22 - 03 - 2023, 01:49 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
تحول التعزية إلى تعذيب
فأَجَابَ أَيُّوبُ وَقَال: َ[1]
حَتَّى مَتَى تُعَذِّبُونَ نَفْسِي،
وَتَسْحَقُونَنِي بِالْكَلاَمِ [2].
كل ما حلّ بأيوب من آلام جسدية ونكبات، ليست فيها آلام نفسية كتلك التي حلت بنفسه من أصدقائه، فالتجارب دفعته لتقديم ذبيحة تسبيح وشكر لله، أما كلمات أصدقائه فسحقته. كأنه يصرخ مع المرتل: "اشفني يا رب، لأن عظامي قد رجفت" (مز 6: 2).
يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي في كلمات أيوب البار هنا عتابًا موجهًا ضد أصدقائه الذين كادوا أن يحطموا رجاءه، الأمر الذي لم يستطع إبليس أن يفعله به. فإن أقصى ما يفعله عدو الخير هو أن يصب عليه التجارب من آلام جسمانية تبلغ نهايتها بالموت. وهو في هذا كله لا يبالي بالآلام، ولا يخشى الموت، إذ يرى في معركته مع إبليس أنه ينال كمًا من الأكاليل كلما تزايدت التجارب. أما أصدقاؤه فقد صوّبوا سهامهم، لا ضد جسمه الذي ينحل يومًا ما، بل ضد نفسه لتحطيم رجائه، وهذا أخطر. وكأن ما يفعله الأصدقاء الأشرار أشر وأخطر مما يصوبه ضده عدو الخير.
كثيرًا ما يحدثنا الكتاب المقدس عن خطورة الكلمات العنيفة المحطمة للنفس، كما يحذرنا من الكلمات الناعمة التي تخفي قلبًا قتالًا مخادعًا. فاللسان السليط سهم قاتل، ضرباته أخطر من القتل بالسيف، أو الضرب بالسياط؛ ويوضع اللسان الكذاب مع العيون المتعالية المتشامخة والأيدي السافكة للدماء.
"كثيرون سقطوا بحد السيف، لكنهم ليسوا كالساقطين بحد اللسان" (سيراخ 28: 22).
"لسانهم سهم قتال، يتكلم بالغش بفمه، يكلم صاحبه بسلامٍ، وفي قلبه يضع له كمينًا" (إر 9: 8).
"ضربة السوط تُبقي رَضَّا، وضربة اللسان تحطم العظام" (سيراخ 28: 21).
"عيون متعالية، لسان كاذب، أيدٍ سافكة دما بريئا" (أم 6: 17).
"السليط اللسان بعيد السمعة، لكن العاقل يعلم متى يسقط" (سيراخ 21: 8).
"فمه مملوء لعنة وغشًا وظلمًا، تحت لسانه مشقة وإثم" (مز 10: 7).
"يقطع الرب جميع الشفاه الملقة، واللسان المتكلم بالعظائم" (مز 12: 3).
"نفسي بين الأشبال، اضطجع بين المتقدين بني آدم، أسنانهم أسنة وسهام، ولسانهم سيف ماض" (مز 57: 4).
"من يجعل حارسًا لفمي، وخاتمًا وثيقًا على شفتي، لئلا أسقط بسببهما، ويهلكني لساني" (سيراخ 22: 33).
* الوصية الأولى: "صُنْ لسانك عن الشر، وشفتيك عن التكلم بالغش" (مز 34: 13؛ 1بط 3: 10). لأن الخطية التي يسببها اللسان فعّالة للغاية ومتعددة الجوانب، لها دورها في السخط والشهرة والرياء والإدانة والغش. أتريد أن أعدد الأسماء الكثيرة التي لخطايا اللسان؟ فإنه عن اللسان تصدر النميمة، والسخرية والحماقة البالغة، والاتهامات الباطلة، والمرارة والقسم والشهادة الباطلة. اللسان هو مخترع كل هذه الشرور وأكثر .
القديس باسيليوس الكبير
* لا يروض الحصان نفسه، ولا أيضًا الإنسان يقدر أن يفعل هذا. الحاجة مُلحة للإنسان أن يروض الحصان، وبنفس الطريقة إلى الله كي يروض الإنسان.
* يقتل السيف الجسم، ويقتل اللسان النفس. لا يعرف اللسان الاعتدال، فإما أن يكون عظيم الصلاح أو عظيم الشر. إنه عظيم الصلاح عندما يعرف أن المسيح هو الله، وعظيم الشر عندما يجحد ذلك. ليته لا يخدع أحد نفسه، ظانًا أنه لم يخطئ قط، فإنني أخطئ، وذلك بلساني.
* كلما أخطأ اللسان، صار بالأكثر بائسًا!
* البرهان العملي على الذهن السليم والفكر الكامل ألا يوجد خطأ على ألسنتنا، وأن نحفظ أفواهنا مغلقة عند الضرورة. إنه من الأفضل أن يقودنا الحديث اللائق، القادر أن يعرف كمال كل مديح ويعبِّر عنه. فإن أكثر المواهب نفعًا أن تكون قادرًا على النطق بالحكمة عند التحدث عن الحياة الصالحة. الكلام الرديء يلزم أن يكون غريبًا عن القديسين .
* احفظ طرف لسانك، فإنه مثل فرسٍ ملوكي. إن وُضع لجامًا في فمه، وعلَّمته السير بكياسة، يخضع لذلك ويكتفي. أما أن تركته يجري بلا ضابط، يصير مركبة للشيطان وملائكته .
* اللسان سيف ماضٍ. ليتنا لا نجرح به أحدًا، بل بالحري نقطع به "الغرغرينا" التي فينا.
* عندما يكون الجسم مرهقًا، لا أشعر باحتياج ضروري، أحسب آلامي كلا شيء، ولا أبالي بجسمي عندما يُستنفذ هذا الطين ويعبر. لا تعذبوا نفسي، ولا تربكوا روحي، فإذ تحمل نفسي نغمًا (روحيًا) أُصيب به عَدُوِي. أنا غالب في المعركة، لا أخشى الآلام. أما أنتم فتسحقونني بكلماتكم، وتنزعون عني الرجاء في نوال الأكاليل، وتجعلوني أرتد بخطواتي كمن لم يركض حسنًا.
* لتفهم كلمات الرجل القديس كمن ينطق بها عن شخصه تارة، وتارة أخرى بلسان الرأس (المسيح)، وتارة كرمزٍ للكنيسة الجامعة.
الآن فإن نفس البار في حزنٍ عميقٍ عندما يقذفه الأشخاص بعبارات ضده دون أن يتعلموا أن يمارسوا الحياة الصالحة، وبالكلمات ينسبون البرّ إلى ذواتهم مع أنهم عمليًا هو أعداء له...
ينطق أيوب بخصوص شخصه، ليتكلم معترفًا بلسان الكنيسة الجامعة: "لكنني بالحق أنا جاهل، وجهلي يرافقني (معي)" [4 Vulgate]. كأنه يقول عن الهراطقة: "كل معرفتكم ليست معكم، بل هي ضدكم، مادامت ترفعكم في كبرياء غبي. أما جهلي أنا فهو معي، فإنه يعمل لحسابي، حيث لا أتجاسر وأبحث فيما يخص الله بكبرياء قلبٍ. احفظ نفسي في الحق بروح التواضع...
البابا غريغوريوس (الكبير) إن كانت جراحات أيوب البار مرة للغاية بسبب كلمات أصدقائه القاسية أكثر من أية مرارة أخرى، يليق بنا نحن كمؤمنين نحرص على سلامة اخوتنا وخلاصهم وفرحهم في الرب. ألا ننطق بكلمات جارحة، بل تكون لنا الكلمات الطيبة التي تشفي جراحاتهم وتطَّيب خاطرهم في الرب. يحثنا الكتاب المقدس لا على التحفظ من اللسان السليط فحسب، وإنما أن يهبنا الله لسانًا لطيفًا يسندنا ويسند اخوتنا بعذوبته الشافية.
* قال الرسول هذا (يع 3: 8)، لا لكي نتساهل مع هذا الشر الذي للسان، بل كي نطلب النعمة الإلهية لتروض ألسنتنا .
* النبع هو قلب الإنسان، ومجرى الماء الذي يفيض هو حديثه، والفتحة التي يخرج منها هي فمه. الماء الحلو هو التعليم السليم، والماء المر هو ما يضاد ذلك .
* إنه أمر عظيم أن تكون قادرًا على ضبط اللسان، لأن الفشل في ذلك هو أعظم الشرور .
"الكلام الحسن شهد عسل، حلو للنفس، وشفاء للعظام" (أم 16: 24).
"الذي لا يشي بلسانه، ولا يصنع شرًا بصاحبه، ولا يحمل تعييرًا على قريبه" (مز 15: 3).
"فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك، لساني قلم كاتب ماهر" (مز 45: 1).
"هدوء اللسان شجرة حياة، واعوجاجه سحق في الروح" (أم 15: 4).
"الموت والحياة في يد اللسان، وأحباؤه يأكلون ثمره" (أم 18: 21).
"ببطء الغضب يقنع الرئيس، واللسان اللين يكسر العظم" (أم 25: 15).
"لا تكن جافيًا في لسانك، ولا كسلًا متوانيًا في أعمالك" (سيراخ 4: 34).
"الفم العذب يكثر الأصدقاء، واللسان اللطيف يكثر المؤانسات" (سيراخ 6: 5).
"وإن كان في لسانها رحمة ووداعة، فليس رجلها كسائر بني البشر" (سيراخ 36: 25).
"المزمار والعود يطيبان اللحن، لكن اللسان العذب فوق كليهما" (سيراخ 40: 21).
هَذِهِ عَشَرَ مَرَّاتٍ أَخْزَيْتُمُونِي.
لَمْ تَخْجَلُوا مِنْ أَنْ تُعَنِّفُونِي [3].
أخزوه بما نسبوه إليه من صفاتٍ شريرةٍ وما اتهموه به مرة ومرات بلا ترددٍ. كانت كلماتهم كسيفٍ قاتلٍ وكحجارةٍ ثقيلةٍ سحقت نفسه. لم يخجلوا من أن يحتقروه، إذ جعلوا أنفسهم غرباء عنه، وكانوا يتظاهرون كمن لا يعرفونه (أي 2: 12). لم يتعاملوا معه بذات الدالة التي كانت لهم في رخائه. لذا يقول الحكيم: "الصديق يحب في كل وقتٍ" (أم 17: 17).
لقد تحدثوا خمس مرات، وكان كل منهم يضاعف توبيخه فأحصى أيوب ما فعلوه به، قائلًا: "عشر مرات أخزيتموني". هذا ورقم 10 يشير إلى الكمال الزمني لذلك جاءت الوصايا في الناموس عشرة، إشارة إلى التزام المؤمن بالوصية طوال زمن عمره. وهنا كأنه لم يترك الأصدقاء لحظة من لحظات جلوسهم معه إلا وحملت روح النقد اللاذع والتوبيخ لكي يخزوه.
* "فقط لتعرفوا أن الرب يعاملني هكذا" [3 LXX]. يقول على الأقل ليت كرامة ذاك الذي يؤدبني تجعلكم تغيروا نظرتكم نحوي. فإنه لا يليق بكم أن تطأوا على الناس الذين يؤدبهم الله، بل أن تتنهدوا وتحزنوا على مثل هؤلاء، خاصة وأنه لا يليق أن يفرح أحد بموت آخر، فإن هذا التصرف لا يُترك بدون عقاب.
وَهَبْنِي ضَلَلْتُ حَقًّا.
عَلَيَّ تَسْتَقِرُّ ضَلاَلَتِي! [4]
"وهبني ضللت حقًا"، بمعنى افترضوا أن اتهاماتكم صدق، وأنني بالحق ضللت، سواء كان ذلك عن جهلٍ أو خطأٍ، فكل إنسانٍ معرض لهذا، فإن هذا يمس حياتي، لأن ضلالتي - إن كنت أخطئ عن عمد وخبث وخداع - تستقر عليّ لا عليكم، فلماذا كل هذا الهجوم القاتل؟
ربما يعني إن كنت بالحق مخطئًا وشريرًا، وأنا أتألم بسبب شري، وحلت كل هذه النكبات عليّ، اتركوني في مرارتي، لماذا تضيفون على آلامي آلامًا؟
* "إنكم تنتصبون ضدي "، كأنه يقول لهم: "كان يليق بكم، بمناسبة ضربي (بالتجارب) أن تنتصبوا ضد أنفسكم. هذا هو التدبير الحسن للانتصاب في جانب الصلاح، أن نقف أولًا ضد أنفسنا، وبعد ذلك ضد الأشرار. ننتصب ضد أنفسنا عندما نتطلع إلى أعمالنا الشريرة، ونضرب أنفسنا بعقوبة الندامة القاسية، ولا نترك أنفسنا قط في خطايانا، ولا ننحاز بأي فكر أحمق نحو أنفسنا.
يلزمنا أولًا أن نقتفي في صرامة أثر شرورنا في داخلنا. عندئذ يكون من العدل أن ننتصب لمقاومة الشر في الآخرين لأجل نفعهم، والشر الذي نعاقبه فينا نطبقه أيضًا في الغير...
هذا النوع من الانتصاب لا يعرف عنه الأشرار شيئًا، إذ يتركون أنفسهم ويهاجمون الصالحين... لذلك بحقٍ قيل لأصدقاء الطوباوي أيوب الذين كانوا متكبرين عليه وهو تحت العقوبة: "تنتصبون ضدي". بمعنى آخر قيل لهم: "تتركون أنفسكم التي تستحق اللوم، وتنتهرونني بعبارات قاسية". فمن لا يحكم على نفسه أولًا، يجهل الحكم على الغير باستقامة... هكذا قيل للذين كانوا يتصرفون بخداع عندما جاءوا بزانية لتسقط تحت الحكم: "من كان منكم بلا خطية، فليرمها أولًا بحجرٍ" (يو 8: 7). فقد جاءوا يعاقبون خطايا الغير، وتركوا خطاياهم خلفهم.
البابا غريغوريوس (الكبير) * أم كيف تقول لأخيك دعني أُخرِج القَذَى من عينك، وها الخشبة في عينك؟ يا مرائي أَخرِج أولًا الخشبة من عينك، وحينئذٍ تبصر جيّدًا أن تُخرِج القَذَى من عين أخيك.
أزل عنك الكراهية حتى تستطيع إصلاح من تحبه. حسنًا يقول الرب "يا مرائي" لأن الإنسان المحب، وحده الذي له أن يشتكي من خطايا الآخرين، أما الشرير، فمتى اشتكى على الآخرين يكون مرائيًا، إذ يظهر نفسه بصورة غير التي هو عليها... فهناك صنف من المتصنعين يشتكون من خطايا الآخرين كالكراهية والضغينة بقصد الظهور بمظهر أصحاب المشورة... لنحذر لئلا نسقط في هذا، كذلك إذا اضطررت إلى الكشف عن أخطاء الآخرين أو انتهارهم، فلننظر إلى أنفسنا إن كنا نرتكب نفس الخطايا، أو سبق لنا ارتكابها. فإن كنا لم نرتكبها لنعلم أننا بشر معرضون للخطية. أما إن كنا قد ارتكبنا الخطية من قبل وقد تحررنا منها، فلنذكر ضعفنا على الدوام. لذلك وجب علينا أن نكنّ لمن نكشف أخطاءهم المحبة لا الكراهية... ولنحذر لئلا ننشغل بخطاياهم... فلا نلوم الخاطئ ولا ننتهره، بل نحزن بشدة على حالتنا هذه، غير طالبين منه أن يطيعنا، بل أن يجاهد معنا.
* علينا ألا نستخدم التوبيخ إلا نادرًا. وإذا اضطررنا إلى استخدامه يجب علينا أن نسعى بشغفٍ إلى خدمة الله لا أنفسنا. ليكون لنا هدف واحد، فلا نفعل شيئًا بقلب مزدوج. لنُخرج من أعيننا خشبة الحسد أو الحقد أو التصنع، حتى نتمكن من الإبصار فنخرج القذى من عيني أخينا. للنظر إلى القذى بعيني الحمامة، اللتين لعروس المسيح (نش 1:4)، التي اختارها الله لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن، أي نقية لا غش فيها (أف 27:5) .
* يجب على المسيحيين أن يجتهدوا... أن لا يدينوا أحدًا حتى ولا زانية من الزانيات، ولا الأثمة المشهورين بخطاياهم، ولا قليلي النظام، بل يراعوا كل جنس البشر بسذاجة النية وعين النقاوة، لكي يصبح الإنسان من طبيعته وأساسه لا يستخف بأحدٍ ولا يدين أو يكره أحدًا، حتى ولا يميز بين الناس. فإن رأيت رجلًا أعور فلا تحتقره في قلبك بل أعطه من الاهتمام حقه الذي كنت تعطيه له لو كان بلا عيب... لأن نقاوة القلب الصحيحة هي أنك إن رأيت الخطاة أو الضعفاء ترثي لحالهم، وتظهر لهم الرحمة. فإن هذا هو ما يناسب قديسي الرب أن يجلسوا في المحرس (حب 2: 1؛ إش 21: 8)، ويعاينوا ضلال العالم وخداعه ويخاطبوا الله بالإنسان الباطن.
* لا تسيء إلى إنسانٍ، الذي هو صوره الله، بسبب الشر الذي فيه، فإن الشر أمر عارض، هو محنة ومرض وتضليل شيطاني، أما كيانه، كصورة الله، فهو باقٍ.
إِنْ كُنْتُمْ بِالْحَقِّ تَسْتَكْبِرُونَ عَلَيَّ،
فَثَبِّتُوا عَلَيَّ عَارِي [5].
شعر أيوب أنهم لم يأخذوا منه موقفًا غير إنساني فحسب، فتحولوا عن صداقته، وإنما بالحق استكبروا عليه، وحسبوا أنفسهم أسمى منه، وتعاظموا عليه لإذلاله. بدلًا من أن ينزعوا عنهم عارهم، ثبتوا عاره كدليلٍ على عدم نزاهته وإخلاصه وكماله. أخذوا من عاره حجه لتثبيت شره.
رأى الفريسي المتكبر في المرأة الزانية نجاسة لا تُطاق، وشرًا لا يُحتمل، حتى استكثر عليها أن تتجاسر وتدخل بيته. وكأنه يود لو طرد ربنا يسوع حتى لا يدخل معه أمثال هذه. أما ربنا يسوع فرأى في قلبها المنكسر ودموع عينيها حبًا كثيرًا، فغفر لها خطاياها الكثيرة.
ورأت الجماهير في زكا رئيس العشارين إنسانًا خائنًا عابدًا للمال لا يستحق أن يعيش بينهم، أما السيد المسيح فرأى فيه شوقه للخلاص والتحرر من المادة، فيستحق دخول رب المجد لا إلى بيته فحسب، بل وداخل قلبه.
إن نظرة ربنا يسوع القدوس المحب للنفس المعترفة بسوادها، هي: "أنت جميلة يا حبيبتي. أنت جميلة" (نش 1: 15). أما أخواتها فينظرن سوادها، لذلك وبختهن قائلة: "لا تنظرن إليّ لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني" (نش 1: 6).
يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي أن الطوباوي أيوب الذي شهد الله عن بّرِه لا يمكن أن يكون قد ضلّ، ذاك الذي نال حكمة من العلا لا ينطق بما هو غريب عن الحق؛ ليس فيه أفكار باطلة. ومع هذا فإنه حتى وإن كان قد ضل، فما كان يليق لأصدقائه أن يتشامخوا عليه وهو في المذلة.
كأنه يقول لهم: "لماذا تتعاملون بعجرفة مع إنسان في المذلة؟ لماذا تهاجمون شخصًا منهارًا إلى أسفل؟ لماذا تؤذون شخصًا كان يجب أن تعطفوا عليه، وتصلوا من أجله؟ ولنفرض أنكم تتشامخون عليَّ، فلماذا تتشامخون على الله؟ فإن عنايته الفائقة حالة علي".
يقول القديس كبريانوس: [إنه لكبرياء وتشامخ أن يتجاسر أحد يظن أنه قادر أن يفعل ما لم يهبه الله حتى للرسل، فيحسب أنه يستطيع تمييز الزوان عن الحنطة... ومن يفكر أنه يختار الأواني الذهبيّة والفضيّة ويحتقر الأواني الخشبيّة والخزفيّة ويطردها، مع أن الأواني الخشبية لا تُحرَق إلاَّ يوم الرب بالنار الإلهيّة المحرِقة، والأواني الخزفية لا يسحقها إلاَّ ذاك الذي أُعطي له قضيب من حديد .]
* ينصحنا الرب ألا نحكم على أحد بتهورٍ أو بظلمٍ، لأنه يرغب في أن نصنع كل شيء بقلبٍ بسيطٍ متجهٍ دائمًا نحو الله. هذا وإذ يكون استعداد من يحكم على الآخرين هو البحث عن خطايا الغير لتوبيخهم وإدانتهم، لا لإصلاحهم وتهذيبهم في محبة... كل هذا بسبب كبريائهم أو حسدهم، لذلك أضاف رب المجد:: "ولماذا تنظر القَذَى الذي في عين أخيك. وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟"
فلو سقط أخوك في خطية الغضب، تسقط أنت في خطية الكراهية (بإدانتك له). وهناك فرق شاسع بين الغضب والكراهية، كما هو بين القذى والخشبة. لأن الكراهية هي غضب مزمن، فبطول الزمن اشتد القذى (الغضب) حتى صار يُدعى بحقٍ خشبة (الكراهية). فإنك إن غضبت على إنسان، فلا بُد أنك ترغب في رجوعه إلى الحق، أما إذا كرهته فلا يمكن لك أن تشتاق إلى رجوعه.
فَاعْلَمُوا إِذًا أَنَّ اللهَ قَدْ عَوَّجَنِي،
وَلَفَّ عَلَيَّ أُحْبُولَتَهُ [6].
لعله أراد القول بأن ما حلّ به هو بسماحٍ من الله، فتهدمت حياته، وسقط في شبكةٍ، كصيدٍ في شبكة صيادٍ، وليس من مهربٍ. أتركوا الله يحكم عليّ...
يرى البعض هنا إشارة إلى ما اعتاد الفارسيون والرومان والغوصيون أن يفعلوه في معاركهم. ففي بعض المعارك الرومانية كان أحد الجنود يمسك بسيفه ودرعه بينما بجواره آخر يمسك برمح وشبكة. فالأخير يبذل كل الجهد لكي يلقي بالشبكة على رأس خصمه، فإن نجح في هذا يسحبه في الحال بالشبكة الملتفة حول رقبته والتي بها شرك يجره على الأرض ويضربه بالرمح الذي في يده. فمتى ألقيت الشبكة على رأسه وصار في داخلها، يصير لا حول له ولا قوة، مصيره في يد الغالب .
هَا إِنِّي أَصْرُخُ ظُلْمًا، فَلاَ أُسْتَجَابُ.
أَدْعُو، وَلَيْسَ حُكْمٌ [7].
شعر أيوب كأن الله قد أخذ موقفًا مضادًا منه، وأن ما حلّ به ليس له ما يفسره به. يشعر أنه تحت الظلم، وها هو يدعو الله، والله لا يستجيب. كأنه يقول لهم: لماذا تربكون نفسي وتسحقونها؟ أتركوني أصرخ إلى إلهي، وألح عليه، فيفسر لي علة ما حلّ بي.
* "ها أنا أصرخ ظلمًا، فلا أُستجاب" [7]. هذا يخص ذاك الذي قال للخادم (القائد) الذي لطمه: "إن كنت قد تكلمت رديًا فأشهد على الردي، وإن حسنًا فلماذا تضربني؟" (يو 27: 40). واضح أن الحكم لم يكن مستقيمًا ولا عادلًا، فمع كثرة عدد القضاة لم ينطق أحد حسب الحق.
ولعل صرخات أيوب هنا كانت رمزًا لصرخة السيد المسيح وسط آلامه على الصليب: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (مز 22: 1؛ مت 27: 46؛ مر 15: 34)
* في ناسوتيته التي في غاية الرقة، وخلال شكل العبد الذي له، نتعلم ما نستخف به هنا في هذه الحياة، وما نترجاه في الأبدية. في آلامه ذاتها التي ظن فيها أعداؤه المتكبرون أنهم منتصرون، أخذ كلمات ضعفنا، حيث صُلبت معه طبيعتنا الخاطئة (رو 6: 6)، لكي ما يحطم جسم الخطية، قائلًا: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟"... وهذا ما بدأ به المزمور الذي رُنم به منذ زمنٍ بعيدٍ، كنبوةٍ عن آلامه، وإعلان عن النعمة التي بها يقيم مؤمنيه ويحررهم.
* إذ أخذ (الكلمة الإلهي المتجسد) نفسًا بشرية، أخذ أيضًا المشاعر التي للنفس. كإله لم يكن في ألمٍ، لكنه كإنسانٍ كان قادرًا على التألم. لقد مات ليس كإلهٍ، بل كإنسانٍ. إنه بصوت بشري صرخ: "إلهي، إلهي لماذا تركتني؟" كإنسانٍ تكلم على الصليب، حاملًا معه رعبنا. فإنه في وسط المخاطر نتجاوب كبشرٍ حاسبين أننا متروكون. لذلك كإنسانٍ تألم وبكى وصُلب(901).
* لقد تُرك، لأن ناسوته كان لا بُد أن يعبر خلال الموت. كان يجب أن يُنظر بعين الاعتبار وبدقة أنه قد أسلم الروح بصرخةٍ عظيمةٍ بعد أن شرب من الإسفنجة المملوءة خلًا والمُقدمة له على قصبة (مت 27: 46)... حقيقة أنه قد قُدم له ليشرب من إسفنجة على قصبة تعني أنه أخذ من أجساد الأمميين الخطايا التي حطمت الأبدية، وحوَّل خطايانا إليه، لكي يوَّحدنا بخلوده .
القديس هيلاري أسقف بوايتيه
|