09 - 04 - 2023, 03:26 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
اهتمامه بالأيتام والأرامل والمساكين
إِنْ كُنْتُ مَنَعْتُ الْمَسَاكِينَ عَنْ مُرَادِهِمْ،
أَوْ أَفْنَيْتُ عَيْنَيِ الأَرْمَلَةِ [16].
آمن أيوب بالخالق الذي يخلق كل البشر في أحشاء أمهاتهم بلا تمييز، هو الذي يَّشكل كل جنين، دون محاباة بين طبقة اجتماعية وأخرى.
سمح الله لأيوب البار أن يدخل في هذه الضيقة الشديدة وإن يعاتب الله علانية لكي تتعلم الأجيال كلها كيف وُجد أبرار حتى في عصر ما قبل الناموس سموا بالإيمان الحيّ خلال الناموس الطبيعي فوق كثير ممن عاشوا في ظل الناموس الموسوي، بل وحتى في عهد النعمة.
عاش حرًا، لا يستعبد نفسه لممارسة الظلم أو القسوة. يشتهي أن يقدم للمساكين كل احتياجاتهم وكل ما يشتهونه، مهما كلفه الأمر. لا يسمح لأرملة أن تتوسل بدموعها، إنما يُسرع بالعطاء للجميع ما استطاع!
* "لم يحرم المساكين من كل مرادهم، ولا جعلت عين أرملة تبحث عن شيء" [16]. أرأيتم كيف كان يتحاشى العجرفة، سالكًا في اعتدال، بكونه طبيبًا للجميع، ميناءً عامًا، وملجأ مشتركًا لجميع الذين في ضيقٍ.
يقول: "كل مرادهم". هذا لا يعني أن يقول نعم لهذا الاحتياج، ولا لذاك، بل لا يحرمهم من كل احتياجٍ دون تمييز، حتى وإن كان محفوفًا بالمخاطر، وكثير التكلفة. لاحظوا أنه قد أعان من لا يتوقع منهم شيئًا: الأرامل والأيتام والذين بلا عون. لم يكن منشغلًا بالافتخار والمجد، بل يعطي من أجل الله.
* بهذه الكلمات يظهر الرجل القديس أنه ليس فقط يخدم احتياجات الفقراء، بل ويهبهم مرادهم... يضيف "أو جعل عيني أرملة تنتظران"... فقد كُتب في موضع آخر: "لا تقل لصاحبك، اذهب وعُد فأعطيك غدًا، وموجود عندك" (أم 3: 28)
البابا غريغوريوس (الكبير)
أَوْ أَكَلْتُ لُقْمَتِي وَحْدِي،
فَمَا أَكَلَ مِنْهَا الْيَتِيمُ! [17]
بلغ به الحنو أنه لم يستطع أن يأكل وحده، فلا يطلب زوجته وأولاده فحسب ليأكلوا معه، وإنما يبحث في كل وجبة عن يتيم ليشاركه وجبته!
كان من آداب المعاشرة وقواعد التشريعات لدى الشرقيين أن يدعوا الآخرين للمشاركة معهم في الطعام. في بعض المناطق الصحراوية بعد إعداد الطعام يقف شخص من أهل البيت على مكانٍ عالٍ ويدعو بصوت عال أن يتفضل أحد ويشارك أهل البيت الطعام. وكان أحيانا ينتظر مجيء ضيف قادم سمعه من مسافة بعيدة ليشارك الأسرة طعامها.
بَلْ مُنْذُ صِبَايَ كَبِرَ عِنْدِي كَأَبٍ،
وَمِنْ بَطْنِ أُمِّي هَدَيْتُهَا [18].
ما تمتع به من اهتمام حتى بالعبيد ليس صادرًا عن شريعة ملزمة ولا عن قوانين رادعة، لكنه أمر يمس أعماقه، صادر عن عمل إلهي في داخله. فمنذ صباه وهو بعد غير ملتزم بأمورٍ أسريةٍ كان يتعامل مع العبيد الذين في بيته كأبناء له، يمارس أبوة حانية نحوهم وهو صغير السن.
مرة أخرى لا يذكر كيف تدرب على الحنو على العبيد والأيتام والأرامل وكل الذين في عوزٍ، فحسب أن ما يمارسه قد ناله من الله وهو بعد في الرحم قبل ولادته.
* يحسب أنه لأمر مجحف لحنوه أن يأكل وحده ما قد خُلق للعامة... لكن هذه الأحشاء الفائقة الحنو، هل اجتذبها لنفسه بنفسه، أم نالها بنعمة خالقه، دعنا نعرف ذلك. "بل منذ طفولتي كبر عندي الحنو، ومن رحم أمي خرج معي" [18]. فبالرغم من تعهده للأمر بناء على أمره (أي جهاده) لكي ينمو الحنو فيه، فمن الواضح أن هذا الأمر لم يكن في سلطانه أن يخرج معه من الرحم. واضح أنه لم ينسب شيئًا إلى صلاحه الذاتي، إذ يقدم شهادة أنه نال هذا خلال عطية خالقه. نال الصلاح الذي يمارسه منذ خلقته. بهذا يقرر تسبيحه للخالق، فما لديه ناله منه ولم ينل حنوه من آخر.
البابا غريغوريوس (الكبير)
إِنْ كُنْتُ رَأَيْتُ هَالِكًا لِعَدَمِ اللِّبْسِ،
أَوْ فَقِيرًا بِلاَ كِسْوَةٍ [19].
إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي حَقَوَاهُ،
وَقَدِ اسْتَدْفَأَ بِجَزَّةِ غَنَمِي [20].
لم يقف اهتمامه بالفقراء عند تقديم طعام لهم، لكنه إذ يرى إنسانًا يئن من العري بسبب البرد أو الحر، ليس لديه كسوة، لا ينتظر أن يسأله، بل يحسب ذلك بركة له أن يقدم لهم ثيابًا ثمينة من الصوف الذي يُنسج من جزة غنمه.
* إذ لم يحتقر الفقير أظهر فضيلة التواضع، وأيضًا يكسوه عن حنوٍ. فإن هاتين الفضيلتين يلزم أن تلتصقا ببعضهما البعض، ويسندهما العمل المتبادل بينهما. من جهة احتياج المخلوق الزميل، ليعين التواضع الحنو، ويعين الحنو التواضع، بطريقة بها متى رأيت شخصًا شريكًا معك في طبيعتك تنقصه ضروريات الحياة، يلزمك ألا تكف عن أن تكسيه لا في عدم حنو، ولا عن كبرياء لا تكرم من تكسيه.
يوبخ يعقوب بقوة: "إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي، فقال لهما أحدكم: أمضيا بسلام استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد، فما المنفعة؟" (يع 2: 15-16). هذا ما ينصح به يوحنا الرسول: "يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق" (1 يو 3: 18). فإن الحب الحاني يلزم أن يظهر دائمًا بالكلام اللائق وفي نفس الوقت بخدمة العطاء...
يقول بولس: "لكي تكون في هذا الوقت فضالتكم لإعوازهم، كي تصير فضالتهم لأعوازكم" (2 كو 8: 14). هذا يعني أننا في اهتمام نعتبر الذين نراهم الآن في عوزٍ نراهم في يومٍ ما في رخاءٍ، ونحن الذين نُرى في رخاء، إن أهملنا العطاء سنكون يومًا ما في عوزٍ...
الآن ذاك الذي بلا ثوب هو أقل احتياجًا من ذاك الذي بلا تواضع. لهذا إذ نرى أولئك الذين هم شركاء معنا في طبيعتنا ليس لديهم أمور خارجية، فلنتأمل عوزنا لأمورٍ عظيمةٍ كثيرةٍ في داخلنا، بهذا لا تنتفخ أفكار قلوبنا على المساكين. هكذا نرى بالعين الثاقبة أننا نحن أنفسنا بالحقيقة في عوزٍ أشد بالنسبة لاحتياجنا الداخلي. حسنًا يقول الطوباوي أيوب في هذا: "إن احتقرت عابرًا ما لأن ليس لديه لباس"، فإنه بالنسبة للمخلوق الزميل الغير معروف لديه يظهر له حنوًا، إذ يدعوه "عابرًا".
البابا غريغوريوس (الكبير)
إِنْ كُنْتُ قَدْ هَزَزْتُ يَدِي عَلَى الْيَتِيمِ،
لَمَّا رَأَيْتُ عَوْنِي فِي الْبَابِ [21].
لم يستغل أيوب مكانته كحاكم وقاضٍ، فيرفع يده بالظلم ضد يتيمٍ.
* "إن كنت قد رفعت يدي على يتيم، لما رأيت نفسي الأسمى عند الباب" [21]. كانت العادة أن الشيوخ يجلسون عند الباب لكي يحلوا مشاكل الخلافات خلال جلسات قضائية، لكي ما يكون كل من في المدينة في توافقٍ، ولا يدخلها أحد على خلاف مع غيره. لذلك يقول الرب بالنبي: "ثبتوا الحق في الباب" (عا 5: 15)...
كأنه يقول: حتى عندما أرى نفسي بعدلٍ أنا أفضل من يمارس الحكم، لا استغل ذلك لصالحي مستخدمًا سلطاني على اليتيم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
فَلْتَسْقُطْ عَضُدِي مِنْ كَتِفِي،
وَلْتَنْكَسِرْ ذِرَاعِي مِنْ قَصَبَتِهَا [22].
إن كان الذراع يشير إلى العمل، فإن الإنسان الذي يريد أن يعمل بنفسه متجاهلًا وحدته مع إخوته يكون كمن سقط كتفه الذي يربط الذراع بالجسم، فلا يقدر أن يعمل ما يليق به كعضوٍ حيٍ في جسد المسيح. لن تتحقق معاملاتنا المقدسة دون اتحادنا معًا ككنيسة مقدسة، وفي نفس الوقت خلال علاقتنا الشخصية مع الله.
* لما كانت الأعمال الجسدية تتحقق بالكتف والذراع، لذلك أراد أن يسقط كتفه وتنكسر ذراعه إلى قطعٍ إن تكلم بفمه عن الأمور الصالحة دون أن يمارسها عمليًا.
البابا غريغوريوس (الكبير)
لأَنَّ الْبَوَارَ مِنَ اللهِ رُعْبٌ عَلَيَّ،
وَمِنْ جَلاَلِهِ لَمْ أَسْتَطِعْ [23].
بعد أن تحدث عن حنوه الفائق نحو كل الطبقات المحرومة، وتقديره لكل المرذولين من المجتمع حتى العبيد، يرفع عينيه بكل وقارٍ نحو الله ويدهش لماذا سمح الله له بهذه التجارب القاسية.
إذ شعر أيوب بثقل المحن امتلأ رعبًا، وشعر أن يدّ الله قد ثقلت عليه.
|