رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الثالوث الأقدس وكيف نفهمه ونعيشه؟ النص الإنجيلي (متى 28: 16-20) 16 وأَمَّا التَّلاميذُ الأَحَدَ عَشَر، فذَهبوا إِلى الجَليل، إِلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه. 17 فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا. 18 فَدَنا يسوعُ وكَلَّمَهم قال: ((إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض. 19 فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس، 20 وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به، وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم)). مقدمة في أحد الثالوث يختتم متى إنجيله بترائي يسوع لتلاميذه في الجليل حيث يُوصيهم بأن يُتلمذوا كلّ الأمم ويعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس واعداً اياهم بحضوره الدائم (متى 28: 16-20). وفي هذه التوصية يُوحي سر الثالوث القدوس، انه سر الله في ذاته، جوهر العهد الجديد وسر مركزي في الايمان وفي الحياة المسيحية، وهذا ما يميّزها عن سواها من الأديان ويعلق القدّيس قيصاريوس "إيمان المسيحيين يرتكز على الثالوث الأقدس". ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته. أولاً: وقائع النص الإنجيلي (متى 28: 16-20) 16 وأَمَّا التَّلاميذُ الأَحَدَ عَشَر، فذَهبوا إِلى الجَليل، إِلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه تشير عبارة "الأَحَدَ عَشَر" الى الرسل الاثني عشر الذين تركهم يهوذا وحلَّ محله الرسول متِّيا (أعمال الرسل 1: 26). وما عادوا اثني عشر (مثل اسباط إسرائيل) رقم الكمال. أمَّا عبارة " فذَهبوا إِلى الجَليل " فتشير الى دعوة يسوع تلاميذه في نهاية رسالته (28: 7-10) لينطلقوا في الرسالة من حيث هو انطلق، فيصلوا الى "جميع الأمم". ولعلّ اختيار الجليل كموضع لقاء للتلاميذ مع السيِّد المسيح بعد قيامته يعني تجديد العهد، ففي الجليل اختار السيِّد غالبيّة تلاميذه وبعثهم للتبشير، وإذ ضعفوا أثناء أحداث الصليب ردَّهم إلى ذات الموضع كي يهبهم قوّة قيامته ليبدأوا رسالتهم من جديد، مع إمكانيّات جديدة. الجليل هو مكان اللّقاء الأوّل مع يسوع كما قال لتلاميذه "أَتَقَدَّمُكم إِلى الجَليل" (متى 26: 32). ومن ناحية أخرى، الجليل في العهد القديم هو "جليل الأمم"، مكان الّلقاء مع الحضارات الأخرى والتقاليد الغريبة والديانات الوثنيّة. عودة الرسل إلى الجليل هي انطلاق الكنيسة في عملها التبشيريّ الى الامم، " الشَّعبُ المُقيمُ في الظُّلْمَة أَبصَرَ نُوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقْعَةِ المَوتِ وظِلالِه أَشرَقَ عليهمِ النُّور" (متى 4: 16). أمَّا عبارة "الجَليل" في الأصل اليوناني Γαλιλαία مشتقة من العبرية הַגָּלִילָה (معناه دائرة أو (مقاطعة) فتشير الى القسم الشمالي من بين الأقسام الثلاثة التي قُسِّمت إليها فلسطين في زمن المسيح في عصر الدولة الرومانية. وكان الاعتقاد أن شعب الجليل لا يمكن أن يكون منه نبي (يوحنا 7: 41-52) غير أن معظم رسل المسيح كانوا من الجليل. وكان يسوع يُعرف بأنه الجليلي (متى 26: 69)، وفيها نشأ وترعرع وخدم في حدودها الشرقية عند بحر الجليل وداخل منطقتها في كورزين وبيت صيدا وكفرناحوم ونايين وقانا والناصرة. وقيل عن بطرس أنه جليلي (متى 26: 69). وهناك يسوع بدا رسالته، فأشرق النور (متى 4: 16). ا أمَّا كلمة "الجَبَلِ" فتشير الى جبل في الجليل يتعذر تحديده، والمرجَّح انه قرب بحيرة طبريا. على الجبل بدأ يسوع رسالته، فأشرق النور (متى 45: 1). أمَّا عبارة " أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه " فتشير الى تناقض واضح بين فقر أولئك المرسلين الاحد عشر وقلة عددهم بين ضخامة رسالتهم الى العالم أجمع. 17 فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا تشير عبارة "رَأَوهُ" الى رؤية التلاميذ يسوع القائم ليس فقط بعين الجسد، انما بعين الايمان أيضا لان جسد يسوع أصبح بعد قيامته ممجّداَ. أمَّا عبارة "سَجَدوا له" فتشير الى التلاميذ الاحد عشر الذين سجدوا له باعتبار كونه ملكا ومسيحا وابن الله المنتصر على الموت وشانهم شان النسوة عند تراءى لهن يسوع (لوقا 24: 5). بدأ انجيل متى بسجود المجوس وهم يُمثلون الامم، وهو ينتهي بسجود التلاميذ الذين يرسلهم الى جميع الامم. أمَّا عبارة "ارْتابوا" فتشير الى وضع كنيسة متى الإنجيلي حيث كان يتأرجح بين الشك والايمان. الشك حاضر في كل فعل إيمان نقوم به، ويُعلق القديس ايرونيموس " بعد قيامته رُؤي يسوع على الجبل في الجليل، هناك سجدوا له، ولكن بعضهم شكُّوا، وشكِّهم هذا زوَّد إيماننا". إنّ شكّ التلاميذ بحضور الرب لا يمنعهم عن السجود له ولا يُعيق الرب عن مباركتهم. أذا كان الشك هو فقط للبحث عن اليقين لكان التحدي سهلا، كما كان الحال مع توما الرسول الذي صرخ مؤمنا امام الحقيقة الملموسة، لكن إذا كان الشك مذهباً كان التحدي حقيقي صعبا غير قادر الانسان على تبنى الإيمان خوفا مما يفرضه الإيمان من التزام في الحياة، لذلك صرّح يسوع قائلا "وطوبى لِمنَ لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثرَة " (لوقا 7: 23). 18 فَدَنا يسوعُ وكَلَّمَهم قال: إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض تشير عبارة " فَدَنا يسوعُ " الى المسيح الذي كان بعيدا عن التلاميذ وأقترب منهم لكي يتحقَّقوا أنه هو نفسه وذلك ليزول الشك عنهم كما زال عن توما (يوحنا 20: 27). اما عبارة "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض" فتشير الى الوحي بان يسوع هو "رب السماء والأرض". أن يسوع نال من الله بعد ان مرَّ في الألم والموت ليس فقط السلطان على كل ممالك الارض كما جاء في نبوءة دانيال "وأُوتِيَ سُلْطاناً ومَجداً ومُلكاً فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض" (دانيال 7:14)، وإنما ايضا السلطان على السماء وفقا لاعتقاد الكنيسة الاولى (اعمال الرسل 13: 33)، وتعاليم بولس الرسول (رومة 1: 4). يعد قيامته أصبح المسيح "رب السماء والارض"، فالعالم كله خاضع له. ويوضِّح انجيل يوحنا السبب " إنَّ الآبَ يُحِبُّ الابن فجَعَلَ كُلَّ شيءٍ في يَدِه" (يوحنا 3: 35) وقد حقَّق يسوع ذلك عبر سر الفصح. في حين رفض يسوع ان ينال من الشيطان السلطان الذي عرضه عليه وقت التجربة (متى 4: 9-10)؛ امَّا عبارة إِنِّي أُوليتُ " فتشير الى إعطاء الآب الى الابن كل سلطان باعتبار انه أنسان وإله. السلطان كان للابن منذ الازل كونه الها ولكنه اخلى ذاته منه عند تجسُّده ليكفر عن خطايا الناس وأُعيد اليه هذا السلطان عند قيامته. وهذا ما يثبت لاهوت المسيخ لأنه من المحال ان يتقلد المخلوق صفات الخالق. أمَّا عبارة " السَّماءِ والأَرض " فتشير الى الكون كله، مسكن الله ومسكن البشر (أعمال الرسل 13: 33). المسيح هنا يعلن لتلاميذه سلطانه اللاهوتي كإله، بعد ما رأوا ضعف جسده وصلبه وموته. فالمسيح، رب الارض والسماء، لأنه مات لأجل خطايا كل الناس كما جاء في تعليم بولس الرسول "َوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. ِذلِك رَفَعَه اللهُ إِلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء. كَيما تَجثُوَ لاسمِ يسوع كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض" (فيلبي 2: 6-11). اما عبارة "في السَّماءِ " اخذ يسوع كل سلطان في السماء ليرسل الروح القدس (يوحنا 15: 26) وليرسل الملائكة (اعمال الرسل 5: 19) وليشفع عند الاب (رومة 8: 34) وليسمع صلوات شعبه ويستجيب لها (1 يوحنا 5: 14). امَّا عبارة " الأَرض “فتشير الى العناصر التي جعلها يسوع طوع امره وليفدي شعبه ويحفظهم ويؤسس كنيسته ويعتني بها ويحميها وينشر ملكوته في العالم. 19 فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس تشير عبارة " فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم" في الأصل اليوناني πορευθέντες οὖν μαθητεύσατε πάντα τὰ ἔθνη (تفيد الفاء هنا السببية) الى تولي المسيح كل سلطان فأوجب على تلاميذه ان يذهبوا معتمدين عليه حيث أرسلهم ان يتلمذوا ويُعلموا على أساس سلطانه في السماء والارض "كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً"(يوحنا 20: 21). وعلى هذا الأساس يعطي يسوع سلطان الكرازة لتلاميذه: اذهبوا، وتلمذوا. ومن هذا المنطلق أن سلطان التلاميذ هو من المسيح. امَّا عبارة "اذهَبوا " فتشير الى ارسال يسوع تلاميذه الى جميع الأممكما أرسل ألاب ابنه يسوع الى "الخراف الضالة من بني اسرائيل" (متى 10: 5-6). أمَّا عبارة " تَلمِذوا" فتشير الى تفويض يسوع رسله رسالة شاملة وهي "إعلان البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين. فمَن آمَنَ واعتَمَدَ يَخلُص، ومَن لَم يُؤمِنْ يُحكَمْ عَليه" (مرقس 17: 15-16) كما تشير ايضا الى اعلان " بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم" (لوقا 24: 47). ولقد تسلَّمت الكنيسة من الرسل وصيّة الرّب يسوع المسيح الرسميّة، لتُكرز بحقيقة الخلاص وتُتابع تنفيذها "حتَّى أَقاصي الأَرض" (أعمال الرسل 1: 8). فالكنيسة هي ليست الملكوت، بل علامة الملكوت حيث انها المكان الذي يستطيع يسوع ان يُمارس فيه سيادته كاملة وان يُشعِّها على جميع الناس. انها كنيسة من اجل العالم، سائرة الى الشعوب. أمَّا عبارة "أمم" فلا تدل هنا على الوثنيين فقط، بل على اليهود ايضا (لوقا 24: 9)، و"السَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض" (اعمال الرسل 1: 8)، ويعُلق القديس كيرلس الكبير "نعم، انظروا، فإن النار المقدّسة الإلهيّة قد انتشرت في كل الأمم بواسطة كارزين قدّيسين". وانتقلت البُشرى من اورشليم إلى دمشق وأنطاكية وآسيا الصغرى حتّى روما. كما وصلت البشارة إلى الهند شرقاً مروراً ببلاد الرافدين وأرمينيا. وكذلك وصلت إلى الجنوب في بلاد الحبشة مروراً بمصر والجزيرة العربيَّة واليمن؛ وأُعلنت البشارة لجميع الأُمم في أُورُوبّا وإفريقيا وآسيا وأوقيانا. وعند اكتشاف الأمريكيتين وصلت البشارة إلى أقاصي الأرض، فتمَّت نبوءة أشعيا "جَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم" (أشعيا 42: 6). أمَّا عبارة جَميعَ الأُمَم " فتشير الى كل الناس يهودا وامما، ولم يقْدم بطرس على تبشير الأمم الا برؤيا من السماء، ولم تقدُم الكنيسة على تشبير الأمم الَّا بشهادة بطرس لهم بتلك الرؤيا (اعمال الرسل 10). ان الدين المسحي سيكون دين كل اهل الأرض، وهو موافق احتياجات جميع الناس (رومة 1: 16). لقد أراد متى أن يبيّن أن الحصول على الخلاص بالاعتراف بيسوع المسيح أصبح ممكناً منذ الآن لجميع الناس دون أي تفرقة. وهكذا الكنيسة تمارس رسالتها خارج حدود ثقافتها وتعلن الإنجيل لجميع الخلق معتمدة على حضور يسوع القائم من الموت القائل:" وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم (متى 28: 20). أمَّا عبارة "عَمِّدوهم" فتشير الى المعمودية التي تربط المؤمن بيسوع المسيح في موته وقيامته للحياة الأبدية؛ فالمعمودية تُبيِّن الخضوع للمسيح، والاستعداد للحياة في طريق الله، وهي علامة على التطهير من الخطيئة والنجاسة من ناحية، وعلى الانتساب رسمياً إلى كنيسة المسيح من ناحية أخرى. وهي علامة أيضا على العهد. إذ يُصرح الله للمعتمد، بواسطة هذه العلامة، غفران الخطايا، ومنح الخلاص. أمَّا المعتمد فيتعهد، هو أو المسؤولون عنه، بطاعة كلمة الله والتكريس لخدمته (غلاطية 3: 27). وبعبارة أخرى، إن المعمودية تختم وتشهد على اتحاد المؤمنين بالله عن طريق الإيمان والبنوة وغفران خطاياهم (يوحنا 20: 23) وبموت المسيح وقيامته (رومة 6: 3). وبعد التلمذة هناك العماد؛ وهذا ما حدث في الجماعة المسيحية الاولى الذين هم تابوا واعتمدوا كما أكد بُطرُس "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (اعمال الرسل 2: 38). وكان على التلاميذ ان يعمّدوا الناس، لان المعمودية تربط المؤمن بيسوع المسيح في موته وقيامته للحياة الابدية. فالمعمودية تُبيَّن قدرة يسوع الفصحية في رسالة الكنيسة وعلاقتها الوطيدة بالأقانيم الثلاثة. ويتمُّ العماد باسم الثالوث حيث يحيا المؤمن حياة جديدة مغمورة في حياة الاب والابن والروح القدس، في حبِّهم وفكرهم وسلوكهم. وأمَّا عبارة "بِاسْمِ" (باليونانية εἰς τὸ ὄνομα بصيغة المفرد، لا بأسماء الآب والابن والروح القدس)، فتشير الى قيام علاقة شخصية بين المعمَّد والله وهو "كيان واحد" الآب والابن والروح القدس، لأنّها كلّها تشترك في المجد الواحد، في الطبيعة الإلهيّة الواحدة، دون أن تمتزج بشخص واحد، بل لكّل من الأقانيم الإلهيّة دوره وكيانه المتمايز، إنّما في اتحاد الطبيعة الإلهيّة وفي مساواة المجد والكرامة. الاعتماد باسم يسوع لا يزيل الاعتماد باسم الاب والابن والروح القدس لان العماد باسم ابن الله الوحيد الوسيط بين الله الاب والابن والروح القدس والانسان (عبرانيين 9: 15)، لذلك التلاميذ والرسل كانوا يفهمون جيدا ان تعميدهم للمؤمنين باسم المسيح هو تعميد باسم الله الاب والابن والروح القدس. أمَّا عبارة "الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس " فتشير الى حقيقة الثالوث، التي تُعبِّر عن الاله المثلث الأقانيم: الآب والابن والروح الروح القدس في إله واحد. كما ورد في الشريعة " اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد" (تثنية الاشتراع 6: 4) واكد ذلك بولس الرسول "وأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ الأَحَد" (1قورنتس 8: 4). ويُعلق القديس ايرونيموس "بعد قيامته أرسلهم للأمم أوصاهم أن يعمّدوهم في سرّ الثالوث". فهي صفة ثالوثية معروفة في الكنيسة الاولى كما يظهر من تحية بولس الى اهل قورنتس "لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا" (1 قورنتس 13: 13). ويوضِّح لنا اللاهوتي القدّيس ايرينيوس عقيدة الثالوث بقوله" أوّلاً: الله الآب، غير المولود، وغير المحدود وغير المرئي؛ الله الواحد، خالق الكون؛ هذه هي الرّكيزة الأولى لإيماننا. الرّكيزة الثّانية: كلمة الله، ابن الله، يسوع المسيح، ربّنا، كُشِفَ عنه للأنبياء؛ من خلاله، كان كلّ شيء؛ وفي نهاية الأزمنة، تجسّد من الروح القدس وصار إنسانًا مرئيًّا، للقضاء على الموت ولإبراز الحياة ولإجراء المصالحة بين الله والإنسان. والرّكيزة الثالثة: الرُّوح القدس الذي من خلاله، تنبّأ الرسل، وتعلّم آباؤنا أمور الله، وأُرشِدَ الأبرار إلى طريق الحقّ؛ وفي نهاية الأزمنة، حلّ بطريقة جديدة على البشر، كي يُجدّدهم في الأرض كلّها، من أجل الله. يمنحنا الله الآب العماد في سبيل ولادتنا الجديدة في ابنه من خلال الرُّوح القدس". أمَّا الاعتماد باسم يسوع كما يقول بُطرُس "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (اعمال الرسل 2: 38). 20 وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به، وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم تشير عبارة " عَلِّموهم أَن يَحفَظوا " لا الى مجرد المعرفة العقلية بل للعمل بمشيئة الله ايضا. بعد الارسالية والتلمذة والعماد يبدأ التعليم كما نرى في الجماعة المسيحية الاولى "كانوا يُواظِبونَ على تَعليمِ الرُّسُل" (اعمال الرسل 2: 42). ونجد التسلسل في الارسال: "اذهبوا، وتلمذوا، وعمِّدوا وعلموا. هناك التلمذة، ثم العماد والتعليم كما حدث في سيرة الجماعة المسيحية الأولى (أعمال الرسل 2: 42). ومن هذا المنطلق، إن وجود الملايين في العالم اليوم الذين لم يسمعوا قط اسم يسوع المخلص لهو عار وفضيحة لنا جميعا نحن الذين اوصانا يسوع ان نتلمذ جميع الامم. أمَّا عبارة " كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به " الى قانون إيمان المسيحيين واعمالهم (أعمال الرسل 20: 27) وتلك الوصايا تتضمن تعاليم العهد القديم ايضا كما يتبيَّن من مواعظ المسيح ومن تعليم الرسل. أمَّا عبارة "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ " فتشير الى وعد المسيح القائم من بين الأموات بحضوره الالهي معنا كما كان الله مع اسحق (تكوين 26: 24) ويعقوب (تكوين 28: 20) ويوسف (تكوين 39: 2) وموسى (خروج 3:12). وهو الآن مع الرسل بروحه (يوحنا 14: 25). وهذا الوعد هو تشجيع للتلاميذ على المناداة بالإنجيل. وأما عبارة " معَكم" في الأصل اليوناني μεθ' ὑμῶν (معناهامع الظرفية) فتشير الى حرف الجر الذي يسبق كلمات تدلّ على الرفقة والاتحاد والشراكة والمشاركة بعيدا عن العزلة. إن الحياة التي اندمجنا فيها ونعيشها هي حياة شركة ومحبّة. ألم يُلقب يسوع "عمانوئيل" أي الله معنا؟ (متى 1: 23). إنه يعيش شركة في إطار علاقاته مع الانسان؛ وقد تحقق وعد حضوره لا في وقت مُحدَّد فحسب، بل حتى انقضاء العالم أيضا، كما ان حضوره لن يكون مع شعب واحد (عدد 14: 9) بل مع جميع الشعوب التي يُرسل الله اليها خلاصه (اعمال الرسل 28: 28). ويسوع لا يمنح عطايا خاصة (يوحنا 20: 22) او حضوراً ثابتا (متى 18: 20)، بل عونا فعّالا لتلاميذه "طوال الايام" حتى في الاضطهاد كيلا يخوروا في الضيقات الآتية. وبذلك يكون هذا الحضور مماثلا لحضور الروح القدس "وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد" (يوحنا 14: 16). المسيح مع تلاميذه أولا بروحه القدوس وفي كلامه في الانجيل وباتحادهم في اقربان الاقدس وفي قلوبهم. أمَّا عبارة "نهايةِ العالَم" فتشير الى عمل التلمذة الذين يقومون به إنما هو امتداد لعمل يسوع الخلاصي من ناحية، ومن ناحية أخرى تشير الى مجيء المسيح ثانية كما وعد رسله قبل صعوده الى السماء " أَيُّها الجَليِليُّون، ما لَكُم قائمينَ تَنظُرونَ إِلى السَّماء؟ فيسوعُ هذا الَّذي رُفِعَ عَنكُم إِلى السَّماء سَيأتي كما رَأَيتُموه ذاهبًا إِلى السَّماء" (اعمال الرسل 1: 11). وبعبارة أخرى كان يسوع مع تلاميذه بالجسد الى يوم صعوده الى السماء، وبعد صعوده كان معهم روحياً بالروح القدس (اعمال الرسل 1:4)، فالروح القدس يُحقِّق وجود يسوع معهم، ولن يتركهم أبدا (يوحنا 14: 15)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لم يقل يسوع أنه يوَدُّ أن يكون مع رسله وحدهم بل مع المؤمنين الذين يأتون بعدهم، لأن الرسل لا يعيشون حتى انقضاء الدهر، لكنّه يكلِّم كل الذين سيؤمنون به باعتبارهم جسد واحد". ويُعلق الأب يوحنا من كرونستادت" أنت معنا يا سيّدي كل الأيام، ليس لنا يوم دونك، فبدون حضرتك بجوارنا لا نستطيع أن نعيش. أنت معنا خاصة في سر جسدك ودمك". ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 28: 16-20) بعد دراسة وقائع النص الانجيلي (متى 28: 16-20) نستنتج ان متى اختتم انجيله بثلاث نقاط: الوحي والرسالة والوعد. الوحي ان يسوع أصبح رب السماء والارض بفضل قيامته، وأمَّا الرسالة فهي اذهبوا وتلمذوا وعمدوا. وفي هذه الرسالة تظهر قدرة يسوع الفصحية وعلاقتها بالأقانيم الثلاثة اي الثالوث الاقدس؛ واخير الوعد بان يبقى الله معنا. فالوحي والرسالة والوعد تلمح عن الثالوث الاقدس، ومن هنا يُمكننا ان نشدد على مفهوم الثالوث وكيف نعيشه حسب تعاليم السيد المسيح. وخير كلام لنفهم سر الثالوث ما قاله السيد المسيح عن طريق العماد ومحبة الله وما أعلنه عن الله آب. 1) مفهوم الثالوث أ) مفهوم الثالوث عن طريق العماد سر الثالوث هو سر ذات الله العجيبة، سر حياته الداخلية، سر كماله ورسالته في ذاته. الله واحد في الطبيعة الالهية بثلاثة أقانيم. وكل اقنوم هو الله كاملا: "الآب هو ذاتُ ما هو الابن، والابن هو ذات ما هو الآب، والآب والابن هما ذاتُ ما هو الروح القدس، أي الاله واحد بالطبيعة" (التعليم المسيحي 253). ويُعلق القديس أفرام السرياني" كيف إنّ الثلاثة هم واحد، أنّهم ثالوث في وحدة الجوهر. اخترْ الشمس رمزًا للآب، النُّور للابن، والحرارة للرُّوح القدس. بالرغم من أنّه كائن واحد، فإنّنا نرى فيه الثالوث. هذا الواحد هو متنوّع: واحد من ثلاثة، وثلاثة يؤلّفون واحدًا؛ الشمس متميّزة عن شعاعها، بالرغم من أنّها متّحدة معه، فالشعاع هو أيضًا الشمس" (نشيد عن الثالوث). والأقانيم الإلهية الثلاثة متميزون فيما بينهم بعلاقات مصدرهم: "الاب هو الذي يلد، والابن هو المولود، والروح القدس هو المُنبثق" (التعليم المسيحي 254). فالله في وحدة الهية ثلاثية، وكل اقنوم إلهي يعمل العمل المشترك وفقا لميزته الشخصية كما جاء في تعليم الكنيسة "بالله الآب الذي منه كل شيء، بالرب يسوع المسيح الذي له كل شيء، وبالروح القدس الذي فيه كل شيء" وفقا لتعليم بولس الرسول "أَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا" (1 قورنتس 8:6). وكشف السيد المسيح عن سر الثالوث عن طريق العماد. إذ أرسل يسوع رسلَه قائلا لهم: "فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس، (متى 28: 19-20). إن كلمات يسوع تؤكد حقيقة الثالوث حيث ان مفهوم الثالوث يأتي مباشرة من يسوع المسيح نفسه. ويدور كلام يسوع هنا على اشخاص ثلاثة متميزين فلم يقل يسوع لتلاميذه عمِّدوهم بأسماء بل "باسم" ألاب والابن والروح القدس. "بِاسْمِ" باليونانية εἰς τὸ ὄνομα بصيغة المفرد، لا بأسماء الآب والابن والروح القدس. فهناك وحدة الجوهر في كل من الأشخاص الثلاثة. ولذلك فإن المسيحيين يُعَمَّدون "باسم" وليس "بأسماء" الآب والابن والروح القدس، لأنه لا يوجد سوى إلهٌ واحد: الآب الكلّي القدرة والابن الأوحد والرُّوح القدس: الثالوث الأقدس. (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 233). فإيمان المسيحيين يرتكز على الثالوث الأقدس بالرغم من ان كلمة الثالوث لم ترد في الكتاب المقدس، ولكنها تعبِّر تماما عن الاله الواحد المثلث الأقانيم: ألاب والابن والروح القدس. وعملت الكنيسة بنصيحة مُعَلِّمِها الإلهي، فأوجبت على كل من يتقبل سر العماد أن يُعلْن وبصورة واضحة فعل إيمانه بالأقاليم الثلاثة عند تلاوته " قانون الايمان "، ومنحت هذا السر باسم الثالوث الاقدس. يعبّر العماد باسم الثالوث: الآب والابن والروح القدس (متى 28: 19) بصفة ممتازة عن أن المُعَّمد المُتحد بالابن، مُتّحد في الوقت نفسه بالأقنومين الآخرين: فالمؤمن يقبل في العماد باسم الرب يسوع، وبفعل روح الله (1 قورنتس 6:11)، فيصير "هَيكَل الرُّوحِ القُدُس" (1 قورنتس 6: 19) وابناً بالتبنّي للآب (غلاطية 4: 5-6)، وأخا وارثاً مع المسيح، ويُعد لمشاركة مجده (أفسس2: 6). وكل الذين يقبلون العماد يكونون فضلاً عن ذلك متحدين بعضهم ببعض في وحدة المسيح ذاتها "لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع" (غلاطية 3: 28). ب) مفهوم الثالوث عن طريق " الله محبة" من بين جميع الكلمات البشرية تبقى كلمة " المحبة" هي التي تسمح لنا أن نتبيَن، على أفضل وجه، سرَ الثالوث الإلهي والهبة المتبادلة والأزلية ببن الآب والابن والروح القدس. وينطلق القديس أوغسطينوس من تعليم يوحنا الرسول الذي ينص على جوهر الله هو المحبة " الله محبة" (1 يوحنا 4: 16) لتقريب مفهوم الثالوث فيقول: "يتطلب الحب مَن يُحِبّ، ومن يُحَبّ، والحب عينه". الآب، في الثالوث الأقدس هو المُحِبّ، نبع وأصل كل شيء؛ الابن هو المَحبوب؛ الروح القدس هو الحُب الذي يربطهما. ويُبيِّن لنا الوحي الإلهي أن الله محبة منذ الأزل، لأنه قبل أن يوجد الكون كان الله الكلمة، الابن المحبوب حبًا أبديًا في المحبة التي هي الروح القدس. بالطبع إن مثال الحب ما هو إلا مثال بشري، ولكنه أفضل ما نعرفه لكي نحدس شيئًا ما عن أعماق الله الخفيِّة. واستطاع يوحنا الحبيب الذي عاش اختبار المحبة أن يُعبِّر عن حقيقة الله المثلث الأقانيم بتعريفه "الله محبة" (1 يوحنا 4: 8). إذ كشف الله، بإعطائه ابنه، أنه هو الذي يعطي نفسه حباً بنا "إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومه 8: 32). وإذ يحيا الابن الوحيد مع أبيه في حوار محبة مطلقة يكشف أيضاً أنه هو والآب "واحد" منذ الأزل كما صرّح يسوع في انجيل يوحنا "أَنا والآبُ واحِد" (يوحنا 10: 30)، واحد لا من ناحية الشخص، لأنّ الآب لم يتجسّد، بل من ناحية الطبيعة الإلهيّة الواحدة. "إِنِّي في الآب وإِنَّ الآبَ فيَّ" (يوحنا 14، 11): هما واحد من حيث الطبيعة، من حيث الجوهر، من حيث الآزليّة، ومن حيث الكرامة. والابن الوحيد هو ذاته الله "الكَلِمَةُ هوَ الله "(يوحنا 1:1). ويعرِّفنا الابن الوحيد، الذي في حضن الآب، بالله الذي "ما رآهُ أَحدٌ" (يوحنا 1: 18). وهذا الإله الواحد قائم فيه وفي أبيه المتَّحدين في الروح القدس. يشرح القديس غريغوريوس النيزينزي سر الثالوث انطلاقا من تعليم يوحنا الرسول أن جوهر الله هو نور (1 يوحنا 1: 5) " إِنَّ اللهَ نورٌ". وبما ان صاحب المزامير يقول "نُعايِنُ النُورَ بِنورِكَ " (مزمور 36: 10). من النور الذي هو الآب نفهم إو ندرك النور الذي هو الابن بنور الروح القدس: هذا هو لاهوت الثالوث الأقدس باختصار. إن الله لا فصل فيه – إذا جاز التعبير – في أقانيم متمايزة عن بعضها". وفي إنجيل يوحنا يتحدث يسوع عن علاقته بالآب قائلاً: "أنا في الآب والآب فيّ" (يوحنا 14، 10–14)؛ "الآب فيّ وأنا في الآب" (يوحنا 10، 38). وساعد علم النفس على فهم خصائص الحب أنه "يوحّد دون ذوبان الآخر او ضياع الواحد في الآخر " كما جاء في كتاب "فن الحب" لعالم النفس أريك فروم. ويوضح الفيلسوف الكبير جورج هيغل هذا الحب بتعريفه ان" الحب هو تمييز بين اثنين بحيث يعيشا وعيًا مشتركًا وهذا الوعي هو وعي بأنهما خارج ذواتهما من أجل الآخر". إ إن طبيعة الحب توحد دون إزالة الاختلاف. الاختلاف ليس خلافًا أو انشقاقًا. وهذا النوع من الحب يظهر في الثالوث الأقدس بشكل كامل. أقانيم الثالوث الأقدس هي متحدة لا لتشكل اختلاطًا عشوائيًا، بل يكون أحدها في الآخر، إذا جاز التعبير. وإذا نظرنا إلى أيقونة الثالوث كما صورها الراهب والفنان الروسي أندريي روبليف، نرى في نظرات الأقانيم الثلاثة حضور وشركة. في هذه الشركة يَهبُ كل من الأقانيم ذاته للآخر، ويفسح المجال لحضور وكيان الآخر. ونحن لا نصل إلى إدراك "الله محبة إلا بيسوع المسيح، عندما نعرف في شخصه محبة الله لنا (يوحنا 4: 16). إن الله، عندما أسلم "ابنه الحبيب" للموت من أجلنا (مرقس 1: 11)، قد أثبت لنا (رومة 5: 8) "أنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ " (يوحنا 3: 16). والدليل على أنه يُحبنا بنفس الحب الذي يحُبُّ به ابنه الوحيد، فهو يهبنا المحبة التي تجمع بين الآب والابن والتي هي روحهم القدوس. ج) مفهوم الثالوث عن طريق "الله آب" علمنا يسوع ان نصلي "فَصَلُّوا أَنتُم هذِه الصَّلاة: أَبانا الَّذي في السَّمَوات..." (متى 6: 9). وبدون الرّب يسوع لا نعرف من هو "الآب" حقّاً. أن الرّب يسوع ليس لديه اتصال خارجي فقط بالآب بل هو جزء لا يتجزّأ من الكيان الإلهي بكونه ابناً. من قبل إنشاء العالم كان الله محبة: محبّة الآب والابن. في صلاة الرّب يسوع، ينكشف ما في داخل الآب وبها نستطيع أن نرى كيف هو الله. الله هو إله واحد بكلمته وروحه. إن الله الذي يعلنه لنا يسوع المسيح هو أبوه، إذ يخاطبه بلقب "أبّا". ولكن هو أيضاً إلهه، لأن الآب، الذي له الألوهية بدون أن يستمدها من أحد آخر، يعطيها كلها للابن المولود منه أزلياً، وللروح القدس الذي فيه يتَّحد كلاهما. وهكذا يُعلن لنا يسوع عن مطابقة الآب والله، وعن السر الإلهي، وعن سر الثالوث. ويُردِّد بولس الرسول أربع مرات العبارة التي تُعبِّر عن هذا الإعلان: "إله ربنا يسوع المسيح وأباه" (روما 15: 16، 2 قورنتس 1: 3، أفسس 1: 3، قولسي 1: 3). وبعبارة أخرى يتجلّى الثالوث بكل وضوح في صلاة الرّب يسوع. أوضح يسوع في تعاليمه أنّ الابن له كالآب سُلطان على الحياة، لذلك قال "كَما أَنَّ الآبَ له الحَياةُ في ذاتِه فكذلِكَ أَعْطى الِابنَ أَن تَكونَ له الحَياةُ في ذاتِه" (يوحنا 5: 26) وقال في موضع آخر "ما فَعَلَه الآب يَفعَلُه الابْنُ على مِثالِه" (يوحنا 5: 19). وقد شرح القديس اوغسطينوس هذه العبارة فقال" إن السيد المسيح لم يقل إنّ الابن يصنع بعد الآب"، ولكنه قال " يَفعَلَهُ الابنُ على مِثالِهِ ". فمهما يفعَلَهُ ذاك يَفْعَلَهُ هذا أيضاً. فهما متساوين في الجوهرِ والقُدرةِ ويتساوى معهما الرُّوح القدس أيضاً. وقد أشار القديس اثناسيوس إلى هذا السر بقوله" الآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله، ومع ذلك ليسوا ثلاثة آلهة، إنما هم إله واحد. فالآب غير مولود، والابن مولود غير مخلوق ولا مصنوع، والروح القُدُس مُنبَثق من كليهما، فهو غير مخلوق ولا مصنوع. هكذا يجب أن نُكَرّم وحدة الطبيعة في تثليث الأشخاص وتثليث الأشخاص في وحدة الطبيعة". وكشف لنا المسيح عن الثالوث الإلهي بالطريقة التي خلقنا الله على صورته، صورة علاقة البنوة. إن خير شهادة عن ذات الله المثلث الأقانيم نجدها في الخلق، إذ جُعل الإنسان "على صورة الله كمثاله" اذ قال الله "لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا (تكوين 1: 26). الله الثالوث كلّه جعل الإنسان على صورته. ويعلق القدّيس أنطونيوس البادوانيّ "فمن خلال الذاكرة، هو يُشبه الآب؛ ومن خلال الذكاء، هو يُشبه الابن؛ ومن خلال الحبّ، هو يُشبه الروح القدس" (عظات للآحاد ولأعياد القدّيسين). 2) كيف نعيش الثالوث على الصعد الفكري والعملي: على الصعيد الفكري: تنير عقيدة الثالوث مفهوم الايمان لدى المسيحيين. الإيمان المسيحي يقوم على الثالوث الأقدس. فالثالوث الأقدس هو جوهر إيماننا المسيحي وحياتنا المسيحية. إنّه سرّ الله بذاته. هو منبع كل الأسرار الأخرى للإيمان، وهو النور الذي يُنيرها. هو التعليم الأساسيّ لحقائق الإيمان. فالثالوث هو سرّ إيمان، سرٌّ لا يستطيع أن يُدركه العقل البشريّ المجرّد، الا عن طريق تجسّد ابن الله وعمل الروح القدس" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 237). إن فكرنا أصغر بكثير من فكر الله، ولذا من المستحيل لنا أن ندرك جوهر الله العميق. ولكن إذا لم يكن باستطاعتنا أن نغمر المحيط بأيدينا يمكننا أن نغوص فيه؛ لا يمكننا أن نحيط بالثالوث الأقدس فكريًا، ولكن يمكننا أن نلج فيه! تُنير عقيدة الثالوث تُنير مفهوم الإنسان لدى المسيحيين. وإذا كان الإنسان مخلوقاً على صورة الله، فعلى الانسان أن يكون على صورة الله الآب: خالقاً وخلاّقاً، وعلى صورة الابن، مطيعاً لا عبداً، وعلى صورة الروح، إنساناً حُراً لا يُسيطِر على أحد، ولا يُسيطَرُ عليه من أحد. تنير عقيدة الثالوث مفهوم العائلة لدى المسيحيين: العائلة المسيحية يجب ان تكون "على صورة الله ومثاله"، داخل العلاقات الثالوثية، ليس الأقنوم فردًا وحيداً، يضع نفسه في عالمه الشخصي. ويُعلق الطوباويّ يوحنّا هنري نيومان " إنّ الله واحدٌ، إلى منتهى الأجيال، وهو أيضًا دومًا ثلاثة. فهو يفرح منذ الأزل في ابنه وفي روحه القدس، وهما فيه. عندما تجسّد الابن، عاش لمدّة ثلاثين عامًا مع مريم ويوسف، مكوّنًا بذلك صورة الثالوث على الأرض." (تأمّلات وعبادة: الجزء الثالث، ربّنا يرفض التعاطف). يدعو الثالوث العائلة المسيحية أن تعيش مرتكزات الزواج المسيحي من خلال الثبات، أي أن يكون الواحد في الآخر، ومن خلال الأمانة، يكون الواحد للآخر، ومن خلال إنجاب البنين، يكون الواحد مع الآخر. فالعائلة المسيحية تطلب من كل فرد منها أن يُضحي في سبيل الآخر دون أن يفقد كيانه، وأن يحقق المشاركة الصادقة بكيانه وبممتلكاته. فإنّ الحياة المسيحية هي قبول مستمرّ الواحد للآخر ومحبة مستمرة الواحد للآخر وشركة الواحد مع الأخر في علاقة أبديّة، علاقة غير قابلة للانحلال تماما كما هي العلاقة بين الاب والابن والروح القدس. ولا يتحدث أي اقنوم في الثالوث عن نفسه ولا يتحدث من نفسه، ولا عما يقرره هو، أو ما يفكر به، أو ما يريده بل على العكس من ذلك، فإن كلا منهم لا يشارك ولا يعطي، سوى ما كان قد تلقّاه من غيره. وقد لخَّصت القدّيسة تيريزا الآفيليّة، معلمة الكنيسة، سر الثالوث بكلمات بسيطة بقولها: "أدركتُ أن في الله ثلاثة أقانيم مستقلة، ولكلّ واحد منهم ميزته الخاصّة. ثمّ قلت لنفسي إنّ الابن وحده تجسّد، ممّا يؤكّد حقيقة تلك الاستقلاليّة. هؤلاء الأقانيم الثلاثة يعرفون بعضهم بعضًا، يحبّون بعضهم بعضًا ويتواصلون فيما بينهم. لكن، إن كان تلك الأقانيم مستقلة، فكيف يمكننا أن نقول إنهم من الجوهر نفسه؟ في الواقع، هذا ما نؤمن به. هؤلاء الأقانيم الثلاثة يتمتّعون بإرادة واحدة، بسلطة واحدة وبسيادة واحدة، حتّى إنّ أحدًا منهم لا يستطيع أن يفعل شيئًا بدون الآخرين، وأنّ خالقًا واحدًا خلق كلّ شيء. أيمكن للابن أن يخلق نملة بدون الآب؟ طبعًا لا، لأنّهما يملكان سلطة واحدة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الروح القدس. إذًا، الأقانيم الثلاثة يُشكّلون إلهًا واحدًا. أيمكن لأحد أن يحبّ الآب بدون أن يحبّ الابن والروح القدس؟ لا، لكن مَن كان لطيفًا مع أحد الأقانيم الثلاثة، كان لطيفًا مع الثلاثة. ومَن أهان أحدهم، أهان الاثنين الآخرين. أيمكن أن يكون الآب موجودًا بدون الابن والروح القدس؟ لا، لأنّهم يملكون الجوهر نفسه. وحيثما يكون أحدهم، يكون الاثنين الآخرين لأنّهم لا يستطيعون الافتراق. إذًا، كيف لنا أن نرى ثلاثة أقانيم مستقلّة؟ كيف تجسّد الابن ولا الآب أو الروح القدس؟ لم أفهم ذلك. لكنّ اللاهوتيّين فهموا. ما أعرفه هو أنّ الأقانيم الثلاثة شاركوا في صنع ذاك السرّ العجيب. تعلّقت نفسي بهذه الحقيقة: الربّ هو كلّي القدرة، استطاع ما أراده وسيتمكّن من صنع كلّ ما يشاء. فكلّما عجزت عن فهم هذه الأمور، ازداد إيماني وازدادت عبادتي. فليتقدّس اسم الربّ من الآن وللأبد. آمين" (العلاقات رقم 33). على الصعيد العملي نحن مدعوون بنعمة المعمودية "باسم الاب والابن والروح القدس" (متى 19:28)، الى الاشتراك في حياة الثالوث السعيدة، واندماج الانسان في حياة الله مثل الغصن في الكرمة (يوحنا 15: 4)، ويسوع في الآب ونحن فيه (يوحنا 10: 30). هي ثمرة الفصح، هي أمر جديد يحققه الروح القدس فينا باعتبارنا خليقة جديدة. هنا في ظلمة الايمان، وهنالك بعد الموت في النور الازلي. نَحنُ اليومَ نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه" (1 قورنتس 13: 12). وحيث ان المسيحي متعمد باسم الاب والابن والروح القدس فأنه يبدأ المسيحي وينهي معظم صلواته وبعض أعماله، "باسم الآب والابن والروح القدس الاله الواحد، آمين". بقولنا "باسم الآب"، نطلب منه نعمة تقديس أفكارنا وتنقية نوايانا ومخططاتنا، و"باسم الابن"، نطلب منه نعمة تقديس قلبنا وتطهير مشاعرنا وأحاسيسنا، و"باسم الروح القدس"، نطلب منه تقديس كل أعمالنا وانجازاتنا. وفي صلاة الرّب يسوع، " أبانا الذي في السماوات" ينكشف ما في داخل الآب وبها نستطيع أن نرى كيف هو الله. إنّ الإيمان بالثالوث ما هو إلا تفسير للّذي يحدث في صلاة الرّب يسوع. ففي هذه الصّلاة يتجلّى الثالوث بكل وضوح. وفي قلب الكنيسة نلاقي الإفخارستيا التي تُبيّن لنا بأن القداس الإلهي هو فعل ثالوثي من أوله إلى آخره، إذ يبدأ وينتهي بسمة الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس. وفي الكنيسة، الروح يكشف لنا عن حضوره بشكل واضح فنعبّر عن إيماننا بمجد الثالوث. وفي خبرة الحياة المسيحية نغوص في عمق الثالوث الذي لا ينضب. وفي هذا الصدد تقول القدّيسة تيريزا الآبِليّة: " كلّما عجزت عن فهم هذه الأمور، ازداد إيماني وازدادت عبادتي. فليتقدّس اسم الربّ من الآن وللأبد. آمين". وفي قلب الحياة العائلية والاجتماعية نحن مدعوون ان ننخرط في حياة هي علاقة الأقانيم الثلاثة، أي المحبة التي بها يحبّون بعضهم بعضًا. فالحياة المسيحية شركة مع كل من الأقانيم الالهية: ألاب والابن والروح القدس. من يمجّد الآب يمجّدُه بالابن في الروح القدس، ومن يتبع المسيح يتبع الآب، لان الآب يُجذبه كما جاء في قول يسوع "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ، إِّلا إِذا اجتَذَبَه الآبُ الَّذي أرسَلَني. (يوحنا 6: 44)، ولانّ الروح القدس يُحرِّكه كما يؤكد بولس الرسول "إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا. (رومة 8: 14). وباختصار، أن أكون مسيحياً يعني أن أستطيع القول مع الرّب يسوع "أبانا" وأن أصبح بذات الفعل "ابناً" أي ابناً لله الآب في وحدة الرّوح القدس الّذي يقودنا إلى الوحدة مع الله. وتُحدِّد الكنيسة سر الثالوث بان في الله ثلاثة أقانيم، الاب والابن والروح القدس، لهم نفس الجوهر الإلهي (الطبيعة الإلهية) وهم متساوون ومتميزون. وهذا السر علمنا بأنّه من الممكن أن نكون متساوين ومختلفين: متساوين في الكرامة، ومختلفين في الصفات المميّزة. أليس هذا هو الدرس الّذي نحن بحاجة ماسّة إلى أن نتعلّمه، كي نعيش بشكل جيّد في هذا العالم؟ هل هذا يعني أنّه من الممكن أن نكون مختلفين في اللون والثقافة والجنس والعرق والدين، ومع ذلك نحن متمتعون بكرامة متساوية، كأشخاص بشريّين؟ ويمكن ان يطبّق هذا التعليم في العائلة وفي المجتمع. ونحن مدعوّون إلى أن نحقّق الوحدة والتنوّع. الخلاصة باب الدخول في الثالوث الأقدس هو واحد، يسوع المسيح لأنه من خلال موته وقيامته فتح لنا سبيلاً جديدًا وحيًا لكي ندخل في قدس أقداس الثالوث الأقدس. وفي الواقع التقي يسوع بتلاميذه في الجليل بعد قيامته، وتركهم هناك لكي يعود إلى مجد الآب. ولكنه لا يقم بذلك إلا بعد أن ائتمنهم على رسالة جديدة تماماً: "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم باسم الآب والابن والروحِ القُدُس" (متى 28: 18-19). وهكذا اختتم متى انجيله بثلاث نقاط: الوحي والرسالة والوعد. الوحي ان يسوع أصبح رب السماء والارض بفضل قيامته، وأمَّا الرسالة فهي اذهبوا تلمذوا وعمدوا. وفي هذه الرسالة تُظهر قدرة يسوع الفصحية وعلاقتها بالأقانيم الثلاثة اي الثالوث الاقدس؛ واخير الوعد بان يبقى الله معنا. فالوحي والرسالة والوعد ترتكز على الثالوث الاقدس. يقوم الإيمان المسيحي على الإيمان بالثالوث الأقدس. والثالوث يعني إله واحد بثلاثة أقانيم متميزة الآب والابن والروح القدس. طابق الله اعتلان سرالثالوث مع زمن وقدرات البشر على قبوله. أن العهد القديم حدَّثنا جليًا عن وجود الآب وبدأ يكشف لنا بشكل سري عن الابن؛ أمَّا العهد الجديد، فيحدثنا بشكل واضح عن الابن ويبدأ بالحديث عن ألوهية الروح القدس. في العهد القديم نجد الاشارة الى الثالوث الاقدس. يتكلم الله غالبا عن نفسه باستعمال صيغة الجمع وقالَ الله: "لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا" (تكوين1: 26). واما في العهد الجديد فهناك نصوص واضحة عن سر الثالوث. في بشارة الملاك للعذراء نجد سر الثالوث" إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى" (لوقا 1: 35) ثلاثة اشخاص ورد ذكرهم: العلي، ابن العلي والروح القدس. وفي عماد يسوع نجد الوحي بالثالوث: "فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه. وإِذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متى 1/16). الذي يتكلم هو الله، الآبن هو يسوع ابن الله الوحيد، أمَّا الروح القدس فيظهر في صورة رمزية خاصة ككائن شخصي مستقل بإزاء الآب والابن. وكذلك في خطاب الوداع يتكلم يسوع عن الثالوث: "وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد (يوحنا 14: 16). وقد اوضح يسوع هذه السر في توصيته بالعماد: "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس"(متى28: 19) ويؤيد القديس بولس الرسول حقيقة الثالوث ببركة ثالوثية "لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا" (2 قورنتس 13:13). ويُلخص القدّيس العلامة باسيليوس عقيدة الثالوث بقوله: "في الثالوث يوجد الآب والابن والرُّوح القدس. إنّ الآب هو مبدأ كلّ شيء، وعلّة الوجود لكلّ موجود، وجذر الأحياء. هو الّذي يجري منه ينبوع الحياة، والحكمة، والقدرة، صورة جوهره المشابهة تمامًا للإله غير المنظور: الابن المولود من الآب، الكلمة الحَيّ، الّذي هو الله (1قورنتس 1: 24؛ عبرانيين 1: 3؛ يوحنا 1: 1). اما الرُّوح القدس فهو حيث هو الابن وحيث هو الآب. هذا الرُّوح، بما أنّه من نفس الجوهر وفق طبيعته، يملك هو أيضًا كلّ الخيرات: الصلاح والبِرّ والقداسة والحياة. كما أنّ الحرق مرتبط بالنار، والإشعاع بالنور، كذلك لا يمكننا أن نفصل عن الرُّوح القدس عمل التقديس والإحياء ولا عن الصلاح والبِرّ"(عظة حول الإيمان، 1-3) دعاء أيّها الإله الواحد في الثالوث القدّوس، ايها الآب الازلي، يا من ارسلت الى العالم كلمة الحق وروح القداسة، هب لنا ان ندرك مجد الثالوث في الأقانيم، وان نسجد لوحدته في القدرة والجوهر وللتساوي في الجلال. المجد للآب والابن والروح القدس الَّذي هو "كائِنٌ وكانَ وسيَأتي، وهو القَدير (رؤيا 1: 8). "لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معنا جَميعًا" (1 قورنتس 13: 13). قصة اوغسطينوس ومعرفة الثالوث الاقدس يُعلق القدّيس العلامة باسيليوس عن معرفة عقيدة الثالوث: "أنّ الحديث عن الله هو أمرٌ جريء: لأنّ نفسنا بعيدة جدًّا عن هذا الأمر العظيم... فكلّما تقدّمنا في معرفة الله، كلّما شعرنا بالعمق بِعَجزنا. هكذا كان ابراهيم، وكذلك موسى: بينما كان بإمكانهما رؤية الله، على الأقلّ بقدر ما يستطيع الإنسان، كان كلّ واحد يجعل نفسه أصغر الجميع؛ فإبراهيم أسمى ذاته "ترابًا ورمادًا" (تكوين 18: 27)، وموسى قال إنّه "ثقيل الفم واللسان" (خروج 4: 11)"(عظة حول الإيمان، 1-3) ويخبر التقليد المسيحيّ عن عجز القدّيس أوغسطينوس في إدراك سر الثالوث. بينما كان هذا القدّيس الفيلسوف واللاّهوتيّ سائراً على شاطئ البحر يفكّر في سرّ الثالوث، رأى طفلاً يأخذ من مياه البحر في صَدَفَةٍ صغيرة ويضع المياه في حفرة صغيرة حفرها. حين سأله القديّس عمّا كان يفعله أجاب الطفل: "أضع البحر في الحفرة"، فضحك القدّيس مدركاً العلامة الإلهيّة: لهو أسهل أن يوضع البحر في حفرة صغيرة من أن يُدرك سرّ الثالوث بواسطة عقل الإنسان. إن عقلنا لن يصل أبداً إلى إدراك سرّ الثالوث الأقدس، لأنّ المحدود لا يمكنه احتواء غير المحدود، والأزليّ لا يسعه عقل مرتبط بالزمان والمكان إدراك حقيقته الأزليّة. لأنَّ معرفةَ الثالوثِ تُشبَّهُ بمعرفةِ أعماقِ البحر. وكما أن العينَ البشريةَ لا ترى أعماقَ البحر، كذلك تعجَزُ الحواسُّ البشريةُ عن إدراكِ سرِّ الثالوثِ الإلهيّ. إن جوهر الله محبّة لأنّ الله محبة كما يقول يوحنّا في رسالته. من يحبّ يعرف، لا معرفة العالِم والمُختبِر بل معرفة الايمان. معرفة الله هي أنّ أحبّه، فالمحبّة هي أنْ أحيا عمليّاً ما هو الله بجوهره، بالحبّ أشارك الله في حقيقة وجوده، دون أن أفهم فهماً كاملاً معني ثُلاثية الأقانيم في الإله الواحد، وكيفية انبثاق الروح وولادة الابن، دون أن أفهم كيف يمكن للابن أن يكون مولوداً من الأب وأزليّاً في الوقت عينه. حين أحبّ أعرف عمق الثالوث لأنّي أحيا جوهر الثالوث، فجوهر الثالوث محبّة. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|