رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
التمثال المعدني: "أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثالٍ عظيمٍ. هذا التمثال العظيم البهي جدًا وقف قُبالتك ومنظره هائل" [31]. ربما يتساءل البعض: لماذا قدم الله هذا الحلم الخاص بالممالك الأربع التي تنتهي بمجيء السيِّد المسيح لنبوخذنصَّر وليس لدانيال؟ أ. لو أن الحلم قُدم لدانيال فأعلنه وأعلن عن تفسيره، لما سمع به كل اليهود المُشتتين في الدولة البابلية، وأيضًا البقية الباقية في إسرائيل. لكنه إذ أُعلن للملك الذي اضطربت روحه وكاد أن يَقتل جميع الحكماء والسحرة والعرافين، انتشر الأمر في كل المملكة، وأمكن لكل يهودي أن يتساءل عن السرّ الإلهي وراء هذا الحلم. ب. إذ يخص الحلم مجيء السيِّد المسيح مخلص العالم، أراد أن يسمع به الأمم لعلهم يتابعون أمر مجيء المُخلص. "رأس هذا التمثال من ذهبٍ جيدٍ. صدره وذراعاه من فضةٍ. بطنه وفخذاه من نُحاس. ساقاه من حديد. قدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف" [32-33]. بعد أن عرض دانيال الحلم لم يسأل: "هل هذا هو الحلم؟"، بل في ثقة ويقين أن ما أعلنه له الله صدق قال: "هذا هو الحلم؟" كان الملك يستمع إليه في صمت مع دهشة، فقد أخبره دانيال بالحلم في دقة شديدة. يُلاحظ في هذا الحلم الآتي: 1. رأى الملك تمثالًا ملوكيًا عظيمًا، جاء في الأصل "صورة واحدة عظيمة"، فمع اختلاف معادنه هو تمثال واحد. كل الممالك المتعاقبة مع اختلاف إمكانياتها في نظر الله هي تمثال واحد، أو قوة زمنية واحدة، بهيَّة جدًا في أعين المنتفعين بها، ومرعبة (هائلة) بالنسبة للذين يسقطون تحت ضغط هذه القوى. لم يرَ الملك صورًا كثيرة أو تماثيل بل صورة واحدة مع أن الممالك الأربعة تختلف عن بعضها البعض، بل قامت كل مملكة على أنقاض الأخرى. ففارس قامت بغلبتها على بابل، ومقدونيَّة على حساب فارس، والدولة الرومانية على حساب المقدونية. مع اختلاف هذه الممالك تشترك في مقاومتها لإرادة الله، لهذا فهي تمثل وحدة واحدة مقاومة للحق. 2. رأس التمثال من ذهب، وينتهي بالقدمين من حديد وخزف، ففي هذا إشارة إلى انحلال العالم شيئًا فشيئًا وضعفه وفساده المتزايد عبر الأجيال. 3. هنا يتحدث عن كل مملكة ككل، وليس عن ملوك بأعينهم. فإن كان كورش قد وُجد يحمل صفات نبيلة مع حكمة واتزان لكن مملكة فارس ككل تحمل فسادًا ومقاومة للحق. 4. قُدم هذا الحلم لملكٍ وثنيٍ، لكي إذ يتعرف عليه اليهود المسبيُّون الذين يشتاقون إلى العودة إلى بلدهم لا يصابون بحالة إحباط عندما تظهر مملكة فارس لتحكم بابل ثم اليونان فالرومان، وفي هذا كله لم تعد تظهر بعد إسرائيل كما في أيام داود الملك أو سليمان، لأن الله يوَدْ تقديم مملكة ابن داود، الحجر الذي يضرب التمثال ويصير جبلًا عظيمًا، تمتدّ مملكته الروحية على مستوى العالم كله! لقد أراد أن يُوجه أنظارهم من انتظار مملكة زمنية إلى ملكوت أبدي روحي. 5. تجاهل مملكة أشور، لأن الحلم لا يُقصد به تسجيل التاريخ بل قيادة الكل نحو السيد المسيح مخلص العالم. لهذا لم يذكر الممالك السابقة، بل بدأ بمملكة بابل. 6. وُصف نبوخذنصَّر في هذا الحلم وهذه الرؤيا ب "الرأس من ذهب" فهو الذي جعل من بابل إمبراطورية عالمية لها مجدها وعظمتها وسيادتها وسلطانها، لهذا جعله الوحي الإلهي ليس مؤسسًا لهذه الإمبراطورية فحسب، بل صوّره على أنه هو وبابل واحد، فقد كان رمزًا لها وممثلًا لعظمتها، كقوله: "أليست هذه هي بابل التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي" (دا 4: 30)، أو كما وصفه الوحي: "أنت أيها الملك الذي كبرت وتقويت، وعظمتك قد زادت وبلغت إلى عنان السماء، وسلطانك إلى أقصى الأرض" (دا 4: 22). كان نبوخذنصَّر ملكًا وقائدًا عسكريًا ومعماريًا وعبقريًا فذًا، وكان سلطانه سلطانًا مباشرًا وبلا حدود على كل من خضع لصولجانه. رمز الوحي الإلهي لهذا الملك ولمملكته بالذهب الذي يرمز في الكتاب المقدس إلى العظمة والرفعة والسمو. كما اشتهرت المملكة أيضًا بوفرة ما كان فيها من ذهب. يقول هيرودوت Herodotus الذي زار بابل بعد نبوخذنصَّر بحوالي 90 سنة (450 ق.م.)؛ أنه لم يرَ ذهبًا في الأرض بمثل هذه الوفرة التي رآها في بابل، خاصة في معابدها وهياكلها ومذابحها وأوانيها ومعداتها، وروى غيره من المؤرخين عما رأوه من مصنوعات الذهب الخالص. 7. وقد رمز لمملكة فارس ومادي بالفضة التي تُشير في الكتاب المقدس إلى الغنى والطلب المتواصل للمال "فمن يحب الفضة لا يشبع" (جا 5: 10)، كما باع يهوذا السيد المسيح بالفضة (لو 22: 5). وكانت كلمة "فضة" في كل اللغات السامية هي نفس كلمة "مال". وكانت هذه الإمبراطورية محبة للمال جدًا وقد طورت نظامًا واسعًا للضرائب والتي كانت تدفع بالفضة، وبسبب هذا النظام الضرائبي جمع ملوك مادي وفارس ذخيرة واسعة من الأموال الفضية. وقد تنبأ دانيال النبي في رؤياه الثالثة (دا 11: 2) عن أحد ملوك الفرس الذي "سيكون أغناهم" وكان يعني أحشويرش الذي جمع كل فضة أبيه داريوس وملوك الفرس الآخرين. "أنت أيها الملك ملك ملوك لأن إله السموات أعطاك مملكة واقتدارًا وسُلطانًا وفخرًا. وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك وسلَّطك عليها جميعها. فأنت هذا الرأس من ذهب" [37-38]. وكانت عبارة "ملك ملوك" هي لقب مستخدم لكثير من حكام الشرق، فقد كشفت النقوش المسمارية Cuneiform أنه كان لقبًا عامًا بين الفرس، وبين الإثيوبيِّين والبابليِّين(74). يُلقب نبوخذنصَّر في سفر حزقيال أيضًا بلقب "ملك الملوك" (حز 7: 25)، وقد امتد سلطانه على كل العالم المتحضر في زمانه، خاصة الأمم التاريخية مثل مصر وفلسطين وآسيا الصغرى. وبهذا المعنى صارت بابل مملكة عالمية، وكانت النموذج الأول والبداية كممثلة لكل القوى العالمية التاليّة لها. ويُلاحظ هنا أن دانيال لم يتملَّق الملك بل دعاه الرأس الذهبي للتمثال الذي يتحطم تمامًا، وأنه ستقوم بعده مملكة أخرى. وحينما يقول "أنت هذا الرأس" لا يقصد به هو شخصيًا بل مملكة بابل التي من أشهر ملوكها نبوخذنصَّر. وقد عُرف هذا الملك بالقسوة والعنف، كما عُرف الملك بيلشاصر باستخفافه بالله الحق. "وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك، ومملكة ثالثة أخرى من نحاسٍ فتتسلَّط على كل الأرض" [39]. دعى مملكة فارس أصغر من مملكة بابل، ليس من جهة اتساع الرقعة ولا ضعف في القوة والسلطان أو الغنى، إنما هي أصغر بسبب تزايد الفساد والوحشية. حتى كورش المُتزن والحكيم في بعض الأمور استخدم الوحشية وهو يحاول السيطرة على العالم كله في كل اتجاه. تحدث بعد ذلك على مملكة المقدونيِّين التي تسلطت على كل الأرض، يدعوها "نحاسية"، ليس لأنها أكثر صلابة من مملكة فارس، لكن لأنها أكثر رداءة، حتى متى قورنت بها تكون كالنحاس بالنسبة للفضة. وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد، لأن الحديد يدق ويسحق كل شيء، وكالحديد الذي يكُسر تسحقُ وتكُسر كل هؤلاء. وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف والبعض من حديد، فالمملكة تكون مُنقسمة، ويكون فيها قوة الحديد من حيث أنك رأيت الحديد مُختلطًا بخزف الطين. وأصابع القدمين بعضها من حديد والبعض من خزف فبعض المملكة يكون قويًا والبعض قصمًا. وبما رأيت الحديد مختلطًا بخزف الطين فأنهم يختلطون بنسل الناس ولكن لا يتلاصق هذا بذاك كما أن الحديد لا يختلط بالخزف" [40-43]. ينطبق الحديث هنا على مملكة الرومان (58 ق.م- 76 ق.م.). إذ انقسمت المملكة المقدونية إلى أربعة أقسام بعد موت الإسكندر، وقام الرومان بإخضاع الأقسام الأربعة. دُعيَ قياصرة الرومان حديدًا إشارة إلى قسوتهم التي فاقت قسوة ملوك الممالك السابقة، كما كانت أقوى بكثير من الإمبراطوريات السابقة. أما اختلاط الحديد بالخزف فيُشير إلى عدم وجود الوحدة الحقيقية، كما يُشير إلى الفساد. لما كانت الدولة الرومانية لم تستعمر الأراضي المقدسة حتى سنة 63 ق.م. لذلك نادي الدارسون العقلانيون الذين يرفضون الوحي الإلهي والنبوات بأن سفر دانيال كُتب في فترة المكابيِّين حوالي 167-165 ق.م، وأن الكاتب لا يتنبأ إنما يُسجل حقائق تاريخية سابقة تخص الممالك الأربع: الكلدانيَّة، مادي، فارس، اليونان. لأنهم إن قبلوا فكرة المملكة الرابعة بكونها الدولة الرومانيَّة يكون الكاتب قد تنبأ عنها قبل قيامها بحوالي 100 عامًا. وقد سبق فرأينا ما تؤكده الشواهد أن الكاتب في الواقع هو دانيال النبي في القرن السادس ق.م. ليس فقط قبل قيام الدولة الرومانيَّة بل وقبل قيام الدولة اليونانيَّة. يقول القس عبدالمسيح أبو الخير: أ. عُرفت الجيوش الرومانيَّة بالجيوش الحديديَّة، واستخدم دانيال النبي كلمة "حديد" في وصف هذه الإمبراطورية 14 مرة. ومن ثم اعتقدت الكنيسة منذ فجرها بأن هذه الإمبراطورية هي الإمبراطورية الرومانيَّة. وكان هذا هو رأي أقدم الآباء الذين وصلتنا كتاباتهم عن سفر دانيال؛ مثل القدِّيس إيريناؤس في القرن الثاني الميلادي والقديس هيبوليتس في القرن الثالث والقديس جيروم في القرن الرابع وذهبي الفم في القرن الرابع أيضًا (347-403 م). ويقول أحد المفسرين ويدعى جوزيف ميدى Joseh Mede: [اعتقدت الكنيسة اليهودية قبل زمن مخلصنا أن الإمبراطورية الرابعة في سفر دانيال هي الإمبراطورية الرومانيَّة، وهذا المعتقد تسلمه تلاميذ الرسل وكل الكنيسة المسيحيَّة لمدة 300 سنة]. ب. ما يبرهن أيضًا على صحة هذا التفسير، وبالتالي إعجاز الوحي والنبوة في سفر دانيال، وعظمة الكتاب المقدس، وأنه كلمة الله، هو أن مملكة المسيَّا، المسيح المنتظر، بدأت في أيام هذه الإمبراطورية، إذ تقول النبوة في الحلم والرؤيا: "وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكها لا يترك لشعب آخر". فقد ولد السيِّد المسيح في أيام هذه الإمبراطورية، وجاء ميلاده في بيت لحم بسبب أمر قيصرها، إذ يقول الوحي في العهد الجديد وفي بداية الإنجيل للقدِّيس لوقا: "وفي تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة" (لو 2: 10)، ويؤرخ بداية خدمة يوحنا المعمدان سفير المسيح بتواريخ إمبراطورها وولاتها "وفي السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر إذ كان بيلاطس واليًا على اليهوديَّة... كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية" (لو 3: 1-3). ودفع لها السيِّد المسيح الضرائب عن نفسه وعن تلاميذه (مت 17: 24-27)، وكان يتعامل بعملتها (مت 22: 17-21)، وبحسب قوانينها صُلب (يو 19: 21). ج. كانت الإمبراطورية الرومانيَّة أكثر استمرارية من الإمبراطوريات التي سبقتها، فقد استمرت الإمبراطورية البابليَّة 70 سنة، والإمبراطورية الماديَّة الفارسيَّة 200 سنة، والإمبراطورية اليونانيَّة 130 سنة، ولكن الإمبراطورية الرومانيَّة دامت واستمرَّت 500 سنة كإمبراطورية موحدة وغير منقسمة، واستمرت بقسميها الشرقي والغربي إلى سنة 1453م عندما استولى الأتراك على القسطنطينية واستمر القسم الغربي من خلال بقية دول أوروبا حتى اليوم، وهذه الدول نقلت حضاراتها وجزء كبير من شعبها إلى الأمريكتين وأستراليا بعد اكتشافهما، حتى صارا جزئين منها. د. يقول القدِّيس إيريناؤس في القرن الثاني في تفسيره لقول النبوة "فالمملكة تكون منقسمة"، وفي إشارته للعشرة أصابع "العشرة أصابع إذًا هي الملوك العشرة التي ستنقسم إليهم المملكة، وسيكون بعضهم قوي وفعال، وبعضهم الآخر كسول وبلا فائدة، ولكن يتفقوا . ويقول القديس جيروم: [إنه يلاحظ أن النبوة قد تمت في عصره جزئيًا في دمار الإمبراطورية بالعداء الداخلي والحروب الأهلية. وقد تمت فيما بعد في التقسيم إلى إمبراطورية شرقية وإمبراطورية غربية، وتمت أخيرًا بتقسيمها إلى ولايات صغيرة كثيرة]. ويرى القديس هيبوليتس أن الأصابع العشرة التي من حديد ومن خزف تعني الديموقراطيات التي كانت ناهضة ومقسمة بين الأصابع العشرة للتمثال التي سيكون فيها الحديد مختلطًا بالخزف. ز. يرى البعض أن اختلاط الحديد بالخزف يُشير إلى اختلاط عناصر حضارتين محددتين، دخول السلالات البربرية إلى قلب الإمبراطورية المتحضرة واتخاذ البرابرة لأشكال الحضارة. ومن ثم فإن اقتحام القبائل الجرمانية من جهة والأتراك من جهة أخرى، هو تفسير أقرب للمعنى الحقيقي للرمز في النبوة. |
|