رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إدراك الدعوة الإلهية: 4 فَكَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَيَّ قَائِلًا: 5 «قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ». تحدث السفر عن دعوة النبي ورسالته خلال أمرين: حوار بين الله وإرميا [4-10؛ 17-19] وخلال رؤيتين [11-16]، ركز الحوار على دعوة إرميا الشخصية والرؤيتان على رسالته. إذ تدخل الله في حياة إرميا وتحدث معه في حوارٍ مفتوحٍ، فتح عن عينيه ليدرك إرميا من هو، وماهي رسالته في الحياة، وما هي إمكانياته في الرب. افتتح النبي حديثه بعلاقته مع الله مرسله هكذا: "فكانت كلمة الرب إليّ قائلًا: قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك" [4-5]. ما أعجب هذه العبارة، فإنها تكشف عن سرّ الحب العميق بين الله والإنسان. أدرك النبي أن علاقته بالله تمتد جذورها إلى ما قبل تكوينه كجنين في أحشاء أمه، فقد كان في ذهن الله، وموضوع محبته، يمثل جزءًا لا يتجزأ من خطة الله الخلاصية! دعوته للعمل النبوي لم تقم من عندياته ولا بخطة إنسانية، لكنها بتخطيط إلهي! لقد أدرك إرميا النبي أن حياته لم تأتِ جزافًا نتيجة اتحاد جسدي بين والديه، إنما هو أعظم من هذا. ميلاده الجسدي ليس هو بداية حياته الحقيقية، ولا موته الجسدي هو نهاية حياته! إنه من صنع الله نفسه! إذ تحدث عن الأنبياء الكذبة يقول الله من خلال إرميا: "لم أرسل الأنبياء بل هم جروا، لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا" (إر 23: 21). لكي يؤكد إرميا نبوته ذكَّر قارئيه إنه مدعو من الله مباشرة ومرسل منه للشعب الداخل في ميثاق إلهي، مثله في ذلك مثل عاموس النبي وغيره من الأنبياء (عا 7: 14-15؛ إش 6: 1-13؛ حز 1: 4، 3: 15). هذا ما أدركه الرسول بولس الذي دُعي للإيمان وللعمل الرسولي بعد أن اضطهد كنيسة الله وافترى عليها (1 تي 1: 12-13) وأتلفها (غلا 1: 13)، إذ عرف أنه كان مفرزًا وهو في بطن أمه (غلا 1: 15). تعبير "صورتك" مأخوذ عن عمل الله كخزاف (تك 2: 7-8)، أما الكلمة العبرية فمن الجانب الفنى تعني "خلقتك" (عا 4: 13؛ إر 51: 19؛ إش 45: 18؛ 49: 5؛ مز 59: 5). يدعو الله الخدام والرعاة بطرق كثيرة. دُعي موسى بظهوره له على شكل عليقة ملتهبة نارًا، وأمره أن يخلع نعليه حتى يقدر أن ينصت إلى الرسالة المقدسة بخوف وخشية، ساندًا إياه بالآيات والمعجزات (خر 3). وعند دعوته لإشعياء وحزقيال النبيين قدم لهما رؤى خاصة بمجد الله والخليقة السماوية (إش 6، حز 1)، فصرخ إشعياء تحت وطأة شعوره بثقل خطاياه وخطايا الشعب، وسقط حزقيال أمام بهاء مجد الرب. أما دعوة إرميا فكانت مختلفة تمامًا، إذ يقول في بساطة: "فكانت كلمة الرب قائلًا: قبلما صورتك في البطن عرفتك...". كان اللقاء بين الله وإرميا لقاءً طبيعيًا وكأنهما صديقان حميمان، وأن هذه الرسالة جاءت نتيجة علاقة قديمة تمتد جذورها إلى أيام تكوين إرميا في أحشاء أمه. اختيار الله لإرميا وتقديسه وهو بعد في الأحشاء هزّ قلوب الكثيرين من آباء الكنيسة، فرأي القديس أمبروسيوس في ذلك صورة حيَّة لعمل الله فينا لأجل تقديسنا، فإنه يهب التقديس كعطية من جانبه لا فضل لنا فيها، ويكمل قائلًا: [احفظ هبات الله، فإن ما لم يعلمك إياه أحد يهبه لك الله ويوحي به إليك]. ورأي القديس جيروم أن الله بسابق معرفته أدرك ما يكون عليه إرميا فاختاره للعمل النبوي (رو 8: 29): [عرف الله مقدمًا ما يكون في المستقبل عندما قدّس إرميا وهو لم يُولد بعد]. ويرى القديس كيرلس الأورشليمي أن الله الذي شكلّ النبي في الرحم، وهيأه للعمل النبوي، لا يخجل من أن يأخذ لنفسه جسدًا في الرحم: [إن كان الله لم يخجل من أن تكون له علاقة بتشكيل إنسان، فهل يخجل من أن يشكل لنفسه جسدًا مقدسًا كحجاب للاهوته؟!]. ويرى العلامة أوريجينوس أن ما جاء في العبارة السابقة إنما هو هبة لم يتمتع بها أحد من قبله أو من بعده من الأنبياء، حتى إبراهيم أب الآباء والذي يُحسب كنبي أيضًا لم ينعم بهذا. يقول: [ماذا قالت له كلمة الرب؟ قالت له شيئًا مميَّزًا جدًا ومختلفًا عما قيل للأنبياء الآخرين. فإننا لا نجد هذا الكلام موجهًا إلى أيٍّ من الأنبياء. فقد دُعي إبراهيم نبيًا في الآية: "إنه نبي وهو يشفع لك" (تك 20: 7)،ولم يقل له الله: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك" [5]؛ كما تقدس إبراهيم بعد فترة من الزمن حينما خرج من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه؛ ووُلِد إسحق بوعد، لكننا نجد أنه لم توجه إليه تلك الكلمات. لقد حصل إرميا على عطية خاصة وهي: "قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك"]. أما سرّ الامتياز فهو أن إرميا كان يرمز للسيد المسيح، الذي تنطبق عليه هذه العبارة بمفهوم فريد رائع، فإنه قبل تجسده منذ الأزل يعرف الآب ابنه وحيد الجنس، وقد قدسه بمعنى سلّم إليه العمل الخلاصي من جهة الإنسان. لم يكن السيد المسيح في عوز إلى تقديس خارجي، إذ هو القدوس، لكنه قدم ذاته للآب في طاعة ليقوم بخلاصنا، لعله لهذا قال: "لأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم مقدسين في الحق" (يو 17: 19). يقول العلامة أوريجينوس: [يقدس الله لنفسه بعضًا من الناس، فلا ينتظر ميلادهم ليقدسهم (يخصصهم لعمله)، إنما يفعل ذلك قبل خروجهم من الرحم... ينطبق هذا على المخلص الذي ليس فقط قدَّسه قبل خروجه من الرحم، وإنما أيضًا قبل ذلك (قبل التجسد)، أما بالنسبة لإرميا فقدسه قبلما يخرج من بطن أمه]. ربما يتسأل البعض: لماذا يقول "قبلما صورتك في البطن عرفتك"، ألا يعرف الله الجميع قبل أن يصورهم في البطن؛ نجيب أن المعرفة ليست إدراكًا ذهنيًا مجردًا، وإنما هي معرفة الصداقة والحب التي تقوم بين الله ومؤمنيه. فالكلمة العبرية yada غالبًا ما تحمل تعهدًا شخصيًا، كما يعرف الرجل امرأته (تك 4: 1)، وكما قيل: "إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض" (عا 3: 2). لهذا حزن الله جدًا لأنه "لا معرفة الله في الأرض" (هو 4: 1)، حاسبًا معرفته أفضل من تقديم محرقات (هو 6: 6)(29). وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يُعتبر الخاطى مجهولًا من الله... لا يعرف الله الذين يصنعون الإثم، لأنهم لا يستحقون أن يكونوا معروفين لديه]. [يعرف الله الأبرار الذين هم مستحقين أن يكونوا معروفين له، إذ "يعلم الرب الذين هم له" (2 تي 2: 19)، وعلى العكس فهو لا يعرف غير المستحقين لذلك، إذ يقول المخلص: "إني لا أعرفكم قط" (مت 7: 23). نحن البشر حسب مقايسنا نحكم على بعض الأشياء أنها تستحق أن نعرفها، بينما بعضها لا نريد حتى أن نسمع عنها، ولا أن نعلم عنها شيئًا. هكذا رب كل الأشياء يريد أن يعرف فرعون والمصريين لكنهم كانوا غير مستحقين أن يُعرفوا منه. كان موسى مستحقًا أن يعرفه الله، وهكذا كان كل الأنبياء مثله. إذن لتُمارس أعمال المحبة بكثرة، فيبدأ الرب في معرفتك. فإن كان الله قد عرف إرميا قبلما صوره في بطن أمه، لكنه يبدأ في معرفة البعض عندما يبلغون الثلاثين أو الأربعين من عمرهم... يقدس الله لنفسه بعض الناس، أما في حالة إرميا فإنه لم ينتظر حتى وقت ولادته ليقدسه، لقد تقدس فعلًا قبل أن يخرج من الرحم]. عرف (yada) الله إرميا، وقدسه (hiqdis)، وعينه أو أقامه (ntn) للخدمة النبوية. بجانب المعرفة، أي اهتمام الله به شخصيًا والتصاقه به نجد التقديس، يعني فرز الشخص أو الشيء وعزله لكي لا ُيستخدم إلا لحساب الله. كما أفرز الله سبط لاوي لخدمته والهيكل والسبوت وأيام الأعياد والبكور والعشور إلخ. من يستخدمها لغير خدمة الله يُحسب مجدفًا. أقامه الله نبيًا للشعوب، وليس لشعبِ واحدِ، لأنه متحدث باسم الله الذي هو إله كل الشعوب، الذي يود أن يجمع الكل للتمتع به. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
آرميا النبي | الدعوة هنا لقبول المخلص |
آرميا النبي | الدعوة لإقامة مرثاة على صهيون |
آرميا النبي | من جهة رفض التأديبات الإلهية |
آرميا النبي | إدراك خطة الله وقبول التأديب |
آرميا النبي | الدعوة للخدمة |