ليس العصفورُ الذى يغرِّدُ وحسب. ثمة عصفورٌ أخطر يقف على شجرة قريبة، يحلِّل لنا التغريدَ، ويفكُّ شفرات حزنه وفرحه وصَدَحاته. لولا هذا العصفور «الناقد» لظلَّت تغريداتُ البلابل محضَ نغماتٍ مُبهمة وطلاسمَ؛ يزولُ أثرُها بمجرد صمت البلبل. العصفورُ الذى حطَّ على «غُصنى» اليومَ، هو الناقد الكبير «سمير فريد». لا لفوزه مؤخراً بالجائزة التقديرية للنقد السينمائى فى الهند، كأول عربيٍّ يحصد تلك الجائزة، ضمن العديد مما نال من جوائز وميداليات ذهبية كسفير مصرَ فى أكبر مهرجانات العالم الفنية، بل لاستحقاقه التحية دائماً، كأحد أكبر رموزنا الفكرية المعاصرة الذين حققوا معادلة جرامشى العسِرة: «المثقف العضوى». فهو، كصاحب مشروع ثقافى وتنويرى، لم يقبع فى مربَّعه الضيِّق، على رحابته، وهو النقد السينمائى، بل دائماً ما ينطلق من مربَّعه الفنىِّ هذا، ليصبَّ بثقافته الموسوعية، فى الرقعة الفكرية والوطنية الأوسع: الإصلاح الفكرى والأخلاقى للمجتمع المصرى. يمتلك عصفورُنا مفاتيح اللغة السينمائية الخبيئة. فإن قرأتَ مقالاً تحليلياً لسمير فريد حول فيلم، تجد أن شفراتٍ وألغازاً، وتعاويذَ فنيَّةً قد انفتحت سراديبُها. فينسابُ مجدداً أمام عينيك، شلالُ المَشاهِد، برؤى جديدة لم تكن قد تبلورت لديك حال المشاهدة الأولى، قبل قراءة المقال. حدث هذا معى فى رائعة شادى عبدالسلام: «المومياء». بعد قراءتى تحليل سمير فريد للفيلم؛ انفتحت أمامى فجأة خبايا الضوء والظلال والمكان وتحوُّلات الزمان ودورة الشمس وحركة الكاميرا والموسيقى التصويرية ولغة الشخوص وتعبيرات الوجوه وتعاويذ المومياوات، لأجدنى ليس وحسب أمام دراما رفيعة لمخرج عظيم، بل أمام مغارة ثرية من الفكر لا تتحقق بقراءة ألف كتاب فى الفلسفة والفنون. يعرف «عميد النقاد السينمائيين» كيف يُبسِّط للقارئ لغة السينما المعقدة، بعدما يسلِّمه مفاتيح الحصن. فبعد قراءتك كتبه الخمسين، فى النقد والتأريخ السينمائى، أو بعضها، ومقالاته بالمصرى اليوم وغيرها، لن تعود تشاهد السينما كما اعتدت أن تشاهدها بوصفها سرداً لحكاية لها بداية وذروةٌ وخاتمة، بل ستضلعُ مع المخرج فى عمله، فتروق لك زوايةُ الضوء فى هذا المشهد، وترفض عدم انسيابية حركة الكاميرا فى مشهد آخر، كما ستشارك السيناريست عمله فتجد هذه العبارة ناتئة عن النص، وتصفِّق للحظتىْ الصعود لذروة العقدة الدرامية، والهبوط منها. أنت الآن تبرح مقعد «المتفرِّج» لتتخذ مكان «العين الفاحصة» للدراما. أما دوره التنويرى فأهوَلُ من أن يحمله غُصنى النحيلُ هذا. فى مقال حديث له قدَّم روشتة علاج ممتازة للشباب الغارق فى تشويش الظلام وفقدان الهوية: عليهم قراءة عشرة كتب محددة عن الإسلام كدين سمح، وعشرة كتب أخرى عن مصرَ كحضارة من أرقى الحضارات. اقرأوا المقال، ثم اقرأوا الكتب العشرين، ثم حيُّوا معى هذا العصفور المثقف: سمير فريد.
المصدر : الوطن