط آلامه. قبلًا كان أمينًا وصادقًا لكنه ركز نظره وقلبه وفكره على أصدقائه، فسقط في نوعٍ من الإحباط، وانشغل بالدفاع عن نفسه ضد الاتهامات الموجه إليه من أصدقائه. أما الآن فرفعه الروح كما إلى السماء، ودخل به كما إلى عرش النعمة فرأى المسيا المخلص قادمًا، واستراحت نفسه فيه. بدأ بمقدمة ممتعة تكشف عن سلامه الفائق السماوي، الذي يشتهي أن كل مؤمنٍ يتمتع به. لهذا يقول: "ليت كلماتي الآن تُكتب! يا ليتها رُسمت في سفرٍ!" كأنه يقول: ليت الكل ينسى كل ما سبق فقلته، لقد صدرت مني كلمات هي ثمر حكمتي البشرية وضعفي الإنساني، أما الآن فروح الله يقودني. ليت الكل يسمعون صوته معي، ويشتركون معي فيما أتمتع به. أحاول أن أكتبها بحروفٍ، لكنها تعجز الكلمات عن التعبير. سأرسمها في سفرٍ لعل لغة الرسم تكون أقدر من لغة الحروف! * أية نبوة أوضح من هذه؟ ليس من أحدٍ منذ أيام المسيح تحدث بصراحة عن القيامة كما فعل (أيوب) قبل المسيح. لقد اشتاق أن تبقى كلماته إلى الأبد، لا يمحوها الزمن، ينقشها على صحيفة من رصاص، وينحتها على الصخرة (أي 19: 23). إنه يترجى القيامة. لا، بل رأى المسيح فاديه حيًا، يقوم من الأرض. لم يكن الرب قد مات، وقد رأى مصارع الكنيسة فاديه قائمًا من القبر. عند قوله: "وأنا سألبس مرة أخرى جلدي، وأرى الله في جسدي"، لست أظن أنه يتكلم كمن يحب جسده، إذ قد فسد وانحل قدام عينيه، وإنما في يقين قيامته مرة أخرى، وخلال تعزيات المستقبل أنار حاضره البائس . القديس جيروم يود أن يوجه الكلمات إلى كل الأجيال القادمة، بل وتبقى دستورًا للبشرية إلى الأبد. يشتهي أن تُحفر على حجرٍ بقلمٍ من حديدٍ ثم يُصب في الحفر رصاص فلا يبليها الزمن، ولا تفلت من عيني إنسانٍ. لتكن نصبًا تذكاريًا منقوشًا يشهد لعمل الله في المؤمن عبر الأجيال. كانت السجلات تحفظ بثلاث طرق: 1. بكتابتها في كتاب من القماش أو الجلد أو أوراق الشجر كالبردي papyrus. من الكلمة الأخيرة جاءت كلمة ورقة paper بالإنجليزية. أحيانا كان يستخدم لحاء الشجر الداخلي (القشرة) للكتابة. التعبير اللاتيني Liber استخدم عن الكتاب، ومنها جاءت كلمة "مكتبة Library" 2. لوحات رصاصية، وهي قديمة للغاية. في عام 1699 اشترى Montfaucon في روما كتابًا قديمًا جدًا مصنوع من الرصاص. مجموعة من اللوحات الرصاصية مثبتة بمسامير ومفصلات رصاصية. يحوى الكتاب أشكال غنوصية مصرية مع نقوش يونانية وEtruscan. في معبد بمدينة Cnidus وُجد نصب تذكاري للجحيم يرجع إلى القرن الرابع ق.م، تظهر عليه النساء وهن يودعن ألواحًا رقيقة من الرصاص كُتب عليها أسماء الأشخاص الذين يكرهونهم مع أعمالهم الشريرة. كما نُقش على الألواح الرصاصية اللعنات التي تحل على الذين أساءوا إليهن. أُكتشف كثير من هذه الألواح عام 1858 أثناء الحفريات التي تمت في خرائب الهيكل، وهي مودعة الآن في المتحف البريطاني. يشير أيوب البار هنا إلى لوحات رصاصية أو أوراق (شجر) عليها نقوش. ربما يلمح هنا إلى عادة حفر الحروف على حجر وصب رصاص منصهر في الحفر. 3. أنصاب تذكارية حجرية: نُقشت الشريعة على لوحين حجريين بإصبع الله (خر 31: 18). مجموعة أخرى من حجرين كُتبا بواسطة موسى بأمر إلهي (خر 34: 4، 8). أيضَا كتب يشوع نسخة توراة موسى أمام بني إسرائيل على حجارة (يش 8: 32). لقد أراد أيوب أن تُنقش مشاعره على حجارة لكي تنتفع بها الأجيال القادمة. أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ [25]. "لقد علمت أن وليّ (فادي) حيّ". لقد آمن بالفادي القادم، وأنه يكون هو حياته. "والآخر على الأرض يقوم (في اليوم الأخير)". إنه يترقب مجيء المسيا كلمة الله المتجسد القادم في ملء الزمان متجسدًا ليسلك بيننا على أرضنا. يرى البعض أنه يتكلم هنا عن مجيئه الأخير، حيث يأتي على السحاب، ويلتقي بنا نحن البشر كأرضيين، ويدخل بنا إلى شركة أمجاده. كلمة "وليّ" بحسب ما وردت في الناموس (لا 25: 25) هو ذاك الذي له الحق أن يفك (يفدي) ما باعه أو رهنه أخوه. لقد بيع ميراثنا السماوي بسبب الخطية، وجاء من يرده لنا، حيث يفكه بدمه الثمن. مسيحنا هو الولي الحي القادر وحده أن يفي عنا الدين، ويزيل الرهن، ويرد لنا الميراث الأبدي. سيأتي على السحاب، لكن كما على الأرض، حيث يأمر الأموات، فيقومون من قبورهم، ويدخل بهم إلى عدم الموت وعدم الفساد. * "فقد علمت أنه أبدي ذاك الذي يخلصني على الأرض، سيقيم جلدي الذي يحتمل كل تلك الأمور" [25]. هذا هو السبب أن أيوب قال: "كلماتي تُكتب للأجيال القادمة"، لأنه بعد الآلام سيتعلمون القيامة... واضح أن الجسم الذي يقبل الآلام يقوم. الأب هيسيخيوس الأورشليمي *"وأنا سأقوم في اليوم الأخير من الأرض" [25]. هذا لأن القيامة التي أعلنها في شخصه، سيحضرها يومًا ما فينا أيضًا... قدم عربونها لنا حتى تتبع الأعضاء مجد رأسها (المسيح). فادينا اجتاز الموت، فلا نخاف نحن من الموت. لقد أظهر القيامة، حتى يكون لنا رجاء ثابت أننا قادرون على القيامة أيضًا. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هَذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ [26]. وثق أيوب من فناء جسمه في القبر، وتحدث عنه في غير اكتراثٍ، "وبعد أن يفنى جلدي هنا". فبدون هذا الجسم يرى الله. كأنه يقول لهم: لقد ركزتم أنظاركم على جسمي بكل بلاياه، فأنا أعلم أنه حتمًا يصير طعامًا للدود، حتى جلدي يكون مصيره هكذا كلحمي، لكن ما يبهج نفسي أنني أرى الله. يرى القديس أغسطينوس أن كلمة "الجلد" تشير إلى قبولنا للموت. ففناء جلدنا يشير إلى تخلصنا من حالة الإماتة الداخلية والفساد الداخلي، لنقبل قيامة النفس وعدم فسادها. بهذا ننعم برؤية الله الأبدي كلي القداسة. بمعنى آخر نخلع بروح الله القدوس أعمال إنساننا الخارجي حتى يفنى، ونلبس أعمال الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه، فيتجلى مسيحنا أمام بصيرتنا الداخلية. الَّذِي أَرَاهُ أَنَا لِنَفْسِي، وَعَيْنَايَ تَنْظُرَانِ وَلَيْسَ آخَرُ، إِلَى ذَلِكَ تَتُوقُ كُلْيَتَايَ فِي جَوْفِي [27]. بروح النبوة شاهد مجيء السيد المسيح، كلمة الله المتجسد، حيث يمكن رؤيته بعيني الجسد. هو هو بعينه من جهة لاهوته لا يُرى بالجسد، بل تتوق إليه أعماق النفس. "الذي أراه أنا لنفسي"، أي أراه فأفرح به، لأنه سرّ سعادة نفسي. أراه كما هو (1 يو 2: 2) وليس آخر. سنرى في اليوم الأخير المسيا هو هو الأمس واليوم وإلى الأبد. هو الذي تئن نفسي في داخلي في حنين إليه. * كل عقل يرتفع ويتشكل في الصلاة حسب نقاوته. فإن كان مهتمًا بالأمور المادية الأرضية يحمل هذه النظرة أمامه، وتبقى هذه النظرة قدام عينيْ نفسه الداخليتين في رؤيته للرب يسوع، سواء عندما جاء في تواضعه في الجسد، أو عند مجيئه في عظمته. أمثال هؤلاء لا يقدرون أن يروا الرب يسوع آتيًا في ملكوته، إذ هم مُمسكون بنوع من الضعف اليهودي (أي النظرة المادية)، ولا يستطيعون القول مع الرسول: "وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفهُ بعدُ" (2 كو 16:5). أما الذين يرتفعون فوق الأعمال والأفكار الأرضية السفلية، ويصعدون على جبل الوحدة (العزلة) المرتفع، متحرّرين من الاضطراب بكل المتاعب والأفكار الأرضية، في أمان من تدخل الخطايا، ممجّدين بإيمانٍ قويٍ، هؤلاء يمكنهم أن يتطلعوا بعيون نقية إلى لاهوته، وفي أعالي الفضيلة يكتشفون مجده وصورة سموه... يُعلن يسوع للموجودين في المدن والقرى والمزارع، أي الذين لهم أعمال يقومون بها، لكن ليس بالبهاء الذي يظهر به لمن يصعدون معه على جبل الفضائل السابق ذكره... ففي الوحدة (العزلة) ظهر الله لموسى وتحدث مع إيليا. الأب اسحق مار إفرام السرياني |
|