نعمان السريانى
" وكان الرجل جبار بأس أبرص "
(2 مل 5 : 1)
مقدمة
ما من شك أن قصة نعمان ، تعد من أروع وأقدم قصص الحب الإلهى فى العهد القديم ، ... فإذا كان اليهودى يعتقد أن اللّه قد ميزه وفضله على الأممى ، فإن قصص أيوب وملكى صادق وراحاب وراعوث ونعمان السريانى يمكن أن تخفض كبرياءه إلى حد بعيد ، وتبين أن اللّه لليهودى وللأممى على حد سواء !! . كما أن الحب الإلهى يظهر من جانب آخر من خلال الأحزان والمتاعب والآلام .
وكان نعمان يعتقد - ولا شك - أن البرص ضربته الكبرى ، وأنه أقسى ما ابتلى به من أمراض وتعاسات ، .. ولكن نعمان لم يعرف اللّه ، أو يتجه صوب إسرائيل إلا بسبب علته ومرضه ، .. فإذا قسا اللّه عليه بالألم ، فليس ذلك لأنه يمقته ويبغضه ، بل بالأحرى أنه يحبه ويدفعه فى الطريق الصحيح إلى الصحة والسلامة ، ... كما أن الحب الإلهى يمتد أبعد جداً مما يحلم به البشر أو يتصورونه..، لقد ذهب نعمان يبحث عن خلاص الجسد ، .. ولكن اللّه فى محبته كان يهتم بخلاص نفسه الأبدى !! .. لقد ذهب الرجل وثنياً وعاد مؤمناً ، .. ذهب يبحث عن السلامة ، وعاد يتمتع بالسلامة والسلام معاً ، وها نحن نتابع قصته ، ونستخرج منها أجمل التعاليم ، وأروع الدروس ، ولعلنا يمكن أن نراه لذلك فيما يلى :
نعمان والحاجة العظمى
كان نعمان - حسب الوصف الكتابى - رجلا عظيما ، والاسم " نعمان " يعنى " الجميـــــــــل " أو " البهيج " ، ويظن أن الرجل كان من مولده جميل المنظر بهيج الطلعة ، .. فهو رجل ولد على الشئ الكثير من الجمال ، وحلاوة المنظر ، .. وكان أكثر من ذلك ، قائد الجيش المنتصر المظفر .
كانت آرام بلاده واقعة بين آشور وإسرائيل ، وكانت بهذا الموقع درعاً حامية لإسرائيل ، وقد استخدمها اللّه ليدفع عن إسرائيل شر الأشوريين ويقال ، إن نعمان دخل مع أشور فى قتال عظيم ، والبعض يعتقد أن هذا كان بالتعاون مع الإسرائيليين ، وسواء كان قتالا بالتعاون أو بغيره ، فإن الرب عن يده أعطى خلاصاً عظيماً لبلاده ، وبالتالى لجيرانه ، من الغزو الأشورى الرهيب ، ... ومن المعتقد أنه كان بهذا المعنى قائداً عبقرياً جباراً ، ... ومثل هذا الرجل كان عظيم الخطوة عند سيده ومليكه الأرامى ، إذ كان صاحب الشخصية القوية ، الممتلئة من الشجاعة ، والقوة ، والوطنية ، وأصالة الرأى ، وصائب المشورة ، والبادى من الرواية الكتابية أنه كان الرجل الذى لا يملك أى إنسان إلا أن يحبه ، وهو لم يكن محبوباً من العظماء وحدهم ، بل كان محبوباً من عامة الناس أيضاً ، وحتى الفتاة الإسرائيلية الصغيرة المسبية كانت عواطفها نحو شفائه من المرض ، وخدمه الذين ساروا معه فى الرحلة إلى إسرائيل يصفونه بالقول : " يا أبانا " ويلحون عليه فى إطاعة طريق الشفاء ، مما يدل على أن الرجل كان مرفوع الرأس ، ليس عند الملك فحسب ، بل عند العامة والخاصة على حد سواء ... وكان الرجل فى بيته ، ولا شك ، رجلا سعيداً ، ثرياً ، بل على الأغلب ممتلئاً من الثروة ، له الخدم والحشم والجوارى والعبيد ، ... ولكن ... وآه من ولكن ... كان الرجل أبرص !! .
يقول ماكرتنى : " خلف كل مظهر براق وجميل ، كثيراً ما تكون هناك شوكة خفية فى الجسد أو الروح ، بعض الجراح أو المآسى الخفية " ... أجل !! وهذا حق ، فليست هناك حياة يمكن أن تخلو من التعبير : " ولكن " وصور نعمان فى الحياة قد تأخذ هذا اللون أو ذاك ، من ألوان العظمة والمجد ، " ولكن " ... فقد يكون " النعمان " غنياً ، ولكن له أولاد أغبياء !! ... وقد يكون قوياً ، ولكنه طاغية ... وقد يكون عالماً ولكنه أحدب ، ... وقد يرغب فى أعماق نفسه ، أن يتخلى عما يراه الناس من غنى ، وعظمة، ومجد وجلال ، وبهاء ، ... مقابل هذا البرص اللعين اللاصق به ، والتى يتمنى من قرارة قلبه أن يجد ، منه الخلاص !! ..
والبرص فى اللغة الكتابية رمز للخطية ، وذلك لأنه ليست هناك أمراض كثيرة يمكن أن تحدث قبحاً وتشويهاً فى شكل الإنسان كما يحدث البرص فهو عدو الجمال فى الإنسان ، والخطية هى سبب كل قبح وصل إليه الإنسان جسداً ونفساً وروحاً وحياة ، ... وكان من المستحيل على ذاك الذى خلقه اللّه على الصورة الرائعة الجميلة فى جنة عدن أن يمرض أو يمسخ مشكلة بالعوامل المختلفة المرضية أو الوراثية ، إلا بسبب الخطية ، ... إن الذين قرأوا القصة الرائعة التى كتبها أوسكار وايلد : " صورة دوريان جراى " يدركون هذه الحقيقة بكيفية مؤثرة رهيبة ، كان جراى شاباً يافعاً جميلا فى طراوة العمر ، ونضارة الحياة ، يعتز بجماله ، ويتمنى ألا تذهب به عوادى الأحداث والأيام ، وقد رآه أحد المصورين فأخذ له صورة فاتنة تنطق بعظمة ذلك الجمال وروعته على أن الشاب سقط فى الإثم ، وهوى فى الخطية ، وقد أرادنا وايلد أن نرى تأثير هذا عليه ، فكانت كل موبقة يرتكبها الشاب تظهر فى هيئة بقعة سوداء على صورته . وتزايدت البقع وتكاثرت بتزايد أثمة وتكاثره حتى أضحى شكلها بشعاً مريعاً، وقد راع الشاب أن يرى صورته بهذا المنظر الفظيع ، وأخذ منه الحنق والضيق كل مأخذ ، فطعنها بمديته ، ... ومن عجب أنه بعد هذه الطعنة عاد إلى الصورة جمالها الأول الرائع !! ... لقد صدق الروائى الإنجليزى كل الصدق فى قصته هذه ، إذ ليس هناك ما ينكل بالجمال كما تفعل الخطية ، ... وليس هناك من عودة للجمال إلى أصحابه، إلا فى ذاك الذى طعن بالحربة فى جنبه على خشبة الصليب !!
والبرص رمز للخطية أيضاً فى نموه وامتداده ، فهو قد يتناول بعض أجزاء الجسم ، أو يشمل الجسم كله ، وهو قد يتناول أجزاء يمكن تغطيتها بالثياب أو قد يصل إلى الوجه واليدين ، أى الأجزاء العارية التى لا يمكن أن تخفى ، ... وهو لذلك يمثل الخطية الظاهرة أو السرية ، المعروفة أو الخفية عن الناس ، غير أنه يمتد وينمو ، وقد ينمو ببطء أو بسرعة ، ولكنه يستشرى على أية حال ، كما تستشرى الخطية دون أن تقفل عند حد معين ، فإذا أمكن تغطية المرض إلى حين ، فإن إمتداده سيصل إلى أجزاء لا يمكن تغطيتها ، وهكذا قد يستطيع الإنسان أن يخفى خطية أو خطايا معينة ولكنه ليس خفى لا يظهر ولا مكتوم لا يعلم ويعلن ، فى الخير أو الشر على حد سواء ، ... وتفضح الخطية صاحبها إن آجلا أو عاجلا ، والبرص برص حتى ولو لبس صاحبه ثياب الملوك أو ثياب الصعاليك ، والخطية لا يمكن أن يغطيها لبس الحرير أو لبس الشعر الخشن ، .. ولكن الشئ العجيب الذى لاحظه ألكسندر هوايت ، أنك لست فى حاجة إلى الكياسة أو الحصافة ، لكى تعرف أنك أبرص ، وأنك تستطيع الوصول إلى هذه المعرفة من النظرة الأولى " ... لكنك فى حاجة كل الحاجة إلى النعمة والبصيرة الروحية ، لتكتشف أنك أبرص بالخطية والدنس والإثم ، ... وعندما وقف إشعياء فى بيت اللّه أمام الملك العظيم ، لم يكتشف برصه هو فقط ، بل اكتشف برص الأمة بأكملها ، وأنت وأنا إن لم نقف بنعمة اللّه ، أمام الإله القدوس ، وإن لم تفتح عيوننا الداخلية ، فلن تعرف أى عار وصلنا إليه ، وأية شناعة بلغناها ، وأى انحدار تردينا فيه!! ..
هژںه¸–هœ°ه€: كنيسة صداقة القديسين سلام ونعمة من ربنا يسوع المسيح / عزيزي الزائر لا يمكنك مشاهدة الرابط ( لينك التحميل ) وذلك لانك غير مسجل معنا فى المنتدى ... يمكنك التسجيل معنا من خلال هذا الرابط من فضلك اضغط هنا للتسجيل فى المنتدى
والبرص أكثر من هذا كله مؤلم تتزايد آلامه كلما استشرى ورخص فى جسم الإنسان ، ... والخطية مؤلمة وقاسية وشديدة ، ولا يمكن أن تريح أو تسعد صاحبها ، غن ما شئت لنعمان السريانى ، وحدثه عن معاركه ، عن مجده الوطنى ، غن الأموال التى تسيل بين يديه ، حدثه عن مركزه فى الأمة كلها !! ... وستكتشف الدموع المترقرقة فى عينيه وهو يسمع أناشيد المدح والتكريم والتعظيم ، ويكاد يبكى ويصرخ قائلا لك : حدثنى بالأولى حديث المرثاة والبكاء والنحيب ، حدثنى عن الجرح المفتوح فى قلبى والذي ينزف بوساً ويأساً ودماً !! ..
نعمان والخلاص العظيم
وفى رحلة نعمان للوصول إلى الخلاص ، نلتقى أول الأمر بفتاة صغيرة مسبية ، سباها الأراميون فى واحدة من غزواتهم ، وأخذوها ، وباعوها فى سوق العبيد ، وكانت بين يدى امرأة نعمان ، ... ونحن لا نستطيع أن نتصور مدى ما عانت الصغيرة من متاعب أو آلام ، فهى حرة ، تحولت إلى أمة ، وهى صغيرة ، ومهما كان البيت الذى بيعت له مترفقاً بها ، فهى على أية حال غريبة ، وأفكارها وأنظارها تتجه إلى بيتها القديم ، ووطنها الذى وإن لم يكن بعيداً عنها فى المسافات ، إلا أنه يختلف تمام الاختلاف ، عن البلد الوثنى الذى أكرهت على البقاء فيه ، ... على أن هناك شيئاً نبيلا فى هذه الصغيرة ، دفعها إلى نسيان الغربة والاستعباد والأسر ، وارتفع بها فوق كل كراهية وتشف وحقد ، إذ أحست أعمق العطف على الرجل التعس البائس الأبرص ، وأشارت بإصبعها إلى أول الطريق الذى يسلكه فى سبيله إلى الخلاص من علته القاسية، وربما قصت على امرأة نعمان المعجزات والعجائب التى صنعها أليشع فى أرضها ووطنها ، ... على أية حال ، إن هذه الفتاة الأسيرة الصغيرة تعطى درساً من أجمل وأقوى الدروس التى يمكن أن يستوعبها الإنسان إن اللّّه يتيح الفرصة أمام الصغير ، ليؤدى رسالته العظيمة ، ونصيبه الوافر ، وفى مرات كثيرة ، ترتكز أكبر المعجزات ، على العمل الذي قد يقوم به الصبى أو الصبية ، والأثر الذى يتركه فى حياة الآخرين دون أن يعلم ، ... وأنه لمن الواجب ألا تحتقر هؤلاء الصغار ، والدور الذى قد يلعبونه ، حتى ولو بدا فى مطلع الأمر مجرد كلمات قليلة محدودة تفتح الطريق أمام أعظم النتائج وأكبر الأثار !! ... هل رأيت صموئيل وهو يحمل الرسالة صبياً يافعاً أمام اللّه قائلا : " تكلم فإن عبدك سامع " ؟ ... وهل رأيت داود وهو لم يكد يشب عن الطوق ولكنه يصبح بطل الأمة بأكملها فى الوقت الذى فيه يتراجع شاول وأبنير والجبابرة أمام جليات الجبار ، ؟ ... وهل سمعت إرميا وهو يصيح : " آه يا سيد الرب إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد ، فقال الرب لى لا تقل إنى ولد لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتكلم بكل ما آمرك به " ... " إر 1 : 7 ". وهل تأملت الصبى الصغير وهو يقدم الخمسة الأرغفة الشعير والسمكتين ، ليصنع بها المسيح معجزة إطعام الخمسة آلاف من الرجال النساء والأولاد ؟ !! ... وهل قرأت عن الفتاة الصغيرة مارى جونز التى أحبت كلمة اللّه واقتصدت على مدى عامين لتشترى نسخة من الكتاب المقدس وسارت على قدميها أميلا عديدة للحصول على النسخة ، إذ سمع العالم قصتها العظيمة ، تكونت جمعيات الكتاب المقدس لتوصيل الكتاب إلى الملايين من الناس فى أقطار الأرض فى كل مكان !! إن قصة نعمان كانت تحتاج فى مطلع الأمر إلى واحدة من أصغر الشخصيات الكتابية وأقلها حظاً فى الكتاب !! ..
هژںه¸–هœ°ه€: كنيسة صداقة القديسين سلام ونعمة من ربنا يسوع المسيح / عزيزي الزائر لا يمكنك مشاهدة الرابط ( لينك التحميل ) وذلك لانك غير مسجل معنا فى المنتدى ... يمكنك التسجيل معنا من خلال هذا الرابط من فضلك اضغط هنا للتسجيل فى المنتدى
ومن الوجه الآخر ، أنه من المثير حقاً أن نضع هذه الصورة فى مواجهة شخصيتين من أعظم الشخصيات ، تصرف كلاهما بكيفية عكسية كان من الممكن أن تفسد النتيجة التى سعت إليها هذه الصغيرة ، وهذان الشخصان هما ملك آرام ، وملك إسرائيل ، فملك آرام كان يعتقد مثل نعمان أن الخلاص يمكن أن يشترى ، ولم يتردد أن يسخو فى العطاء ، فهو يجهز المريض بهدية تصل إلى خمسين ألفاً من الجنيهات بعملتنا الحالية ، وأتعاب الطبيب مهما ارتفعت ، فهى لا شئ إزاء سلامة نعمان وسلامه ، وما يزال الكثيرون إلى اليوم يفعلون ذات الفعل ، وهم على استعداد أن يدفعوا الآلاف والملايين من الجنيهات فى إقامة دور العبادة أو الملاجئ أو المؤسسات الخيرية أو الاجتماعية ، وهم يظنون أن الخلاص كغيره من السلع التى تباع وتشترى ، ... ينسون أن مال الدنيا بأكملها ، لا يستطيع أن ينقذ شريراً واحداً من برص الخطية وشرها !! ... أما ملك إسرائيل ابن آخاب وإيزابل ، فإن لغة الخلاص غريبة على ذهنه ، فهو يشق ثيابه ، لأن كتاب ملك آرام لا يعدو - فى تصوره - أكثر من طريق للتحرش به ، ومحاربته ، ... والذين يعيشون فى الجسديات والعالم ، تبدو لغة الخلاص غريبة على أفكارهم وأذهانهم، فهى لغة دينية لا شأن لهم بها ، ولا ثقة عندهم فيها ، وما أكثر ما تحدث بالخلاص إلى إنسان عالمى ، فتثير بذلك غضبه أو حماقته ، وكأنك تتكلم معه بلغة أعجمية غريبة !! ..
فإذا انتهينا إلى نعمان نفسه وهو يسير فى طريق الخلاص ، ... فإننا نستطيع التعرف على موقفه من خلال عبارتين قالهما : " هو ذا قلت إنه يخرج إلى ويقف ويدعو باسم الرب إلهه ويردده يده فوق الموضع فيشفى الأبرص " .. " هوذا قد عرفت أنه ليس إله فى كل الأرض إلا فى إسرائيل " ... " 2 مل 5 : 11 و 15 " ولم يكن نعمان فى الحالين إلا صورة لكل إنسان يحاول الشيطان تضليله بعيداً عن طريق الخلاص إلى أن تأتى به النعمة إلى الطريق الصحيح ، ... لقد سار نعمان أول الأمر فيما يطلق عليه " الخلاص الظنى " أو الخلاص كما يظنه الإنسان ويتخيله ويتصوره ، وما تعدد الأديان فى التاريخ كله ، إلا صورة الإنسان وهو يتجه نحو الخلاص فى الطريق الخاطئ بأسلوب " ظنى " ... وما أكثر الذين " يظنون " أن اللّه لا يحتاج إلى ذبيحة للخلاص ، بل أنه يستطيع أن يغفر بمجرد التسامح والنسيان ، فهو يمكن أن يعفو عن الخطية بمجرد الاغضاء عنها ، ويقولون إنه إذا صح أن اللّه يطلب من الإنسان أن يتسامح مع أخيه الإنسان لمجرد الصفح والترك والنسيان ، فإن من حقه هو ، أن يطرح الخطية البشرية ، بمجرد القول : " مغفورة لك خطاياك " ... وهم ينسون أن الخطية من إنسان إلى إنسان آخر ، ليست إلا جزءً من التشويش أو الإخلاص بالناموس الأدبى الذى وضعه اللّه فى الحياة ، ... وأن الخطية فى أصلها وحقيقتها هى الجرم ضد كمالات اللّه وطبيعته وناموسه ونظامه الأدبى ، وأن هذه لا يكون فيها الغفران بمجرد التجاوز أو الإغضاء ، لأن ذلك معناه فى الواقع التجاوز أو الاغضاء عن الصفات الطبيعية والأدبية فى اللّه ، كالعدالة والحق والقداسة والجمال !! ... فإذا قبل أليس من حق اللّه وسلطانه ، وهو صاحب السلطان الأسمى والأعلى ، أن يعفو بكلمة واحدة عمن يريد أو يشاء ؟ وهل يكون اللّه أقل من الملوك أو الرؤساء الذين يستطيعون بكلمة أن يعفوا عن المجرمين والمحكـــوم عليهم بأقسى العقوبات ؟ ...
ومرة أخرى نذكر هنا أن القياس مع الفارق لأن عفو الملوك الأرضيين أو الرؤساء إذا صح أنه نبيل وعظيم ومجيد ، إلا أنه مع ذلك على حساب العدالة فى إطلاقها وكمالها ومجدها ، وأنه إذا صح أن البشر - لأنهم ناقضون - يعفون أو يتساهلون بدافع من نقصهم أو ضعفهم عن العدالة المطلقة ، وأن القول إن اللّه قادر على العفو بمجرد كلمة ، وأن أحداً لا يمكن أن يجرده أو يطلب إليه أن يتنازل عن السلطان فإن هذا القول يدل على فهم القدرة الإلهية فهما خاطئاً ، ... لأن اللّه - مع قدرته اللانهائية - توجد أشياء نقول بكل إجلال واحترام لا يقدر عليها ، فهو لا يقدر مثلا أن يخطئ ، لأن هذا ضد طبيعته وكمالاته الإلهية !! ... لقد أدرك نعمان أن الخلاص لا يمكن أن يكون بمجرد ظنه أن أليشع يفعل هذا أو ذاك فى سبيل هذا الخلاص ؟؟ ..
على أن التصور الثانى للخلاص عند نعمان ، كان لا يقل خطأ عن التصور الأول ، وهو أن الخلاص يأتى بأسلوب " الخلاص الطقسى " المفهوم عند ملايين البشر إلى هذا اليوم ، فما على أليشع إلا أن يخرج ويضع يده على موضع البرص ، وبتمتمة كلمات معينة : يشفى الأبرص ، وقد أغرق الإنسان نفسه فى الطقوس والفرائض ، على أمل الخلاص من برص الخطية ، وهو لا يدرى أن الخطية تمد شعابها إلى الأعماق ، وكل طقوس العالم لا تستطيع أن تنتزع هذه الشعاب التى هى أشبه بالسرطان المتغلغل فى جسم الإنسان ، والذى لا يكفيه علاجاً ، أن يتمتم رجل الدين ، أو يلمسه لمسة ساحرة ، كما تصور نعمان السريانى أن يفعل أليشع لخلاصه من برصه !! ..
إن قصة نعمان تركز فى الكثير من جوانبها عن أن الخلاص من البرص لا يمكن أن يأتى عن طريق الحصول عليه بالمال ، أو بالخيال أو بالطقوس أو ما أشبه ، وقدحق ليوحنا بنيان أن يصور المسيحى فى سياحته الخالدة ، وهو يبدأ من مدينة الهلاك حاملاً على كتفيه حمل الخطية الثقيل ، وقد دعاه المبشر إلى الذهاب إلى الصليب ، ولكنه التقى فى الطريق بالسيد " الحكيم العالمى " الذى حوله عن الطريق الضيق ليذهب إلى السيد " القانونى " الذى يعيش فى القرية المحترمة قرية : " الآداب " ، وذهب إلى هناك عبثاً ، ولم تستطيع الفرائض ، وكلمات الصلوات ، والهدايا ، والعطايا ، وأعمال الرحمة ، أن تكون بديلا عن الإيمان بالمسيح كمخلص وملك ، وتكريس الحياة له بالحب والتعبد ، باعتبارهما النموذج الأعلى لكل خير !! ..
وقد أكد أليشع هذه الحقائق كلها فى علاجه للمريض ، فهو لم يخرج إليه عندما قصد بيته وقف عند باب داره ، ... مع أن هذا كان من أبسط أنواع اللياقة التى يلزم أن يعامل بها الضيف الغريب المريض ، وقد اختلف الشراح فى فهم البواعث التى دعت أليشع إلى أن يفعل هكذا فقال بعضهم : ربما كان السبب أن أليشع كأى يهودى ، لا يجوز له أن يقترب من الأبرص كشريعة اليهودى ، وهو أمر يصعب تصوره ، أو أن نعمان وقف عند الباب لأنه لم ير نفسه أهلا للدخول إلى بيت أليشع ، ومع أن هذا قد يكون صحيحاً ، لكنه لا يمنع أن يخرج أليشع إلى خارج بيته لمن يحترمه بهذه الصورة ، ... إن الأصح أن نعمان جاء بجيشه عند الباب ، وجاءت معه كبرياءه العسكرية الكاملة وهو يظن أنه يتفضل على أليشع بهذا النوع من المجئ ... ومن هو أليشع هذا الذى يدرك الشرف الكبير فى مجــــئ نعمــان السريانـــى الرجــل العظيم المرفــــوع الرأس والوجه عند ملك بلاده !! ؟ ... وكان لابد لأليشع أن يلقن نعمان أهم درس يحتاج إليه ، وهو أن الخلاص لايمكن أن تناله إلا النفس الوديعة المتضعة والملتصقة بالتراب ، ... وأكثر من هذا وأعظم جداً ، أن أليشع يريد أن يواجه نعمان باللّه دون وسيط ، لقد سافر نعمان من آرام إلى إسرائيل أو ما يقرب من مائة ميل بحثاً عن الوسيط ، وكانت أنظاره معلقة بهذا الوسيط ، وأراد أليشع أن يختفى الوسيط من الطريق ، ليظهر الله ، .. ولو أنه ظهر من الابتداء ، لتعلقت عينا نعمان به ، ولما عرف اللّه ، ... ولكن أليشع مثله مثل المعمدان الذى قال : " ينبغى أن ذاك يزيد وأنى أنا انقص ، " " يو 3 : 30 " واختفى أليشع ... واكتشف نعمان ، ما لم يدر بخلده قط ، عندما انفرد بنفسه أمام إله إسرائيل ، وكيف كان الخط الإلهى مذهلا وعجيباً وحقاً " ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء " " رو 11 : 33 " لقد رتب اللّه خلاص نعمان السريانى ، على الصورة التالية ..
أولا : الخلاص بالألم : ولو لم يضرب نعمان السريانى بالبرص ، لما اكتشف حاجته إلى الخلاص ، أو طريقه للذهاب إلى إله إسرائيل - وما أكثر ما تأتى البركات عن طريق الآلام والمتاعب ، ... هل قرأت عن ذلك العود الجميل من الغاب ، والذى كان مزروعاً فى بستان جميل تنساب المياه تحته ، ويداعب النسيم أوراقه ، فتمتزج موسيقاه بشدو الطيور ؟ كان يتمتع بحياة سعيدة بهيجة ، على أنه أحس ذات يوم بألم حاد عميق ، إذ أبصر سكيناً حادة تجتثه من الأصول ، وأخذ من مكانه ، وطرح على الأرض ، كان يبكى ، ولم ينفع أو يشفع بكاؤه ، بل عملت السكين فيه وأخذت تقطع منه قطعاً ، وتثقبه ثقوباً ، وهو لا يعلم السر فى هذا كله ، إلى أن جاء يوم وضعه رجل فى فمه ، وإذا به يخرج أنغاماً رائعة ، لقد تحول إلى مزمار وهو لا يدرى ، ... كانت آلام نعمان هى الطريق إلى أن يصبح مزماراً خالداً فى الأجيال كلها !! .
وكان الدرس الثانى الذى أدركه الرجل هو " الخلاص المجانى " ، إذ أن اللّه لا يعطى عطاياه العظمى بثمن أو مقابل ، إنه يعطى الشمس والهواء والماء بدون مقابل ، .. وهو يعطى أهم من هذا كله : الخلاص مجانياً وبدون مقابل .
وكان الدرس الثالث أنه لا يعطى الخلاص إلا للمتضعين المتخلين عن كل إنفه وكبرياء !! ... كان كامبل مورجان يقوم بخدمات انتعاشية فى أسبوع من أسابيع النهضة ، وكان يطلب من الذين يرغبون تسليم حياتهم اللّه أن ينتظروا فى غرفة خاصة ليجتمع بهم .. ، وفى أول ليلة قال له أحدهم : وهل يتوقف الخلاص على دخول غرفة الاجتماع ؟ ، ورأى مورجان ببصيرته كبرياء الرجل .. فقال هل : أجل .. فسأله الرجل: ولماذا ؟ ... فقال مورجان : إذا كان الإنسان سيملى شروطه على اللّه ، فإن اللّه لا يقبل هذه الشروط !! فقال الرجل : إذاً لن أدخل !! .. وقال له مورجان : وأنا لا أستطيع مساعدتك ، وظل الرجل يحضر طوال الأسبوع ، وفى اليوم الأخير كان هو أول الداخلين إلى الغرفة ، فقال له مورجان : لم فعلت ذلك ، أنا افتكرت أنك ستذهب إلى الجحيم ... فقال له : لقد قضيت هذا الأسبوع فى الجحيم . كان الرجل يصارع كبرياءه .
وكان الدرس الرابع : أن خلاص الروح عند الرب أهم وأعلى وأسمى من خلاص الجسد ، .. كان كل هم نعمان أن يعود خالياً من البرص ، ولكن اللّه أعطاه ما هو أهم ، إذ خلصه من برص الخطية والوثنية والنجاسة والشر ، ... لقد ذهب إلى إسرائيل ليتعامل مع اللّه فى " الجلد " ... ووكان اللّه يقصد أن يصل إلى " القلب " ... ووصل اللّه إلى أعماق قلبه ، لقد أعطاه اللّه جلد الصبى الصغير ، وأعطاه أيضاً قلب الصغير البسيط الوديع الشاكر ، فهو إذ يرجع من الأردن إلى بيت أليشع ، يقف أمامه ، ويراه للمرة الأولى ، ويهتف لا بأليشع ، بل باللّه الذى له كل المجد : " هوذا قد عرفت أنه ليس إله فى كل الأرض إلا فى إسرائيل " " 2 مل 5 : 15 " ... وحمل الرجل من تراب إسرائيل ما يراه تبراً ، إذ أقام مذبحاً للرب ، وعاش مؤمناً ، أو كما قال عنه سيدنا المبارك : " وبرص كثيرون كانوا فى إسرائيل فى زمان أليشع النبى ، ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان السريانى " " لو 4 : 27 " .
وكان الدرس الخامس والأخير أن اللّه ليس لليهود فحسب ، بل للأمم أيضاً ، وأنه كما قال الرسول بطرس فى بيت كرنيليوس : " بالحق أنا أجد أن اللّه لا يقبل الوجوه . بل فى كل أمة الذى يتقيه ويصنع البر مقبول عنده " " أع 10 : 34 و 35 " .. ومع أننا لا نقبل فى الوقت الحالى استثناء نعمان بعد أن وصلنا إلى النور الكامل فى المسيح عندما قال : " عن هذا الأمر يصفح الرب لعبدك عند دخول سيدى إلى بيت رمون ليسجد هناك ويستند على يدى فأسجد فى بيت رمون فعند سجودى فى بيت رمون يصفح الرب لعبدك عن هذا الأمر " " 2 مل 5 : 18 " .. وقد وصفه ألكسندرى مكلارن بأنه نوع من المعايشة بين الدين والدبلوماسية ، لا يجوز للمسيحى أن يتورط فيه ، إلا أنه من الواجب أن لا نعامل نعمان فى العهد القديم بأنوار العهد الجديد !! ..
نعمان وخطية جيحزى
ومن المؤسف أن تنتهى القصة الجميلة هذه النهاية المؤسفة ، وإن تكن النهاية تشهد ، فى الوقت ذاته ، عن صدق الكتاب واقعيته وأمانته فى عرض الحقائق دون أدنى تحريف أو تزييف ، .. وقد وصف بعضهم جيحزى بأنه يهوذا العهد القديم ، ... وقال عنه دين مزار : " قد تكون هناك قصص فى الكتاب تتحدث عن شر أقسى وأشد ، لكن ليست هناك حقارة يمكن أن تضارع حقارة جيحزى فى فعله هذا !! .. " .. ولعله من اللازم أن نبحث عن الدوافع التى دفعت جيحزى إلى مثل هذا المسلك المشين ، وعلى الأغلب كان جيحزى مدفوعاً بثلاثة دوافع أساسية :
الدافع الأول ... الإعياء ، وأغلب الظن أن جيحزى دخل فى سلك الخدمة تابعاً وخادماً لأليشع ، مأخوذاً بعظمة النبى وروعة الخدمة الدينية ، .. ولكنه لم يلبث أن أصابه الملل والإعياء ، كما يحدث مع الكثيرين من الخدام ، وإذا بالفهم المثالى للخدمة، الذى يقبل الفقر والتقشف والجوع ، يتحول شيئاً فشيئاً ، مع التجربة الزاحفة ، إلى التساؤل ! وهل من الضرورى أن يعيش خادم اللّه فقيراً مترفعاً عن المادة ، وعلى وجه الخصوص ، إذا كان يملكها أو تأتيه دون خداع أو غش ؟؟ ... ولعله سأل نفسه مرات كثيرة : ألم يكن أليشع أحمقا ، عندما ترك ثروة أبيه الطائلة ؟ ! ... وما المانع أن يكون نبياً وثرياً فى الوقت عينه !! ؟ .. وإذا كان قد تخلى عن ثروته ، أفلا يعتبر مجنوناً أن ترتمى ثروة عند قدميه تقدر بخمسين ألفاً من الجنيهات ، ثم يرفضها ، ويركلها بقدميه ؟! .. ما أكثر االخدام الذين يبدأون حياة الخدمة ، وهم أشبه بالنسور المحلقة المتسامية على كل تفكير مادى ، .. ولكنهم لا يلبثون أن يسقطوا من هذه المثالية ، ويتحولوا من النسور المحلقة إلى الطيور الزاحفة على الأرض ، تلتقط الحب أو الفتات المختلط بالتراب !! ..
وكان الدافع الثانى ... ، ولا شك ، الطمع ، فسعى جيحزى وراء نعمان راكضاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وإذا لم يحصل أليشع على خمسين ألفاً من الجنيهات ، فلا مانع من أن يحصل جيحزى على خمسمائة جنيه ، ومن الطيب أن نلاحظ ما دار بخياله وهو يحصل على هذا المبلغ ، الأمر الذى كشفه أليشع فى القول : " أهو وقت لأخذ الفضة ولأخذ ثياب وزيتون وكروم وغنم وبقر وعبيد وجوار " ؟ .. " 2 مل 5 : 26 " وكانت الخمسمائة جنيه كافية فى ذلك الوقت لأن تحقق له أن يكون صاحب بيت جميل محاط بالبساتين الممتلئة بالكروم وأشجار الزيتون ، واقتناء المواشى والعبيد والجوارى ... لقد نسى جيحزى فى كل هذه التجربة ، معنى الخدمة الدينية ، .. لقد رفض أليشع أن يأخذ درهماً واحداً من الرجل ، لأن الرجل وثنى ، وينبغى أن يتعلم الدرس الدينى الأول ، وهو أن الخلاص ، وعطايا اللّه العظيمة مجانية وبلا مقابل ، ... فإذا حولها الخادم إلى نوع من المتاجرة أو الكسب المادى ، فإنه يفسد رسالة اللّه الأساسية للإنسان ... وكان من اللازم على جيحزى أن يعلم أن أليشع الذي تعامل مع نعمان على هذه الصورة ، كان هو بعينه الرجل الذى قبل ضيافة الشونمية دون ضيق أو تأفف ، وذلك لأن الشونمية مؤمنة ، وتعلم أن رجل اللّه يكرمها ويعطيها أكبر امتياز بقبول ضيافتها ، ... فالأمر ليس مجرد الكبرياء والتعالى ، بل هو تقدير أمين للظروف والأوضاع ، ومتى يأخذ المرء ، ومتى لا يأخذ ، وفى كل الأحوال ينبغى أن يكون كريم النفس ، عفيف الخلق ، يكرم الرسالة التى ائتمنه اللّه عليها !! ..
أما الدافع الثالث عند جيحزى فهو نوع من المزاوجة بين الدين والدنيا ، لا يرى فيها أدنى بأس ، حتى ولو لجأ إلى الخداع والكذب والسرية التى حاول بها أن يغطى موقفه أمام أليشع ، وعندما يصل الخادم إلى هذا الحد ، سيجد شيئاً غريباً جداً لم يكن يتوقعه ، سيجد أن صرة نعمان ليس بها الفضة والثياب والكروم والزيتون والغنم والبقر والعبيد والجوارى ، بل بها أيضاً برص نعمان السريانى الذى يلحق به وبنسله إلى الأبد ، .. أى جيحزى ! كم أنت تعس وبائس ومسكين ، وأنت تتمشى فى كل العصور فى كل خادم يحاول أن يجمع بين الدين والدنيا فى صرة واحدة !! ... وسيكتشف فى آخر الأمر أنه سيأخذ برص الدنيا ولعنة الدين !! ..
إن السؤال الذى يمكن أن نختم به قصة نعمان ، هو : كيف تحول البرص من نعمان السريانى إلى جيحزى اليهودى ؟ وهل كانت هذه نبوة عن انتقال برص الخطية من الأمم إلى اليهود برفضهم المسيح يسوع على هضبة الجلجثة ، وسعيهم الدائب لجمع المال من كل أسواق العالم كما هم فاعلون إلى هذا اليوم !! ؟ .. هذا هو السؤال المرعب المخيف !! ؟ .