سيدنا! الأسقف والإمبراطور
يروي لنا ثيؤدورت قصة بطلين، عرفا مفهوم البطولة الحقة.
سمع الأسقف أمبروسيوس عن المنشور الذي أصدره الإمبراطور ثيؤدوسيوس، وعرف أنه سيكون ضحيته سفك دماء بريئة. في حكمة دخل الأسقف إلى هيكل الرب يطلب مشورته. رفع عينيه إلى اللَّه وكأن لسان حاله يقول:
"من يقدر أن يقف أمام الإمبراطور في العالم كله؟
لكنني أقول مع إرميا النبي إن نارًا قد استعلت في عظامي لا أستطيع أن أصمت.
في قوة قال داود: أتكلم أمام الملوك ولا أخزى.
إذن لأمنعه من دخول المقادس الإلهية، ولو كان الثمن حياتي كلها على هذه الأرض."
التقى الأسقف أمبروسيوس بالأب روفينيوس الذي يحمل له الإمبراطور اعتزازًا، وفي هدوء قال له: "ليتك تبلغ الإمبراطور أن قراره هذا يهرق دماءً بريئة. أخبره أنه حتى إن برره الناس لا يبرره اللَّه. وليعلم إني لن اسمح له بالدخول إلى المقدسات ولو كانت تكلفة ذلك رقبتي!"
اضطرب روفينيوس جدًا، وأسرع إلى الإمبراطور يبلغه بكلمات الأسقف قبل حلول الكارثة، فهو يعلم ما للإمبراطور من سلطانٍ وما للأسقف من حزمٍ.
كان الإمبراطور قد تحرك بالفعل من قصره متجهًا نحو الكاتدرائية، وإذ استمع إلى روفينيوس لم يتراجع، بل انطلق في طريقه.
رآه الأسقف قادمًا، وفي شجاعة وبخ الإمبراطور على قراره الجاحف. توقع الأسقف ثورة الإمبراطور والتسرع في إصدار حكم ضده، لكن المفاجأة أن الإمبراطور في تواضع قال للأسقف:
"إني لم آت لأكسر قوانين،
لست أدخل إلى المقدسات قسرًا،
إنما أتيت لكي تحل لي قيودي.
لا تغلق باب سيدنا الذي يفتحه أمام كل القادمين بالتوبة".
"كيف أحلها وقرارك المتسرع يسفك دماء بريئة؟...
إن أردت فلتصدر أمرًا بتأجيل قرارك هذا شهرًا حتى يُفحص الأمر بترٍو، وتُمارس العدالة.
فمن يستحق الموت ليمت، ولكن لا يهرق دم بريء.
ليس لدي مانع، فسأفحص الأمر خلال شهر، فقد تسرعت في إصدار المنشور".
أخطأ الإمبراطور وكاد أن يسفك دماءً بريئة!
لم يبالِ بكرامة مركزه ولا بسلطانه،
بل بروح الاتضاع فتح أبواب مراحمك.
لم يلم الأسقف على حزمه،
بل لام نفسه على شرها.
اجتذب بصيرتي إلى أعماق نفسي،
فلا انشغل بسلطان زمني،
بل بإعلان ملكوتك فيّ،
اعترف لك بخطاياي،
واثقًا في غنى مراحمك الكثيرة.
هب لي قلب الأسقف أمبروسيوس،
لا أبالي بحياتي الزمنية،
بل بخلاص نفسي وخلاص أخوتي.
أهابك فلا أهاب أحدًا.
أرضيك فلا أطلب رضى البشريين!