من اروع ما كُتب عن حادث كنيسة السيده العذراء بعزبة النخل من مات صبياً ، مات نبياً
ما أن وقع بصرى صباح اليوم على خبر حادث ( أتوبيس ) عزبة النخل ، حتى شعرت بالقلق على عائلة إبنة لى تسكن بالمنطقة ، إتصلت بهم لأطمئن ، قالت لى : ( لقد كان إبنى ينوى الإشتراك فى الرحلة وغير رأيه فى آخر وقت ، ربنا ستر .. !! ) ، نشكر الله إبنتى وحمد الله على سلامة " مينا " ، قلت لها ..
هذه الأسرة أعرفها منذ أن خدمتها بالإسكندرية سابقاً ، قلقت عليهم لمعرفتى بهم ، فماذا عن الذين لا أعرفهم وفقدوا لهم أطفالاً فى هذا الحادث المروع ؟ .. هل إطمأن قلبى بسلامة من أعرفهم ؟ أليست هذه محدودية وتمركز حول الذات ودليل فقر روحى ؟ .. ألسنا جسداً واحداً بالمفهوم الكنسي وحسب الإنجيل ؟ ، بل ومصريتنا وبشريتنا بالأكثر تلزمنا بمشاعر على نطاق أوسع وأشمل وأعم .. ؟
قالت لى إبنتى بعزبة النخل : ( الحزن فى كل بيت يا قدس أبونا ، نعم نحن بخير ولكن قلوبنا موجعة على أطفال ناموا ليلتهم يحلمون برحلة ممتعة وكم من وقت قضوه فى الإعداد وبذلوا من جهد لرحلة مرتقبة ، وكم كانوا يتعجلون هذا الوقت ويترقبون لحظة الرحيل .. حلموا بقداس وتأملات روحية ، أخذوا معهم أناجيلهم ولم ينسوا أجبياتهم ، الشمامسة منهم غسلوا كل تونيته وقام بكيها وهكذا البنات فعلوا " بإشرباتهن " ، وفى الصباح باكراً خرجوا من بيوتهم ولا يدرون أنه خروج بلا عودة .. )
الكنيسة فى منطقة شعبية مزدحمة كعزبة النخل هى المتنفس لهؤلاء الصغار بل والكبار أيضاً ، هى سعادتهم ومكان إنطلاقهم ، هى الفردوس يهربون إليه من معاناة حياتهم اليومية ..
لقد ناموا بحلم جميل إبنتى ، قلت لها : يكفى أن أحلامهم كانت مقدسة ترجو وتنتظر السعادة الروحية ، لقد كانوا يعدون لخلوة روحية .. ولم يخذلهم الله ، لم يحقق حلمهم بسعادة روحية وقتية ستنتهى بعودتهم إلى بيوتهم الأرضية ، ولكنه كلل الحلم بسعادة أبدية لا تنتهى أبداً ..
كنت بزيارة الصغير مع أحد الآباء والطفل يقضى آخر ايامه على الأرض يعانى آلام مرض الفردوس ، كان شفافاً بملائكية ونور الذى يعده لسكنى الديار الأبدية ولم يكن من العسير أن نرى هذا فى وجهه النورانى بوضوح .. وهمس أبى فى أذنى : ( طوباه يا أبونا ، لقد إختصر له الله الطريق فى هذا العمر القصير ، ماذا فعلنا بسنوات عمرنا الطويل وكيف إستثمرناه ؟ ، ألا نكسب به مزيدا من الخطايا كل يوم ؟ .. )
وكانت الصغيرة تقضى أيامها الأخيرة أيضاً بذات المرض حيث كان أبونا بيشوى كامل يمر عليها كل ليلة ينهى زياراته اليومية بوقت قصير يقضيه معها ، كانت تفرح بالقصص يحكيها لها فتدهشه هى بتأملات تتعدى قدرات عمرها الصغير وكأن السماء مفتوحة تمدها بما يفوق إدراكنا نحن الكبار حتى فاجأته : ( أبونا ، أنا مسافره غداً للسما ، غداً آخر يوم تزورنى فيه ، من فضلك لا تتأخر عنى .. !! ) ..
وعندما إنشغل أبونا فى هذا الغد بالزيارات ونسى الملاك الذى ينتظره ، عاد إلى منزله منتصف الليل منهكاً ، وما أن خلد إلى فراشه حتى تذكر فهب مسرعاً يرتدى ملابس الخروج ويهرع إليها ، كانت تنتظره وعيناها دامعة تعاتب تأخره : ( ألم أقل لك يا أبونا أن هذا آخر يوم لى قبل السفر .. ؟ ) ، قالتها وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة ..
لقد إشتهى أيوب أن يقاد من المهد إلى اللحد ، كانت صرخته هروباً من آلام نفسية وجسدية أصابته وهى فى الواقع تعبيرُ عن رغبة فى حياة أفضل ، وكل القديسين إشتهوا لو قصرت أيامهم ليهربوا بها من دنس العالم ويفلتوا من قبضة شهواته الردية ..
لقد كانت جدتى تردد القول البليغ : ( من مات صبياً ، مات نبياً ) .. وربنا يسوع يؤكد أن لمثل هؤلاء ملكوت السموات ، وما نعرفه أن الوعد بطول العمر هو مكافأة الأبرار الذين يكرمون الآباء ويطيعون وصية الله ، نعم ، هذه بركات العهد القديم الذى ربط المكافأة والبركة بالمادة ووفرة الحصاد وإمتلاء المخازن وكثرة البنين ، أما فى عهدنا الجديد فوهب لنا لا أن نؤمن به فقط بل نتألم من أجله أيضاً ( فى ١ : ٢٩ ) .. والمكافأة لنا روحية وإن متنا بالسيف أو بين أنياب الوحوش .. !!
نشعر بالألم لإنتقال أطفال وشباب عزبة النخل الصغير ، ونشعر بالألم لكل مصاب جراء حوادث الطريق والإهمال وقد سجلت بلادنا أعلى نسبة حوادث بين بلدان العالم ، ونصلى من أجل نياحهم ونطلب عزاء الروح القدس لعائلاتهم المكلومة وذويهم .. ومصدر عزائنا هو ثقتنا أن حلم هؤلاء الصغار قد تحقق بأفضل ما يكون ، لقد حلموا برحلة كانت ستنتهى فكانت لهم رحلة إلى سعادة أبدية ..
وطوبى لمن يجاهد أن تكون أفكاره أحلاماً مقدسة ، فالله أمين أن يحققها له ويعطيه سؤل قلبه ، بأعظم وأسمى وأعلى ، علو سماء تنتظرنا ونحلم بها ..