رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الإنباء بصَليب أتباعه طلب يسوع من تلاميذه أن يتبعوه ويتألموا معه، وذلك من خلال أربعة أقوال : الأقوال الثلاثة الأولى تتركز على الزُّهد في الذَّات وحمل الصَّليب مع يسوع. والقول الأخير يتناول مجد القيامة. ا) الزُّهد في الذَّات وحمل الصَّليب القول الأول: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متى 16: 24). يشترط يسوع لمن يريد أن يتبعه أن يزهد في نفسه. وهذا الأمر يتطلب منه أن يقطع كل ما يشدُّ الإنْسَان إلى العَالَم الأرضي والأسرة والمَال ومَسرَّات هذا الدهر:" لا تُحِبُّوا العَالَم وما في العَالَم. مَن أَحَبَّ العَالَم لم تَكُنْ مَحَبَّةُ اللهِ فيه. لأَنَّ كُلَّ ما في العَالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآبِ، بل مِنَ العَالَم. العَالَم يَزولُ هو وشَهَواتُه. أَمَّا مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله فإِنَّه يَبْقى مَدى الأبد" (1 يوحنا 2: 15-17). ويُعلق الرَّاهب الدومنيكاني جان تولير "عليك التَّخلّي أوّلاً عن كلّ خيرٍ خارجيّ أو داخليّ تعلّقتَ به، واضعًا فيه كلّ الرضى. هذا التخلّي صليب مؤلم، وهو أكثر إيلامًا كلّما كان التعلّق أشدّ وأقوى"(العظة 59، الرّابعة بمناسبة عيد ارتفاع الصَّليب). فالزُّهد في النَّفس معناه أنّنا في كلّ لحظة من حياتنا نقول (لا) للذات، ونقول (نعم) للربّ. فالزُّهد في النَّفس يعني إنزال الذَّات من على العرش، وتمليك الرَّبّ على هذا العرش، وبكلمة أخرى، هو اتِّخاذ إنجيل التَّطويبات قاعدة للحياة. يشترط يسوع لمن يريد أن يتبعه أن يحمل صليبه كما حمله هو، وان يكون مستعدًا لحَمْل صليب طبيعته الساقطة الخاطئة ومفتخرًا بضعفه التي لا خلاص له إلاَّ بالثَّبات في المسيح. وبدعوة يسوع تلميذه لحمل صَليبه، فإنه يدعوه إلى معرفة يسوع وقوة قيامته وشركة آلامه متشبِّهين بموته، كما جاء في تصريح بولس الرَّسُول" فأَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه والمُشارَكَةَ في آلامِه فأَتمثَّلَ بِه في مَوتِه (فيلبّي 3: 10)، وإنّ حَمْلنا صليبنا هو شركة في آلام المسيح وموته وقيامته. وفي هذا الصَّدد يقول بولس الرَّسُول " فإِنِّي أَفتَخِرُ راضِيًا بِحالاتِ ضُعْفي لِتَحِلَّ بي قُدرَةُ المَسيح" (2 قورنتس 12: 9). يستخدم يسوع أسلوب الإقناع مع تلاميذه، إذ قبْل تقرير المصير لمن يريد أن يتبعه، يطلب يسوع منه أن يعرف بمن يتبع، ويُبرهن عن أنَّه يستطيع ذلك فيشترط عليه الزُّهد: "فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه"(متى 16: 24). هناك وجهان للزُهد: الوجه الداخلي هو أن يزهد الإنْسَان بنفسه، ويُعلق أحد المفسرين "يزهد الإنْسَان في نفسه عندما يُحبُّ الله، ويُحبُّ الله عندما يُبغض المَرء شهواته الجَسدية. تكمن في داخلنا وفي أفكارنا وقلوبنا وإرادتنا قوّةٌ غير عادية تعمل دائمًا كلَّ يوم، وفي كل لحظة، لإبعادنا عن الله؛ تقترح هذه القوة علينا أفكارًا ورغبات واهتمامات ونيّات ومشاغل وكلمات، وأعمال باطلة تُثُير فينا الشَّهوات، وتدفعها بعنفٍ فينا، مثل المكْر والحَسد والطَّمع والكِبرياء والمَجْد البَاطل والكَسل والعِصيان والعِناد والخِداع والغَضب". أمَّا القديس يوحنا الذهبي الفم فيُعلق "يزهد الإنْسَان في نفسه عندما لا يهتمّ بجسده متى جُلد أو احتمل آلامًا مُشابهة، إنّما يحتملها بصبر". أمَّا الوجه الخارجي في اتباع يسوع فهو أن يحمل الإنسان صَليبه. الصَّليب الذي عليه أن يحمله: إنه صليبه الخاص؛ صليب طبيعته الساقطة الضَّعيفة التي لا خلاص لها إلاَّ بالثَّبات في المسيح. وهذا الأمر يتطلب والاعتراف الدَّائم انه دون المسيح يعجز المرء عن البلوغ إلى الِبرِّ والقداسة، كما صرّح يسوع " بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً" (يوحنّا 15: 5). ويعلق القدّيس قيصاريوس، راهب وأسقف آرل " ما معنى "يَحمِلْ صليبَه"؟ فيجيب باسم يسوع "أن يتحمّل كلّ ما يزعجه، هكذا سيتبعني. حين يتبعني، ملتزمًا بحياتي وبوصاياي، سيجد على الطريق أشخاصًا كثيرين سيعارضونه ويُحاولون تغيير مساره، أشخاصًا لن يكتفوا بأن يَسخروا منه، لكنّهم سيضطهدونه" (العظة 159). لا ولن يقدر أحد أن يحمل صليب المسيح سوى المسيح، وهو الذي حمله وحده بإرادته وكامل رضاه ومسرَّته عن البشرية كلها " لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنّا 3: 16)، ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم " كأن يسوع يقول لبُطرس: أنت تنتهرني، لأنِّي أريد أن أتألّم، لكنّني أخبرك، بأنَّه ليس فقط من الخطأ أن تمنعني عن الآلام، وإنما أقول لك أنك لن تقدر أن تخلُص ما لم تمُت أنت أيضًا". لا يقدر أحد أن يتبع السَّيد المسيح ما لم يدخل دائرة الصَّليب، وقد أكَّد ذلك يسوع بقوله " مَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 38). ويُوضح القدّيس بونافَنتورا من خلال سيرة القديس فرنسيس معنى حمل الصَّليب "ليس عذاب جسد فرنسيس مَن سوف يحوّله ليتشبّه بالمسيح مصلوبًا، إنّما المحبّة التي تلهب قلبه هي التّي سوف تقوم بذلك "(حياة القدّيس فرنسيس). القول الثاني: "لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 25)؛ لماذا يطلب يسوع من الإنْسَان أن يُضحِّي بنفسه؟ يطلب يسوع من تلميذه أن يضحِّي بنفسه لكي يكون مستعدًا لبذل الذَّات حتى الموت. وهذا الأمر يقتضي من التِّلميذ تخصيص جميع الموارد الفكريّة، والإرادة، والقلب، والخيرات الروحيّة والمَاديّة، والحُرّيّة الشَّخصيّة، للرَّبّ، لأن يسوع وحده يستطيع أن يخلِّص حياة الإنْسَان، كما جاء في تعليم يوحنا الرَّسُول "مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العَالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة " (يوحنّا 12: 25). لقد جاء المسيح إلى العَالَم " لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنّا 10: 11). لا تتوقف النظرة عند حدِّ الآلام بل تتجاوزها إلى القيامة. فالمسيح قام والتَّلاميذ سيقومون كما قام المسيح " لذا صرّح يولس الرَّسُول عن إيمانه بقوله "الحَياةُ عِندي هي المسيح، والمَوتُ رِبْح" (فيلبي 1: 21). يعلق القدّيس توما الأكوينيّ اللاهوتيّ " يتمجّد بعض الناس بمعرفتهم؛ لكنّ بولس الرَّسول يجد المعرفة السامية في الصليب. فقد قال" فإِنِّي لم أَشَأْ أَن أًعرِفَ شَيئًا، وأَنا بَينَكُم، غَيرَ يسوعَ المسيح، بل يسوعَ المسيحَ المَصْلوب"(1 قورنتس 2: 2) (تعليق على الرسالة إلى أهل غلاطية، الفصل 6). القول الثالث: "ماذا يَنفَعُ الإنْسَان لو رَبِحَ العَالَم كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ وماذا يُعطي الإنْسَان بَدَلاً لِنَفسِه؟ (متى 16: 26). ما فائدة زُهد المرء في نفسه وحمل صليبه؟ يجيب المسيح فمن يحمل صليبه ويُضحِّى بحياته أمانة ليسوع والإنجيل البشير لا يخسر حياته، إنَّما يربحها للحياة الأبدية. وهذا ما اختبره بولس الرَّسُول "أَنَّ ما كانَ في كُلِّ ذلِكَ مِن رِبْحٍ لي عَدَدتُه خُسْرانًا مِن أَجلِ المسيح" (فيلبّي 3: 7)؛ إن صليب التَّلاميذ هو صليب التناقض بين من "يربح يخسر؛ وبين "يخسر يربح"؛ وخير مثال على ذلك فإن إسكندر المقدوني استطاع أن ينطلق في مغامرة رائعة فاحتلَّ الكوْنَ كلَّه، ولكنَّه مات. فماذا نردُّ لمن فقد حياته؟ ماذا ندفع له لكي يجدها ثانية؟ هذا مستحيل. الحياة أثمن ما لدى الإنْسَان، أمَّا المسيح فهو الذي يُعطي الإنْسَان سبيلاً لخلاصها، وهذا السبيل هو أن يَزْهد المرء في حياته، ويحمل صليبه من أجل يسوع وإنجيله الطاهر. كلُّ موت في سبيل يسوع تعقبه قيامة وحياة. لذلك كتب القدّيس أغناطيوس الأنطاكي في رسالته إلى أهل روما في وقت استشهاده: "ماذا تُفيد لي ملذّات العَالَم؟ ما لي وفتنة ممالك هذا العَالَم؟ إني أُفضِّل أن أموت مع المسيح من أن أملك أطراف المَسكونة، إني أطلب المسيح الذي مات من أجلنا، وقام أيضًا من أجلنا. ... إني أريد أن أكون لله. لا تتركوني في العَالَم، لا تتركوني ومُغريات الأرض. دعوني أبْلغ إلى النور النَّقي". هذا هو الصَّليب الذي ينتظر يسوع منا، وهذا هو الاضطهاد الذي ينتظر المسيحيين. يجب أن نضحِّي بحياتنا في سبيل ولائنا وإخلاصنا ليسوع وإنجيله الشريف، لأنّ خلاصنا هو على هذا الصليب. " لقد نال المسيح بصليبه المجيد، الخلاص لكلّ البشر. وفداهم من الخطيئة التي كانت تستعبدهم" (تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة فقرة 1730). إن دعانا يسوع إلى التضحية بحياتنا، هذا يعني أن يسوع له القدرة على خلاصها، وهذه هي القيامة حقًا التي تنتظر يسوع، وتنتظر تلاميذه. لا يقتصر حمل الصَّليب على التَّلاميذ فقط، بل على الجموع أيضًا. إن يسوع يوجّه كلامه إلى الجميع، ولا يستثني أحدًا، لان الوجود المسيحي هو رهن بوجود يسوع، ولذلك يتوجب على المسيحي أن يتبع المسيح، ويقتدي به، ويتحد به اتحادًا وثيقًا لنيل نعمة القيامة معه. ب) مجد القيامة القول الرابع "فسَوفَ يَأتي ابنُ الإنْسَان في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه" (متى 16: 27). ربط يسوع بين مصير التَّلاميذ ومصيره حيث أنَّهم إن لم يزهدوا من أجله في أنفسهم ويحملوا صليبهم، فهم ليسوا تلاميذه ولا هم مُحبُّوه. وحيث أنَّ كل موت من أجل المسيح تعقبه قيامة وحياة، يلزم أولاً هدم الإنْسَان القديم للحياة في الإنْسَان الجديد، خلال صَليب ربّنا يسوع المسيح وقيامته. فما نعيشه الآن في المسيح يسوع خلال الإيمان ننعم به في كمال المَجْد خلال القيامة. ويُعلق القدّيس كيرلُّس الأُورَشَليمي "نحن نعترف بالصَّليب، لأنّنا اختبرنا القيامة. لو بقي المَصلوب مَيتًا، لما كنّا اعترفنا بالصَّليب، بل كنّا أخفيناه، وأخفينا سيّدنا يسوع المسيح. لكنّ القيامة جاءت بعد الصَّليب، ولا نخجل من الحديث عنه" (التعليم المسيحي العمادي الثالث عشر). إن كان الإيمان هو أساس الملكوت يلزم أن يكون "عَمليًا"، أي من خلال الزُّهد في النَّفس وحمْل الصَّليب واتِّباع يسوع حتى يقدّم لنا السيّد الأكاليل الأبديّة مُجازيًا " الإنْسَان بِحَسَبِ عَمَلِه"(مزمور 62: 13). فالملكوت السَّماوي ليس غريبًا عن المَلكوت الدَّاخلي بل اِمتداد له. إن كان السيّد المسيح قد دفع تكلفة المَلكوت على الصَّليب، فإنّنا لا ننعم بهذا المَلكوت، ولا ننمو فيه ما لم نشترك إيجابيًا فيه بحمل الصَّليب مع عريس المَلكوت المَصلوب. نستنتج مما سبق أنَّ يسوع يتنبأ هنا عن صليبه، ويتحدث مباشرة عن صَليب تلاميذه، لانَّ الصَّليب هو طريق المَجْد الوحيد، ألم يقُل "أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟" (لوقا 24: 26)، وهو صليب تلاميذه أيضًا على خُطاه. وسيتحمل التَّلاميذ نفس الآلام كمعلمهم وسيكافئون مثله في النهاية. فالألم والموت سيتحوَّل إلى مَجد القيامة. الموت والقيامة هما قلب الإنجيل، ونواة الإيمان في الجماعة المسيحية الأولى. إن حدث الصَّليب والقيامة يدوم ويجتذب إلى الحياة كل شيء، كما جاء في تعليم المسيحي الكاثوليكي (بند 1085). |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الإنباء بإنكار بطرس |
الإنباء بخيانة يهوذا |
الإنباء بصلبه |
الإنباء بصليب يسوع |
الإنباء بصليب أتباعه |