الأسرة هي أول مؤسسة أقامها الله على الأرض لتعكس صفاته وليرى فيها ذاته!
الأسرة هي أعظم مدرسة على الأرض نتعلم فيها من جديد خطورة الأكل من شجرة معرفة الخير والشر!
الأسرة هي أفضل مركز تدريب في الزمان فيه نتهيأ للأبدية!
هل تصدق هذا عزيزي القارئ؟
دعني أوضح، وأترك الحكم لك..
أولاً: الأسرة هي أول مؤسسة أقامها الله، الخالق، على الأرض؛ لتعكس صفاته وليرى فيها ذاته!
أعتقد أنك توافقني أن الرب لا يصنع شيئًا واحدًا بدون غرض، فالكتاب يقول:«الرب صنع الكل لغرضه» (أم16: 4). وعندما أقول ”يصنع“، أقصد به ما يخلق، وما يعمل، وما يؤسِّس، ويبني؛ ما يخلق من جماد وحياة، ما يُرى وما لا يُرى، ما على الأرض أو ما في السماوات، وما يعمل من أعمال نعمة أو قضاء، وما يؤسَس ويبني كالأسرة أو الكنيسة أو غيرها. وعلى الرغم من التنوع اللانهائي للمخلوقات التي خلقها، والاختلاف الحاد في نتائج الأعمال التي يعملها، والفوارق الكثيرة فيما يؤسّسه ويبنيه؛ إلا أن جميعهان بدون استثناء، تتحد في غرض واحد: أنها تمجِد الخالق، إذ تُظهر شيئًا من حكمته وقدرته وصلاحه (إش43: 7؛ رو 9: 17). وهنا يأتي السؤال: هل أسس الله الأسرة لتحقّق ذات الغرض، ألا وهو تمجيد الله؟
إجابتي هي بكل تأكيد: ”نعم“.
وهنا لا بد أن يأتي السؤال: كيف يتمجد الله من خلال الأسرة؟
لكي نجيب عن هذا لا بد أن نرجع لأصحاحي الخليقة (تك1و2)، لنرى كيف أسّس الله أول أسرة في تاريخ الجنس البشري. هناك نجد أنه بمجرد ما انتهى الخالق من أعماله في اليوم السادس، ورأى أن كل شيء حسن جدًا، يفاجئنا بأنه رأى شيئًا واحدًا ليس بحسن في عينيه؟! وكان هذا الشيء هو كون آدم وحده، بدون رفيقة وشريكة يتوحد بها ويصير معها واحدًا لا اثنين، ومنهما معًا متّحدين تتكون أول أسرة. وهنا قام الخالق بعملية عجيبة؛ إذ أخذ واحدة من أضلاع آدم، وبنى منها امرأة، وأحضرها له لتكون زوجته وشريكة حياته! وهكذا أسس الله أول أسرة على كوكب الأرض، والتي بها بدأ ما يسمى بالجنس البشري!! وبالطبع كان في قدرة الله، وهو الذي خلق العالمين، أن يخلقها بدون أن يأخذ من آدم شيئًا. وإن كان - تبارك اسمه - قد خلق جسد آدم من التراب، فهل كان تراب الأرض قد نفد حتى أنه يلجأ لجسد آدم ليأخذ منه هذه الضلعة التي منها يصنع له شريكة حياته؟ بالطبع كلا. لكن كان القصد الإلهي أن يشعر آدم بانتمائها إليه، وبانتمائه إليها، أي إنها ليست مستقلة عنه. وبالفعل ففي احتفال رائع أحضرها الله له، فأخذها آدم من يد خالقه بسرور بالغ، ثم طفق يغني أول أغنية حب عرفها التاريخ. ولم يكن موضوع الأغنية جمال حواء الباهر، مع أنني لا أشك البتة أنها كانت جميلة للغاية، ولا كان قوة انجذابه إليها، مع يقيني أنه انجذب إليها بشدة. لكن كان موضوع الأغنية هو كونها منه! وبالتالي حتمية التصاقه بها وتوحّده معه. ولهذا قال بعد أن تأملها مليا: «هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي». ثم أعطاها إسمه فقال: «هذه تُدعى امرأة لأنها من إمرء أُخِذت». وهنا يعلق الروح القدس قائلاً: «لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكونان جسدًا واحدًا».
إذًا يمكننا القول إن الخالق هو الذي صمم، بل وأشرف بنفسه، على تكوين أول أسرة في التاريخ البشري.
ولاحظ معي، من فضلك، التدرّج الصاعد في وصف أفعال عمليات الخلق: ففي خلق النباتات والحيوانات يقول الكتاب: «قال الله» (تك1: 11، 20، 24). لكن في خلق الإنسان يقول: «نعمل الإنسان» (تك1: 26)، أما في خلق المرأة وتكوين الأسرة يقول الكتاب: «بنى الله» و«أحضرها الله» (تك2: 22)!! لذا، لا أعتقد أنني أبالغ إذا قلت إن الغرض أيضًا يسمو ويرتفع مع تصاعد نغمة الأفعال حتى تصل للقمّة في الأسرة، عندما ليس فقط «قال»، أو حتى «عمل»، لكنه ”بنى وأحضر“؛ لتكون الأسرة قطعته الفنية المُثلى التي يعكس فيها مجد ذاته وصفاته!
كيف؟
أولاً: لأن الأسرة، بتركيبها العجيب هذا، تعكس شيئًا من جمال الوحدانيه الجامعة.
ثانيًا: لأن الأسرة، بهذا التصميم البديع، تصبح المجال المناسب لجريان تيارات المحبة الدافقة.
عندما أخذ آدم امرأته واتحد بها، علّق الروح القدس مباشرة على هذا الارتباط بالقول: «لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكونان جسدًا واحدًا»! ولأهمية هذه الوحدة، يؤكِّد عليها العهد الجديد ست مرات آخرى (مت 19: 5، 6؛ مر10: 7، 8؛ 1كو6: 16؛ أف5: 31). أي أن الروح القدس يشير سبع مرات في الوحي إلى هذا النوع الفريد من الوحدة! بل إن الرب يسوع أضاف قولاً يؤكد به رفضه القاطع لفصم عُرى هذه الوحدة إذ قال: «وما جمعه الله لا يفرقه إنسان» (مت 19: 6).
وإنني أعتقد أن تكرار الروح القدس حديثه عن هذه الوحدة سبع مرات، ثم إشارة الرب يسوع إلى أن الله شخصيًا هو صانع هذه الوحدة؛ «ما جمعه الله»، ورفضه القاطع لتفرقتها؛ «لا يفرقه إنسان»؛ إنما يعطي قيمة كبيرة لهذه الوحدة، وأبعاد تتعدى - من وجهة نظري - حدود آثارها الحرفية المباركة على الأسرة نفسها. إذ أراها ظلاً لوحدانيات روحية أخرى في غاية الأهمية. نعم إنها وحدة جسدية، لكنها صورة رائعة مادية ملموسة لنوعيات أخرى من الوحدة الروحية غير المنظورة!
وأولاً أقول إنها وحدانية جامعة! فهما اثنين، لكنهما ليس بعد اثنين، بل جسد واحد! فالله يراهما واحدًا! ويأمرنا أن نتعامل معهما على أنهما واحد! ويحذرنا من التفريق بينهما! كل هذا على الرغم من وجود كثرة داخل هذه الوحدانية!
وبصفة عامة نجد أن فكرة الوحدانية المطلقة، أو الفرد الواحد المطلق، ليس لها وجود في التعليم المسيحي. إذ أنها تتعارض تماما مع طبيعة الله التي هي محبة. وهذا بديهي لأنك عندما تقول: ”محبة“؛ فأنت تلقائيًا تفترض وجود آخر، لأنه يصبح من سُخف الكلام أن تتكلم عن محبة في عدم وجود ”محبوب“. وأيضًا عندما تقول: ”محبة“، فأنت تتكلم عن خروج من الذات نحو الآخر المحبوب بالعطاء. وأي عطاء أسمى من عطاء الذات للمحبوب لدرجة التوحد معه وصيرورتهما واحد؟! وهذا ما يفسر لك الغياب المطلق للحب عند الذين ينادون بالوحدانية المطلقة.
وأول وحدانية روحية نعرفها، وهي أهم وحدانية، والتي لها انعكاساتها في كل الخليقة، هي وحدانية الخالق نفسه. فهو واحد، لكن وحدانيته جامعة لكثرة في ذاته. لكن يبقى بالطبع أن وحدانيته - تبارك اسمه العظيم - لا مثيل لها في كل الوحدانيات الآخرى المادية أو الروحية، إذ لا تركيب فيها، فهو جوهر واحد جامع لكثرة في داخل ذاته. ليكون وحده السرمدي الذي لا بداية له (بداية تبدأ مع التركيب)، ولا نهاية له (نهاية تحدث باحتمال التفكيك)، وأيضًا ليكون هو المكتفي بذاته، أي غير المحتاج البتة لآخر من خارجه يتحتم وجوده لكي يمارس معه طبيعته التي هي محبة. فقد كانت، ولم تزل، وستظل، تيارات الحب تجري من الأزل وإلى الأبد في داخل الذات الإلهية دون أدنى احتياج لهذا الآخر.
والوحدانية الروحية الثانية التي نعرفها، والتي نرى في وحدانية الزواج صورة لها، هي وحدانية المؤمن الفرد بالخالق نفسه! وهذا ما يشير إليه الرسول بولس في 1كورنثوس6: 16 «لأَنَّهُ يَقُولُ: يَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. وَأَمَّا مَنِ الْتَصَقَ بِالرَّبِّ فَهُوَ رُوحٌ وَاحِدٌ». إذًا يرى الرسول، في الوحدة الجسدية المقدّسة بين الرجل وزوجته، صورة للوحدة الروحية المقدسة بين الفرد، رجلاً كان أو امرأة، وخالقه. ويا لها من وحدة، عندما يتحد الله الخالق، الذي هو روح، مع مخلوق ضعيف هو الإنسان والذي به نسمة من خالقه هي الروح، ليصبحا معًا روحًا واحدً!! ومع أن الملائكة كائنات روحية بالتمام، إلا أنهم ليس لهم هذا الامتياز العجيب، ألا وهو التوحّد مع الخالق! فهم جميعًا فقط أرواح خادمة، وفي أفضل وضع لهم، هم وقوف قُدّامه يغطّون وجوههم ويسبحونه! أي لا يستطيعوا أن ينظروا وجهه، فكيف يحلمون بالتوحد معه؟!
أما الوحدانية الروحية الثالثة، والتي نرى في وحدة الزواج المادية صورة لها، فهي وحدة الكنيسة مع المسيح. ويا لها من وحدة، كانت سرًا لم يُعرَّف به بنو البشر في أجيال أُخَر. حتى أن بولس يقول عنها «مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. هذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ». ومن المعروف أن الرسول بولس كشف، بإعلان من الله، أسرارًا كثيرة لم تكن مُعلَنة في العهد القديم، إلا أنه وصف اثنين فقط من هذه الأسرار بالقول سر عظيم، وهما التجسد (1تي3: 16)، ثم اتحاد المسيح بالكنيسة (أف5: 32). إذًا فقد جعل الإرتقاء بالبشر المساكين ليتوحدوا مع خالقهم، وهو ما حدث بتكوين الكنيسة، على قَدَمِ المساواة مع تنازل الخالق العظيم ليتوحد مع البشر المساكين، وهو ما حدث بالتجسد؛ إذ وصف كل منهما بأنه سر عظيم! وسيظهر جمال هذه الوحدة البديعة بين المسيح وكنيسته هناك في السماء بعد الاختطاف، وفي العالم العتيد، بل وإلى أبد الآبدين، كما نقرأ في سفر الرؤيا: «لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ الْمَجْدَ! لأَنَّ عُرْسَ الْخَرُوفِ قَدْ جَاءَ، وَامْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا. وَأُعْطِيَتْ أَنْ تَلْبَسَ بَزًّا نَقِيًّا بَهِيًّا، لأَنَّ الْبَزَّ هُوَ تَبَرُّرَاتُ الْقِدِّيسِينَ... ثُمَّ جَاءَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّبْعَةِ الْمَلاَئِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُمُ السَّبْعَةُ الْجَامَاتِ الْمَمْلُوَّةِ مِنَ السَّبْعِ الضَّرَبَاتِ الأَخِيرَةِ، وَتَكَلَّمَ مَعِي قَائِلاً: هَلُمَّ فَأُرِيَكَ الْعَرُوسَ امْرَأَةَ الْخَرُوفِ. وَذَهَبَ بِي بِالرُّوحِ إِلَى جَبَل عَظِيمٍ عَالٍ، وَأَرَانِي الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ أُورُشَلِيمَ الْمُقَدَّسَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، لَهَا مَجْدُ اللهِ، وَلَمَعَانُهَا شِبْهُ أَكْرَمِ حَجَرٍ كَحَجَرِ يَشْبٍ بَلُّورِيٍّ» (رؤ19: 7،8؛ رؤ21: 9-11).
إذًا، قد قصد الله أن يكون هذا الكيان البشري العاقل المتحد، المكوَّن من رجل وامرأة متّحدين، صورة دقيقة لجمال الكثرة المجتمعة في واحد، أي الوحدانية الحقّة التي توفر المجال لنشاط الطبيعة الإلهية التي هي محبة، سواء كانت وحدة الذات الإلهية نفسها، أو وحدة المؤمن الفرد بخالقه، أو وحدة الكنيسة بالمسيح. من هنا تنبع قيمة الأسرة في أعيننا، ومن هنا تبرز قيمة حماية وحدتها والدفاع عنها بكل قوة.
من جانب آخر في الأسرة نرى المحبة الدافقة:
فلا يوجد شيء على الأرض يمكن أن يستخدمه الله ليعكس لنا شيئًا عن محبته مثل الأسرة! ولا تنسَ قيمة المحبة بالنسبة لله وحجم اهتمامه بإظهارها إذ أن «الله محبة»
فعندما أراد الروح القدس أن يختار علاقة تعكس شيئًا عن المحبة الثابتة غير المشروطة، التي فيها يبذل المحب ويعطي حتى نفسه من أجل المحبوب، تلك المحبة التي بها يحب المسيح أفراد كنيسته؛ لم يجد سوى علاقة الرجل بامرأته!! «أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا» (أف5: 25).
وعندما أراد أن يختار علاقة تعكس شيئًا عن المحبة الخالية من أي أنانية، والتي تجعل المحب يبذل نفسه بالعيشة من أجل المحبوب، وهذا هو معنى الخضوع، والتي بها تحب الكنيسة المسيح؛ لم يجد سوى علاقة المرأة برجلها!! «وَلكِنْ كَمَا تَخْضَعُ الْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذلِكَ النِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (أف5: 24).
وعندما أراد أن يختار علاقة تعكس شيئًا عن المحبة النقية التي لا تبغي سوى خير المحبوب، والتي تعكس الصلاح الإلهي من نحونا وأبوته لنا، لم يجد سوى علاقة الأب بأبنائه فيقول الرب يسوع : «فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزًا، أَ فَيُعْطِيهِ حَجَرًا؟ أَوْ سَمَكَةً، أَ فَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟ أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَ فَيُعْطِيهِ عَقْرَبًا؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ؟».
إذًا قصد الله أن تكون الأسرة، بوحدتها ونجاحها في علاقاتها الداخلية، ترسم ظلالاً بديعة لتلك المحبة التي تندفق من قلب الله نحونا نحن البشر، بل هي مكان تمثيل واستعراض هذه المحبة.
ثانيا: الأسرة هي أعظم مدرسة على الأرض نتعلم فيها من جديد خطورة الأكل من شجرة معرفة الخير والشر!
بعد فترة ليست بطويلة، يكتشف الشاب والفتاة، اللذان ارتبطا برباط الزواج المقدس، اختلاف شخصياتهما وخلفياتهما ووجهات نظرهما في كثير من الأشياء. وبروز هذه الحقائق، ومع اختفاء البهجة المصاحبة لكل خبرة جديدة، يبدأ التوتر في الزحف على هذه العلاقة الوليدة. ويتذكر كل منهما حريته عندما كان مستقلاً بدون اتحاد الزواج. لكن على الفور تواجهه الحقيقة الكبرى أن هذه العلاقة ليست كباقي العلاقات يمكنه إنهاءها وقتما شاء، إنها علاقة ملزمة لا يفصم عراها إلا الموت. وهنا يصبح أمام الزوج أو الزوجة أحد خيارات ثلاث:
أن يكسر وصية الله، ويحتقر كلام المسيح، ويكسر هذه الوحدة بالزنا أو بالطلاق.
أن يرثي لحاله، ويطوي جناحه على جراحه، ويستمر في علاقة شكلية مع شريك الحياة لكن وهو في حالة اكتئاب ظاهر أو مستور ولو بالضحكات الجوفاء.
أن ينتهج النهج الصحيح، ألا وهو أن يبني مذبحًا يحرق عليه الذات! وأعتقد أن هذا الخيار يحتاج لمزيد من التوضيح:
دعونا أحبائي نتذكر أن لطخة السقوط الكبرى التي لطخت الطبيعة البشرية هي الأنانية، إننا نولد ونحن ندور حول أنفسنا، ونريد كل شيء حولنا لخدمة ذواتنا! وطبيعة الحياة البشرية، مع أخطاء التربية، تجعل الأسرة تعيش من أجل الطفل، فينمو في أعماقه أنه هو المركز وكل ما حوله هو لخدمته. بل حتى الحياة الكنسية اليوم صارت تعمّق هذا الشعور في الشخص، فتشعره بأنه هو المركز، وحتى الله نفسه كائن لخدمته! وتتزوج الفتاة، أو يتزوج الشاب ويداخله هذا الإحساس الدفين بأنه المركز وهذا الشريك الجديد سوف يدور في فلكه ليشبع له كل احتياجاته!! وتظل المسكينة، أو يظل المسكين، يعيش في هذا الوهم بضعة أيام إذ يجد أنه فعلاً يشبع بعضًا من احتياجاته من خلال هذه العلاقة الجديدة مع شريك الحياة(مع عدم إدراك كامل حتى الآن لمعنى وخطورة كلمة ”الشريك“)، لكن بعد مرور الأيام الأولى، يكتشف كل منهما حقيقة الأمر: أن نظرية ”أنا المركز“ نظرية خاطئة؛ إذ يدرك أن هذا الآخر هو أيضًا يرى نفسه مركزًا وليس تابعًا لمركز!! هو أيضًا دخل لعلاقة الزواج ببراءة شديدة وسعادة كبيرة، ظنًّا منه أنه سيعيش فيها مركزًا، كما كان في الأسرة قديمًا، أو في الكنيسة حديثًا. فتظن هي أن هذا الزوج القوي والنبيل سيملأها شعورًا بالأمان، فهو هنا في هذا البيت ليدور في فلكها ويشبع لها كل احتياجاتها! ويظن هو أن هذه الزوجة الجميلة والناعمة ستدور في فلكه وتخلق له عالمًا رومانسيًا حوله يشبع له كل احتياجاته! ويغيب عن الاثنين أنه من المستحيل أن توجد دائرة واحدة لها مركزان!
هنا يبدأ الصراع، والذي إما ينتهي بهزيمة أحد الطرفين فيستسلم ويقبل أن يكون تابعًا، وهنا ينتهي التوتر ويسعد الطرف المنتصر لكن على حساب الطرف الآخر، وعلى حساب الصحة النفسية للأولاد، والأخطر والأهم - من وجهة نظري - هو أنه سيكون على حساب قصد الله من الزواج.
والاحتمال الثاني هو أن يستمر الصراع مدى الحياة، حتى يمتلئ الطرفان بالمرارة النفسية والأمراض الجسدية، ويمتلئ الأولاد بالعُقد والمشاكل النفسية والأخلاقية.
أما الاحتمال الثالث وهو الذي لا يلجأ إليه إلا الناضجين، ألا وهو أن يرفض كل منهما أن يكون المركز، ليس تنازلاً منه، لكن لأنه ببساطة غير مخلوق ليكون المركز. فقد يكون الرجل مخلوق ليكون الرأس، لكن ليس ليكون المركز. فالمركز الوحيد في كل الكون هو الله، ونحن جميعًا توابع ندور حوله، ونشبع احتياجاتنا منه من خلال تواجدنا في علاقة حميمة معه. وعندما يدرك كل من الزوج والزوجة أنه ليس المركز وأن شريك الحياة ليس هو التابع الذي يشبع له احتياجاته، وأن مركزية الذات خطية، بل هي الخطية؛ عندئذ سيتجه القلب نحو المركز الصحيح الوحيد، ويأخذ كل منهما مكانه كتابع له يدور في فلكه ويرتوي دائمًا منه، وعلى الفور سيذهب كلاهما إلى المذبح ليحرق كل منهما مركزية الذات أمام الله. وعندها سنجد أنفسنا أمام زوجين بدون صراع، بدون توتر، احتياجاتهما الأساسية مشبعة من خلال علاقة كل منهما بالله، وكلاهما قادر على إشباع الآخر طبقا لما وضعه الرب على كل واحد منهما من مسؤوليات تجاه الآخر.
لهذا قلت إن الأسرة هي أعظم مدرسة نتعلم فيها من جديد خطورة الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. فقد كان الأكل يومها في لحظة السقوط هو رفض صريح لمركزية الله واختيار أحمق لمركزية الذات .
ثالثا: الأسرة هي أفضل مركز تدريب في الزمان فيه نتهيأ للآبدية
في الأبدية لن نكون كائنات خاملة، بل سيكون لنا عمل عظيم. هذا لأن العمل والإبداع هما من سمات الكائن الروحي، كما ظهرا في الخالق بأجلى بيان، ثم في الإنسان المخلوق على شبه الخالق. وبالتالي فلا يمكن بعد أن نكتمل ونلبس أجسادنا الروحانية المصمَّمة لخدمة الروح، نكون هناك بلا عمل مبدع يشبع قلب الخالق ويفرحه بنا. وليس عندي نور كامل من جهة طبيعة خدمتنا هناك وأبعادها، لكنني في نفس الوقت لست في ظلام تام من جهتها. فالكتاب أعطانا بعض الإعلانات في العهد الجديد، ولا سيما في رسالة أفسس وفي سفر الرؤيا، عن طبيعة هذه الخدمات هناك.
فمن الواضح من أفسس 3: 10، 21 ورؤيا21: 11، أن للكنيسة وظيفة إعلانية لباقي المخلوقات العاقلة في الحاضر وفي الأبدية، بمعنى أن الله في الأبدية، وهو الذي من الأزل وإلى الأبد مُعلَن في المسيح، سيعلن ذاته من خلالنا لكل خلائقه! هذا لكون المسيح في الكنيسة. أي ستصبح الكنيسة في الأبدية هي الإعلان المكتوب، أو الكتاب المقدس الجديد لكل الخلائق إلى دهر الدهور! ونحن نعلم أن الله لم يكتب في هذا الكتاب سوى حياة المسيح، فالمسيح هو الكل في الكل. لكنني أعتقد أننا هناك سنختلف أحدنا عن الأخر في حجم الدور الذي سنقوم به، فكل واحد سيظهر المسيح لكن بجمال معين وبقدر معين نختلف فيه أحدنا عن الآخر! والسؤال: ما الذي يحدد هذا القدر والنوع هذا الجمال؟ أعتقد هو القدر الذي نظهر به جمال المسيح ونوع الجمال الذي نظهره هنا في الزمان. وفي اعتقادي أيضا أنه لا يوجد مجال على الأرض يمكن أن نتدرب فيه على هذا مثل الأسرة.
في الأسرة حيث الروابط العاطفية والجسدية من جانب، والإلتزامات والشعور بالمسؤولية من الجانب الآخر، بالإضافة لكونها علاقات ملزمة ومجزية، يتعمق الاحتياج ويزداد الحماس لتحقيق النجاح في العلاقات الأسرية. وليس هناك من طريق لهذا سوى أن نشابه المسيح. فطريق نجاح الزوج مع زوجته ومع أولاده هو المزيد من حياة المسيح فيه، وطريق نجاح الزوجة مع رجلها وأولادها هو المزيد من حياة المسيح فيها. هذا سيحتم على الطرفين طاعة الرب والعيشة في القداسة لينطلق الروح القدس بحرية ويطلق حياة المسيح فيهما.
أيضًا يتضح من مواضع كثيرة في العهد الجديد مثل أفسس1: 23؛ ورؤيا21: 24 وغيرها أن الكنيسة ستحكم مع المسيح ليس فقط في الملك الألفي بل وفي الملكوت الأبدي (2بط1: 11).
ومن مثل الوزنات في متى25، ومثل الأمناء لوقا19 ومن حديث الاجتهاد في 2بطرس1؛ يمكننا الاستنتاج أن مساحة كل واحد فينا في الحكم ستختلف عن الآخر. ومن نفس هذه المواضع يمكنني أن أستنتج أن هذا الاختلاف يعتمد على مقدار حكم الواحد لنفسه هنا في الزمان. ويا ترى هل هناك مجال يحتاج النجاح فيه لممارسة حكم النفس مثل الأسرة؟ إنني شخصيًا أعتقد أنه لا يوجد مجال آخر يدانيها، بشرط أن يكون مفهومك للنجاح فيها هو تحقيق غرض الله في أسرتك. وبالتالي تصبح الحياة الأسرية اليومية هي مركز التدريب الروحي لنتعلم حكم النفس التي طالما تريد أن تشطح وتلقي النير وتجمح سواء في رغباتها أو في أفكارها أو في قراراتها واختياراتها.
ماهر صموئيل