الراهب القمص بطرس البراموسي
قراءة في حياة : الأنبا سيرابيون السباني
لقد بلغ حرص الآباء في حياتهم الروحية حدًا لا يُعقَل بفهمنا البسيط للأمور، فكنوا يقظين دائمًا لحروب الشياطين، سواء إذا كانت بالفكر أو بالقول أو بالفعل، وبلغ تدقيقهم في ممارساتهم اليومية حدًّا فوق إدراكنا، وهذا هو الفارِق بيننا وبينهم. فنحن في أوقات كثيرة يغلب علينا التراخي والتهاون وعدم اليقظة، وما أصعب في ذلك أن الإنسان قد يتلذَّذ بحياة الخطية والشهوة والمُتَع المختلفة، ومع كل ذلك نقول أننا نريد أن نكون قديسين مثلهم!
فطريق القداسة مفتوح أمام الجميع، بل هي شهوة قلب الله ووصيته القائلة: "بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ»" (1 بط 1: 15، 16). وقد قيل في سفر الرؤيا أن الله سمح بمحاربة البشر حتى القديسين، وقد يغلب الشيطان القديسين إذا ما تهاونوا في جهادهم وحياتهم الروحية: "وَأُعْطِيَ أَنْ يَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَيَغْلِبَهُمْ، وَأُعْطِيَ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّةٍ" (رؤ 13: 7).
لذلك حرص الآباء في حياتهم أن كل يوم يجاهدوا من أجل الخطايا التي يقعوا فيها، لكيما ينالوا الغلبة والنصرة عليها، ويحيوا في بر وقداسة.
وأذكر لك أيها الحبيب بهذه المناسبة ما ذُكِرَ عن القديس أنبا سيرابيون السباني، ومدى حِرصه وجهاده وتدقيقه مع نفسه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقد قيل عنه أنه كان من أهل مصر، من الآباء المشهورين بالفضل، وكان يُعْرَف بـ"السباني"(2). ولم يكن يمتلك شيء البتة، ولا حتى عصا أو حذاء سوى إنجيل صغير، وكان يرتدي ثوبًا كأنه كفن. كما قيل أن حياته كانت تشبه حياة أحد طيور السماء، فلم يأو تحت سقف، بل كان يطوف هكذا في البراري. ولم يُبال بشيء من أمور الدنيا ولا حتى بحسده، كأنه بلا جسد! وكان في كل أموره يؤثِر راحة قريبه على راحته، وكان عميقًا في عبادته، جيد القراءة، ويتلو عن ظهر قلب كل الأسفار الإلهية. ولذلك فقد بلغ إلى كافة الفضائل حتى صارت طبيعة فيه. [وهنا لأدعوك أيها القارئ أن تُمَرِّر هذه الكلمات دون أن تفكر فيها.. كم من الوقت احتاج أن يحفظ فيه كل الأسفار الإلهية، وكم من جهاد جاهده ضد النوم الجسدي].
وقال هو هن نفسه: "عندما كنت صبيًّا مع الأب ثيؤناس، تغلَّبت على العدو عادة في أنني بعد أن آكل مع الشيخ في الساعة التاسعة من النهار(3)، كنت أختبئ في ملابسي خبزة لآكلها بعد ذلك خِلسة بدون عِلمه. ورغم أنني كنت مخطئًا لخضوعي لمشيئتي، إلا أنني بينما كنت راضيًا عن ذلك حدث أنني رجعت إلى نفسي، وعذَّبت نفسي إلى درجة فاقت مسرّة الأكل، ولذا إنني بينما كنت خجلًا من كَشْف هذا الأمر للشيخ، حدث بتدبير من الله أن جاء بعض الأخوة ليطلبوا مشورة الشيخ، فتكلَّم الشيح معهم عن الشره وسيطرة الأفكار الخفية، مُظْهِرًا طبيعتها وقوتها طالما بقيت في خِفية. وحينئذٍ تَغَلَّبَتْ عليَّ قوة هذا الحديث الذي نخس ضميري، وشعرت أن الرب كشف هذا الأمر للشيخ. ولما ازداد شعور التوبيخ والندم في قلبي انفجرت باكيًا. ثم أخرجت الخبزة التي أخفيتها في ملابسي ووضعتها وسط الحاضرين، وانطرحت على الأرض طالِبًا المغفرة، مُعترِفًا بما كنت فعلته خِلسةً، وتوسلت إليهم بدموع غزيرة أن يتضرّعوا للرب لكي يحررني من هذه العبودية. فقال لي الشيخ: "ثِق يا بُنيَّ أنه حتى بدون تضرعي، فإن اعترافك يحررك من هذه العبودية، لأنك بذلك تكون قد انتصرت اليوم على عدوك بعد أن كنت تسمح له بسكوتك أن يسود عليك، كما قال سليمان الحكيم: "لأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْعَمَلِ الرَّدِيءِ لاَ يُجْرَى سَرِيعًا، فَلِذلِكَ قَدِ امْتَلأَ قَلْبُ بَنِي الْبَشَرِ فِيهِمْ لِفَعْلِ الشَّرِّ" (جا 8: 11). فبعد أن أخرجت هذا الأمر من الظُلمة إلى النور، فلن تستطيع الحية الحمقاء أن تغلبك في هذا الأمر مرة أخرى.
دعني أذكرك وأذكِّر نفسي أيها الحبيب: أين نحن في حرصنا لحياتنا الروحية ومُحاربة العدو من حِرص الآباء الذين سبقونا ونالوا المواعيد الإلهية بجهادهم المستمر وأمانتهم مع نفسهم، وتدقيقهم في كل شيء حتى صغائر الأمور؟!