منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 29 - 03 - 2023, 06:21 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,711

أيوب | صمت الله


صمت الله!



في هذا الأصحاح يرد أيوب على أليفاز. هنا لا يشير أيوب إلى بقية الأصدقاء، ربما رأى أنه لا فائدة من الحوار معهما، وربما لأنه سرّ بمشورة أليفاز حتى وإن كان سيئ النية.
التقط قول أليفاز بخصوص الله غير المنظور (أي 22: 12-14). لكنه على خلاف ما ظن أليفاز، فإن أيوب لا يريد الاختفاء من الله للتلذذ بخطاياه بدون عقوبة، إنما يعلن أيوب شوقه أن يلتقي معه، ويلتمس أن يبرئه [3-5]. ولما كان الله عادلًا فحتمًا يبرئه [6-7؛ 9: 33-35].
لم يكن أيوب متمردًا على الله، لكن اشتد به الحزن حتى صار يتوق إلى مواجهة الله. يقف أيوب في حيرة، إذ أن الله يرفض الإعلان عن نفسه له [8-9].لقد حجب نفسه عنه، ربما لكي لا يعطي الفرصة لأيوب أن يلتمس العدالة، فيرفع عنه التجربة.

1. رفع شكواه إلى الله

فَقَالَ أَيُّوبُ: [1]
الْيَوْمَ أَيْضًا شَكْوَايَ تَمَرُّدٌ،
ضَرْبَتِي أَثْقَلُ مِنْ تَنَهُّدِي [2].
يقول أيوب إن شكواه مُرةْ. لقد حسبها أصدقاؤه تمردًا على الله، لكن أيوب يعطي تبريرًا لشكواه وهو أنه مهما تنهد، فلن تستطيع تنهدات قلبه أن تعبِّر عن مدى ثقل نكباته. جراحات جسده ونفسه شديدة للغاية، وهي تبرر شكواه.
*يجب أن تُشفى آلام الإنسان المُبتلى بتعزية أصدقائه، لكن لأن تعزيتهم حملت خداعًا، صارت آلام الرجل المضروب أقسى مما كان عليه. لم يخفِ أليفاز نيته من جهة من يعده بأمورٍ أفضل إن تاب؛ فكان ذلك أشبه بعلاج مسموم، فازداد الجرح.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* "الصديق الأمين دواء الحياة" (ابن سيراخ 6: 16).
لا يوجد علاج مؤثر في شفاء الأوجاع مثل الصديق الصادق الذي يعزيك في ضيقاتك، ويدبرك في مشاكلك، ويفرح بنجاحك، ويحزن في بلاياك. من وجد صديقًا هكذا فقد وجد ذخيرة. فالصديق الأمين لا شبيه له، فوزن الذهب والفضة لا يعادل صلاح أمانته (انظر ابن سيراخ 6: 14، 15).
* ليس شيء يثبت الحب بقوة مثل المشاركة في الفرح والألم. ليس لأنك بعيد عن المتاعب تنعزل عن مشاركة الآخرين أيضًا. فعندما يتعب قريبك أحسب الضيق خاصًا بك. شاركه دموعه لكي تسند روحه المنسحقة، وشاركه فرحه ليصير الفرح فيه عميقًا متأصلًا.
ثبتّ المحبة، إذ بهذا تخدم نفسك أكثر من خدمتك له. فبدموعك تصير أنت رحومًا، وبمشاعر البهجة تنقي نفسك من الحسد والغم... إن كنت لا تستطيع أن تنزع عنه الشرور شاركه بدموعك، فتزيل عنه نصف الشر؛ وإن كنت لا تستطيع أن تزيد خيراته فشاركه فرحه فتضيف إليه أمرًا عظيمًا .
القديس يوحنا الذهبي الفم
"ضربتي أثقل من تنهدي" وجاءت في البابا غريغوريوس (الكبير): "يد ضربتي أثقل من تنهدي". هنا يقصد الضربة التي أصابته بأيدي أصدقائه المقاومين له، فإنها أعنف مما حلّ عليه من تجارب دفعته إلى التنهد. وكأن أصدقاءه عوض تعزيتهم له لتهدئة تنهداته، ألهبوا الجراحات، إذ جاءت أياديهم أكثر عنفًا مما حلّ به.يقول ابن سيراخ: "رب صاحب يتنعم مع صديقه في السراء، وعند الضراء يضحي له عدوًا" (سيراخ 37: 4).


مَنْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ،
فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ! [3]
كان أيوب واثقًا من عدالة الله، ويشتهي أن يقف أمام عرشه ليشكو له، فإنه حتمًا سيُنصفه، ولا يحطمه كما فعل به أصدقاؤه. وكما يقول داود النبي: "قد ضاق بي الأمر جدًا، فلنسقط في يد الرب، لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسانٍ" (2 صم 24: 14).
لعل أيوب شعر أن الخطية عزلته عن الله، وضعفاته أفسدت علاقته بالله، فأراد أن يسترد هذه العلاقة، ويتمتع بحبه لله. لهذا يصرخ: "من يعطيني أن أجده؟" وكما تقول النفس البشرية: "أرأيتم من تحبه نفسي؟" (نش 3: 3) من يهبني أن أجده؟ من يفتح لي الطريق إليه.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أيوب كان يشتهي الوقوف أمام الله وخدامه من الطغمات السماوية، حيث يتذوق الحب والرحمة، عوض ما يعانيه من البشر بني جنسه. لذلك يقول: "فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ!"
*ما هو "كرسي" الله سوى الأرواح الملائكية، الذين يشهد لهم الكتاب المقدس أنهم يدعون "العروش"؟ فمن يرغب أن يأتي إلى كرسي الله إلا الذي يشتاق أن يكون بين الأرواح الملائكية... فيرتفع ليسكن في المجد بالتأمل في الأبدية... فإنه إذ يرى بعيني الإيمان خالق كل الأشياء يحكم الأرواح الملائكية، عندئذٍ يأتي إلى كرسيه.
البابا غريغوريوس (الكبير)
إذ يتمتع المؤمن بالشركة مع السمائيين يشعر أن علاقته بهم لا تقل عن علاقته بإخوته في البشرية، إن لم تزد حنوًا ورحمة وحبًا. يفرحون لخلاصه، وينشدون باسم البشرية تسابيح الخلاص، كأن الخلاص خاص بهم.
* اليوم يتمجد ملك المجد على الأرض كقول النبي، ويجعلنا نحن القاطنين على الأرض شركاء في العيد السماوي، ليُظهر أنه ربٌ لكليهما (للسمائيين والأرضيين). كما يُسبح له بتسابيح مشتركة من كليهما.
لذلك تغنَّت الطغمات السماوية، معلنة الخلاص على الأرض: "قدوس، قدوس، قدوس، رب الصباؤوت، مجده يملأ كل الأرض".
والذين في الأسفل إذ يشتركون في تسابيح السماء المبهجة في تناغم معهم، صارخين: "أوصنا في الأعالي، أوصنا لابن داود".
الأب ميثوديوس


أُحْسِنُ الدَّعْوَى أَمَامَهُ،
وَأَمْلأ فَمِي حُجَجًا [4].
يشتهي أيوب أن يعرض قضيته على الله، فإنه حتمًا سيعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه.إذيمثل أيوب الكنيسة المضطهدة، فإنه وإن كان العالم يضايقها لكنها تستطيع في المسيح يسوع أن تقف أمام العرش بدالة وثقة، إذ تحمل برَّه الإلهي كما يقول الرسول.
يترجم البابا غريغوريوس (الكبير)هذه الآية:" أُحسن الدعوى أمام الله، واملأ فمي بالتوبيخات". فإن المؤمن يستحسن الوقوف أمام الله ورفع دعواه، حيث تكتشف النفس ذاتها، وتتعرف عليها بدقة أعظم فترتعب.
شتان ما بين هجوم الإنسان على المؤمن ليحطمه، وبين كشف روح الله للإنسان ليفضحه أمام نفسه، ويبكته ويهبه توبة صادقة كطريقٍ للتمتعبملكوت الله. صار لنا "ثقة بالدخول إلى الأقداس" (عب 10: 19)، ونقف أمام عرش النعمة الإلهية.
في الحديث المفتوح مع الله يشتكي الإنسان نفسه، فيتبرر في عيني الله. يقول الرب نفسه: "ذكرني فنتحاكم معًا، حدث لكي تتبرر" (إش 43: 26). وقد جاء النص في الترجمة السبعينية: "أعلن أولًا معاصيك، فتتبرر" (إش 43: 26 LXX).
*يفتح لنا الله طرقًا كثيرة لتحقيق هذا. فإنه يقول: "أعلن أولًا معاصيك، فتتبرر" (إش 43: 26 LXX). يقول أيضًا: قلت، أخبر بإثمي لك، وأنت تنزع إثم قلبي" (راجع مز 32: 5). فإن الاتهام الدائم لأنفسنا أو تذكر الخطايا يساهِم ليس بقليل في التقليل من جرمها .
*يوجد طريق آخر يهبنا هذا الدواء، وهو أن ندين أنفسنا على أخطائنا، لأنه: "أعلن أولًا معاصيك، فتتبرر" (إش 43: 26 LXX). فمن كان في ضيقات ويشكر تنحل خطاياه، وأيضًا بالصدقة التي أعظم من كل شيء.
القديس يوحنا ذهبي الفم


فَأَعْرِفُ الأَقْوَالَ الَّتِي بِهَا يُجِيبُنِي،
وَأَفْهَمُ مَا يَقُولُهُ لِي [5].
أساء أصدقاء أيوب فهم تساؤلاته عن علة سقوطه تحت تجارب مرة متوالية. حسبوها شكوى ضد الله، بل وإلحادًا عمليًا. وحسبوا تساؤلاته عن نجاح الأشرار هجومًا على العدالة الإلهية. لكن أيوب كان واثقًا أنه إن دخل في محاكمة مع الله فحتمًا ستكون إجابات الله على تساؤلاته مريحة تمامًا وغير مثيرة. لذا كان يشتاق إلى الحوار معه، وأن يخضع لأحكامه خضوعًا كاملًا. الحوار مع الله أسهل وأعذب منه مع الناس.
ولعل أيوب يقول لأصدقائه: إنني لا أبالي كثيرًا برأيكم فيَّ، إنما أود الحوار مع الله، فإن ما يشغلني ماذا يقول الله عني، وبماذا يجيب تساؤلاتي. وكما يقول الرسول بولس: "وأما أنا فأقل شيء عندي أن يُحكم فيَّ منكم أو من يوم بشرٍ، بل لست أحكم في نفسي أيضًا... ولكن الذي يحكم فيَّ هو الرب" (1 كو 4: 3-4).
* لا يقصد بولس هنا (1 كو 4:4) أنه بلا لوم، وإنما يود أن يسد أفواه الذين يلومونه بغير تعقُّل. الله هو دياننا، فهو وحده يعرف بالتأكيد ما يدور في قلوبنا.
القديس يوحنا ذهبي الفم
2. تأكده من مراحم الله

أَبِكَثْرَةِ قُوَّةٍ يُخَاصِمُنِي؟ كَلاَّ!
وَلَكِنَّهُ كَانَ يَنْتَبِهُ إِلَيَّ [6].
حقًا من يقدر أن يدخل في خصومة مع الله، إذ مكتوب: "ضعف الله أقوى من الناس" (1 كو 1: 25)؟ ومع هذا فإن الحوار معه أفضل من الحوار مع بني البشر، لأنه يهتم بالمشتكي، ويصغي إليه كأبٍ مترفقٍ بابنه. وإن كان حازمًا، لكنه مع الحزم يعلن عن أبوته الحانية للابن المجروح بالتجارب والضيقات.
آمن أيوب أن الله القدير لن يرهبه، حتى في محاكمته ومحاورته لن يستعرض كمال جلاله وعظمته، بل يتنازل ويظهر له قدر ما يحتمل، حتى يمكنه الحوار معه. لن يكون عنيفًا معه، فإنه ليس كبني البشر. إنه طويل الأناة، وينصت لمن يصرخ إليه، ويشدده ويشجعه. يهبه القوة، ويدخل معه في صراعٍ لا ليهزمه بل ليهبه النصرة، وكما قيل عن أبينا يعقوب: "بقوته جاهد مع الله. جاهد مع الملاك وغلب، بكى واسترحمه، وجده في بيت إيل، وهناك تكلم معنا" (هو 12:3-4).
حقًا إن من ذاق العِشرة الحقيقية مع الله لا يكف عن اللقاء معه، إذ يدرك حنوه وطول أناته وتنازله من أجل محبوبه الإنسان، قائلًا مع أيوب البار: "أبكثرة قوة يخاصمني؟ كلا! ولكنه كان ينتبه إليَّ" (أي 23: 6).
* لقد ظنوا أن حملي الخفيف ثقيل جدًا، لكنني انحنيت إليهم، تاركًا ملكوت السماوات، لكي آكل معهم، متخذًا الشكل البشري. بل بالأحرى أعطيتهم جسدي طعامًا: كنت لهم طعامًا وشريكًا معهم في المائدة.
القديس جيروم
3. تأكده من النصرة بالصليب

هُنَالِكَ كَانَ يُحَاجُّهُ الْمُسْتَقِيمُ،
وَكُنْتُ أَنْجُو إِلَى الأَبَدِ مِنْ قَاضِيَّ [7].
آمن أيوب أن الحكم الإلهي يصدر باستقامة، وأنه سينقذه على مستوى أبدي. بالالتجاء إليه، ننجو من الدينونة الأبدية. وكما يقول القديس أغسطينوس أننا نهرب من العدالة الإلهية بالالتجاء إلى الله نفسه.
يترجم البابا غريغوريوس (الكبير) هذه الآية هكذا: "ليصنع عدالة ضدي، فتأتي محاكمتي إلى نصرة". ويرى في هذه الصرخة الكنيسة تطلب من الله الكلمة أن يحقق العدالة بالصليب، ينزل إليها ويفتديها، عندئذ إذ تدخل في المحاكمة تتمتع بنصرة على مستوى أبدي. إنها تطلب مجيء الكلمة ليوبخها، فبتجسده وتوبيخه لها، تنفتح أمامها أبواب النعمة الإلهية، وتتبرر أمام العرش الإلهي.
* "ليصنع عدالة ضدي، فتأتي محاكمتي إلى نصرة "... لكي يوبخ طرقي فليُرسل الابن المتجسد... فلو أن ابن الله الوحيد بقي غير منظور في قوة لاهوته (أي لم يتجسد) ولم يأخذ شيئًا من ضعفنا (بشريتنا)، كيف كان يمكن للبشر الضعفاء أن يجدوا الوسيلة لنوال النعمة الإلهية؟ فإن ثقل عظمته - إن وُضعت في الاعتبار - تكون في الواقع لمقاومتنا وليست لمعونتنا. لكن القوي، الذي فوق الكل، جاء كضعيفٍ بيننا، فبمعادلته لنا بأخذه ضعفنا، يرفعنا إلى قوته. فإنه لم يكن ممكنًا لنا أن ندرك سمو طبيعته الإلهية، نحن أنفسنا غير ملائمين لذلك، لكنه انحنى إلى أسفل إلى الإنسان خلال ناسوته، وصار لنا نحن أن نكون كمن يصعد إلى ذاك الذي نزل. لقد قام فرُفعنا.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* اهرب إلى الله نفسه، إن أردت أن تهرب منه.
اهرب بالاعتراف لا بالاختباء.
قل له: "أنت ملجأ لي".
هكذا دع الحب الذي وحده يهب حياة أن ينمو في داخلك .
* مفرح هو وجه الرب، ما أن يُرى لا يجد الإنسان بهجته في شيء آخر .
القديس أغسطينوس
4. عدم إدراكه لسرّ الله

هَأَنَذَا أَذْهَبُ شَرْقًا، فَلَيْسَ هُوَ هُنَاكَ،
وَغَرْبًا، فَلاَ أَشْعُرُ بِه [8].ِ
شِمَالًا حَيْثُ عَمَلُهُ، فَلاَ أَنْظُرُهُ.
يَتَعَطَّفُ الْجَنُوبَ، فَلاَ أَرَاهُ [9].
عبَّر أيوب عن التيه الذي كان فيه، إذ كان كمن يبحث عن الله، فلم يجده في الشرق، ولا شعر به في الغرب. لقد سبق أن أمره أليفاز أن يتعرف على الله (أي 22: 12)، فيجيبه أيوب أن هذه هي شهوة قلبه، فإنه يود الظهور أمامه.
كان أيوب بلا شك يؤمن بأن الله حاضر في كل موضع، لكنه هنا يشكو من عجزه عن تركيز أفكاره في الله وفي حكمته وسط ملاحقتهم له بالمناقشات غير المجدية والمثيرة. فمع إيمانه بوجود الله كأن شيئًا أشبه بغشاوة يغطي بصيرته الداخلية، فيعجز عن التعرف على أسباب متاعبه التي سمح بها الله. لا يعرف خطية معينة ارتكبها لكي يتوب عنها. لم يدرك ما هو هدف الله من السماح له بهذه النكبات. وأخيرًا لا يعرف ما هي نهاية هذه النكبات، هل سينجيه الله منها؟ متى؟ وكيف يتحقق هذا؟
يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير)أكثر من تفسير للشرق والغرب والشمال (أو اليسار) والجنوب (أو اليمين) في هذه العبارة.
التفسير الأول: الله كائن في كل مكان، وهو لا يتجزأ، يملأ الكل، يرى الإنسان ويعرف كل ما في أعماقه، لكن الإنسان لا يراه ولا يقدر أن يميزه بالحواس. مهوب مع أنه غير منظور.
التفسير الثاني: إن تطلعنا إلى الشرق، أي إن فكرنا في عظمته، حيث يشرق هو من الشرق، لا نستطيع إدراك طبيعته بفكرنا المائت. وإن تطلعنا إلى الغرب، أي إن تراجعت بصيرة القلب بسبب فيض بهائه، لا يمكن فهمه. وإن سلكنا نحو اليسار حيث السقوط في الخطايا لا ندركه. وإن سلكنا نحو اليمين حيث الضربات اليمينية من الكبرياء والرياء والبرّ الذاتي لا نراه.
*"هأنذا أذهب شرقًا، فلا يظهر، وإن ذهبت غربًا لا أفهمه. إن ذهبت شمالًا، ماذاأفعل؟ إني لا أدركه، وإن اتجهت يمينًا (جنوبًا) فلا أراه" [8-9]. خالق كل الأشياء لا يتجزأ، وهو في كل مكان... فإن الروح غير المدرك يحوي كل شيءٍ فيه، هذا الذي في نفس الوقت يملأ ويحوي...
كأنه يقول بوضوحٍ: إني لا أستطيع أن أنظر هذا الذي يراني، ذاك الذي ينظرني بكل دقةٍ، ليس لي قدرة على التطلع إليه... خالقنا الذي هو كامل بكليته في كل موضعٍ ويميز كل شيءٍ، لا يٌمكن أن يُميَّز (بالحواس)، وهو بالأكثر مهوب، إذ يبقى غير منظورٍ، وأن مصير تصرفاتنا معلق، وزمانها غير معروف.
يمكن أيضًا فهم هذه الكلمات بمعنى آخر: فإننا نذهب شرقًا عندما نرفع أذهاننا بالتفكير في عظمته، لكنه "لا يظهر"، حيث لا يمكن أن يُرى في طبيعته بفكرٍ قابل للموت. "إن ذهبت غربًا، لا افهمه"، نذهب غربًا عندما تتراجع عين القلب المرتفعة في الله بسبب فيض النور...
الذهاب يسارًا (شمالًا) هو خضوع الإنسان لملذات خطاياه. واضح بالتأكيد أن الشخص الذي لا يزال يرضي خطاياه، وينطرح نحو اليسار لا يقدر أن يدرك الله...
يذهب الشخص نحو اليمين (الجنوب)، ذاك الذي يرتفع على إنجازات فاضلة.
لكن الله لا يُمكن أن يُرى بواسطة ذاك الذي يُسر بتمتعه بأعماله الصالحة في أنانية، إذ يُحدر عين القلب بغرور الكبرياء. لذلك حسنًا يُقال في كل موضع: "لا تحد يمينًا ولا يسارًا" (راجع تث 11:17)...
البابا غريغوريوس (الكبير)
* لا تقدر أن ترى الله، لكن من حقك أن تراه بحبك لقريبك. وبتطلعك إلى مصدر ذاك الحب ترى الله قدر ما تستطيع .
القديس أغسطينوس

5. يقينه أن الله ينقيه بنار

لأَنَّهُ يَعْرِفُ طَرِيقِي.
إِذَا جَرَّبَنِي أَخْرُجُ كَالذَّهَبِ [10].
إذ اعترف أيوب بكمال الله الفائق، المالئ الكل، والعارف كل شيءٍ. يرى حتى الأعماق، ولا يراه الإنسان. أينما ذهب الإنسان إن كان شرقًا أو غربًا، شمالًا أو جنوبًا لا يقدر أن يرى الله، ولا أن يدرك أسراره الإلهية، وخطته نحو كل إنسانٍ، لكنه يعلم أمرًا واحدًا، أنه في عيني الله يحسب ذهبًا ثمينًا يحتاج إلى التنقية بنار التجارب ليزداد نقاوة وبهاء . فمع ما أصاب أيوب من شعورٍ بالحيرة الشديدة وعدم إدراكه ما وراء الأحداث في ذهن الله، إلا أنه يعلم أن الله يعرف طريقه، وأنه سيخرجه من التجربة نقيًا كالذهب المصفى بالنار؛ وأن تجربته هي لامتحان إيمانه أو تزكيته (1 بط 1: 7).
*"وسيمتحني كالذهب الذي يعبر النار". الذهب في الفرن يتقدم في بهاء طبيعته، بينما يفقد الزغل. هكذا كما أن الذهب يعبر بالنار هكذا تُمتحن نفوس الأبرار... بنار التجربة مرة فأخرى تُزال عنها عيوبها، وتزداد فضائلها.
ليس في كبرياء يشبه القديس نفسه بالذهب الذي يمتحن بالتجارب... إذ يفكر في نفسه أنه قد تنقى بألم التجربة، حتى وإن لم يكن قد وُجد فيه ما يتنقى منه.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* عندما يريد الله أن ينصر الإنسان ويعَّظمه، يسلمه أولًا إلى الشر (التجارب) ليُختبر ويُفحص ثم يظهر جماله للعالم بالحسنات التي يعملها الله معه.
لما أراد الله أن ينصر يوسف ويجعله سيدًا على مصر...، ماذا كانت بداية عمله ليفضي إلى نهاية صالحة؟ أولًا قبض عليه إخوته، وأهانوه، واستهزأوا به، ونزعوا ثيابه، وأبقوه في الجب، وقطعوا رجاءه، وباعوه للتجار، وصار عبدًا يخدم الأرباب، وأستعبد ابن الأحرار الحسن الذي لم يقترف سوءً.
من كان يرى هذا العمل السيئ لم يكن بوسعه أن يظن أن كل هذه الشرور كانت تُرتكب لصالح يوسف. أما الله الذي كان يعلم ماذا يريد أن يصنع له، فلم يشفق عليه عندما كان يرزأ تحت وطأة كل هذه الشرور، لكنه تركه يسقط في الجب، ويُباع للتجار، وُيزج به في السجن ظلمًا. بعد هذه كلها أشرق جماله كالشمس، وظهر حقه كالذهب، وزالت شروره كالدخان، واعتلى قمة المركبة كالملك، وقام في العظمة التي من أجلها وضعه الله بحيث يتواضع فيرتفع .
القديس مار يعقوب السروجي
* كما يُلقي ممحص الذهب بقطعة الذهب في الفرن لتحتمل النار إلى حين، حتى يراها قد تنقت، هكذا يسمح الله بامتحان الأنفس البشرية بالضيقات حتى تتنقى وتحصل على نفعٍ عظيمٍ...
فليتنا لا نضطرب ولا نيأس عندما تحل بنا التجارب. لأنه كما أن ممحص الذهب يعلم الزمن الذي ينبغي أن يُترك فيه الذهب في الفرن، فيُخرجه في الوقت المعين ولا يتركه بعد في النار حتى لا يفسد ولا يحترق، كم بالأكثر يعلم الله ذلك. فعندما يرانا قد تنقينا بالأكثر، يعتقنا من تجاربنا حتى لا ننطرح ونُطرد بسبب تزايد شرورنا.
عندما يحل بنا أمر ما لم نكن نتوقعه لا نتذمر ولا تخور قلوبنا، بل نقبله من الله الذي يعرف هذه الأمور بدقةٍ، حتى يمتحن قلوبنا بالنار كيفما يُسر، إذ يُفعل هذا بقصد فائدة المجربين. لذلك يوصينا الحكيم قائلًا بأن نخضع لله في كل الأمور، لأنه يعرف تمامًا متى يخرجنا من فرن الشر. (حكمة يشوع 1:1-2)
يليق بنا أن نخضع له على الدوام، ونشكره باستمرار، محتملين كل شيءٍ برضا، سواء عندما يمنحنا بركات أو يقدم لنا تأديبات. لأن هذه الأخيرة هي نوع من أنواع البركات.
فالطبيب ليس فقط يسمح لنا بالاستحمام (في الحمامات)... أو الذهاب إلى الحدائق المبهجة، بل وأيضًا عندما يستخدم المشرط والسكين هو طبيب!
والأب ليس فقط عندما يلاطف ابنه، بل وعندما يؤدبه ويعاقبه... هو أب!
وإذ نعلم أن الله أكثر حنوًا من كل الأطباء، فليس لنا أن نستقصي عن معاملاته، ولا أن نطلب منه حسابًا عنها، بل ما يحسن في عينيه يفعله. فلا نميز إن كان يعتقنا من التجربة أو يؤدبنا، لأنه بكلا الطريقين يود ردنا إلى الصحة، ويجعلنا شركاء معه، وهو يعلم احتياجاتنا المختلفة، وما يناسب كل واحدٍ منا، وكيف، وبأية طريقةٍ يلزمنا أن نخلص...
لنتبعه حيثما يأمرنا، ولا نفكر كثيرًا إن كان يأمرنا أن نسلك طريقًا سهلًا وممهدًا أو طريقًا صعبًا وعرًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* كما يُختبر الذهب بالنار فيصير نافعًا، هكذا أنتم يا من تعيشون في العالم تُختبرون بها. هكذا أنتم الذين في النار تعبُرون اللهب وتتطَّهرون. وكما يُطرح الزغل عن الذهب، هكذا أنتم ستطرحون كل حزنٍ وتجربةٍ، وتصيرون أطهارًا ونافعين لبناء البرج.
هرماس


بِخَطَوَاتِهِ اسْتَمْسَكَتْ رِجْلِي.
حَفِظْتُ طَرِيقَهُ وَلَمْ أَحِدْ [11].
مع اعتراف أيوب أنه يحتاج إلى إزالة الزغل منه، يعود فيعلن أنه قد وضع في قلبه أن يسلك حسب مقاصد الله وخططه، يلتزم بأن يسلك في الطريق الإلهي خطوة فخطوة. إنه لا يريد أن يحيد عن الطريق يمينًا أو يسارًا.
من جانب يرفض أيوب ما يدعيه أصدقاؤه أن هذه التجارب ثمرة شروره وريائه ومقاومته الخفية لله، وإنما هي بوتقة لتنقية أعماقه فيخرج ذهبًا مصفي بالنار، ومن الجانب الآخر يعلن أنه يسلك في طريق الرب، يحفظ وصايا الرب ولا يحيد عنها.
* "تلتزم قدمي بخطواته"، فإن أعمال الله التي نراها هي نوع من آثار خطواته. بهذه الأعمال يُحكم الصالحون والطالحون، الأبرار والأشرار يُوضعون في طبقاتهم... يأمرنا الحق أن نقتدي بآثار خطوات أبيه، إذ قال: صلوا لأجل الذين يضطهدونكم ويتهمونكم باطلًا، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات (مت 44:5-45)... يقول بطرس عن خطواته هذه: "من أجل المسيح الذي تألم عنا، تاركًا لنا مثالًا لكي نقتفي إثر خطواته" (1 بط 21:2)...
"حفظت طريقه، ولم أحد"، من يمارس الأمر الذي يصمم عليه ذهنه يحفظ الطريق ولا يحيد عنه. فإن من "يحفظ" ما يصمم عليه لا يحيد عنه في سلوكه العملي. هذا ما يشغل الأبرار أنهم ملتزمون أن يمتحنوا تصرفاتهم بطرق الحق يومًا فيومًا، ويحسبونها قانونًا لأنفسهم، يلزمهم ألا يحيدوا عن دربهم المستقيم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* علمكم المسيح أن تتألموا، وقد فعل هذا بأن تألم هو نفسه. لا تكفي الكلمات ما لم يُضف إليها المثال العملي. يا له من تعليم ثمين قدمه لنا أيها الإخوة والأخوات! لقد عُلق على الصليب، وكان اليهود ثائرين... كان معلقًا هناك، وفي نفس الوقت كان يشفيهم.
القديس أغسطينوس


مِنْ وَصِيَّةِ شَفَتَيْهِ لَمْ أَبْرَحْ.
أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَتِي ذَخَرْتُ كَلاَمَ فَمِهِ [12].
يعلن أيوب أنه لم يتراجع إلى الوراء عن الوصية الإلهية الصادرة عن الفم الإلهي، بل يتقدم إلى الأمام بمقتضاها، ويسعى دومًا نحو الغرض.
لقد تمسك بالوصية حاسبًا إياها أفضل من طعامه الضروري، إذ لا يقدر أن يعيش بدونها، فهي طعام نفسه وشرابها.
يتطلع أيوب إلى الوصية الإلهية بكونها صادرة عن شفتي الله، وأنها كلام فمه، فهي ليست أوامر يلتزم بها لكي توجه سلوكه فحسب، لكنها عطية عذبة وثمينة تصدر من فم ذاك المحب! لهذا لا تمثل ثقلًا يود أن يهرب منه، إنما في عذوبة لا يبرح عنها، وفي شوق يدخرها في أعماقه. وكما يقول المرتل: "بطريق شهاداتك فرحت كما على كل الغنى. بوصاياك ألهج وألاحظ سبلك. بفرائضك أتلذذ لا أنسى كلامك... شريعة فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة... كم أحببت شريعتك اليوم كله هي لهجي. سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي. ورثت شهاداتك إلى الدهر لأنها هي بهجة قلبي. يغني لساني بأقوالك، لأن كل وصاياك عدل" (مز 119: 14-16، 72، 97، 105، 111، 172)
*إن كان أيوب قد وضع لنفسه فريضة وهي أن يسلك كما يليق به كإنسانٍ، لكن ما هو أثمن من هذه الفريضة الوصية الإلهية، بكونها كنزه الذي يقتنيه ويحرص عليه، ويحفظه في قلبه. "أخفي كلمات فمه في حضن قلبي". فإننا نخفي الكلمات في حضن قلوبنا عندما نسمع وصاياه، لا بطريقٍ عابرٍ، بل نتممها عمليًا. مكتوب عن الأم العذراء نفسها: "كانت مريم تحفظ كل هذه الأمور متفكرة بها في قلبها" (لو 19:2).
البابا غريغوريوس (الكبير)
* حقًا إن من يحصل على غنى مادي يفرح بسبب هذا الغنى، ليس عندما يكون لديه جزء من الغنى، وإنما يحصل على "كل الغنى"، كل الأصول الثابتة والمتداولة، أي العقارات والنقود. هكذا أيضًا من يرغب في الغنى الروحي يفرح ويبتهج عندما ينال غنى كاملًا، وذلك بفضل تقدمه في شهادات الرب وممارسته للفضائل. كأنه يقول: لتكن شهاداتك هي التي تغنيني عن كل شيء، لتكن هي فرحي وغناي.
العلامة أوريجينوس
* الذين مواطنتهم هي في السماء (في 3: 19-20)، ماداموا قاطنين هنا مشغولين (بالسماويات) فهم بالحق غرباء. ليصلُّوا حتى لا تُخفى عنهم وصايا الله، التي بها يتحررون أثناء رحلتهم المؤقتة، وذلك بحبهم لله الذي يقطنون معه أبديًا؛ وبمحبتهم للقريب لكي ما يذهب هو أيضًا إلى حيث سيكونون (أي في السماء).
القديس أغسطينوس


أَمَّا هُوَ فَوَحْدَهُ، فَمَنْ يَرُدُّهُ؟
وَنَفْسُهُ تَشْتَهِي فَيَفْعَلُ [13].
مع شعور أيوب بضعفه البشري وفي نفس الوقت لا يقدر أن يتجاهل أمانته وجديته في حفظ وصايا الرب، وتقديره الفائق لها، كان يود أن يدخل في حوار مع الله ليتعرف على مقاصده الإلهية وراء ما حل به.
لكن أيوب يدرك حدوده أنه مخلوق ضعيف لا يعاتب لكي يغير خطة الله، ولا يتوقع أنه يقاوم الله. يعلم أن الله هو القدير الحكيم الآب، ما يريده هو للخير، وقادر على أن يفعله. وكأن أيوب يود في حواره أن يفتح الله بصيرته بالأكثر ليسبح في محبته الله الفائقة حتى وإن كانت الضيقات تلاحقه من كل جانب. بهذا الحوار ينتفع أيوب فيزداد إيمانهوحبه ويسمو فوق الكلام.
الله هو الحق المطلق، مشورته غير متغيرة، لا يشترك معه أحد في المشورة، ليس من يغير إرادته ومقاصده. حقًا بالتوبة يعفو، لكنه مقاصده لا تتغير "معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله".
إنه قدير، ما يشتهيه يحققه. ليس كالبشر الذين يشتهون أمورًا كثيرة لا يفعلونها، أو لا يقدرون أن يفعلوها، أو لا يجسرون على ذلك، إذ هو كلي القدرة. "كل ما شاء الرب صنع" (مز 135: 6).
*"إن كان يُحاكم، فمن هو هذا الذي يعارضه؟ فإنه يريد الشيء ويتممه". تُحفظ المعرفة في حدود الطبيعة بكل طرقها، أما الإيمان فيجعل رحلتها فوق الطبيعة... الإنسان الذي يتبع الإيمان يصير للحال حرًا وحاكمًا لنفسه، وكابنٍ يُخضع كل طبائع الخليقة وكأنه إله، فإنه بالإيمان يتحقق السلطان على شبه الله ليقيم خليقة جديدة. إنه يقول: "أنت تفعل ما تريد، وكل الأشياء حاضرة أمامك". وفي مرات كثيرة يمكن للإيمان أن يحضر كل شيءٍ من العدم.
القديس مار أفرام السرياني
يعلق البابا غريغوريوس (الكبير) على تعبير "هو وحده"، كأنه لا يوجد كائن ما غيره، قائلًا إنه يليق التمييز بين الخالق القائم بذاته، غير المتغير، وبين المخلوقات التي وًجدت من العدم، ولا تقدر أن تقوم بذاتها.
*"لكنه هو نفسه وحده، ولا يستطيع إنسان ما أن يغير فكره"... إذ توجد كثرة من الأشياء في دائرة الطبيعة، فلماذا يُقال بصوت الطوباوي: "إنه هو وحده"؟ يوجد فارق بين ما يوجد، وما هو موجود أصلًا، بين ما يخضع للتغير والوجود والمستقل عن التغير. فإن كل هذه الأشياء موجودة، لكنها لا تقوم بذاتها، فلو لم تقم بيد من يحكمها ما كان يمكن لها أن توجد قط. فإن كل الأشياء تقوم في ذاك الذي خلقها، وهم ليسوا مدينين بحياتهم لأنفسهم، ولا أولئك الذين يتحركون ولا يحيون قد صارت لهم الحركة حسب نزواتهم. إنما (الله) هو الذي يحرك كل الأشياء، هذا الذي يحيي البعض، واهبًا لهم الحياة، بينما الكائنات الأخرى التي بلا حياة يقوم هو بحفظها، مودعًا إياها بطريقة عجيبة ككائنات أقل وأدنى.
خُلقت كل الأشياء من العدم، وينتهي وجودها إلى العدم، ما لم يمسك بها خالق الأشياء بيد تدبيره. إذن كل الأشياء المخلوقة لا تقدر بذاتها أن تقوم، ولا أن تتحرك، وإنما ينبغي أن تخضع لجابلها، بهذا فقط تتحرك...
على أي الأحوال، فانه حتى وإن وجدت مقاومة ضدنا من الخارج (أي ضيقات) يليق بنا أن ندرك أن الله يعمل فينا من الداخل...
إذن في كل الأحوال يُنظر إلى الله كمن هو وحده، هذا القائم من البدء، والقائل لموسى: "أنا هو الذي هو، هكذا تقول لبني إسرائيل، ذاك الذي هو كائن يرسلني إليكم" (خر 14:3). هكذا عندما نُعاقب بالأمور التي نراها، يلزمنا أن نخاف ذاك الذي لا نراه...
بخصوص عدم إمكانية تغيره، أضاف بطريقة مباشرة لائقة: "لا يقدر إنسان أن يغٌير فكره"، فإنه إذ هو بالطبيعة غير قابلٍ للتغير، فهو غير قابل للتغير في الإرادة. "لا يقدر أحد أن يغٌير فكره"، حيث ليس لإنسانٍ ما سلطان لمقاومة أحكامه الخفية... هكذا مكتوب: "يصدر قانونًا لا يتغير". وأيضًا: "السماء والأرض تزولان، وأما كلامي فلا يزول" (مر 31:13). أيضًا: "لأن أفكاري ليست كأفكاركم، ولا طرقكم كطرقي" (إش 8:55)...
فإنه حتى تلك الأمور التي تبدو أنها تُصنع ضد إرادته ومخالفة لها، فلنتطلع إلى أن ما لم يأمر به يُسمح به أحيانًا أن يتم لكي تخدم ما أمر به وتحققه بأكثر تأكيد. فإن إرادة الملاك المقاوم شريرة، لكن الله يأمر بطريقة عجيبة حتى يستخدم الله ذات حيله المخادعة لصالح الأبرار الذي يتطهرون خلال جهادهم. لهذا فإن كل ما ترغبه نفسه (الله) يفعله"، مستخدمًا ذات المصدر الذي قد يبدو مقاومًا لإرادته ليحقق به إرادته...
البابا غريغوريوس (الكبير)
6. شعوره بالضيق

لأَنَّهُ يُتَمِّمُ الْمَفْرُوضَ عَلَيَّ،
وَكَثِيرٌ مِثْلُ هَذِهِ عِنْدَهُ [14].
يتطلع أيوب إلى الله الواحد الوحيد القدير الموجود بذاته كمصدر لحياته والمحرك لكل الأمور بعنايته الفائقة، لهذا يرى أن كل ما يحدث هو لنفعه وصلاحه.
لكنه بالرغم من هذا اليقين لن تنزع عنه طبيعته البشرية التي تخشى ما يحل عليه من نكبات وآلام. ولعل هذه الخشية أو المخافة ليست رعبًا مما سيحل به، وإنما مخافة الرب المقدسة. فإنه يقف في خشية أمام عظمة الله الفائقة وجلاله. إنه يسر بالحضرة الإلهية لكن ليس في تهاونٍ أو استهتارٍ، إنما في إجلال وتكريم لله.
*لكنك حسنًا تضع تساؤلًا وسط هذه الكلمات فتقول: "يا أيها الطوباوي أيوب، لماذا لا تزال ترتعب من الأحزان وسط مثل هذه الضربات؟ لقد حدقت بك الأحزان بالفعل، لقد انزعجت فعلًا بواسطة الكوارث غير المحصية... لكن لاحظ كيف يجيب القديس على تساؤلنا مضيفًا: "لأنه حين يحقق إرادته فيٌ، توجد أمور أخرى كثيرة معه" [14]... مع رؤيته القوة غير المدركة من جهة السلطان، هذه القوة القائمة فيه، يشعر البار أنه ليس في أمان من جهة الضربة التي تحل عليه، فيزداد بالأكثر خوفه.
البابا غريغوريوس (الكبير)


مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْتَاعُ قُدَّامَهُ.
أَتَأَمَّلُ فَأَرْتَعِبُ مِنْهُ [15].
سبق فأعلن أيوب أنه لا يرتعب أمام الله، لأن له دالة عليه. أما هنا فيذكر أنه يتأمل في عناية الله وأعماله فتنتابه مخافة، وهي مخافة التكريم والاعتزاز بالرب مثل مخافة الابن نحو أبيه.
لعل ما يرعبه صراعه الداخلي، ففي ضيقه من اتهامات أصدقائه له يستحسن الحوار مع الله والمحاكمة أمامه، وكأنه يقول مع داود النبي: "فلنسقط في يد الرب، لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسانٍ" (2 صم 24: 14).وفينفس الوقت يعلم أيوب أنه غير أهلٍ للحوار مع الله، والدخول فيمحاكمة معه.
* "لهذا أنا اضطرب لحضرته، حين أحسب إني خائف منه(1027)" [15]. إنه بحق يضطرب لحضور الرب، ذاك الذي يضع نصب عينيه رعب جلاله، ويرتبك تمامًا بواسطة مهابة برٌه، وهو ينظر أنه غير أهلٍ أن يجيب إن حوكم بحزمٍ...
أما بخصوص الطوباوي أيوب، فنحن نعرف أنه تكرس لتقديم ذبائح متنوعة لله، وسلٌم نفسه لأعمال العطاء السخي، وتقديم احتياجات الفقراء، وكان متواضعًا حتى أمام الخاضعين له، لطيفًا مع مقاوميه، ومع هذا لحقت به مثل هذه الكوارث غير المحصية... فماذا نقول نحن الخليقة البائسة؟ ماذا نقول نحن الخطاة إن كان الذي فعل كل هذا خاف هكذا؟
البابا غريغوريوس (الكبير)
* ليس شيء يعلو على مخافة الله لأنها تسود على كل شيء، وبخوف الله يحيد كل واحدٍ عن كل الشرور، فلنقتن لنا هذا الخوف ولنحِدْ عن كل ما لا يريده الله، ونجرِّب كل ما يرضيه ونحفظه ولا نفعل شيئًا يحُزنه، ونعلم أن كلَّ ما نفعله ينظر هو إليه ولا تخفى عليه خافيةً.
القديس مقاريوس الكبير


لأَنَّ اللهَ قَدْ أَضْعَفَ قَلْبِي،
وَالْقَدِيرَ رَوَّعَنِي [16].
مع ما لأيوب البار من دالة حتى للدخول في محاكمة مع الله، لكنه يلتزم بالمخافة المقدسة، إذ يدرك عظمة الله وجلاله. الحب المقدس يطرد مخافة العبيد خارجا، لكنه يجلب مخافة الرب حتى يلتحف بها الأبرار أمام القدوس. لا نعجب مما لأيوب من جسارة وجرأة ودالة لدى الله، وفي نفس الوقت يضعف قلبه ويرتعب أمام القدير. هذا هو منهج أولاد الله يشتهون مع الرسول بولس أنينطلقوا ويكونوا مع المسيحويصرخون طالبين: "نعم تعال أيها الرب يسوعوفي نفس الوقت يذكرون يوم الدينونة ويبكون على خطاياهم.
*"فإن الله جعل قلبي واهنًا، والقدير أرعبني". يُقال إن قلب البار بالعطية الإلهية يصير واهنًا حيث تتخلله مخافة الدينونة القادمة من العلي. فما هو واهن يُمكن بسهولةٍ اختراقه، وما هو قاسٍ لا يمكن اختراقه. لذلك يقول سليمان: "سعيد هو الإنسان الذي يخاف على الدوام، أما من يقسي قلبه فيسقط في انزعاج" (أم 14:28)...
قلوب الصالحين ليست في أمانٍ بل مضطربة، حيث يفكرون في الثقل العظيم للحساب القادم، ويطلبون أن يتمتعوا بالراحة هنا. إنهم يقطعون اطمئنانهم بالتفكير في الحزم الداخلي. غير أن مثل هؤلاء الأشخاص، وسط ذات تأديبات الخوف، غالبًا ما يتذكرون العطايا، وبهذا يتهللون وسط المخاوف، ويعيدون النظر إلى الهبات التي نالوها حتى يدعموا رجاءهم ويهبط الخوف.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* إن وضعتَ في ذهنك دينونة الرب للأرض كلها (مز 7:1.9) كقول الكتاب المقدس، فإن كل حادث يعلِّمك معرفة الله.
القديس مرقس الناسك
* تذكر على الدوام ساعة خروجك، ولا تنسى الدينونة الأبدية، فلا توجد في نفسك خطية.
*كيف نرضي الله؟ توجد خمسة أعمال تساعد على جلب عطية الله:
الأول: الصلاة النقية.
الثاني: التسبيح بالمزامير.
الثالث: قراءة الأسفار المقدسة.
الرابع: تذكر الإنسان خطاياه والموت والدينونة المخيفة.
الخامس: عمل اليدين.
القديس مار أوغريس البنطي


لأَنِّي لَمْ أُقْطَعْ قَبْلَ الظَّلاَمِ،
وَمِنْ وَجْهِي لَمْ يُغَطِّ الدُّجَى [17].
مرة أخرى وإن كان المؤمن يضعف قلبه ويمتلئ قلبه بالمهابة، يعلم أنه في غنى نعمة الله لا يهلك، ولا تقدر الظلمة أن تغطي وجهه مادام قد وضع يده في يد الله. بالإيمان يرى المؤمن أبوابالسماء مفتوحة أمامه، وفي يقظة يخشى وهو قائم لئلا يسقط كما قال الرسولبولس (1 كو 10: 12).
*"لكنني لا أهلك من أجل الظلمة التي تهددني، ولن تغطي الظلمة وجهي"... فإن الضربات التي تحل على الصالحين إما تزيل الشرور التي مارسوها، أو تجعلهم يتجنبون الضربات المقبلة التي قد تحل. أما الطوباوي أيوب فإنه إذ سقط تحت العصا، لم يتطهر من خطايا ارتكبها ولا حصنته مما يهدده. إنما ضاعفت من صلاحه بالأكثر وهو تحت الضربة، فيقول بيقين: "فإنني لا أهلك من الظلمة التي تهددني، ولن تغطي الظلمة وجهي".
البابا غريغوريوس (الكبير)
من وحي أيوب 23

صمتك وسط آلامي أعذب من تعزيات البشر!


* في وسط مرارة نفسي شكوت،
آلامي أثقل من كل أنينٍ أو تنهد.ٍ
يحسبني من يراني متذمرًا عليك.
إني أثق فيك، وفي حبك وبِّرك.
أريد أن ألتقي بك،
فأنت وحدك فاحص قلبي
لماذا تصمت يا محب البشرية؟
لتحاكمي، ولكن حسب رحمتك!
أريد الحوار معك،
فإني أعلم أن بصليبك أنجو إلى الأبد.

* لماذا تصمت يا أيها العجيب في حبك؟
أريد أن أهرب من العدل الإلهي،
بالالتجاء إلى حبك.
أعترف إليك بخطاياي،
فليس من يترفق بضعفي مثلك؟

* إن تطلعت إلى المشارق أرى عظمتك.
فأصمت أمام بهائك.
وإن تطلعت إلى المغارب حيث أتراجع أمامك،
يجمد فهمي تمامًا!
إن سلكت في اليسار حيث الخطايا،
لا أقدر أن أدركك.
وإن سلكت في اليمن حيث ضربات البرّ الذاتي،
أحرم نفسي من رؤياك .
أخبرني، كيف أراك وأتحدث معك،
فأنت هو ملجأي الوحيد.
* أنت في كل مكان، أنت في أعماقي،
ولغباوتي لم أعرف كيف ألتقي بك!
أنت تراني، وتفحص أعماقي،
وبسبب عماي لا أراك، ولا أدرك أسرارك!
خطتك من نحوي فائقة.

* تريدني ذهبًا مُصفىٍ بالنار، بلا زغلٍ،
تسمح لي بالتجارب،
وتعمل فيَّ بلا توقف، حتى وإن صمتْ.
وسط صرخاتي المرة، ترى نفسي تتنقى كما بنارٍ.
تراني قادمًا إليك في أمجادٍ هي من عمل نعمتك فيّ!
في صمتك تبدو كمن لا يبالي بصرخاتي المرة،
لكنك الفخاري الحكيم تعلم متى تخرجني من فرن التجارب.
تتطلع إليّ، أنا الطين،
وتراني قد تحولت إلى إناءٍ للكرامة!
لن تتركني في النار حتى أحترق،
ولن تخرجني قبل الأوان لئلا أفسد!

* أراك الطبيب السماوي في صمتك تمسك بالمشرط.
لتضرب به جسمي، وتنزع عنه القروح.
أراك الأب الذي وإن صمت فعيناه على ابنه المحبوب.
الآن لأسلك حسب مقاصدك غير المدركة.
بشكرٍ أتقبل خطتك من نحوي، مهما بدت مُرة.
لأحفظ طريقك بنعمتك.
فقد وعدتني أن أكون ابنًا للآب السماوي!

* في وسط لجة محبتك أدرك أنك القدير وحده.
من يقدر أن يفهم أعماق حكمتك؟
لتعمل فيّ، حتى وإن تمررت نفسي،
فكل ما تعمله هو لبنياني الأكيد.
إني الجبلة الضعيفة تخضع لجابلها القدير.
حتى إن تضايقت إلى حين،
فإن جلالك العجيب يسبي كل كياني.

* سمِّرت خوفك في داخلي،
فهو حصني وملجأي من محاربات العدو.
فيه احتمي، وبه أسلك كما يليق بابنٍ لك!
به أمتلئ رجاءً، لكن بروح الخشوع والتقوى!
به أذكر يوم مجيئك، فاصرخ:
قلبي مستعد يا الله، قلبي مستعد!
تعال أيها الرب يسوع،
فأنت هو الديان،
وأنت هو المعزي والشفيع عني.
رد مع اقتباس
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
أيوب | إذ انتهت المحاكمة لم يترك الله أيوب ليموت في وسط آلامه
أيوب | باسم الله يدعو أيوب للحوار معه
أيوب | دعوة أيوب إلى التأمل جيدًا في كلمات الله العجيب
الأنبا أنطونيوس قصة أيوب إبليس لم يكن هو القوي، بل الله الذي سلم إليه أيوب لامتحانه
أربع جولات للشيطان ضد أيوب وعتاب أيوب مع الله


الساعة الآن 07:55 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024