تأملات في سفر نشيد الأناشيد(7)
أختي العروس جنة مغلقة(نش4:12)
السبت 24 نوفمبر 2012
بقلم : قداسة البابا شنودة الثالث
الروحيون يقرأون هذا السفر,فيزدادون محبة لله...أما الجسدانيون,فيحتاجون في قراءته إلي مرشد يفسر لهم,لئلا يسيئوا فهمه,ويخرجوا عن معناه السامي إلي معان عالمية.
افتحي لي ياأختي,ياحبيبتي,ياحمامتي,ياكاملتي(نش5:2)
أختي العروس:
إنه تواضع من الرب أن يقول عن النفس البشريةأختي بينما ترد النفس قائلةهوذا أنا أمة الرب(لو1:28) أي عبدته وخادمته.
لقد دعانا الرب إخوته حينماأخلي ذاته,وأخذ شكل العبد,وصار في الهيئة كإنسان(في2:7).
لذلك لايستحي أن يدعوهم أخوةإذ قد تشارك معهم في اللحم والدم(عب2:11, 14)عندما تجسد وتأنس.
والنفس البشرية هي أيضا عروس للرب,وكذلك الكنيسة.
كما شرح الرسول في الإصحاح الخامس من الرسالة إلي أفسس.وهناك اتحاد روحي,وليس اتحادا جسديا كما في الزواج.
وفي هذا يقول الرسولوأما من التصق بالرب,فهو روح واحد(1كو6:17) أما كيف يصير هكذا مع الله.فهذا ما قال عنه الكتابهذا السر عظيم(أف5:32) وفي روحانية هذا الارتباط,يقول الكتابأختي العروس.
جنة مغلقة:
يقولأختي العروس جنة مغلقة,عين مقفلة,ينبوع مختوم(نش4:12) فهي جنة,من حيث فيها كل ثمار الروح(غل5:22, 23) وفيها كل شجرة تعطي ثمرا جيدا(مت3:10) وتقديم ثلاثين وستين ومائة(مت13:23) في عمل الرب.
ولكنها جنة مغلقة لم تفتح بابها لكل طارق,وليست سائبة بلا سور...
ولذلك قال لها المرنم في المزمورسبحي الرب يا أورشليم...لأنه قوي مغاليق أبوابك,وبارك بنيك فيك(مز147:13, 14).
أنها جنة مغلقة لم يدخلها حيوان ردئ.لم يدنسها بأقدامه,ولم يطأ زهورها الجميلة,ولم يعبث بأثمارها الحلوة.إنها جنة.فردوس من الفضائل.ولكنها مغلقة محصنة والله في داخلها ولم تفتح أبوابها لعدو خارجي.
وهي أيضا عين مقفلة,وينبوع مختوم.
هي عين ماء,ينبوع من المياه.فيها الماء الحي الذي قال الرب عنه من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا,فلن يعطش إلي الأبد.بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع حياة ينبع إلي حياة أبدية(يو4:14).
أنها عين ماء,من النوع الذي قال عنه الربمن آمن بي-كما قال الكتاب-تجري في بطنه أنهار ماء حي قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه(يو7:38, 39).
الكنيسة إذن ينبوع ماء حي,وهكذا النفس البشرية
كما قال المزمورسواقي الله مملوءة ماء(مز65:9).والماء رمز للحياة إذن هي مرتوية,وتستطيع أن تروي.ولكنها ينبوع مختوم وعين مقفلة ليست مفتوحة للتلوث ولا للحشرات لكنها ينبوع نقي مختوم هي عين ماء حلو,ولكنها عين مقفلة.
غير أنها ليست مقفولة علي كل أحد,بل تنفتح حين تعطي الحياة.
ومفتاحها في يد اللهالذي يفتح ولا أحد يغلق...ويغلق ولا أحد يفتح(رؤ3:7) وهو يقولافتح يارب شفتي,لينطق فمي بتسبحتك(مز51:15) ولكنها بحسن الصمت تراها ينبوعا مختوما تفتح فمها بحكمة وتفتح آذانها بحكمة,وتفتح حواسها بحكمة.وفي غير ذلك هي عين مقفلة...
تحترس من خطايا اللسان,فتغلق هذا الفم.بل تقول للرب في توسل..ضع يارب حارسا لفمي,بابا حصينا لشفتي!(مز141:3).وأمام حكمه التي فوق الفحص تقول هذه النفسوضعت يدي علي فمي وسكت لأنك أنت فعلت.
أختي العروس ينبوع مختوم,لكنه ينفتح للفائدة الروحية.
ينفتح فيروي الغير بالمعرفة,وبكلمة منفعة أو كلمة تعزية أو كلمة نصح وينفتح أمام الله بالصلاة والتسبيح أقول هذا عن اللسان وعن القلب أيضا الذي ينفتح بالحب والعطف والإشفاق لكل الناس.وينفتح بالدعاء للناس وبالصلاة لله...أما أمام الأخطاء فالنفس مغلقة ومختومة ومقفلة.
يا أخي الحبيب عندما تنظر إلي نفسك,فتجد أن كل كلمة تسمعها,تدخل إلي قلبك وفكرك بلا ضابط.فتشغلك وتنفعل بها أحاسيسك ومشاعرك,وقد تطيش فيها أفكارك حتي أثناء الصلاة..وهكذا كل نظرة تنظرها وكل لمسة تلمسها...أعرف إذن أنك لست جنة مغلقة.بل أنت مدينة غير محصنة.مفتوحة لكل عدو خارجي بلا رقيب!جنتك يمكن أن تدخلها الثعالب المفسدة للكرم!(نش2:15) وحينئذ لاتكون أنت المقصود بكلمة الرب:أختي العروس جنة مغلقة,عين مقفلة,ينبوع مختوم.
أيضا هذه العبارة يمكن أن تقال عن بتولية النفس التي وهبت ذاتها للرب,وصارت عذراء مخطوبة له.
أما إن كانت النفس تغلق أبوابها.فلا تفتح حتي للرب نفسه,تكون خائنة لحبه,وناكرة لجميله,بل إنه لا يتركها لأخطائها.وإنما يقول لها:
افتحي ياأختي,ياحبيبتي,ياحمامتي,ياكاملتي(نش5:2) .
والواقع إنه في هذه الصفات الأربع التي توصف بها العروس من الرب تكمن كل أحداث قصة خلاص البشرية كلها: سواء ما عمله الله لأجل خلاصنا,أو ما ينبغي أن نعمله نحن.
افتحي لي:
افتحي لي قلبك من الداخل,لأني لا أريد مجرد إيمان شكلي ظاهري,ولا مجرد ممارسات خارجية,أو طاعة حرفية.
إنما أريد القلب-يقول الرب-وهكذا أمرت واحدا منكم قائلايا ابني أعطني قلبك(أم23:26).
وهذا القلب يريد منك يا الله أن تفتحه بكامل إرادتك,برغبتك ومحبتك,غير مضطر ولا مضغوط عليك.يريدك أنت تريده,وليس غير. وهكذا يقف علي بابك ويقولأنا واقف علي الباب وأقرع.إن سمع أحد صوتي وفتح الباب,ادخل وأتمشي معه,وهو معي(رؤ3:20).
افتحي قلبك لي.فإن انفتح القلب ستنفتح معه الأفكار والمشاعر,بل سينفتح باب الإرادة أيضا وينفتح باب الحياة كلها,لتحيا مع الله.
افتحي لي يا أختي:
إن كلمة(أختي) ترمز إلي التجسد.
لأننا بتجسده لم نصر إخوة له إلا بتجسده,حينما اتحد بطبيعتنا البشرية.
وهكذا صار بكرا وسط إخوة كثيرين(رو8:29).حتي أنه عندما أرسل مريم المجدلية لتبشير تلاميذه بالقيامة,قال لهااذهبي وقولي لإخوتي أن يمضوا إلي الجليل,هناك يرونني(مت28:10).
إنه يقول للنفس البشريةافتحي لي يا أختيمذكرا إياها أنه في هذه الأخوة قد أخلي ذاته من أجل خلاصها.وصار ابنا للإنسان,لكي يصير ابنا لله.وكما صار هو أخا لنا بالتجسد,ينبغي علينا أن نحتفظ ببنوتنا لله بطاعتنا له.وكما صار هو أخا لنا حينما شاركنا في طبيعتنا,يجب علينا أن نشابهه في مشيئته وهكذا قالمن يفعل مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي(مت12:50).إذن إن كانت كلمة(أختي) تشير إلي التجسد فإلي أي شئ تشير كلمة(ياحبيبتي)؟
يا حبيبتي:
إن قصة الخلاص بدأت بالتجسد,ولكنها كملت في الفداء,حينماأظهر الله محبته لنا,لأننا ونحن بعد خطاة,مات المسيح لأجلنا(رو5:8).وحينما بذل المسيح حياته ليفدينا بها علي الصليب تحقق حينئذ قوله:
ليس حب أعظم من هذا:أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه(يو15:13).
فكان الرب علي الصليب ذبيحة حب.وبهذا الحب حمل خطايا البشر بدلا منها ومحاها بدمه.فكانمجروحا لأجل معاصينا,مسحوقا لأجل آثامنا...كلنا كغنم ضللنا,ملنا كل واحد إلي طريقه. والرب وضع عليه اثم جميعنا(أش53:5, 6).
فعندما يقول الرب للنفس البشرية(ياحبيبتي) إنما يقصد حبه لها,الذي ظهر واضحا في موته عنها.
هذه النفس التي كان محكوما عليها بالموت,فافتداها ومات بدلا منها...وكلمة(ياحبيبتي) تذكرنا بعلاقة الحب التي ينبغي أن تربطنا بالله,الحب المتبادل الذي فيه نحب الله كما أحبنا.كما قال القديس يوحنا الحبيبفي هذا هي المحبة ليس أننا أحببنا الله,بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا(1يو4:10).
إذن إن كانت قصة الخلاص قد بدأت بالتجسد الذي أشارت كلمة(ياإخوتي).ثم الفداء الذي أشارت إليه عبارة(ياحبيبتي) ...فإلي أي شئ تشير عبارة(ياحمامتي).
ياحمامتي
الحمامة تذكرنا بعمل الروح القدس الذي ظهر في يوم عماد المخلص علي هيئة حمامة(مت4:16) حينما يقول الرب للكنيسة يا حمامتي فكأنما يقول لها:أنت التي يعمل الروح القدس,بعد عماده باستسلام كامل. فأري الروح الذي فيك,كأنك حمامة مثل التي رأيتها يوم العماد.
والحمامة هي التي بشرت نوح بالخلاص عن الطوفان.
وذلك بغصن زيتون في فمها,أتت به في الأرض التي انقشعت مياه الطوفان عن أشجارها.والرب حينما يقول للكنيسة(ياحمامتي) إنما يقول لها:أري فيك بشري الخلاص للأرض من طوفان العالم.
والحمامة تتميز بالبساطة كما قالكونوا بسطاء كالحمام(مت10:16).
وحينما يقول الرب للنفس البشرية(ياحمامتي),فهو يقول لها:أري فيك البساطة التي كانت للإنسان الأول,وهو في صورته الإلهية,قبل أن يدخل في ثنائية الخير والشر.
وأنا قد جئت بتجسدي لأعيد إليه الصورة الأولي في بساطتها ونقاوتها كالحمامة(ياحمامتي).
هذا النداء هو رسالة لنا لنرجع إلي البساطة الأولي,وأن نخلي ذواتنا ليظهر عمل الروح فينا,ولنتذكر باستمرار قصة الطوفان والحمامة,فماذا إذن تعني عبارة(ياكاملتي).
ياكاملتي:
هذا الخلاص الذي قام به الله بالتجسد والفداء ونلناه بالميلاد من الماء والروح(يو3:5)(تي3:5)...يقول لنا الرسول عنهتمموا خلاصكم بخوف ورعدة(في2:12).
كيف نتممه؟بالسلوك بالروح والسعي إلي الكمال لأنه يقول:
كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل(مت5:48)
وهذه النفس,وهذه الكنيسة التي تسعي إلي الكمال بعمل الروح فيها,هي التي يناديها الرب بعبارتي(ياحمامتي)(يا كاملتي).
مادمت بهذه الصفات المفروضة فيك.إذن افتحي لي
هذه هي قصة الخلاص يتمثل فيها دور الله واستجابة الإنسان.
وبهذا نفهم سفر النشيد في معانيه السامية الرمزية بعيدا عن الحرفية وعن السطحية وعن المستوي الجسداني في التفسير.
|