ذهبَت لزيارته، كانت تبتسم بين الحين والآخر وهي في طريقها إلى بيته، اشتاقت لجلستهما المفضلة على الأرض عند الأريكة ولاستكانات الشاي الموضوعة على السجَّاد، كم تحب أن يناولها الشاي بابتسامة هادئة، فهي صديقته المقربة والوحيدة، وهو أكثر من تثق به وتشم فيه رائحة أرضهما البعيدة. ينسيها هذا المشهد للحظة الماضي باضطراباته ومعاناتهما. ولكن للحظة فقط، فهي مثله لا تمل استعادة الذكريات والمواقف ولا تقل عنه فخراً بالأصل. لم يقف شيئاً في وجه صداقتهما، لا لحيته الرمادية المهذّبة ولا مزاجها المتقلب.
مرَّ أسبوع ولم يتحادثا، بالتأكيد تراكم عليهما الكثير مما يريدون إخبار بعضهما به وألحَّ عليهما التوق للفضفضة والسمر الطويل. يحكي لها عن العمل والعائلة، ويشاركها بما يقلقه وما يندم عليه، وهي تستشيره في بعض أمورها العالقة وتخبره بآخر ما أنجزته من أعمال، إضافة إلى أسرارها عن الرجال المفتونين بها الذين تستمتع بالتلاعب بهم، والتي شغلت جلستهما بعدما وصلت، وكانا يطربان بها إلى أن قالت أثناء حديثها عن أحدهم:- لقد عرض علي الزواج. ضحك بانتشاء:- سيكون الرد صادماً له.
أسندت مرفقها على الأريكة ووضعت خدَّها على راحتها وقد نعست عيناها وابتسمت، ما أن رآها وقد بدا عليها الرضا، حتى انقبضت ابتسامته وتحولت تعابير وجهه من الغرور إلى القلق. هو مجرد عشيق، أليس كذلك؟ أنت لا تفكرين حقاً بالزواج من ذلك الغريب.
تنهدت بحيرة: - لا أعلم.
قبضت يداه على جيب قميصها وجذبها إليه بعنف قائلاً بحنق مكتوم:- يبدو حقاً أن تلك البلاد أنستكِ الكثير، أنظري إلى وجهك في المرآة، أنتِ منَّا وأنت لنا. عبست باستياء حتى تبدلت جاذبية عينيها وأصبحت كعيني ذئب، وقالت وهي تجزُّ على أسنانها: - ابعد يديك. تركها بدفعة بسيطة:- أرأيتِ، وتلك الدماء دماؤنا، لا طاقة له بك.
- ومن له طاقة بي؟ أخبرني.
أشاح بوجهه، وقد ذهب عنه الغضب وحلَّ عليه الشجن: - لا أعلم. - أراكَ وقد هدأتَ وأبعدتَ عينيك عني. لم يرد، رمت نفسها عليه وعانقته بشدة، حطَّت كفيه على ذراعيها امتناناً ورجاء أن لا ينتهي هذا العناق. لا تتملكه الجرأة أن يلف ذراعيه على جسدها ويضمها إليه أكثر، إلا أن الضعف تمكَّن منه بينما عيناه مغمضتان، وأغراه بالبوح.
- ثريا...
تراجعت لتنظر إليه وتسمع ما لديه بعدما حرَّرته من طوق العناق وأبقت يمناها على كتفه.
- أنا...
سحبت يدها بسرعة لتضع أناملها على شفتيه وقالت بعبوس معتذر:- لا تقلها، ما أن تقلها حتى يسوء الأمر.
ثم نهضت وقد رسمت الجدية على وجهها:- سأذهب الآن، وأما بشأنه، فأنا لا آبه للأعراف تلك. إلا أن ردي سيكون صادماً له، لأجل عينيك هاتين، ولكن إياك أن تغار ثانية. ثم ذهبت.