رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
خطايا يهوذا بين الحين والآخر يكشف الله لنا لا عن خطورة الخطية وفاعليتها فحسب، وإنما يعلن عنها في تفاصيلها كما عن أثرها في أعماق الإنسان وطبيعته، حتى نحذر منها فنهرب إليه، بكونه الطبيب والدواء، يستطيع وحده أن يجدد طبيعتنا ويهبها الشفاء! 1. الخطية المحتلة للقلب: 1 « خَطِيَّةُ يَهُوذَا مَكْتُوبَةٌ بِقَلَمٍ مِنْ حَدِيدٍ، بِرَأْسٍ مِنَ الْمَاسِ مَنْقُوشَةٌ عَلَى لَوْحِ قَلْبِهِمْ وَعَلَى قُرُونِ مَذَابِحِكُمْ. 2 كَذِكْرِ بَنِيهِمْ مَذَابِحَهُمْ، وَسَوَارِيَهُمْ عِنْدَ أَشْجَارٍ خُضْرٍ عَلَى آكَامٍ مُرْتَفِعَةٍ. 3 يَا جَبَلِي فِي الْحَقْلِ، أَجْعَلُ ثَرْوَتَكَ، كُلَّ خَزَائِنِكَ لِلنَّهْبِ، وَمُرْتَفَعَاتِكَ لِلْخَطِيَّةِ فِي كُلِّ تُخُومِكَ. 4 وَتَتَبَرَّأُ وَبِنَفْسِكَ عَنْ مِيرَاثِكَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ إِيَّاهُ، وَأَجْعَلُكَ تَخْدِمُ أَعْدَاءَكَ فِي أَرْضٍ لَمْ تَعْرِفْهَا، لأَنَّكُمْ قَدْ أَضْرَمْتُمْ نَارًا بِغَضَبِي تَتَّقِدُ إِلَى الأَبَدِ؟ قبل أن يحدثنا عن أهم الخطايا التي سقط فيها هذا الشعب، والتي نسقط نحن فيها بصورة أو أخرى صوّر لنا خطورة هذه الخطايا بكونها تحتل القلب نفسه الذي كان يلزم أن يكون هيكلًا لله، وتنحت على قرون المذبح الداخلي، فتفوح رائحة الدنس فينا عوض رائحة المسيح الذكية. "خطية يهوذا مكتوبة بقلمٍ من حديد، برأسٍ من الماس، منقوشة على لوح قلبهم، وعلى قرون مذابحكم" [1]. يقول العلامة أوريجينوس: [توجد نبوة أخرى، لا أدرى كيف أنها غير موجودة في الترجمة السبعينية لكننا نجدها في النسخ الأخرى، خاصة وأنها موجودة في العبرية. هذه النبوة مليئة بالتعاليم الهامة والضرورية، التي إن طبقناها في حياتنا يمكنها أن تقودنا إلى التوبة. إليكم كلماتها: "خطية يهوذا مكتوبة بقلمٍ من حديدٍ برأسٍ من الماس منقوشة على لوح قلبهم" [1]. يمكننا أن نلجأ إلى التفسير السهل فنقول إن "الخطايا المكتوبة" هي خطايا شعب اليهود. لكننا إن دققنا النظر كما وضحنا قبل ذلك فإن كلمة "يهوذا" يُقصد بها السيد المسيح، لذلك تصبح "خطية يهوذا" هي خطيتنا نحن الذين نؤمن أن السيد المسيح جاء من سبط يهوذا. إن أردت أيضًا تفسيرًا آخر لتلك الآية، يمكننا القول بأن النبي يقصد هنا يهوذا الاسخريوطى الخائن، بذلك تقول النبوة عنه: "خطية يهوذا مكتوبة بقلمٍ من حديدٍ، برأسٍ من الماس منقوشة على لوح قلبهم"، ولكن جاءت كلمة "قلبهم" بصيغة الجمع لا تلائم حالة يهوذا الخائن. ألا تنطبق هذه النبوة علينا نحن بالأكثر؟ لقد أخطأنا وخطيتنا لم تُكتب خارجًا عنا، إنما في قلوبنا، كُتبت بقلمٍ من حديد وبرأسٍ من الماس. ستثبت التجربة أن الخطايا التي نرتكبها تُكتب في داخلنا بمجرد أن نرتكبها. كما لو كانت "علامة" الخطية تُنقش في داخل نفسي لمجرد إني ارتكبتها. لو كانت خطيتي قد كُتبت بالحبر، لاستطعت أن أمحوها، ولكن ها هي قد كُتبت بقلم من حديد وبرأس من الماس، وكتبت كذلك في قلبي، لكن إذا ما وقفت لأحاكم في اليوم الأخير، تتحقق النبوة القائلة: "لأنه ليس مكتومًا إلا سيظهر ولا خفيًا إلا سيعلن". سيتم الكشف عن قلبي لأقف عاريًا أمام الجميع، حيث يقرأ الكل علامات الخطايا المكتوبة بالقلم الحديدي وبرأس الماس التي ستكون ظاهرة لجميع الناس. ُكتب عن ذلك: "إذًا لا تحكموا في شيء قبل الوقت حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام ويظهر آراء القلوب" (1 كو 4: 5)، لِمَن سُيظهرها؟ ليس لنفسه، لأنه هو العارف كل الأشياء قبل أن تكون، إنما سُيظهر آراء القلوب للناس الأتقياء الأنقياء الذي بنقائهم يستطيعون أن يروا خطايا الناس الذين أخطأوا، حتى "يستيقظون إلى العار للازدراء الأبدي" (دا 12: 2). ليحفظنا رب جميع الأشياء لكي نستيقظ ونقوم في اليوم الأخير بالمجد الذي للمسيح يسوع، الذي له المجد والقدرة والسلطان إلى دهر الدهور آمين ]. تحتل الخطية القلب نفسه، وكما يقول القديس أمبروسيوس: [تُوجد الخطية في موضع النعمة، لكن الخطية تُكتب بقلم أما النعمة فبالروح]. تُسجل الخطايا التي نرتكبها في داخلنا لأننا نرتكبها بإرادتنا، وعلامة تسجيلها ليس فقط أنها تُعلن في يوم الرب، وإنما تظهر أيضًا فينا حاليًا إذ يسيطر فينا الشر، ويجد إبليس عدو الخير له فينا موضعًا، يصير له الحق أن يعمل فينا عوض السلطان الذي صار لنا وبه ندوس عليه تحت أقدامنا. بارتكابنا الخطية نفقد سلطاننا الداخلي، خاصة على الأفكار والأحاسيس. في هذا يقول الرسول بولس: "أفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة" (رو 2: 15). ماذا يعني بقلبهم [1] هنا؟ الكلمة العبرية التي تترجم هنا "القلب" يمكن أيضًا ترجمتها "العقل" أو "الإرادة"، ويقصد بها القوة المركزية داخل الإنسان التي توجهه ليأخذ قراراته. وأيضًا بالنسبة للجماعة تعني أصحاب السلطة الذين يعطون قراراتهم. القلب هنا يعني إرادة مملكة يهوذا، إذ سبق فقال: "انزعوا غُرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم" (إر 4: 4)، كما قال: "اغسلي من الشر قلبكِ يا أورشليم" (إر 4: 14). ملك الشر عميقًا في قلوبهم، وسيطر على إرادة الجماعة كلها، لهذا صارت الحاجة إلى عهد جديد يمس أعماق القلب، ويقدس الإرادة الداخلية، ويجدد الطبيعة البشرية. عن هذا العهد يقول: "ها أيامتأتييقول الرب، وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا... اجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا" (إر 31: 31-33). ما دامت تخرج الخطية من أعماق القلب ومن خلال الإرادة، فالحاجة إذن إلى عهدٍ جديدٍ لا تُكتب فيه الشريعة على ألواح حجرية بل تخترق الأعماق الداخلية. بلغت الخطية قلب مملكة يهوذا، إذ احتلت أورشليم مدينة الله المقدسة، وبلغت قلبها، وتعلقت بقرون المذبح بكونها قلب المذبح، أو أقدس موضع فيه (لا 16: 18، عا 3: 14)، هذا الذي من خلاله تتم المصالحة بين الله والشعب، ويتمتع الشعب بقوة الله وإمكانياته (القرون)، فصارت منقوشة بآلة حديدية خاصة بالنحت، هذه التي لا يليق أن تمس مذبح الله (تث 27: 5؛ خر 20: 25). بإصرارهم على الشر استخدموا آلة رأسها من الماس ليسهّل عملية الحفر أو النقش. الاتهام بحق خطير لأنه يمس حياة الشعب كله في علاقته بالله، كما يمس المقدسات الإلهية، وأيضًا العمل الكهنوتي! قدم الله لشعبه لوحيّ الشريعة منقوشين على حجارة بأصبعه الناري (خر 32: 6)، وجاء تجاوب الشعب مناقضًا لذلك، إذ قدموا خطيتهم منقوشة على مذبح الرب. هو يقدس قلوبنا الحجرية ليعمل منها مَقْدِسًا له، ونحن في شرنا ندنس حتى مقدساته. يفسر كثير من الدارسين ما ورد في هذا القسم (إر 17: 1-4) على أنه يخص خطايا جنسية واباحية ورجاسات. لما كانت الخطية الرئيسية التي ارتكبتها مملكة يهوذا - حسب سفر إرميا - هي الخيانة الزوجية أو الزنا الروحيّ، لهذا يفسر البعض عبارة: "خطية يهوذا مكتوبة بقلمٍ من حديدٍ، برأسٍ من الماس منقوشة على لوح قلبهم وعلى قرون مذابحكم" [1]، هو أنهم كانوا ينحتون على المذابح خاصة قرونها الأربعة الأعضاء الجنسية للذكر ويتعبدون لها... صورة بشعة للانحطاط الأخلاقي والرجاسات التي بلغها الشعب علانية، حيث كانوا يمارسون ما يُدعى بعبادة الذكر Phallic worship. "كذكر بنيهم مذابحهم وسواريهم عند أشجارٍ خضرٍ على آكام مرتفعة" [2]. السارية هي عمود خشب مستقيم يُثبت على الأرض بجوار المذبح، وهو يمثل إلهة الخصوبة، هذه التي من أجلها وبخ الله شعبه قائلًا: "قائلين للعود أنت أبي" (إر 2: 27)، كنوع من السخرية، لأنها مؤنث ويخاطبونها كأبٍ لا كأم، أي فقدوا روح التمييز الطبيعي. يرى R.E. Clementsأن إقامة السواري مرتبط بطقوس خاصة بالخصوبة، إذ كانوا يتطلعون إلى الخصوبة والممارسات الجسدية كأمرين يمسان قوة الحياة السرية، لهما آثارهما حتى على محاصيل النباتات واخصاب الحيوانات. هذه القوة تصدر عن ممارسات بين الآلهة والإلهات، وإن ممارسة الرجال والنساء ومشاركتهم في هذه الطقوس تعطيهم قوة الحياة. لعله لهذا السبب كانت الرجاسات ُتمارس بجوار مذابح ُمقامة تحت كل شجرة خضراء على أكمة مرتفعة، لكي تقدم الآلهة الخصوبة للنباتات والحيوانات كما للإنسان. لا يقف الأمر عند خصوبة النباتات والحيوانات، وإنما هذه الممارسات -في ذهنهم- تهبهم قوة للصراع ضد قوى الموت السرية غير المنظورة. وكأن الخصوبة والجنس يمثلان حياةً أو موتًا، بقاءً أو دمارًا! لهذا لا نعجب إن ارتبطت المذابح والسواري بالممارسات الدنسة والرجاسات كطقس ديني، كما يظهر من (2 مل 23: 5-7). أما ثمر ذلك فهو: "يا جبلي في الحقل، أجعل ثروتك كل خزائنك للنهب ومرتفعاتك للخطية في كل تخومك، وتتبرأ بنفسك عن ميراثك الذي أعطيتكَ إياه، وأجعلك تخدم أعداءك في أرضٍ لم تعرفها، لأنكم قد أضرمتم نارًا بغضبي تتقد إلى الأبد" [3-4]. على ضوء ما سبق الإشارة إليه بخصوص ارتباط الوثنية بالرجاسات يرى بعض الدارسين مثل Holladay أن الثروة والخزائن هنا إشارة إلى أعضاء الذكر بشيء من السخرية، حيث كان معتقدهم هكذا. إذ عبدوها صار الجزاء من ذات النوع، حيث خصى الأعداء رجالهم العظماء حتى لا ينجبوا أولادًا يمكن أن يفكروا في العودة إلى أرض الموعد كميراثٍ لهم، بل يبقى المخصيون عبيدًا لسادتهم، الأمر الذي يمس وجودهم ذاته. هكذا لم تهبهم عبادتهم قوة الإنجاب ومقاومة الموت بل انهيارًا وتحطيمًا وموتًا! 2. الاتكال على ذراع بشري: 5 «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: مَلْعُونٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الإِنْسَانِ، وَيَجْعَلُ الْبَشَرَ ذِرَاعَهُ، وَعَنِ الرَّبِّ يَحِيدُ قَلْبُهُ. 6 وَيَكُونُ مِثْلَ الْعَرْعَرِ فِي الْبَادِيَةِ، وَلاَ يَرَى إِذَا جَاءَ الْخَيْرُ، بَلْ يَسْكُنُ الْحَرَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ، أَرْضًا سَبِخَةً وَغَيْرَ مَسْكُونَةٍ. 7 مُبَارَكٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الرَّبِّ، وَكَانَ الرَّبُّ مُتَّكَلَهُ، 8 فَإِنَّهُ يَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عَلَى مِيَاهٍ، وَعَلَى نَهْرٍ تَمُدُّ أُصُولَهَا، وَلاَ تَرَى إِذَا جَاءَ الْحَرُّ، وَيَكُونُ وَرَقُهَا أَخْضَرَ، وَفِي سَنَةِ الْقَحْطِ لاَ تَخَافُ، وَلاَ تَكُفُّ عَنِ الإِثْمَارِ. أول خطية تهاجم الإنسان هي اعتزاله الله مصدر حياته متكئًا على ذراعه البشري أو الأذرع الأخرى. يتحدث النبي ضد الذين لا يرون في الله أنه ينبوع حيّ، بل يشقون لأنفسهم آبارًا آبارًا لا تضبط ماءً (إر 2: 13). إنهم يجرون وراء سراب يحمل مياهًا خادعة (إر 15: 18). الآن يطالبهم الله بالتوبة، موضحًا لهم أن من يتكل على ذراعٍ بشري لا على الله يصير صحراء قفراء بلا ثمر. أما من يُصر على الاتكال على الله حتى في لحظات الضيق فسيأتي بثمرٍ حتى في وقت الجفاف أو القحط. سنة الجفاف لا تقدم ماءً لغير المتكلين على الله كما للمتكلين عليه، لكن الفارق أن الأولين يجفون كالعرعر ويصيرون كقشٍ بلا ثمرٍ أو كأرضٍ مملحة أو حجرية، أما الآخرون فبالإيمان تمتد جذورهم لتتمتع بالمياه الخفية وتقدم للساق والأوراق احتياجاتها فلا يتوقف الثمر. "هكذا قال الرب: ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان، ويجعل البشر (الجسد) ذراعه وعن الرب يحيد قلبه... مبارك الرجل الذي يتكل على الرب وكان الرب متكله" [5، 7]. لعله لهذا الهدف يسمح الله لنا بالضيقة حتى تتبدد أمامنا كل الأذرع البشرية ونجد الله هو الملجأ الوحيد لنا. وكما يقول القديس جيروم: [أتريد أن يسمع لك الرب متحننًا؟ أدعوه وأنت في الضيق فيجيبك مترفقًا. فإنه لا يقدر الإنسان أن يدعو الرب لمعونته إلا وهو في الضيق، حيث يكون ذراع الإنسان بلا قيمة]. يقدم الله لنا ذاته لكي نقتنيه سر قوة وشبع فلا نعتاز إلى شيء، أما إذ وضعنا ثقتنا في أنفسنا أو طاقاتنا أو خبراتنا الماضية أو سلطاننا أو اقربائنا أو أصدقائنا، أي نتكل على الجسد، ينسحب الله منا ونسقط! * يليق بنا أن نعتمد على الله وحده وليس على أحدٍ غيره، حتى إن قيل إنه جاء من فردوس الله، كما يقول بولس: "إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما" (غلا 1: 8). العلامة أوريجينوس * لينسحب الإنسان من ذاته، لا لينحط إلى أسفل! لينسحب الإنسان من ذاته ليلتصق بالله. القديس أغسطينوس * لنتحدث الآن عن الآية الموجودة في الأصحاح السابع عشر، والتي تقول: "ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل الشر ذراعه" (إر 17: 5). هذه الكلمات تساعدنا وتمكننا من الرد على الذين يعتقدون أن المخلص كان إنسانًا ولم يكن أبدًا ابن الله، لأنه إلى جانب جرائم الناس، فإن بعضًا منهم تجرءوا أن يقولوا إن "الوحيد الجنس والكائن قبل كل الخليقة" ليس هو الله."ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان"، يمكنني أن أقول إنني لا أتكل على إنسان؛ فحينما أتكل على السيد المسيح، لا أعرفه كإنسانٍ (موجود معي بالجسد)، لكنني أعرفه بكونه الحكمة والعدل، بكونه الكلمة الذي به كل الأشياء خلق ما في السموات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى. بالرغم من أن المخلص يشهد ويؤكد أن ما أخذه كان جسدًا بشريًا إنسانيًا، وبالرغم من أنه كان إنسانًا بالحقيقة، إلا أنه لم يعد إنسانًا في وقتنا الحاضر. لأنه "وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد" (2 كو 5: 16). أنا نفسي، بالسيد المسيح، لم أعد بعد إنسانًا، فهو يؤكد لنا: "أنا قلت أنكم آلهة وبني العلي تُدعَوْن". "ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه": أي ملعون الذي يعطي قيمة للأشياء الجسدية والمادية والذي يستخدم قوته الجسدية ويتكل على جسده. أما الإنسان البار فلا يجعل البشر ذراعه إنما يحمل في جسده كل حين إماتة الرب يسوع ويميت أعضاءه الجسدية، الزنا والنجاسة؛ وبإماتة أعضائه لا يتكل على ذراعه. هذه الآية أيضًا موجهة إلى الذين يتكلون على المراكز العليا والوسائط لمساعدتهم: إن صديقي فلان رجل سياسي كبير؛ أو محافظ؛ أو حاكم؛ أو أن صديقي هذا رجل غنى يعطيني بسخاء. يجب علينا ألا نتكل على أي إنسانٍ حتى ولو بدى صديقًا لنا. اتكالنا هو على ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي له المجد والقدرة إلى دهر الدهور. آمين. العلامة أوريجينوس * لا يمكننا القول بحق إن الإنسان لا يضع رجاءه في إنسان متى وضعه في نفسه.* إن وضعت رجاءك في إلهك لن تخزى، فإن الذي تضع فيه ثقتك لا يمكن أن يخدع. * ليس أحد يليق به أن يثق في ذاته ليصير مواطنًا في المدينة الأخرى الغير مدشنة باسم ابن قايين في هذا الزمان الحاضر، أي في الفترة الزائلة لهذا العالم الميت، وإنما في الخلود للبركة الدائمة. * ينبغي للشخص ألا يكون له فرحه في ذاته، إن تطلع إلى الأمر بوضوح، إذ لا يليق بأحدٍ أن يحب حتى ذاته لأجل ذاته، بل لأجل (الله)، ذاك الذي هو موضوع المتعة الحقيقية. * يلزمنا ألا نطلب شيئًا إلا من الله الرب، سواء ما نرجو عمله حسنًا، أو نرجو نواله كمكافأة عن الأعمال الصالحة. هذه هي الخطية الأولى: "الاتكال على ذراع بشر"، خاصة اتكال الإنسان على بره الذاتي أو قدراته أو مواهبه أو خبراته القديمة لا على ذراع الرب. مثل هذا يحرم نفسه من مجاري مياه الروح القدس، القادر وحده أن يقود نفسه بكل إمكانياتها، وجسده بكل أحاسيسه وقدراته ليحيا كشجرةٍ مثمرةٍ تحمل ثلاثين وستين ومائة! أشر خطية يمارسها الإنسان هي اتكاله على ذاته أو على الآخرين، وأجمل فضيلة يمارسها الإنسان هي أن يرتمي عل صدر الله ليتقبل عمل الروح القدس فيه، فيشكله على صورة المسيح ويجعله على مثاله، ويهبه شركة الطبيعة الإلهية، مهما بدت الظروف قاسية ومقاومة للعمل الإلهي! * ليته لا يغش إنسان نفسه، ليته لا يخدع أحد ذاته، فإن الرب وحده يقدر أن يرحم. هو وحده القادر أن يهب غفرانًا عن الخطايا التي اُرتكبت ضده، هذا الذي حمل خطايانا وتألم لأجلنا. القديس كبريانوس إذ كان إرميا النبي يتحدث عن التأديب بالقحط، لذا أوضح أن من يتكل على ذراعٍ بشري يصير كنبات العرعر الذي يظهر في منطقة العربة، هذا الذي سرعان ما يصير كالقش الجاف. أيضًا يشبه النبات المزروع في أرض مملوءة ملوحة، هذا وكان وجود الملح في التربة يُحسب لعنة. أما الذين يتكلون على الله فينالون ثمرًا حتى في فترة الجفاف أو القحط: "ويكون (المتكل على جسدٍ) مثل العرعرِ في البادية (الصحراء)، ولا يرى إذا جاء الخير، بل يسكن الحر في البرية أرضًا سبخة (حقولًا حجرية) مملحة وغير مسكونة. مبارك الرجل الذي يتكل على الرب. وكان الرب متكله. "فإنه يكون كشجرةٍ مغروسةٍ على مياه وعلى نهر، تمد أصولها ولا ترى إذا جاء الحر، ويكون ورقها أخضر، وفي سنة القحط لا تخاف، ولا تكف عن الإثمار" [6-8]. في المزمور الأول (مز 1) يتحدث المرتل عن الرجل الذي يتمتع بكلمة الله كينبوع مياه يجعله كشجرة دائمة الخضرة كثيرة الثمر، أما هنا فيكشف عن الأعماق الخفية، حيث يحمل الإنسان جذورًا خفية تستطيع أن تبلغ إلى المياه الجوفية العميقة لتروي الأوراق وتقدم الشجرة ثمارًا حتى في لحظات القحط، في الوقت الذي فيه يُحرم غيرها من مياه الأمطار أو الأنهار. 3. القلب نجيس! "9 «اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟! 10 أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ." [9-10]. نطق الرب بهذه الكلمات أولًا لكي يعطي راحة لإرميا النبي الذي كان يئن بسبب سقوط الشعب تحت السبي. كأن الله يقول له: تعالَ وأنظر إلى أعماق القلب الذي أنا وحدي أعرفه، إنه نجيس! إنه مستحق للموت! فالتأديب هو لصالحهم، كي يطلبونني فأنزع عنهم فساد قلوبهم! إذ شرح القديس جيروم هذه العبارة اقتبس القول: "ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم" (تك 6: 5). يرى Holladay أن كلمة "نجيس" هنا كما في ستة مواضع أخرى في العهد القديم من ثمانية (إر 15: 18؛ 17: 16؛ 30: 12، 15، إش 17: 11؛ ميخا 1: 9، أي 34: 6) جاءت بأسلوب طبي، حيث يظهر الإنسان معانيًا من الألم أو الكسر أو الجرح الداخلي، طبيًا لا يمكن علاجه!إنها مشكلة طبية لكنها لا تمس الأعضاء الظاهرة فحسب، بل أعماق الإنسان كما أعماق الجماعة، لأنها تمتد إلى الطبيعة البشرية. جاء السؤال هنا كما في كثير من المواضع في سفر إرميا لا إجابة عليه إلا بتدخل المسيا، إذ يتساءل: "من يعرفه؟" الإجابة: المسيا الذي خلقه وقادر أن يجدده! هو وحده يمكنه أن يدرك ما بلغ إليه حاله، وقادر أن يتدخل للعمل والعلاج. لهذا صرخ إرميا: "اشفني يا رب فأشفى، خلصني فأخلص، لأنك أنت تسبيحتي" [14]. كأن إرميا النبي في محبته لشعبه واتضاعه وصراحته يقول لشعبه: إنني وإن لم أشترك معكم في خطاياكم، لكنني أحسب خطاياكم هي خطاياي، وجرحكم هو جرحي. هذا وإنني لا أتكلم من موقع المعلم المرتفع على تلاميذه والمُبرر في عيني نفسه، بل من موقع الخاطى المجروح المحتاج معكم إلى طبيب ودواء! إلهنا ومخلصنا هو الطبيب وهو البلسان (إر 8: 22) لكم ولي! لقد سبق فتساءل: "هل يغير الكوشي جلده؟ أو النمر رقطه؟" (إر 13: 23). الآن لا يتحدث عن الكوشي أو النمر بل عن الطبيعة البشرية في كل العصور، كما اختبرها النبي في حياته اليومية، وكما رآها في حياة الشعب المحيط به... إنها تحتاج إلى علاج مسياني. يرى R.E. Clements أن كلمات النبي هنا عن القلب أنه نجيس يطابقها نظرة فرويد وتحذيره من قدرة العقل الإنساني على تحقيق خداع النفس، وكما يقول كثير من علماء النفس الحديثين إن الإنسان أقدر على خداع نفسه من خداعه للآخرين. * الله وحده الذي يعرف أسرار الإنسان. اسمع ما يقوله النبي: "أنت وحدك تعرف القلوب" (2 أي 6: 30)، وأيضًا: "الله يفحص القلوب ويملك" (مر 7: 9)، ويقول إرميا: "القلب عميق فوق كل الأشياء، وهو إنسان، من يعرفه؟!" [9]. ينظر الإنسان الوجه، وأما الله فينظر القلب" (1 صم 16: 7). القديس يوحنا الذهبي الفم * معرفة أسرار الناس تخص الله وحده...يقول إرميا: "القلب عميق أعمق من كل الأشياء، إنه إنسان، من يقدر أن يعرفه؟!" [9] (LXX). القديس يوحنا الذهبي الفم وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [يرى أيوب العالم مكانًا يتجرب فيه البشر على الأرض (أي 7: 1) فيتزكون في هذا العالم بالأحزان والأتعاب والغم، وينال كل واحد منهم المجازاة التي تتلائم معه، إذ يقول الله على لسان النبي: "أنا الرب فاحص القلب مختبر الكلى لأعطي كل واحدٍ حسب طرقه" [10]].4. الارتباط بالأرضيات: 11 حَجَلَةٌ تَحْضُنُ مَا لَمْ تَبِضْ مُحَصِّلُ الْغِنَى بِغَيْرِ حَقّ. فِي نِصْفِ أَيَّامِهِ يَتْرُكُهُ وَفِي آخِرَتِهِ يَكُونُ أَحْمَقَ!». 12 كُرْسِيُّ مَجْدٍ مُرْتَفِعٌ مِنَ الابْتِدَاءِ هُوَ مَوْضِعُ مَقْدِسِنَا. 13 أَيُّهَا الرَّبُّ رَجَاءُ إِسْرَائِيلَ، كُلُّ الَّذِينَ يَتْرُكُونَكَ يَخْزَوْنَ. «الْحَائِدُونَ عَنِّي فِي التُّرَابِ يُكْتَبُونَ، لأَنَّهُمْ تَرَكُوا الرَّبَّ يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ». إذ يتحدث فاحص القلوب عن قلب الإنسان معلنًا أنه نجيس يكشف عن سّر نجاسته وفساده، ألا وهو ارتباطه بالأرضيات عوض انطلاقه نحو الأبديات. يطلب الغنى لا فيما يليق بالقلب كهيكل الله المقدس، إنما بأمور العالم الزائلة وشهوات الجسد المؤقتة، فيكون أشبه بالحجلة التي تحتضن بيضًا ليس لها، فتتعب في الاحتضان وتضم ما ليس لها، وفي النهاية تظهر أنها سلكت عمرها كله بحماقة. "حجلة تنطق بصوتها (الترجمة السبعينية)، تحتضن ما لم تبض، محصل الغني بغير حق، في نصف أيامه يتركه، وفي آخرته يكون أحمق" [11]. غالبًا ما كان هذا مثلًا شائعًا في ذلك الحين، يُقصد به أنه إذ يظن الإنسان أنه يملك لكنه وهو يتعب ويشقى يخسر الكثير ويتركه الغني وهو بعد في العالم في منتصف أيامه، أما في آخرته فيدرك أنه سلك بحماقة. هذا هو التفسير الحرفي للعبارة؛ وقبل أن نلقي ضوءًا عليها خلال المفهوم الروحيّ العميق نود توضيح أن الحجلة هي طائر برّي، يسمى في العبرية "قوري"، وتعني "الصارخ أو المنادي" ولعله لهذا السبب جاء في النسخة السبعينية: "حجلة تنطق بصوتها" أو "تعطي صوتها"، إنها صاحبة أصوات لكن بلا عمل حق! هكذا الغني في جهاده المرّ من أجل التمتع بالغنى ماديًا أو الشبع جسديًا يكون كمن يعطي صوتًا بلا عمل، لأنه يترك كل شيء ويخرج عريانًا من هذا العالم. توجد الحجلة في فلسطين ويستخدمها الصيادون كطُعم لاصطياد بعض حيوانات البرية (ابن سيراخ 11: 30)؛ ويوجد منها نوعان في فلسطين: حجل الصحراء أو حجل هأي الرملي Amoperdix heyi الذي قارن داود النبي نفسه به حاسبًا نفسه كحجلٍ مطارد (1 صم 26: 20)، والثاني حجل الشوكار Caccabis Chukar ويمتاز بلحمه الشهي للغاية، يطارده الناس حتى يلتقطونه بأيديهم، له ريش بهي الألوان عند طرفي الجناحين وساقان ومنقار أحمر داكن وعنق أسود قاتم، وهو طائر كبير. يُقال إنه يصنع عشه في الأرض لا على الأشجار، لذا يسهل الوصول إلى صغاره. جاءت كلمة "حجلة" هنا بالمذكر، لأنه من عادة هذا الطير أن تقوم الأنثى باحتضان بعض البيض والذكر البعض الآخر. أما التعبير "في نصف أيامه يتركه" فجاء في العبرية يحمل معنيين: إما أن الشخص الغَني يترك غناه (بموته)، أو العكس الِغنى ذاته يترك الإنسان حيث يفتقر الأخير. ولعل إرميا النبي يقصد المعنى الثاني حيث يُساق الملك إلى السبي ويفقد خزائنه فكان غبيًا لأنه لم يسمع لصوت الرب، فقد غناه الزمني ومجده وأبديته. هكذا كل خاطي متمسك بشره، إنما يحتضن ما ليس له ليتركه، وقد تحدث إشعياء النبي عن الأحمق قائلًا: "لأن اللئيم (الأحمق) يتكلم باللؤم وقلبه يعمل إثمًا ليصنع نفاقًا، ويتكلم على الرب بافتراء، ويفرغ نفس الجائع، ويقطع شرب العطشان" (إش 32: 6). يرى القديس هيبوليتس أن هذا الطائر متعجرف، فإنه إذ ترى الحجلة عش حجلة أخرى به صغار دون أمه يصنع صوتًا تقلد به صوت الأم وتدعو الصغار إليها وتأخذهم وتجري بهم. فتبتهج متكبرة أنها استولت عليهم، لكن إذ تأتي الأم الحقيقية وتنادى بصوتها يكتشف الصغار خداع الأولى ويتركون المخادعة ويذهبون إلى الأم الحقيقية. هذا يحدث عندما يأتي ضد المسيح، فإنه يجتذب البشرية إليه بخداع ليملك على من هم ليسوا له ويعدهم بالخلاص مع أنه غير قادر على خلاص نفسه. تشير الحجلة إلى إبليس وجنوده خاصة الهراطقة، تعطي صوتها الذاتي، ولا تنطق بما لله، أما أولاد الله فينطقون بما لله لا بما لذواتهم، وكما يقول الرسول بولس: "إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيَّ" (2 كو13: 3). يتحدث القديس غريغوريوس النيصيعن الإنسان الذي يرتبط بحيل إبليس ويسقط تحت خداعات العدو: [لا يعود الله الصالح الحقيقي والآب إلهًا وأبًا لذاك الذي بفساده يصير خارجًا عن القانون... وعوض الآب يأتي من يبدو أبًا والذي باطلًا يدعى الحجلة التي تحتضن ما لم تبض كقول إرميا]. يرى العلامة أوريجينوس أن الشيطان هو الحجلة مثل فرعون الذي لا يريد من الشعب إن يترك أرضه ليعيد الرب. * إنه (إبليس) لا يريدنا أن نترك أرضه (خر 1: 11)، بل يريدنا دائمًا أن نحمل صورة الترابي" (1 كو 15: 49). لكننا إن التجأنا إلى خصمه، ذلك الذي أعد لنا ملكوت السموات، يلزمنا أن نترك صورة الترابي ونقبل صورة السماوي. العلامة أوريجينوس يعلل العلامة أوريجينوسرمزية الحجلة لإبليس وتابعيه، قائلًا إن الحجلة ماكرة ومخادعة كما أنها دنسة. ماكرة تحوم حول أقدام الصيادين لتسحبهم بعيدًا عن العش وإذ تطمئن أن الصغار قد هربوا تفرد جناحيها وتطير، هكذا لا ينال الصياد شيئًا. إنها كإبليس الذي استخدم الحية القديمة أحيل حيوانات البرية التي حامت حول الإنسان ولم ينل منها شيئًا. ويتحدث العلامة أوريجينوس أيضًا عن الحجلة كحيوان يمثلٍ الدنس لأن الذكور تتشاحن معًا للتزاوج فيما بينها.الحجلة التي تحتضن ما لم تبض هي إبليس الذي يبسط شباكه خلال الهراطقة فيقتنص في أحضانه البسطاء، هؤلاء الذين هم ليسوا من خليقته ولا مولودون منه، إنه يقتنيهم بالخداع والدنس. لا يقدر إبليس أن يقول: "خرافي تسمع صوتي" (يو 10: 7)، لأنها ليست خرافه بل هي خراف الله الناطقة التي يسحبها من مصدر حياتهم ويحسبها أولادًا له. وللأسف فإن الحجلة قد اغتنت جدًا، لكنها تركتهم في نصف أيامها حين جاء السيد المسيح إلى العالم وسحب المؤمنين من حضن إبليس، وأما في نهاية أيامها فتظهر بالأكثر حماقتها. في هذا القول يقول العلامة أوريجينوس: [يقودنا الكتاب المقدس إلى تساؤلٍ هام، وهو يدور حول معرفة من هي هذه "الحجلة" المذكورة في الآية: "حجلة تحضن ما لم تبض محّصِل الغنى بغير حق. في نصف أيامه يتركه وفي آخرته يكون أحمق". نعتمد على ما يقوله "علم طبائع الطيور" بخصوص موضوع الحجلة، حتى إذا ما عرفنا خصائص هذا الطير وطباعه، نستطيع حينئذ أن نصنفه إما ضمن أنواع الطيور الصالحة أو ضمن الطيور الشريرة. يُقال إن لها عادات كريهة، وهي ماكرة وخبيثة، فحينما تريد أن تخدع الصياد، تقوم بالالتفاف حول قدمي الصياد حتى تجعله يغير اتجاهه عن مكان العش، وعندما تطمئن إلى أن الصياد لا يرى العش وإلى أن جميع صغارها قد تمكنوا من الهرب، تهرب هي أيضًا على جناح السرعة. كما أنها غير طاهرة بالمرة، لدرجة أن الذكور يتصارعون مع بعضهم في معارك فريدة من نوعها لكي يتزاوجوا ذكورًا بذكور. فبما أن لهذا الطائر عادات كريهة، وبما أنه غير طاهر، وخبيث، وكاذب، فإن إدراجه ضمن الأنواع الصالحة واعتبار أنه يمكن أن يشير إلى المخلص، هو لا شك نوع من الكفر والإلحاد. يجب علينا أن نرى هل سنحصل على سمات مشتركة تمامًا بين الشيطان والحجلة، أم لا؟]. [لنبدأ إذا بالكلمات الآتية: "حجلة جعلت صوتها مسموعًا وجَمَعت صغارًا لم تًلِدْهم". لا يجمع الشيطان خليقته الخاصة، ولا يجمع أطفالًا (صغارًا) مولودين منه، لكنه عندما يجعل صوته مسموعًا، يجمع خلائق آخر ويجعلها خلائقه. جعلت الحجلة صوتها مسموعًا عن طريق أفواه باسيليدس ومرقيون وفالنتينوس وكل الهراطقة، فلا يستطيع أحد منهم أن يردد قول السيد المسيح: "خرافي تسمع صوتي". "صوت" السيد المسيح موجود في فميّ بطرس وبولس، لهذا قال بولس: "إذًا أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ..." (2 كو 13: 3). لكن صوت الحجلة الذي يجمع صغارًا لم تلدهم، نجده في الذين يُضلون ويخدعون الناس البسطاء من بين المؤمنين ويستغلون سذاجتهم ونقص معرفتهم. "حجلة جعلت صوتها مسموعًا وجمعت صغارًا لم تلدهم، وهي تغتني لكن دون حُكم". لقد اغتنت الحجلة، أي الشيطان. أنظر كم من الآلاف الذين يتبعون الشيطان! كل هذه الأعداد الغفيرة أصبحت ملكًا له، بهذا فقد اغتنى دون أن يدفع شيئًا، اغتنى دون أن يبالي بحكم ودون أن يقع تحت الحكم. أما بالنسبة لمخلصي الصالح فقد اغتنى بحكم، ولقد كَلَّفه هذا الغِنَى أن ُيحَاكَم ويموت حتى يختارنا ميراثًا له]. [لقد اغتنت الحجلة! أنظر كيف صار لها ربوات تمتلكهم بالقوة العدوانية...! اغتنت دون أن تسلك بالحق ولا بممارسته]. ["في وسط أيامها يتركونها" [11]. نحن جميعًا، الذين كنا قَبلًا تحت سيطرة "الحجلة" وكنا نعمل على الاستماع لصوتها، لأنها لم تجعل صوتها مسموعًا فقط خلال الهراطقة الذين ذكرتهم، بل وخلال كل الذين يخدعون الناس ويدعون إلى تعاليمٍ وعقائدٍ ضد الحق، متظاهرين بأنهم يدعون الناس من الضلال إلى التقوى. نعم! نحن جميعًا قد "تركناها في وسط أيامها". مجموع أيامها هو في الواقع مجموع أيام هذه الحياة، وبما أن السيد المسيح قد اختارنا من وسط هذا العالم الشرير (غلا 1: 4) فقد تركناها في وسط أيامها. "وفي آخرتها تكون حمقاء" [11]، هل كانت عاقلة في يوم من الأيام؟ هل كانت حكيمة قبل ذلك حتى يُقال إنها في آخرتها ستكون حمقاء؟ نعم! كانت عاقلة، لأنها "كانت أحيل جميع الحيوانات البرية التي عملها الرب الإله" (تك 3: 1). كانت حكيمة بحسب ما قيل في إشعياء "إني أعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه لأنه قال بقدرة يدي صنعت وبحكمتي لأني فهيم، ونقلت تخوم شعوب" (إش 10: 12-13). بعد أن كانت حكيمة في الشر تصبح حمقاء فيه. ستفهم ماذا تعني الكلمات "وفي آخرتها تكون حمقاء" إذا عرفت ما هو الغرض الذي من أجله أوصاك الله، عن طريق بولس الرسول، أن تقبل الجهل، فهو يقول: "إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلًا لكي يصير حكيمًا". إذ توجد حكمة مَلومة، خلالها يُحسب "أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم" (لو 16: 8)، فإن الله في صلاحه يهلك الأضداد بالأضداد، يهلك حكمة الشيطان (الحجلة) لدرجة أنها في آخرتها تكون حمقاء. لكن متى تكون هذه الأيام الأخيرة التي تصير فيها حمقاء؟يجب أن يملك المسيح حتى يضع الرب كل أعدائه تحت موطىء قدميه، عندما يخضع الكل له، فإن آخر عدو يبطل هو الموت (1 كو 15: 25-26). إذًا نهاية الحجلة تأتي حينما يبطل الموت ]. هكذا سّر نجاسة القلب ارتباطه بالحجلة المخادعة التي تنزل به إلى التمرغ في الأرضيات وطلب الشهوات الجسدية، فلا ينال الأرضيات ولا السمويات. لهذا يليق بنا أن نتركها متحدين بمن هو سماوي، القادر على رفعنا إلى فوق فنحيا معه مقدسين. هذا هو سّر رجاء المؤمن: الاتحاد بالقدوس السماوي واهب الحياة. يقول النبي: "كرسي مجد مرتفع من الابتداء هو موضع مقدسنا. أيها الرب رجاء إسرائيل، كل الذين يتركونك يخزون؛ الحائدون عني في التراب (الأرض) يُكتبون، لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية" [12-13]. يقول الرب: أي عذر لكم؟ لماذا تكونون كالحجلة، تضعون بيضكم على الأرض لا في عشّ على قمم الأشجار العالية؟ ها أنا أقيمكم كرسي مجد مرتفع في السمويات. إرفعوا قلوبكم إليّ في الأعالي ولا تنبطحوا على الأرض في استسلامٍ وخنوعٍ للشر! كرسي الله أو عرشه مرتفع ومجيد وفي نفس الوقت حال فينا، ليس بعيدًا عنا، بل في داخلنا. إن كانت الكلمة العبرية المقابلة لمرتفع تشير إلى السماء، وكلمة "مقدسنا" تشير إلى هيكل أورشليم وملحقاته كما إلى المقادس السماوية (مز 68: 36)، فإن الله المرتفع مجده في السماء هو فينا، ونحن به نصير مقدسًا سماويًا. إنه ليس ببعيد عنًا، بل نزل إلينا، ونحن لسنا بعيدين عنه إذ يرفعنا إلى سمواته. كأن النبي يقول: أتريدون الخلاص من الحجلة؟ اهربوا إلى المخلص القدوس السماوي رجائكم، هذا الذي يجلس على كرسي مجده في الأعالي يسحب القلب إليه، فلا يتركه يتمرغ في التراب والوحل. يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة السابقة قائلًا: ["كرسي مجدٍ مرتفعٌ من الابتداء هو موضع مقدسنا. أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون. الحائدون عني في التراب يُكتبون لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية" [12-13]. عندما رأى إشعياء النبي مُلْك الرب قال: "رأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع" (إش 6: 1). إرميا أيضًا رأى السيد الرب وهو يملك، لذلك سبحه قائًلًا: "كرسي مجد مرتفع من الابتداء هو موضع مَقْدِسَنا". إن أردت توجيه هذه الكلمات إلى السيد المسيح لن تكون مخطئًا، وإن وجهتها إلى الآب لن تكون كافرًا. لمخلصنا كرسي مجد مرتفع من الابتداء لأن مملكته هي من فوق، والسيد المسيح هو ُمقدِّسنا لأن المُقَدِّس والمُقَدَّسين جميعهم من واحدٍ (عب 2: 11). هو "رجاء إسرائيل". فكما أنه هو البر الذي يوجد في الإنسان وهو الحق والقداسة، فإنه هو الرجاء. بدون المسيح لا يمكن أن تكون بارًا ولا قديسًا ولا يكون لك رجاء!]. لنترك الحجلة ونرتبط بمخلصنا، فإن من يتركه يخزى، ومن يحيد عنه لا يُسجل اسمه في سفر الحياة ولا يُنقش على كف الله، وإنما في التراب الذي اختاره بنفسه. من ترك السماوي واتحد بالفاسد يصير فاسدًا. ["أيها الرب رجاء إسرائيل". بما أن المخلص هو العدل والحق والقداسة وأيضًا الرجاء، لذلك فإنه غير ممكن أن نكون عادلين بدون السيد المسيح، ولا يمكن أن نكون مُقدسين بدونه، ولا يكون لنا رجاء إذا لم يكن موجودًا في داخلنا، لأنه هو رجاء إسرائيل. "أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون". كل واحدٍ فينا حين يخطئ يترك السيد المسيح... وبارتكابه الظلم "يترك" العدل، وبنجاسته "يترك" القداسة، وبقيامه بالحرب "يترك" السلام، وبالاستسلام للعدو "يترك" الخلاص، وبابتعاده عن الحكمة "يترك" حكمة الله. لذلك كل الذين يتركون الله يلعنهم النبي، مُعرِّفًا إيانا ماذا سيحدث لهم: "كل الذين يتركونك يخزون"، قدر ما يتركون الله يخزون]. لعله يقصد بقوله "في التراب يُسجلون"، أنهم يدخلون إلى القبر، ويُسجلون في قائمة الموتى. أما أولاد الله فيرتبطون بالله مخلصهم واهب القيامة، فلا يستطيع الموت أن يبتلعهم، أو يمسك بهم إلى الأبد، لهذا لا تُسجل أسماؤهم في قائمته. يعلق العلامة أوريجينوس على العبارة: "كل الذين يتركونك يخزون؛ الحائدون عني في التراب يُكتبون (يُسجلون)"، قائلًا: [مثل هذا في التراب يُكتب اسمه على الأرض... جميع الناس مُسجلة أسماءهم، القديسون مسجلون في السموات، والخطاة على الأرض. قال يسوع لتلاميذه: "افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ" (لو 10: 20). إذن يليق بنا أن نفرح إذ كُتبت أسماؤنا في السموات. وكما أن أسماء القديسين مسجلة في السماء، هكذا الذين يسلكون في الأرضيات ولا يدورون حول أرض آدوم، بل لهم حقول أرض آدوم وكرومهم (عد 20: 17-19)، (آدوم معناه أرضي أو ترابي) هؤلاء أسماؤهم مسجلة على الأرض إذ يحيدون عن الرب... كل إنسانٍ مسئول عن الطريقة التي بها يُسجل اسمه. فإن كنت تطلب الأرضيات لا تطلب السماويات بل تميل نفسك إلى السفليات. أنت المسئول عن ذلك، إذ يقول يسوع: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء" (مت 6: 19). هل تكنز لك كنزًا في السماء؟ أنت مسئول عن تسجيل اسمك في السماء ]. عندما فرح الرسل في خدمتهم قائلين حتى الشياطين تخضع لنا وجّه السيد المسيح أنظارهم إلى ما هو أعظم، قائلًا: "لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السموات" (لو 10: 20). الذي يُسجل اسمه في التراب يسمع الصوت الإلهي الذي قيل لآدم الأول: "أنت أرضي وإلى الأرض تعود"، أما الذي يُسجل اسمه في السماء فيُقال له: "أنت سماء وإلى السماء تعود". من يترك الرب المخلص يخزى، ومن يحيد عنه يُسجل اسمه في التراب لا في السماء، إذ يفقد الله حياته؛ "لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية" [13]. "وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادي، قائلًا: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب، ومن آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجّد بعد" (يو 6: 37-39). ماذا يعني "لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية" إلا أن رجاء الشعب في وسط القحط أن يلتصقوا بالله السماوي الحيّ، فيهبهم ذاته ينبوع مياه حية. إن كان قد دُعي الرب "رجاء إسرائيل" فقد سبق فرأينا أن كلمة رجاء يمكن ترجمتها أنها ينبوع أو بركة ماء (إر 4: 8)، مقدمًا نفسه لنا ينبوع مياه متى حلّ القحط والجفاف بالعالم. من جانب آخر كان اليهود يعتقدون أن الهاوية هو حالة عطش شديد، كما جاء في المزمور: "أجلسني في الظلمات مثل الموتى منذ الدهر... بسطتُ إليك يديّ، نفسي نحوك كأرض يابسة" (مز 143: 3، 6). وكأننا إذ نقتني الله - ينبوع المياه الحية - لن ندخل إلى الهاوية ولا نُعاني من الظمأ. 5. الله مخلصنا من الخطية: 14 اِشْفِنِي يَا رَبُّ فَأُشْفَى. خَلِّصْنِي فَأُخَلَّصَ، لأَنَّكَ أَنْتَ تَسْبِيحَتِي. 15 هَا هُمْ يَقُولُونَ لِي: «أَيْنَ هِيَ كَلِمَةُ الرَّبِّ؟ لِتَأْتِ!» 16 أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَعْتَزِلْ عَنْ أَنْ أَكُونَ رَاعِيًا وَرَاءَكَ، وَلاَ اشْتَهَيْتُ يَوْمَ الْبَلِيَّةِ. أَنْتَ عَرَفْتَ. مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ كَانَ مُقَابِلَ وَجْهِكَ. 17 لاَ تَكُنْ لِي رُعْبًا. أَنْتَ مَلْجَإِي فِي يَوْمِ الشَّرِّ. 18 لِيَخْزَ طَارِدِيَّ وَلاَ أَخْزَ أَنَا. لِيَرْتَعِبُوا هُمْ وَلاَ أَرْتَعِبْ أَنَا. إِجْلِبْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الشَّرِّ وَاسْحَقْهُمْ سَحْقًا مُضَاعَفًا. إذ تحدث عن الخطية بكونها احتلت القلب حيث كان يليق أن يكون ملكوتًا لله، مظهرًا أهم خطايا يهوذا من اتكال على ذراعٍ بشري ونجاسات والتصاق بالأرضيات، شعر النبي بأنه لا يستطيع أحد أن يخلص ما لم يتدخل الله نفسه، لهذا صرخ قائلًا: "اشفني يا رب فأشفى، خلصني فأخلص، لأنك أنت تسبحتي فخري (حسب الترجمة السبعينية)" [14]. كانت التساؤلات: "لماذا كان وجعي دائمًا؟ وجُرحي عديم الشفاء يأبى أن يُشفى؟ أتكونليمثل كاذبٍ مثل مياه غير دائمة؟" (إر 15: 18). وها هو يعلن إرميا باسم الشعب أنه قد وُجد الشفاء، بل والخلاص حيث المجد، بل والتسبيح أي الفرح مع السمائيين... وُجد هذا كله في الله مخلصه. يقول العلامة أوريجينوس: [تأتي بعد ذلك صلاة أخرى، تقول كلماتها: "اشفني يا رب فأشفى، خلصني فأخلص، لأنك أنت فخري (تسبحتي). ها هم يقولون لي أين هي كلمة الرب؟ لتأتِ! أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعيًا وراءك ولا اشتهيت يوم البلية، أنت عرفت" [14-16]. كل إنسان يريد أن ُيشفى من أمراض الروح والنفس عليه أن يطلب من الطبيب الأوحد الذي جاء خصيصًا من أجل المرضى، والذي قال: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" بذلك يُمكن للمريض أن يطلب في ثقة ويقول: "اشفني يا رب فأشفى". لأنه لو كان أحد آخر يستطيع أن يشفي النفوس، لما كنا نستطيع أن نقول بثقة: "اشفني يا رب فأشفى". مكتوب في الإنجيل أن المرأة نازفة الدم قد أنفقت كل ما عندها على الأطباء ولم تنتفع شيئًا" (مر 5: 25) ولم يستطع أحد منهم أن يشفيها. حقًا لا نستطيع أن نقول لأي طبيب بكل جرأة وبكل ثقة: "اشفني فأشفى"، إنما يمكننا أن نقول ذلك بثقة كاملة للطبيب الأوحد القادر أن يمنح الشفاء بمجرد لمس هدب ثوبه. أقول له: "اشفني يا رب فأشفى"، لأنك إذا عالجتني، فالعلاج الذي يأتي من عندك يتبعه حتمًا الشفاء، بهذا أخلص. مهما كان الذين يُخَلِصون كثيرين إلا إنني لن أخلص بواسطتهم، لأن الخلاص الوحيد الحقيقي يتم بالسيد المسيح. لأنه "باطل هو الفَرَس لأجل الخلاص وبشدة قوته لا يُنجي" (مز 33: 17). الرب وحده الذي يخلص، وأي شيء غيره يكون باطلًا. أقول له: "اشفني يا رب فأشفى"، لكنني لا أقول هذه الكلمات إلا إذا استطعت أن أقول أيضًا تكملة الآية: "لأنك أنت فخري (تسبحتي)"، إذا نفذت هذه الوصية: "لا يفتخر الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار بجبروته، ولا يفتخر الغنى بغناه، بل بهذا ليفتخرن المفتخر بأنه يفهم ويعرفنني إني أنا الرب" (إر 9: 23-24). إذًا، طوبى للذي يتنازل عن كل فخرٍ أرضىٍ وعن كل كرامةٍ زمنيةٍ، وعن الجمال والأشياء الجسدية، وعن الغنى والمجد، ويكتفي فقط بأن يقول للرب: "لأنك أنت فخري" ]. * [الله وحده هو الصالح أبديًا يجعل الإنسان الشرير صالحًا... نحن خُلقنا صالحين بواسطة الصالح، إذ خلق الله الإنسان مستقيمًا (جا 7: 29)، لكن بإرادتنا تحولنا من الصلاح إلى الشر، وصار لنا فيما بعد سلطان أن نتحول من الشر إلى الصلاح. إنه هو الصالح إلى الأبد يُخرج الصلاح من الشر، إذ لا يحمل الإنسان في ذاته القوة على التحول من الشر إلى الصلاح... إذ جرحت نفسك أُطلب الطبيب ليشفيك.] القديس أوغسطينوس "ها هم يقولون لي: أين هي كلمة الرب؟ لتأتِ" [15]. يوجد في كل عصر أشرار يستهينون بطول أناة الله ويسخرون بمواعيده ومحبته كما بتأديباته ظانين أنها مجرد كلمات أو أوهام لن تتحقق: "قد طالت الأيام وخابت كل رؤيا" (حز 12: 22). "سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات أنفسهم وقائلين: أين هو موعد مجيئه؟ لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باقٍ هكذا من بدء الخليقة" (2 بط 3: 4). لعل إرميا النبي قد أدرك أن المخلص هو "كلمة الرب"، إذ يقول: "ها هم يقولون لي أين هي كلمة الرب؟ لتأتِ" [15].إذ يطلبون الخلاص يسألون عن كلمة الرب لكي يأتي إليهم فيتبعونه. أنه وحده الذي يهبهم الراحة وكما يقول العلامة أوريجينوس: [تبعته تنزع الملل]. * إذ كانوا دائمًا لا يصدقون الأنبياء، اعتادوا القول: "أين هو يوم الرب؟" (عا 5: 18، حز 12: 22، 27)، "ليأتِ مقصد قدوس إسرائيل، لنعلم" (إش 5: 19)، وذلك لأنه قد عبرت سنوات كثيرة قبل أن يتحقق ما قاله الأنبياء... القديس يوحنا الذهبي الفم يقصد بكلمة الرب أيضًا مواعيده، ففي كل جيل يشتكي كثيرون أنهم لا يجدون مواعيد الله ووعوده قد تحققت فيهم، وكأن التقصير هو من جهة الرب، لا من جهة شرهم أو تراخيهم. وكما جاء في إشعياء النبي: "القائلين: ليُسرع، ليعجل عمله، لكي نرى، وليقرُب ويأتِ مقصد قدوس إسرائيل لنعلم" (إش 5: 19).يتهم الأشرار الله أنه لا يسرع إلى نجدتهم، ولا يحقق وعوده معهم، عوض أن يعترفوا أن تعبهم نابع عن فساد قلبهم. من يعيش بروح العالم يتعب من أجل اقتناء أمور العالم، أما من يعيش بروح المسيح فيحيا بلا قلق حتى وسط الآلام. يقول إرميا نفسه: "لم اكن قلقًا أن أتبعك..." [16] (الترجمة السبعينية). يقول القديس جيروم: [لنشكر الله، ونطلبه بإرادة صالحة فيكون درعنا وإكليلنا ولا نتركه قط بل نتبعه، معلنين مع إرميا: "لم اكن قلقًا أن اتبعك" ]. يقول العلامة أوريجينوس: ["ها هم يقولونليأين هي كلمة الرب، لتأتِ! أما أنا فلم أتضايق (أَمِلُ) من اتباعك" [15-16]. يقول يسوع المسيح لك: "احمل صليبك واتبعني" (مت 16: 24)، وأيضًا: "اترك كل شيء واتبعني" (مت 19: 27، 9: 9)، وأيضًا: "من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني" (مت 10: 37-38). إذًا، لو استطعت أن تتبع يسوع المسيح دائمًا لن تَمِلّ أبدًا من اتباعه، لأنه "لم يبصر إثمًا في يعقوب ولا رأى تعبًا في إسرائيل" (عد 23: 21). لا يوجد ملل حينما نتبع السيد المسيح؛ مجرد اتباعه ينزع كل مللٍ أو تعبٍ. لذلك يقول لنا: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). فإذا كنَّا متعبين وذهبنا إليه وتبعناه، نقول: "أما أنا فلم أمل من اتباعك". نقول له أيضًا: "ولا اشتهيت يوم الإنسان". يوجد "يوم للإنسان" ويوجد "يوم للرب". يحدث كثيرًا حينما يكون الإنسان مريضًا ومشرفًا على الموت، أنه يطلب من الناس الذين يزوروه أن يصلوا من أجله حتى يظل على قيد الحياة. حينما يقول الإنسان هكذا لا يشتهي يوم الرب، إنما يشتهي يوم الإنسان. لنكف إذًا عن محبة العالم وعن اشتهاء يوم الإنسان، ونتطلع إلى يوم القيامة واللقاء مع القديسين حينما يطوبنا المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين آمين]. "أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعيًا وراءك، ولا اشتهيت يوم البلية. أنت عرفت. ما خرج من شفتيّ كان مقابل وجهك" [16]. ربما يقصد إرميا النبي هنا القول هكذا: إن كان كثيرون يتشككون في كلمتك، ويظنون أنك عاجز عن تحقيق وعودك، فينطقون بكلمات مملوءة شكًا، طالبين أن تحقق كلمتك، لكن من جهتي فإني لن أتوقف قط عن أن أتمم عمل الرعاية بكل قوة، ليس بذاتي، وإنما وراءك. اختفي فيك يا طبيب النفوس ومخلصها وتسبيحها، وأعمل بكلمتك. إنني لست قلقًا إذ اختبرت قوة كلمتك. إنني لم أشتهِ يوم البلية، أي لا أتسرع، طالبًا مجيء يوم الرب أو الدينونة، مترجيًا توبة الكثيرين وتمتعهم بمراحمك. هذا ما أنطق به بشفتي أمامك، قدام وجهك، يا فاحص القلوب ومختبر الكلى. يقدم إرميا النبي صلاة لله، طالبَا حمايته من مقاومي الحق، قائلًا: "لا تكن لي رُعبًا. أنت ملجأي في يوم الشر. ليخزَ طاردى ولا أخزَ أنا. ليرتعبوا هم ولا أرتعب أنا. اجلب عليهم يوم الشر، واسحقهم سحقًا مضاعفًا" [17-18]. من جهة وعود الله تشكك الأنبياء الكذبة وأتباعهم فيها، بينما آمن بها إرميا النبي... هذا سبب ضيقًا ومقاومة منهم. وها هو يقف مختفيًا في الرب نفسه الذي يدعوه "ملجأي"، وقد دُعي الرب هكذا 11 مرة في سفر المزامير كما في (مز 46: 2). إنه سيأتي يوم الشر، أي الضيق الشخصي الذي يثيره الأشرار ضده، فيختفي في الرب، ويخزى الأشرار، ويرتعبوا ويسقطوا تحت دينونة مضاعفة، لأنهم رفضوا كلمة الرب وقاوموها في شخصه، أما هو فلا يخزى ولا يرتعب، لأنه في حماية مخلصه. هكذا لا يخاف المؤمن من الأشرار المقاومين له، ولا حتى من عدو الخير إبليس، مهما كانت قوته. يحدثنا الأب سيرينوس عن عدم ارتعابنا من الشياطين قائلًا: [إننا نعتقد أنهم يتعهدون هذا الصراع بقوة، لكن في مقاتلتهم يكون لديهم نوع من القلق والغم، خاصة حينما يقفون أمام مناضلين أقوياء، أي رجال قديسين كاملين... بالتأكيد تُعد الأرواح نفسها لمهاجمة البشر بقوة لا تقل عنهم لكي يضمنوا النصرة عليهم... (فيسقطون هم فيما يصنعونه بنا) إذ يقول: "وعلى هامته يرجع ظلمه" (مز 7: 16). وأيضًا: لتأتِه التهلكة وهو لا يعلم، ولتنشب به الشبكة التي أخفاها وفي التهلكة نفسها ليقع" (مز 35: 8)، أي في التهلكة التي دبروها بغشهم للبشر. فتسقط الأرواح في الحزن، وإذ تريد اهلاكنا تهلك هي بنفس التهلكة التي دبروها لنا...] [لكن لا يقدر أحد أن يشك في أنه متى انتصرنا عليهم يهلكون هلاكًا مضاعفًا]. 6. كسر السبت: 19 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ لِي: «اذْهَبْ وَقِفْ فِي بَابِ بَنِي الشَّعْبِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ مُلُوكُ يَهُوذَا وَيَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَفِي كُلِّ أَبْوَابِ أُورُشَلِيمَ، 20 وَقُلْ لَهُمُ: اسْمَعُوا كَلِمَةَ الرَّبِّ يَا مُلُوكَ يَهُوذَا، وَكُلَّ يَهُوذَا، وَكُلَّ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ الدَّاخِلِينَ مِنْ هذِهِ الأَبْوَابِ. 21 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: تَحَفَّظُوا بِأَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَحْمِلُوا حِمْلًا يَوْمَ السَّبْتِ وَلاَ تُدْخِلُوهُ فِي أَبْوَابِ أُورُشَلِيمَ، 22 وَلاَ تُخْرِجُوا حِمْلًا مِنْ بُيُوتِكُمْ يَوْمَ السَّبْتِ، وَلاَ تَعْمَلُوا شُغْلًا مَّا، بَلْ قَدِّسُوا يَوْمَ السَّبْتِ كَمَا أَمَرْتُ آبَاءَكُمْ. 23 فَلَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُمِيلُوا أُذُنَهُمْ، بَلْ قَسَّوْا أَعْنَاقَهُمْ لِئَلاَّ يَسْمَعُوا وَلِئَلاَّ يَقْبَلُوا تَأْدِيبًا. 24 وَيَكُونُ إِذَا سَمِعْتُمْ لِي سَمْعًا، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلَمْ تُدْخِلُوا حِمْلًا فِي أَبْوَابِ هذِهِ الْمَدِينَةِ يَوْمَ السَّبْتِ، بَلْ قَدَّسْتُمْ يَوْمَ السَّبْتِ وَلَمْ تَعْمَلُوا فِيهِ شُغْلًا مَّا، 25 أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي أَبْوَابِ هذِهِ الْمَدِينَةِ مُلُوكٌ وَرُؤَسَاءُ جَالِسُونَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ، رَاكِبُونَ فِي مَرْكَبَاتٍ وَعَلَى خَيْل، هُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ رِجَالُ يَهُوذَا وَسُكَّانُ أُورُشَلِيمَ، وَتُسْكَنُ هذِهِ الْمَدِينَةُ إِلَى الأَبَدِ. 26 وَيَأْتُونَ مِنْ مُدُنِ يَهُوذَا، وَمِنْ حَوَالَيْ أُورُشَلِيمَ وَمِنْ أَرْضِ بِنْيَامِينَ وَمِنَ السَّهْلِ وَمِنَ الْجِبَالِ وَمِنَ الْجَنُوبِ، يَأْتُونَ بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ وَتَقْدِمَاتٍ وَلُبَانٍ، وَيَدْخُلُونَ بِذَبَائِحِ شُكْرٍ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ. 27 وَلكِنْ إِنْ لَمْ تَسْمَعُوا لِي لِتُقَدِّسُوا يَوْمَ السَّبْتِ لِكَيْلاَ تَحْمِلُوا حِمْلًا وَلاَ تُدْخِلُوهُ فِي أَبْوَابِ أُورُشَلِيمَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَإِنِّي أُشْعِلُ نَارًا فِي أَبْوَابِهَا فَتَأْكُلُ قُصُورَ أُورُشَلِيمَ وَلاَ تَنْطَفِئُ». طالب الله إرميا النبي أن يقف في باب "بني الشعب" [19]. يرى البعض أنه باب "بنيامين"، وهو باب خاص بالمدينة (إر 37: 13؛ 38: 7)، وإن كان البعض يرى أنه يتحدث عن باب خاص بالهيكل كان يدخل منه ويخرج منه الشعب؛ ليقف بعد ذلك في كل أبواب أورشليم [19]. طالبه أن يوجه حديثه إلى "ملوك يهوذا وكل يهوذا وكل سكان أورشليم الداخلين من هذه الأبواب" [20]. لماذا يقول "ملوك يهوذا" وليس "ملك يهوذا"؟ يرى البعض أنه يقصد بالملوك هنا كل الشعب كمقابل للكهنة ، ربما لأن كل واحد صار كملكٍ يريد أن يتسلط ويسيطر، ليس من يقبل أن يسمع أو يطيع! موضوع الحديث هو "حفظ السبت"، وهو موضوع الأجيال كلها، تحدث عنه الأنبياء كأمرٍ أساسي، بل هو موضوع حياتنا اليومي: تقديس يوم الرب كباكورة لتقديس أيامنا فتصير كلها للرب! يطالبهم بحفظ السبت لأجل حياتهم لأنها صارت في خطرٍ، إذ يقول"تحفزوا بأنفسكم" [21]، فلا يحملوا فيه حملًا ولا يمارسون عملًا [22-23]، (خر 20: 10؛ تث 5: 14)، هذا من الجانب السلبي، أما من الجانب الإيجابي فيقول: "قدسوا يوم السبت" [22]، أي اسلكوا في نقاوة قلب وقدسية حياة وكما جاء في رسالة برناباس: [نخطئ إذا اعتقدنا إننا نستطيع أن نقدس اليوم الذي قدسه الرب بدون أن نكون أنقياء القلوب]. أما بركاته فهي: أ. قمة الوعد الإلهي لحفظ السبت هو أن يدخل ملوك ورؤساء من الأبواب ويجلسون على العروش ويركبون مركبات وخيولْ. بمعنى آخر إن حفظ الشعب سبت الرب، يحفظ الرب مملكتهم ويعطيهم وملوكهم كرامة وقوة وسلطانًا، فيعيشون في حرية ومجدٍ، قائلين مع القديس يوحنا: "جعلنا ملوكًا وكهنة لله أبينا" (رؤ 1: 6). إن قدسنا عمرنا بروح الله القدوس، تصير حياتنا مقدسة له، سبتًا دائمًا، تُفتح أبواب قلوبنا، أورشليم الداخلية، ليدخل فيها ملك المجد، ويقيم مملكة ابن داود في داخلنا، ويجعل منا ملوكًا أصحاب سلطان على الفكر والإرادة كما على الحواس، لنفكر وننطق ونعمل حسب مشيئته الملوكية السماوية. ب. أما البركة الثانية فهي أنهم يأتون من ست مناطق ليقدموا محرقات وذبائح وتقدمات ولبان مع الشكر: "ويأتون من مدن يهوذا ومن حواليّ أورشليم ومن أرض بنيامين ومن السهل ومن الجبال ومن الجنوب، يأتون بمحرقات وذبائح وتقدمات ولُبان ويدخلون بذبائح شكر إلى بيت الرب" [26]. إذ يُقدس الشعب يوم الرب تُجتذب نفوس كثيرة من كل جانب كعابدين حقيقيين للرب يقدمون محرقات حب وذبائح شكر مع ذبائح وتقدمات عن الخطايا والضعفات ليتمتعوا بالمصالحة مع الله. هكذا إذ تتحول حياتنا إلى يومٍ مقدسٍ للرب، نجتذب نفوسًا كثيرة للرب، تشترك معنا في العبادة الروحية. نقدم في أعماقنا حياتنا ذبيحة حب دائمة، ونبذل حياتنا تقدمة للرب الذي بذل ذاته لأجلنا، يرتفع في داخلنا بخور صلاة مقبولة لديه، ونُحسب أهلًا أن نشترك مع السمائيين في الشكر والتسبيح الدائم. أما ثمرة العصيان وعدم تقديس السبت فهو: "إني أشعل نارًا في أبوابها، فتأكل قصورها أورشليم ولا تنطفئ" [27]. حفظ السبت ليس هبة نقدمها لله، ولا عطية من جانبنا، إنما هو حفظ لأورشليمنا الداخلية، فيكون كسورٍ ناري مقدس يحفظنا من ضربات العدو وسهامه النارية. فإن تراخينا نفقد القداسة وتشتعل الأبواب كما القصور بالنار لا للتطهير بل للإبادة. تفقد أورشليمنا أسوارها وإمكانياتها، كقول الرب عن يهوذا "لأنهم رفضوا ناموس الله ولم يحفظوا فرائضه وأضلتهم أكاذيبهم التي سار آباؤهم وراءها، فأرسل نارًا على يهوذا فتأكل قصور أورشليم" (عا 2: 5). أساء اليهود إلى السبت بتفسيره بطريقة حرفية. يقدم لنا العلامة أوريجينوس أمثلة للتفسير الحرفي اليهودي والذي دخل بهم إلى خرافات لا حد لها (1 تي 1: 4) ففسروا القول: "لا تحملوا حملًا يوم السبت" [21]، بأنه إن كان نعل الإنسان به مسامير يُحسب ذلك "حملًا" فلا يلبسه يوم السبت، وإن لم توجد مسامير فلا يُحسب حملًا. أيضًا أن حمل إنسان حملًا على كتفٍ واحدة فيحسب ذلك حملًا، أما إن حمله على كتفيه فلا ُيحسب كذلك . قدم لنا الكتاب المقدس "حفظ السبت" من جوانب كثيرة، لكنه ركز عليه كعيدٍ مفرحٍ وراحة في الرب القدوس. فمن الجانب الظاهري كان السبت امتناعًا عن العمل، حتى عن جمع المن النازل كهبةٍ إلهيةٍ (خر 16: 21-30)، من يعمل يتعرض للغضب الإلهي. وجاء السبت يحمل فكرًا اجتماعيًا روحيًا، فقُدم راحة للغرباء والأجراء والعبيد حتى الحيوانات، فيه يذكر الشعب أنه كان قبلًا متغربًا في مصر تحت العبودية فلا يقسوا على خليقة الله (خر 23: 12؛ تث 5: 12-15). وحمل السبت فكرًا أخرويًا انقضائيًا بكونه رمزًا للراحة المقبلة (إر 17: 21-27؛ عب 4). أخيرًا فإن السبت هو فرصة لا للخمول والتوقف عن العمل، بل للتمتع بالعبادة لله القدوس لينعم الكل بشركة الحياة الإلهية (لا 23: 3؛ عد 28: 9-10). وكأن السبت كما يحدثنا عنه سفر اللاويين هو التقاء مع الله خلال العبادة المقدسة والذبيحة، لا لنكرم الله بعبادتنا، لكن ما هو أعظم لكي ننعم بعمل الله فينا واهبّا إيانا الشركة معه لندخل به إلى قداسته. تقديس السبت في جوهره هو تمتع بالراحة، إذ كلمة "سبت" في العبرية تعني "راحة"، سرها اتحادنا مع ربنا يسوع المسيح القدوس لننعم به بالحياة الجديدة المقدسة. لقد دعاه إشعياء النبي: "مسرة"، "مقدس يهوه"، "المكرم" (إش 38: 53)، وقدم لنا سفر المزامير تسبحة خاصة بالسبت هي تسبحة فرح وحمد لله (مز 92). السبت هو عيد التمتع بالراحة في الرب السماوي، فيه نذكر راحة الله في اليوم السابع (تك 2: 3) كرمزٍ ليوم الرب الأبدي كما يقول القديس أغسطينوس الذي فيه [نستريح ونرى، نرى ونحب ونسبح. هذا ما سيكون في النهاية التي بلا نهاية]. هو عيد الراحة لا من عبودية فرعون (تث 2: 15) وإنما من عبودية الشر كقول القديس إكليمنضس الإسكندري: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجيء المخلص، إذ استرحنا من الخطية ]. هو عيد مفرح ننعم به هنا كعربونٍ للحياة السماوية كعيد تسبيح لا ينقطع، وكما يقول القديس جيروم معلقًا على مزمور يوم السبت (مز 92): [لا يمكن أن يوجد سبت ما لم يسبقه ستة أيام. نحن نعمل الستة أيام لنستريح في السابع. لا نقدر أن نسبح الرب إلا في يوم السبت (مز 92) مادمنا مشغولين بأعمال العالم، أي مادمنا في الستة أيام لا نستطيع أن نُغني للرب... ليس أحد في يوم السبت، أي في راحة الرب، يعمل عملًا دنيئًا، أي يرتبك بأعمال العالم، إنما يلزمه أن يعمل ما يخص السبت. أتريد أن تعرف أنه في السبت يعمل الكهنة في هيكل الرب بينما لا يُسمح لأحدٍ أن يقطع فيه حطبًا، ففي الحقيقة الرجل الذي اُكتشف أنه يجمع حطبًا في البرية رُجم للموت (عد 15: 32-36). في السبت لا يشعل أحد نارًا ولا يمارسأي عمل... إذن لنرى أنه يليق بنا أن نسبح في السبت عندما نترك أعمال هذا العالم]. من وحيّ إرميا 17 في التراب سُجل اسمي، لتسجله على كفكِ يا إلهي! * في التراب سُجل اسمي! لقد كتبت خطيتي ونحتها كما بقلمٍ حديدي رأسه ماسي! نقشتُ خطاياي ونجاساتي على جدران قلبي، فأفسدتُ هيكلك المقدس، وصار اسمي مسجلًا في التراب، وأحصيت مع الموتى... من يقيمني غيرك أيها القائم من الأموات؟! * اتكلت على قدراتي وخبرتي وبرّي، اتكأت على الجسد بكل إمكانياته، فصرت كنبات العرعر في البرية سرعان ما يجف! تحولت حياتي إلى قشٍ يحترق، ورمادٍ وترابٍ! * إغرسني على مجاري روحك القدوس، فتمتد جذوري الخفية، وترتوي من ينابيع نعمتك الإلهية. أصير كرسي مجدك المرتفع، وموضع قدسك السماوي! وُيسجل اسمي على كفك أيها السماوي! * أصرخ مع إرميا النبي: اشفني يا رب فأشفى، خلصني فأخلص، لأنك أنت تسبحتي! اشفني من التراب الذي سُجل اسمي عليه، خلصني من الرماد الذي تحولت أنا إليه، اجعلني ابنًا سماويًا فأمتلئ فرحًا وتسبيحًا! * لتأتِ إليّ يا كلمة الله! صرتَ لأجلي إنسانًا، فلتجعلني ابنًا سماويًا! لترعاني بنفسك، حولني من ترابي إلى سمواتك! * الآن أقول: لا أخز، لا أرتعب! أنت مخلصي من فساد طبيعتي. لا أسمع القول: أنت تراب وإلى ترابٍ تعود! بل أسمعك تقول لي وأنا مخفي فيك: أنت سماء، وإلى سماءٍ تعود! |
|