رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
سؤال حول تأديب الله شعبه في صراحة وبدالة يسأل حبقوق النبي الله عن الظلم الذي ساد وسط شعبه، فقد أحاط الأشرار بالبار وأساءوا إليه بظلمهم حتى جمدت الشريعة وصدرت الأحكام جائرة. والعجيب أن الأشرار يعيشون في راحة وبصحة بينما الأبرار في ضيقة وحرمان... وكأن الذي قد ترك الأرض (حز 8: 12). وجاءت الإجابة لحبقوق النبي واضحة وصريحة أن الله وإن تمهّل إنّما ليعطي الأشرار فرصة، لكنّه يُرسل لهم أداة تأديب قاسية إن لم يرجعوا عن شرّهم، هذه الأداة قد تكون أمّة وثنيّة تسبيهم وتذلّهم كالكلدانيّين: 1. تساؤل حبقوق النبي: في جسارة يصرخ النبي إلى الله، قائلًا أنه يدعوه وهو لا يسمع، يصرخ إليه مرّة ومرّات من أجل الظلم الذي ساد الشعب وهو لا يُخلّص المظلومين، فتحوّل شعب الله إلى بؤرة ظلم وجور واغتصاب وخصام، ليس من يريد أن يسمع للشريعة ولا من يقبل حكم عدل، إنّما حوّط الأشرار بالصدّيق ليكتموا أنفاسه ويخرجوا الحكم حسب هواهم. "حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع؟! أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص؟! لِمَ تريني إثمًا وتبصر جورًا، وقدّامي اغتصاب وظلم، ويحدّث خصام وترفع المخاصمة نفسها؟! لذلك جمدت الشريعة، لا يخرج الحكم البتّة، لأن الشرّير يُحيط بالصدّيق، فلذلك يخرج الحكم معوجًا" [2-4]. في عتاب ودّي يقول: "حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع؟!"، إذ لم يكف النبي عن دعوة الرب والصراخ إليه إن لم يكن باللسان فبالقلب والدموع بسبب مرارة ما بلغ إليه الشعب بسبب ظلم الأشرار، قارعًا أبواب مراحم الله بلسانه وقلبه ودموعه، مازجًا دموعه بدموع المظلومين وتنهّداته بتنهّداتهم! في كل جيل يقف أولاد الله مندهشين بسبب ما يبدو على الأشرار الظالمين من نجاح، فيقولون مع داود النبي "قد رأيت الشرّير عاتيًا وارقًا مثل شجرة شارقة ناضرة، عبر فإذا هو ليس بموجود، والتمسته فلم يوجد" (مز 37: 35-36). لقد بلغت مرارة نفس إرميا بسبب ما رآه في شعبه من فساد وظلم أنه قال: "يا ليت ليّ في البريّة مبيت مسافرين فأترك شعبي وانطلق من عندهم" (إر 9: 2)، وإن كان إرميا في حبه لشعبه لم يتركهم بالرغم ممّا عاناه من ضيق على جميع المستويات. نعود لكلمات حبقوق النبي لنجد فيها كشفًا عن شخصه، فهو رجل الله الذي لا يطيق الظلم، فيتحدّث مع إلهه في حوار مفتوح بلا كلفة ولا رسميّات أو مجاملات أو شكليّات، إنّما يتحدّث من واقع أنّات قلبه التي لا تنقطع ودموعه التي لا تجف. هذه هي صورة إنسان الله -كاهنًا أو من الشعب- لا تنقطع صلواته ليلًا ونهارًا بالشفتين، كما بالقلب والعمل... يصرخ لكي ينزع الله الفساد والظلم عن البشريّة الساقطة، فيُقيم كل نفس مقدّسة له. لذا يسأل ويطلب ويصرخ بلا انقطاع وفي غير يأس، واثقًا أن الله قادر أن يعمل! هذا وقد عرف النبي سرّ شرّهم أنه يكمن في الانحراف عن الوصيّة الإلهيّة أو الشريعة، إذ يقول "جمدت الشريعة، لا يخرج الحكم البتّة، لأن الشرّير يُحيط بالصدّيق فيخرج الحكم معوجًا" [4]. فالشريعة التي تلهب القلب نارًا وتهبه حياة تصير جامدة بلا فاعليّة إن أحاط الأشرار بالصدّيق وأفسدوا فكره من جهة الوصيّة. إن كان رجال الله في كل العصور صرخوا إلى الرب من أجل ما يرونه في الأشرار الظالمين كعابثين في الأرض، بينما يعيش الأبرار في ضيق ومرارة، لكنهم إذ قدّموا أفكارهم وقلوبهم منفتحة أمام الرب ازدادوا في عيني الله كرامة، أما من ينظر هذا الحال ويستسلّم لأفكار الشك من جهة رعاية الله وتدبيره للعالم فتُصاب نفسه بمرض. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن الكتاب المقدس يُقدّم المزمور السابع والثلاثين كعلاج مناسب لمن أُصيبت نفسه بهذا المرض. في اختصار يؤكّد هذا المزمور أن الأشرار يعيشون كالعشب على هامش السطح، يظهرون ناجحين في شتاء هذا العالم، لكن الصيف قادم فيجفّون ويحترقون إذ لا جذور لهم في أعماق التربة. 2. التأديب بالكلدانيّين: جاءت إجابة الرب على تساؤل النبي هكذا: "انظروا بين الأمم وابصروا وتحيّروا حيرة، لأني عامل عملًا في أيّامكم لا تصدّقون به إن أُخبر به: فهأنذا مقيم الكلدانيّين..." [5-6]. حقًا إن الله يصمت زمانًا لا تجاهلًا لما يحدُّث ولا لعدم اهتمام من جانبه، إنّما ليعطي فرصة لرجوع دون تأديب من جانبه، فإن لم يرجع الإنسان عن شرّه يقوم الرب نفسه بالتأديب، مستخدمًا كل وسيله للبنيان. أ. إن الله عامل عملًا في أيّامهم لا يصدّقون به إن أُخبر به... فهو يطيل أناته، لكنّه متى أدّب يُقدّم درسًا نافعًا حتى وإن كان قاسيًا. وكما جاء في سفر التثنية: "ويقول جميع الأمم: لماذا فعل الرب هكذا بهذه الأرض؟ لماذا حموّ هذا الغضب العظيم؟ فيقولون: لأنهم تركوا عهد الرب إله آبائهم" (تث 29: 24-25). \وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يكن الله يقصد أن يعاقب بقدر ما كان يقصد إصلاحهم مستقبلًا... الله صالح ومحب، ليس فقط عندما يهب عطايا بل وعندما يؤدّبنا أيضًا، فإنه حتى تأديباته وعقوباته هي من قبيل جوده، ومظهر عظيم من مظاهر عونه لنا]. كما يقول إن كان الله قد طرد آدم من الفردوس، إنّما لكي بطرده يردّه إليه... وهكذا إن كان الله سمح للشعب بالأسر إنّما ليبعث فيهم الشوق إلى الحريّة الداخليّة والحنين لا إلى الرجوع إلى أورشليم الأرضيّة فحسب وإنّما العليا أيضًا. ب. يقول: "هأنذا مقيم الكلدانيّين"، فهو سيّد التاريخ وموجَّههُ، يستخدم حتى الأشرار لتحقيق خطّته الإلهيّة الخيّرة للبشريّة. إن الكلدانيّون بحبهم للاغتصاب سبوا الشعب، لكن بسماح إلهي لأجل توبة الشعب، وكأن الله أقام الكلدانيّين خصيصًا لهذا العمل. ج. يُشير الكلدانيّين إلى عدوّ الخير الذي نسلم له أنفسنا بأنفسنا عبيدًا بسبب خطايانا ويحمينا الرب منه مرّة ومرّات حتى لا نسقط تحت مذلّته، لكنّنا إذ نصر على الخضوع له يتركنا الرب تحت يديه لتأديبنا. بهذا الروح يطلب القدّيس بولس الرسول من أهل كورنثوس أن يتركوا الشاب الذي سقط مع امرأة أبيه مسلّمًا للشيطان أن يُسلّم للتأديب، قائلًا: "باسم ربّنا يسوع المسيح إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوّة ربّنا يسوع المسيح أن يُسلّم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 4). وقد جاءت سمات أمّة الكلدانيّين هنا مطابقة لسمات عدوّ الخير وعمله ضدّنا: أولًا: "أمّة مرّة" [6] عدوّ الخير ليس كائنًا فردًا لكنّه أمة، أي مملكة يتزعّمها إبليس كملك له رؤساء وسلاطين وقوات (أف 6: 12)، له ملائكته وجنوده (مت 25: 41)، وهي مملكة مرّة تقدّم من عنديّاتها ما لها أي المرارة، تُسرّ وتفرح بمصائب الآخرين وهلاكهم، غايتها الهدم لا البنيان. ثانيًا: قاحمة: كان الكلدانيّين موضوع مرارة كل الأمم المحيطة بهم، لا يعرفون الملاطفة ولا عهود السلام بل الهجوم والمقاتلة. بهذا كانوا أمّة قاحمة تنقض على الآخرين لتأسرهم وتذلّهم. هكذا إبليس بكل ملائكته يقتحمون أبواب الإنسان لاستعباده وإذلاله، ليعمل لحسابهم. إنهم يتربّصون له ليقتحموا بسرعة اللحظات التي فيها تنفتح أبواب الحواس أو العواطف، فيهجموا إلى الداخل ليعلنوا مملكتهم فيها. لهذا يصرخ المرتل: "ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيّ" حتى لا يقتحم العدوّ حياته. ثالثًا: سالكة في رحاب الأرض: كانت أمّة الكلدانيّين تجول في كل موضع لتستولي على شعوب وممالك بلا عائق، تجول كما في الأرض كلها لتلتهم الجميع، لكنّها لا تقدر أن ترتفع إلى فوق لتذل من هم قد ارتفعوا عن الأرض. هكذا يرى عدوّ الخير أن الأرض كلها قد انفتحت قدّامه، يسلك في رحابها، حتى دُعي برئيس هذا العالم أو أركانه. حدود عدوّ الخير هي "رحاب الأرض"، فهو كما يقول القديس جيروم: [كالحية يزحف على الأرض برأسه وذيله وبقيّة جسمه، ملاصق للأرض تمامًا. إنه يلتهم التراب، فمن كان منّا أرضًا أو ترابيًا صار مأكلًا له، أما من ارتفع بقلبه إلى السماء ليمارس الحياة العلويّة دون أن تسحبه محبّة الأرضيّات فلا يقدر العدوّ أن يقتنصه! رابعًا: تملك مساكن ليست لها: كان الكلدانيّين يعتدون على أموال الغير ونفوسهم، حاسبين أن كل شيء هو لهم وحدهم، من حقّهم أن يغتصبوا ويملكوا بلا عائق، ماداموا أصحاب القوّة والسلطان. هكذا يسطو عدوّ الخير على البشريّة التي ليست من عمل يديه ولا هي ملكه، بل هي ملك ذاك الذي "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 3). طبيعة عدوّ الخير السطو على ما لله ليقيم مسكنه ومملكته في القلب الذي أوجده له ليكون هيكلًا مقدسًا له. لقد عبّر إرميا النبي عن هذه السمة الشيطانيّة بالمثل القائل: "حجلة تحتضن ما لم تبض، مُحصّل الغنى بغير حق، في نصف أيّامه يتركه، وفي آخرته يكون أحمق" (إر 17: 11). ويفسر العلامة أوريجانوس هذا المثل قائلًا: [إن الحجلة وقد عرفت كطائر ماكر تدور حول قدميّ الصيّاد لينشغل بها حتى تطمئن أن صغارها قد هربوا، وعندئذ تطير فلا يأخذ الصيّاد الصغار ولا أمهم، بهذا تشبه الشيطان الذي يشغل ذهن الإنسان بالأرضيّات فلا ينال الأرضيّات ولا السماويات. هذا الحجلة غالبًا ما تحتضن بيضًا ليس لها، وعندما يفرخ البيض يبقى الصغار معها حتى تأتي الأم الأصليّة فتُعطي صوتًا يفهمه الصغار فيتركون الحجلة المخادعة ويرجعون إلى أمهم. إنها صورة حيّة لما حدث، إذ احتضن إبليس البشريّة كصغار له وأغواها بخداعاته، لكن في نصف أيّامه جاء السيّد المسيح يُعطي صوت محبّته معلنًا إيّاه عمليًا على الصليب، مجتذبًا البشريّة المخدوعة لترجع إلى خالقها الحقيقي، فخسر إبليس ما اقتناه بدون حق، أما في آخر الدهور فيكون أحمقًا إذ يهلك تمامًا في نيران جهنم. إذ كان إبليس كالكلدانيّين ملكوا مساكن ليست لهم أو كالحجلة التي احتضنت ما لم تبض فإنه يخسر كل شيء حتى نفسه خلال الصليب الذي ردّ المؤمنين إلى خالقهم ومخلّصهم والذي أدان إبليس وكل جنوده وقد رفعه من الوسط مسمّرًا إيّاه بالصليب، إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو 2: 15). خامسًا: هائلة ومخوفة: عدوّ الخير مرهب ومخيف للإنسان المجرّد، أما المختفي في المسيح يسوع الذي "خرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ 6: 2)، فلا يستطيع أن يرهبه بل يرتعب هو منه. لنختفِ في ذاك الذي يقدر وحده "أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته" (مت 12: 19). إن كان العدوّ قويًا فقد ربطه السيّد بالصليب وسحب منه غنائمه التي هي البشريّة، وصار الرب بنفسه قائد المعركة الروحيّة. يقول الأب ثيوفان الناسك: [اعلم أن أعداءنا وكل مكائدهم في قبضة ربّنا يسوع المسيح، قائدنا الإلهي، الذي تُحارب أنت من أجل مجده وعظمته. وإذ يقودك في المعركة بذاته، فهو بالتأكيد لا يسمح باستخدام العنف ضدّك، ولا يشاء أن تكون مغلوبًا من العدو، ما لم تمل أنت إلى جانبهم بإرادتك]. سادسًا: من قبل نفسها يخرج حكمها وجلالها: أمّة الكلدانيّين مستبدّة برأيها، لا تخضع لقانون سوى هواها، وعدوّ الخير في تعامله معنا لا يحكمه سوى هواه، فالنقاش معه غير مُجدٍِ. لهذا ينصحنا آباء الكنيسة ألاَّ نعطي أذنًا لكلماته ولا ندخل معه في حوار، لأنه حواره مملوء خداعًا وغير بنّاء. سابعًا: خيلها أسرع من النمور: في هذا الأصحاح يُقدّم لنا الوحي الإلهي صورة حيّة واقعيّة لبشاعة العدوّ الحقيقي، إبليس، الذي يبذل كل طاقاته ليستعبدنا: فمن جهة سرعة حرّكته في الافتراس أسرع من النمور، وفي دهائه يعمل في الظلمة أعنف من ذئاب المساء، دائرة عمله بلا حدود، منتشر في كل موضع ينصب شباكه، إمكانيّاته جبّارة، قادر أن يأتي من بعيد لينقض على فريسته من حيث لا نتوقع، قدرته على الاغتصاب والهرب كالنسر الذي يخطف الفريسة ويطير بها، دستوره هو شريعة الظلم بلا رحمة ولا تفاهم، في طبيعته حيواني مفترس وجهه إلى قدام كالوحوش، مسبيّوه كالرمل بلا عدد، يذل الملك ويهزأ بالرؤساء، قتلاه أقوياء، يُحطّم الحصون ويكوّمها كتراب يستخدمه لحساب مملكته، أثيم بطبيعته. والآن نتحدّث عن هذه السمات في شيء من التفصيل، فمن جهة سرعة حرّكته في الافتراس كما قلنا أسرع من النمور. فهو سريع الحرّكة، مملوء مكرًا ودهاءً، يقتنص كل فرصة لاصطياد النفس، مترقّبًا أقل إهمال أو تراخي لسحب النفس إلى شبكته. والمؤمنون بدورهم يقظون ينتهزون كل فرصة للنمو والتمتّع بالإكليل... الحياة الروحيّة في حقيقتها انتهاز فرص، العدوّ ينتهز الفرصة والمؤمن ينتهز الفرصة. إنه صراع روحي مستمرّ لبلوغ كل منهما غايته. يمكننا تلمّس ذلك من كلمات القدّيس أغناطيوس الأنطاكي الذي أسرع بالكتابة إلى أهل رومية ليوقف خطّتهم التي وضعوها لإنقاذه من الاستشهاد، إذ حسب ذلك محبّة لكن في غير أوانها... حسب استشهاده فرصة قد لا تتكرّر فلماذا يحرمونه منها؟! إنه يقول: [أطلب إليكم ألاَّ تظهروا ليّ عطفًا في غير أوانه، بل اسمحوا ليّ أن أكون طعامًا للوحوش الضارية، التي بواسطتها يوهب ليّ البلوغ إلى الله. إنني خبز الله، اتركوني أطحن بأنياب الوحوش لتصير قبرًا ليّ، ولا تترك شيئًا من جسدي، حتى إذا ما متّ لا أتعب أحدًا... توسّلوا إلى المسيح من أجلي حتى أعد بهذه الطريقة لأكون ذبيحة لله... ليتني أتمتّع بالوحوش الضارية التي أُعدّت ليّ، فإنني أُصلي أن يكون لها شغفًا أكثر لتنقض عليّ، وإنني سأُحرّضها لتفترسني سريعًا]. ثامنًا: أحّد من ذئاب المساء: إن كان إبليس يتحرّك في النهار كالنمر في خفّة شديدة مع دهاء، ففي المساء لا يتوقّف إنّما يخرج كذئاب المساء ليخطف. إنه لا يعرف الراحة نهارًا ولا ليلًا، لذا يليق بنا المثابرة بلا توقّف... حتى في لحظات النوم تقول نفوسنا: "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (نش 5: 2). يرى الأب ثيوفان الناسك أن المؤمن ليس فقط يُثابر متحفظًا من ضربات الشيطان، إنّما بقوّة الروح يُثير الحرب ضدّه ليغتصب منه كل موقع سبق فاحتله داخل القلب، إذ يقول: [إن أردت يا أخي أن تنال انتصارًا سريعًا وميسورًا على أعدائك، عليك أن تشن حربًا بلا توقّف، وبشجاعة ضدّ كل أوجاعك... لذا يجب أن تكون محاربتنا الروحيّة مستمرّة بلا توقّف، ومدعّمة باليقظة وشجاعة النفس، وهذه يمكن الوصول إليها بسهولة إن طلبتها كهبة من الله. فاستمر إذن في المعركة بلا تردّد]. إنه كذئاب المساء يعمل في الظلمة ليخفي حيله ومكائده (أف 6: 11). وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [يُحاربنا هذا العدوّ لا بطريق مكشوف وواضح وإنّما بالمكايد... فلا يقترح علينا الخطايا بألوانها الحقيقيّة... وإنّما يُقدّمها بثوب آخر ليجعل حديثه مقبولًا ومتنكر]. تاسعًا: فرسانها ينتشرون، يأتون من بعيد: ينصب عدوّ الخير فخاخه في كل موضع، باذلًا كل طاقاته لاصطياد النفوس حتى وإن كان الإنسان في موضع مقدّس. لقد تجرّأ فحارب السيّد المسيح على جناح الهيكل، وقد سمح له الرب بذلك ليُحذرنا، مؤكدًا لنا أن العدوّ يُحارب في كل موضع، في البيت كما في العمل، في الكنيسة كما في الشارع، في المخدع حيث الصلاة الخاصة وأثناء العبادة الجماعيّة. أينما وجدنا يتسلّل نحونا لعلّه يجد موضعًا في قلوبنا. أما كونه يأتي من بعيد، فإنّما يعني أنه يُحاربنا من حيث لا نتوقع. لذا يليق بنا أن تكون لنا بصيرة روحيّة متّقدة، تدرك أسرار الحرب الروحيّة وتعرف حيل إبليس وخداعاته. عاشرًا: فرسانها يطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل: يقول العلامة أوريجانوس: [إن النسر يستطيع أن يرى فريسته وهو على بعد شاهق، فبسرعة خاطفة ينقض عليها ويطير، ولا يقدر أحد أن يسحبها من مخالبه. هكذا فرسان إبليس أو شياطينه تراقب النفس لتعرف متى تنقض عليها بسرعة فائقة وخلال المفاجأة المذهلة ينحدر الإنسان إلى الخطيّة في فترة قصيرة ليجد نفسه قد خسر الكثير. إن كان البناء يحتاج إلى زمن طويل فالهدم يتم في لحظات بسيطة، وإن كانت الفضائل المقدسة تتطلب جهاد طويل في الرب فإن هدمها يتحقّق في لحظات إهمال بسيطة]. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [بإن ضربة سيف خاطفة لا تستغرق إلا لحظات تجرح الإنسان ليُعالج منها ربّما لسنوات وقد تقضي على حياته. فالعدوّ يضرب بسيفه في لحظات إهمالنا... لكن هذه اللحظات تفسد جهاد سنوات طويلة!]. حادي عشر: يأتون كلهم للظلم [9]: شريعة إبليس أو دستوره الذي يعمل به هو "شريعة الظلم"، لا يطلب إلاَّ حرماننا من الخير الأعظم، وسحبنا عن الحياة السماويّة حتى لا نرتبط بالشريعة الإلهيّة أو الحق. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن الشياطين: [إنها لا تُصارع لتنال شيئًا، إنّما لكي تُفسدنا نحن... فالشيطان يبذل كل طاقته لكي يطردنا من السماء]. ثاني عشر: منظر وجوههم إلى الأمام: ربّما يقصد بهذا أنهم ليسوا كالبشر لهم الوجه المرتفع الذي يطلب السماء، وإنّما لهم سمة الوحوش الضارية التي تمتد بوجوهها لتفترس بلا حنو ولا شفقة! ثالث عشر: يجمعون سبيًا كالرمل: يصطاد إبليس النفوس بلا عدد، ويسبيها كالرمل، فقد لقب بـ"رئيس هذا العالم" و"رئيس سلطان الهواء الذي يعمل الآن في أبناء المعصية" (أف 2: 2). يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لماذا يدعو (الرسول) الشيطان برئيس العالم؟ لأنه قد التفت البشريّة كلها تقريبًا حوله، وصاروا عبيدًا له بإرادتهم ومحض اختيارهم]. رابع عشر: تسخر من الملوك، والرؤساء ضحكة لهم [10]: في كل مرة يسقط الشعب تحت السبيّ يُذل الملك ويصير العظماء موضوع سخرية وهزء أمام المنتصرين، فعندما سبي نبوخذ نصر أورشليم ومدن يهوذا أمر بقتل أولاد الملك صدقيا قدام عينيه، وفقأ عيني الملك وحمله إلى بابل للسخرية به. هكذا إذ يسقط مؤمن تحت يديّ عدوّ الخير بسبب استهتاره أو تراخيه يسخر به. إن كنّا في المسيح يسوع ملك الملوك صرنا ملوكًا روحيين (رؤ 1: 6، 5: 10)، فإن إبليس يبذل كل طاقاته ليأسرنا مستهينًا بنا. في دراستنا لسفر هوشع رأينا أن الملك يشير للإرادة الإنسانيّة التي تملك على الإنسان لتُدير كل أموره، والرؤساء يشيرون إلى طاقات الإنسان ومواهبه... فإنه إذ يأسر العدوّ إنسانًا يسخر من إرادته البشريّة، إذ يفقده إيّاها ليعيش بقيّة حياته كعبد ذليل يفعل إرادة سيّده الجديد (الشيطان)، ويبدّد مواهبه وطاقاته (الرؤساء) ليجعل منهم هزءًا وسخرية! عدوّ الخير يفقد الإنسان كل شيء: إرادته ومواهبه وطاقاته حتى جسده أيضًا، وأخيرًا يحمل معه إلى حيث الهلاك الدائم. خامس عشر: تضحك على كل حصن: لم يكن للحصون أن تقف أمام أمّة الكلدانيّين، وهكذا أيضًا لا يستطيع أحد أن يتحصّن لا بخبراته الطويلة ولا بقدراته ومواهبه ولا بمعرفته الفكريّة العقلانيّة ولا بكرامته أو نوعيّة عمله... إذ يضحك إبليس على هذه الحصون، إنّما يبقى حصن واحد إن تمنعنا لا يقدر على الاقتراب إليه، ألاَّ وهو السيّد المسيح صخر الدهور. يقول القديس جيروم: [إن السيّد المسيح هو الصخرة (1 كو10: 4) الملساء التي لا تقدر الحيّة أن تزحف عليها، فمن يتحصّن فيّه يحتمي من العدو، الحيّة القديمة]. سادس عشر: تكوّم التراب وتأخذه: إمعانًا في الإذلال يهدم العدوّ الحصن الشامخ ويحوله إلى تراب ثم يعود العدوّ ويستخدم التراب لحساب مملكته أي لصالحه. أقول إنها صورة مرّة لعمل إبليس في حياة المأسورين بواسطته، يحول حياتهم إلى تراب، إذ يسحب قلوبهم إلى الأرض، ويفسد طبيعتهم... وعندئذ يستخدم هذا التراب كأوان خزفيّة تحمل سماته لاصطياد الآخرين. إن كان العدوّ قد سقط من السماء، فهو لا يكف عن أن يبذل كل طاقاته لا ليحرم ضحيّته من الحياة السماويّة وينحدر به إلى محبّة الأرضيّات، وإنّما يستخدمه أيضًا لإسقاط الآخرين وحرمانهم من السموات التي في داخلهم. سابع عشر: تتعدّى روحها فتعبر، هذه قوّة إلهها [11]: تتعدّى روحها أو تتغيّر إلى ما هو أردأ أو أشر، فتعبر من شر إلى شر، ومن إثم إلى إثم... متطلّعين إلى إثمهم واغتصابهم كقوّة إلههم الذي يهبهم النصرة على الشعوب. لقد حسبوا أن آلهتهم أقوى من إله إسرائيل، فازدادوا تمسكًا بوثنيّتهم واعتزازًا بها. 3. حبقوق يرق لشعبه: حبقوق النبي الذي امتلأ غيرة على مجد الله فصار يصرخ ويئن متسائلًا: لماذا يسكت الله على الأشرار المحيطين بالصدّيق يفسدون فكره وحياته، إذا به يرى بروح النبوّة سقوط الشعب اليهودي المتّسم بالظلم في ذلك الحين يسقط تحت عبوديّة الكلدانيّين المرّة فلم يحتمل. وبقدر ما اتّسم النبي بانفتاح قلبه نحو الله يحدّثه بصراحة ودالة في غير رسميّات أو شكليّات اتسم أيضًا بالحب لشعبه فلم يحتمل أن يراه متألمًا بواسطة أمّة شرّيرة وقاسية، حتى وإن كان هذا بسماح إلهي للتأديب، إنه لا يحتمل أنّات إخوته ومرارتهم، وكأنه يقول مع إرميا النبي: "من أجل سحق بنت شعبي انسحقت، حزنت، أخذتني دهشة" (إر 8: 21). حقًا، الله هو الذي يسمح بتأديب أولاده على خطاياهم، لكنّه وهو يؤدّب لا يقبل أن يشمت أحد فيهم، بل يُطالبنا أن نئن مع أنّاتهم ونصرخ لأوجاعهم وننسحق مع انسحاقهم. لقد أدّب الله يهوذا بالسبيّ البابلي وإذ وقف بنو أدوم شامتين وبّخهم قائلًا: "يجب أن لا تنظر إلى يوم أخيك يوم مصيبته، ولا تشمت ببني يهوذا يوم هلاكهم، ولا تفغر فمك يوم الضيق" (عو 12). إذ يرق حبقوق لشعبه الساقط تحت نير الكلدانيّين يُعاتب الله قائلًا: "ألست أنت منذ الأزل يا رب إلهي قدوسي؟!" [12]. وكأنه يقول: كيف تحتمل يا رب أن ترى الكلدانيّين الأمّة الشرّيرة تنهب شعبك وتظلمهم وأنت صامت، مع أنك القدوس الذي لا يطيق الشر؟! أنت إلهي الملتزم بسلامي وطمأنينتي لا من جهة نفسي فحسب وإنّما من جهة الشعب كله أيضًا. إن كنت إلهي المهتم بيّ أفلا تهتم أنت بشعبك؟! ما أجمل مشاعر النبي ففي لحظات العتاب المرّة ينادي الرب "إلهي، قدوسي"، وكأنه في ضيقة نفسه يجد الرب ملاصقًا له، يهتم به ويحتضنه منسوبًا إليه، فهو إلهه هو وقدوسه هو! لنعاتب الرب بكل مرارة، لكن في عتابنا نرى التصاقه بنا ونسبه إلينا، فنلتصق بالأكثر به ونرتمي في أحضانه مؤمنين بعمله معنا وفينا. حينما ينفتح قلبنا بالحب نحو الآخرين ونشفع فيهم أو نطلب عنهم يصير الرب منسوبًا لنا، إذ يُلاصق المحبّين ويفخر بأولاده المُتسعة قلوبهم! يُكمل النبي عتابه، قائلًا: "لا نموت، يا رب للحكم جعلتها، ويا صخر للتأديب أسستها" [12]. يقول النبي: "لا نموت"، فقد أدرك أن الرب إلهه وقدوسه الأزلي في محبته لشعبه يسكب سماته عليهم، إذ هو أزلي فوق حدود الزمان يهب أولاده "الخلود"، لن يموتوا... وإن كانوا في شرّهم يستحقون الموت، لكن في الرب الحيّ يحيون. يقول السيّد الرب: "إنيّ أنا حيّ فأنتم ستحيون" (يو 14: 19). لقد أسلمهم للكلدانيّين للتأديب، لكن كما يقول المرتل: "تأديبًا أدبني الرب وإلى الموت لم يسلمني" (مز 118: 18). الله وهب الكلدانيّين السلطة أن يؤدّبوا الشعب، وأن "يغتنموا غنيمة وينهبوا نهبًا" (إش 10: 6)، لكن ليس سلطة بلا حدود بل بالقدر الذي يرى الله فيه خلاص شعبه، لذا يقول النبي: "يا رب للحكم جعلتها، ويا صخر للتأديب أسستها"، فحدود السلطان هو أن يكون عملهم واغتصابهم للتأديب والحكم وليس للهلاك. لهذا عندما سأل الشيطان الرب أن يسمح له بمضايقة أيوب، أجابه الرب: "ها هو في يديك ولكن احفظ نفسه" (أي 2: 7). يقول الرب للبحر: "إلى هنا تأتي ولا تتعدّى، وهنا تخم كبرياء لججك" (أي 38: 11)، فهو يسمح له يتدفّق ولكن إلى حدود وضعها له. وبالنسبة لنا إن كان الله يسمح للشيطان بمهاجمتنا لكن في حدود، بهجومه نغلب إن كنا يقظين وشاكرين، فتتحوّل الحرب إلى غلبة ونصرة، وإن تراخينا وأهملنا فلا يكون الشيطان غلة أذيّتنا بل نحن السبب، وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [قد يقول قائل: ألم يؤذ آدم إذ أفسد كيانه وأفقده الفردوس؟ لا، وإنّما السبب في هذا هو إهمال من أصابه الضرر، وعدم ضبطه لنفسه وجهاده. فالشيطان الذي استخدم مكائد قويّة مختلفة لم يقدر أن يخضع أيوب، فكيف استطاع بوسيلة أقل أن يُسيطر على آدم؟!]. في الوقت الذي يعلن فيه النبي طمأنينته أن الله إلهه القدوس الأزلي لن يسمح للشعب بالموت، إنّما يستخدم الكلدانيّين للتأديب، يعود فيعاتب: "عيناك أطهر من أن تنظرا الشر، ولا نستطيع النظر إلى الجور، فلم تنظر إلى الناهبين، وتصمت حين يبلع الشرّير من هو أبر منه؟!" [13]. يعلم النبي حبقوق ما قاله داود المرتل: "لأنك أنت لست إلهًا يُسر بالشر، لا يُساكنك الشرّير" (مز 5: 4)، ويدرك ما أدركه إرميا أن الله يبغض الرجس (إر 44: 4)، لكنّه كان في حيرة كيف يصمت أمام ما يفعله الكلدانيّون الأشرار بشعبه ويتطلّع إلى الظلم فقد ابتلع الشرّير من هو أبرّ منه. وهنا لا يقول ابتلع "البار" لأن الشعب كان شريرًا، ولكن إن قورن بالكلدانيّين فهم أبر منهم. لعلّ كلمة "تنظر" أو "تتطلّع" هنا لا تعني مجرد الرؤية، فالله عالم بكل شيء، وليس شيء مخفيًا عنه، لا يحتاج أن ينظر ليرى، وإنّما يقصد بذلك أنه يرضى على تصرّفاتهم وينجح طرقهم. فنظرة الله إلينا إنّما تعني اهتمامه بنا وإنجاحه طريقنا. بدأ النبي يبرز سمات هؤلاء الكلدانيّين الأشرار الذين أنجح الرب طريقهم إلى حين: "وتجعل الناس كسمك البحر كدبّابات لا سلطان لها، تطلّع الكل بشصها، وتصطادهم بشبكتها، وتجمعهم في مصيدتها. فلذلك تفرح وتبتهج. لذلك تذبح لشبكتها، وتبخر لمصيدتها، لأنه بها سمن نصيبها، وطعامها مسمّن (من الصفوة - الترجمة السبعينيّة) أفلأجل هذا تفرغ شبكتها ولا تعفو عن قتل الأمم دائمًا" [14-17]. لقد تطلّعوا إلى الشعوب الأخرى كسمك في البحر بلا مالك من حقّهم أن يصطادوا ما يشاءون ليأكلوا ويشبعوا، وكدبّابات لا سلطان لها بلا ثمن يفعلون بها ما يريدون. إنهم يفرحون ويبتهجون حينما يأتي الشص بسمكة أو تجمع شباكهم الكثير ويسقط الناس في مصيدتهم... يفرحون بالصيد البشري مقدّمين ذبائح وثنيّة وبخورًا لآلهتهم الواهبة لهم هذا الصيد الثمين. كأن النبي يقول للرب: أتقبل أن يكون شعبك سمكًا بلا ثمن في شباك وثنيّة، يلتهمه الأشرار مقدّمين ذبائح شكر للأصنام وبخورًا أمام الأوثان؟! إن شعبك - بالرغم مما بلغ إليه من انحراف - لكنّه ثمين في عينيك، فكيف تتركه صيدًا لهؤلاء الكلدانيّين؟! تفرح أمّة الكلدانيّون بصيد هذا الشعب أكثر من اصطيادها أي شعب آخر، إذ يقول النبي: "لأن بهما (بالشص والشبكة) سمن نصيبها وطعامها مسمن"، أو كما يقول في الترجمة السبعينيّة "طعامها من الصفوة Choicest"، فهي لا تفرح إلا بالصيد المختار. هكذا يصوّب إبليس سهامه بالأكثر على أفضل المؤمنين ليسحبهم من إيمانهم وكما يقول القديس جيروم: [لا يهتم الشيطان بغير المؤمنين إذ هم في الخارج... إنّما يريد أن يفسد كنيسة المسيح ] والعجيب أن العدوّ إبليس كالكلدانيّين كلما سمن نصيبه ازدادت شراهته والتهب قلبه بالأكثر لاصطياد آخرين، إذ قيل: "أفلأجل هذا تفرغ شبكتها ولا تعفو عن قتل الأمم دائمًا. |
|