رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مرثاة مُرة بعد أن استعرض حال رخائه الماضي، وأيضًا مخافته للرب وحيدانه عن الشر، سرعان ما رجع إلى ما هو عليه وسط المزبلة والرماد، وكيف حملته عاصفة الله إلى أرض الدمار. حقًا لقد سند أيوب المظلومين والمحتاجين، لكنه حتمًا أدان مجرمين ظالمين. ولعلهم تسللوا ليلًا ليروا في المزبلة ذاك الذي سبق فحكم عليهم. كل ما حلّ به دعاه لكتابة مرثاة مرة. إذ لم يعد بعد يستعذب الموسيقى، بل صار النحيب والعويل أغنيته المستمرة. 1. استخفاف الناس به وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ضَحِكَ عَلَيَّ أَصْاغُرُي أَيَّامًا، الَّذِينَ كُنْتُ أَسْتَنْكِفُ مِنْ أَنْ أَجْعَلَ آبَاءَهُمْ مَعَ كِلاَبِ غَنَمِي [1]. عاش أيوب حياته بالكمال والاستقامة، يتقي الله، ويُحيد عن الشر (أي 1:1)، وقد شهد الله نفسه عنه: "ليس مثله في الأرض" (أي 1: 8). ولعله كان يتوقع في شيخوخته أن يخدم الآخرين خلال خبرته الطويلة، لكنه فوجئ بأنه عوض أن يخدم صار أضحوكة وعثرة لمن هم حوله، حتى بالنسبة للأشرار. شعر كأن كل ما قد مارسه منذ صبوته حتى شيخوخته عبر كبخارٍ بلا نفع، وليس من سببٍ أمامه يبرر ما بلغ إليه. كاد أن يتحطم تمامًا نفسيًا بجانب تحطمه جسديًا واجتماعيًا وماديًا. هذا ما دفعه إلى وضع مرثاة مُرَّة. بقوله "أصاغري" لا يقصد فقط من هو أصغر منه في العمر، وإنما أيضًا من هُم أقل منه في المعرفة والحكمة والخبرة والمركز الاجتماعي والسلوك. في هذا لا يعني أصدقاءه الثلاثة وحدهم، وإنما كل من جاءوا ولو من بعيدٍ، لا ليواسوه أو يصلوا لأجله، وإنما ليستخفوا به ويسخروا منه. إذ كان يُنظر إلى الكلاب في ذلك الحين أنها نجسة (1 صم 17: 43، أم 26: 11)، فقد حسب أيوب أن كلاب غنمه أطهر من آبائهم. لقد أهانوه في شيخوخته وبلا سبب، مع أنه يُحسب تكريم الشيوخ مُقدم لله ذاته. يطالبنا الكتاب المقدّس أن نحترم الشيوخ، على أنه يليق بالشيوخ أن يضعوا في اعتبارهم أن الشيبة الحقيقية ليست في كبر السن، بل في الحكمة والنضوج. وقد جاءت الوصيَّة: "من أمام الأشيب تقوم، وتحترم وجه الشيخ، وتخشى إلهك، أنا الرب" (لا 19: 32). "يا بني أعنْ أباك في شيخوخته، ولا تحزنه في حياته" (سيراخ 3: 14). "لا تهن أحدًا في شيخوخته، فإن الذين يشيخون هم منا" (سيراخ 8: 7). لا ندهش من المرارة التي عانى منها أيوب البار، فقد عانى أتقياء الله من كثيرين. كمثالٍ عانى بولس من مرارة الضيق حتى كاد ييأس من حياته، كقوله: "تثقلنا جدًا فوق الطاقة حتى يئسنا من الحياة أيضًا، ولكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت، لكي لا نكون متكلين على أنفسنا، بل على الله الذي يُقيم من الأموات، الذي نجانا من موتٍ مثل هذا، وهو ينجي؛ الذي لنا رجاء فيه أنه سينجي أيضًا فيما بعد" (2 كو 1: 8-10). * كان بولس متوقعًا الموت، لكن لم يحدث هذا. فبحسب مجرى الأحداث الطبيعة كان يجب أن يموت، لكن الله لم يسمح بعد بذلك حتى يتعلم بولس ألا يثق في ذاته، بل في الله. القديس يوحنا الذهبي الفم سفيريان أسقف جبالة قُوَّةُ أَيْدِيهِمْ أَيْضًا مَا هِيَ لِي. فِيهِمْ عَجِزَتِ الشَّيْخُوخَةُ [2]. في مرارة يتطلع أيوب إلى القادمين إليه، يستهزئون به في شيخوخته. ففي شبابه كان يسند أمثالهم ويعينهم ويخدمهم بحبٍ. الآن قادمون إليه في شيخوخته وهم بلا قوة ولا إمكانية ومع هذا يحسبون أنهم جاءوا لمساندته. للأسف حتى في حضورهم قدموا له ما يحطمه، لا ما يعينه. ولعلهم بجانب فقرهم وعدم حكمتهم كانوا شيوخًا عاجزين عن العمل، فلا نفع لمجيئهم إليه. غير أن البعض يرون أنه يتحدث عن الشباب الساخرين به، فإن كان آباؤهم الشيوخ لم يأخذوا موقفًا لائقًا لتعزيته، فهل يمكن لأبنائهم أن يعزوه بكلمة لطيفة تسنده؟ آباؤهم الشيوخ كانوا قساة معه، كيّلوا له الاتهامات الباطلة، فهل يقدم أبناؤهم تعزيات؟ هل يمدون له أياديهم ليشددوه في محنته؟ فِي الْعَوَزِ والمحل (وَالْمَجَاعَةِ) مَهْزُولُونَ، عارقونَ الْيَابِسَةَ الَّتِي هِيَ مُنْذُ أَمْسِ خَرَابٌ وَخَرِبَةٌ [3]. يصور لنا أيوب حال الملتفين حوله لا لتعزيته، بل للسخرية به. إنهم يعانون من الفقر والجوع حتى صاروا في هزالٍ شديدٍ، كأشجار جافة لا حياة فيها ولا ثمر. إنهم أناس لا دور لهم في الحياة، لفظهم المجتمع بسبب استهتارهم الشديد وعدم التزامهم بأي عمل، فصاروا كهاربين في البرية حيث الخراب والدمار. وكأنهم قد وجدوا فرصتهم بأن يعكسوا ما هم عليه في داخلهم على أيوب. هذا ما تفعله الكراهية فيهم، تجعلهم في عوزٍ وجوعٍ وخرابٍ، بل تدخل بهم إلى الموت وهم أحياء حسب الجسد. * حياتنا حب؛ فإن كانت الحياة حب، فالموت هو الكراهية. القديس أغسطينوس الَّذِينَ يَقْطِفُونَ الْمَلاَّحَ عِنْدَ الشِّيحِ، وَأُصُولُ الرَّتَمِ خُبْزُهُمْ [4]. يصور البار أيوب المقاومين له بأناس لا يجدون ما يأكلونه، فيلجأون إلى الملاح وهو نبات حمضي يجمعه الفقراء من بين الأعشاب bushes (كالشيح) لأكله؛ والرتم وهي أشجار زهورها كالمنتور وبذورها كالعدس. يرى بعض أن الرتم هنا يشير إلى جذور مرة يأكلها الفقراء. أمثال هؤلاء الذين كان أيوب يطعمهم، ويقدم لهم احتياجاتهم بسخاء، جاءوا إليه في شماتة لِما بلغ إليه. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) الذي تأثر جدًا بآباء الشرق خاصة كتابات آباء مدرسة إسكندرية والكبادوك أن هؤلاء الفقراء الجائعين هم الذين يكتفون بلحاء الشجر لا ثمارها. يكتفون بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس دون التمتع بثمار الروح المشبعة للنفس. * "الذين ينزعجون من الخراب والبؤس ويمضغون الأعشاب ولحاء الأشجار" [3-4]... يجذب المعلمون الكذبة أتباعهم إلى ذات القفر، كما سبق فحذرنا الحق: "فإن قالوا لكم ها هو في البرية فلا تخرجوا" (مت 26:24). وهم جديرون بالازدراء بخراب ممارستهم وشر مفاهيمهم... يشير "أكل العشب" في الكتاب المقدس إلى الاهتمام بأصغر الوصايا وإهمال الكبرى منها. يقول الحق: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تعشرون النعنع والشبت والكمون، وتركتم أثقل الناموس (الحق والرحمة والإيمان)" (مت 23:23). هؤلاء أيضًا يأكلون لحاء الأشجار، لأنهم يهتمون في الأسفار المقدسة بما هو في الخارج، أي الحرف، ولا يبالون بالمعنى الروحي. يظنون أنه لا يوجد شيء آخر في كلمات الله سوى ما هو على السطح. لذلك يتملكهم هوى المجد الباطل، ومع كل أخطائهم يعطشون نحو الكرامة التي تأسرهم. لا يطلبون شيئًا في كل ما يقولونه سوى المكاسب الأرضية. في هذا يقول بولس: "لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح، بل بطونهم" (رو 18:16). البابا غريغوريوس (الكبير) * إن كان الله والرب روحًا، فلا بُد أن نسمع بطريقة روحية ما يقوله الروح لنا. العلامة أوريجينوس القديس كيرلس الكبير مِنَ الْوَسَطِ يُطْرَدُونَ. يَصِيحُونَ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلَى لِصٍّ [5]. يُدهش أيوب البار إذ يرى حوله أناسًا عاطلين، طردهم المجتمع من وسط الناس، فهربوا من المدن مثل لصوص. لقد حسبهم الناس أنهم ليسوا أهلًا أن يعيشوا وسط مجتمع متمدنٍ ومنظمٍ، فكانوا يصرخون وراءهم معلنين أنهم لصوص. هؤلاء عوض مراجعتهم لأنفسهم ولأخطائهم جاءوا يسخرون بأيوب. لِلسَّكَنِ فِي أَوْدِيَةٍ مُرْعِبَةٍ وَثُقَبِ التُّرَابِ وَالصُّخُورِ [6]. إذ كان أيوب حاكمًا وقاضيًا كان ينظر مع شيوخ المدينة في القضايا الكبرى مثل التصرف مع المتشردين الخطيرين على الأمن. فكان البعض منهم يهربون من المدينة ويبحثون عن مغاير في وسط وديان غير آهلة بالسكان وجبال، يعيشون فيها بعيدًا عن نظر القضاء. الآن إذ سمعوا عن أيوب وكيف صار حاله، ظنوا أنه قد صار متشردًا مثلهم، لا مأوى له، وليس من يقبله أو يعزيه، فجاءوا يسخرون منه كأبأس واحدٍ منهم. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) وغيره أنهم يمثلون من ليس لهم موضع في مدينة الله، يسكنون كما في البراري وبين الصخور في مغاير، في مناطق مرعبة. ما يشغلهم لا رجوعهم إلى الله بل السخرية برجال الله وقديسيه. اختاروا لأنفسهم البؤس والكآبة والعزلة والمرارة، وما يفكرون فيه هو التشفي في الأبرار المتألمين. فما يبهج قلوبهم ليس أن يتمتعوا بالخيرات، بل أن يُصاب غيرهم بالشرور والمصائب. هذا من فعل روح العداوة مع البغضة والحقد. ما يشغل ذهن الحاقد هو دمار إخوته لا بنيانه هو. من يعزل نفسه عن كنيسة السيد المسيح يكون كمن حرم نفسه من الفردوس الروحي ليعيش في وسط قفر البراري، فلا يقدر أن يشترك في النشيد الكنسي: "ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس" (نش 4: 16)؛ حبيبي نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب ليرعى في الجنات، ويجمع السوسن" (نش 6: 2). * "ليأت حبيبي إلى جنته، ويأكل ثمرة النفيس" (نش 16:4). إنه لتعبير جرئ من نفس ممتلئة حماسًا وروعة ترتفع على كل تعجب. من تدعوه العروس لوليمتها التي تتكون من فاكهتها الخاصة؟ لمن تُجهز العروس وليمتها التي أقامتها من مصادرها الخاصة؟ من تدعوه العروس لكي يأكل مما عرضته؟ "هو الذي منه وبه وله كل الأشياء" (رو 36:11). إنه يعطي كل شخصٍ طعامه في حينه (مز 15:145)، يفتح يده ويملأ كل كائن حي بالنعيم. هو الخبز النازل من السماء (يو 41:6)، هو الذي يعطي الحياة للعالم، ويجعل المياه تفيض من نبعه الخاص للحياة. هذا هو الواحد الذي ترتب العروس له مائدتها. وهي الحديقة التي تنبت منها أشجار حيّة. ترمز الأشجار إلينا، وتُشير أرواحنا المُخلّصة إلى الطعام المُقدم له. وقال لتلاميذه: "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم" (يو 32:4، 34). تتميم إرادة الله المقدسة: "فهو يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 4:2). فهذا الخلاص هو الغذاء الذي يُجهز له. تُعطي إرادتنا الحرة الثمرة لله وهي أرواحنا، ليقطفها من على أغصانها الصغيرة. تمتعت العروس في البداية بثمرة التفاح حلوة المذاق قائلة: "وثمرته حلوة لحلقي" (نش 3:2). ثم أصبحت هي نفسها الثمرة الجميلة الحلوة التي قُدمت للراعي ليتمتع بها. القديس غريغوريوس النيسي بَيْنَ الشِّيحِ يَنْهَقُونَ. تَحْتَ الْعَوْسَجِ يَنْكَبُّونَ [7]. يصور أيوب البار الأشرار الحاقدين، وقد جاءوا للسخرية به بالحمير الوحشية التي تعيش في البرية، متى اجتمعت معًا بين شجيرات ينهقون بنغمة منفرة ومقززة للنفس. أي صاروا كحيوانات وحشية تجتمع معًا لتنهق، تطلب طعامًا لها، الذي هو أذية الغير وإصابتهم بكوارث. يتكدسون معًا تحت العوسج حيث يطلبون مأوى، فإذا بهم يتعثرون وسط أشواك الكراهية وحسك الحقد بلا سبب. بمعنى آخر حتى في اجتماع الأشرار معًا ما يتمتعون به هو الوحشية والتصرفات الحيوانية بغير تعقلٍ أو اتزانٍ مع مرارة أشواك الخطية الخانقة. * إنهم يُحسبون كمن يتكدسون تحت الأشواك، إذ يرفعون الفكر المتجاسر ليفرح بذات الأمور التي بها يحملون أشواك الخطايا. البابا غريغوريوس (الكبير) بماذا أشبه هذا الروح؟ أنه يشبه حمارًا بليدًا مليء الجسم يحمل مع حصان جيد نيرًا. فلا يريد أن يتقدم، وفي نفس الوقت يعطل بثقل جسمه الحصان عن السير. فالحاسد لا يهتم كيف يتخلص من هذا الكابوس، بل يعمل بكل جهده أن يُسقط من يرغب في الصعود إلى السماء، وبهذا يشبه الشيطان تمامًا. فإذا رأى إنسانًا في الفردوس، بدلًا من أن يُصلح نفسه يطلب طرح الآخر خارج الفردوس. وإذا رآه جالسًا في السماء والآخرون يسرعون نحو الراحة، فإنه يستخدم نفس الخطة حارمًا إياهم من الذهاب إليها، فيجلب على نفسه نارًا أشد. القديس يوحنا الذهبي الفم * مَنْ وجد الحسد فقد وجد معه الشيطان الذي أوجده منذ القدم. القديس مار إسحق السرياني أَبْنَاءُ الْحَمَاقَةِ بَلْ أَبْنَاءُ أُنَاسٍ بِلاَ اسْمٍ، دُحِرُوا مِنَ الأَرْضِ [8]. إذ يرتبطوا بالجهل والحماقة يحسبون أبناء الحماقة عوض كونهم أبناء بشرٍ، وإذ يحملون البغضة والحقد تطردهم الأرض، فيصيرون كمتجولين في البراري ليس لهم موضع يستقرون فيه. * "يدعون أبناء" لا لأنهم مولودون من بذارهم، بل بتمثلهم بالذين يعلمون تعاليم خاطئة، إنهم حمقى بسبب الجهل، ويمارسون حياة شريرة مثل أناس منحطين بسبب سلوكهم... لذلك بحقٍ يكمل: "وعلى الأرض لا يظهرون نهائيًا". بالرغم من أنهم يهدفون أن يُظهروا شيئًا ما، لكن بالتأكيد يصيرون مطرودين من أرض الأحياء. البابا غريغوريوس (الكبير) أَمَّا الآن،َ فَصِرْتُ أُغْنِيَتَهُمْ، وَأَصْبَحْتُ لَهُمْ مَثَلًا! [9] كثيرًا ما يسخر الأشرار بالأبرار، ويحسبونهم مثلًا للعار، كما يسمح الله أحيانًا لشعبه أن يصيروا مثلًا بين الشعوب لتأديبهم. "تجعلنا مثلًا بين الشعوب لإنغاض الرأس بين الأمم" (مز 44: 14). "جعلت لباسي مسحًا، وصرت لهم مثلًا" (مز 69: 11). "ويقولون في أنفسهم نادمين وهم ينوحون من ضيق صدرهم: هذا الذي كنا حينا نتخذه سخرةً ومثلًا للعار" (الحكمة 5: 3). "وأسلمهم للقلق والشر في جميع ممالك الأرض، عارًا ومثلًا وهزأة ولعنة في جميع المواضع التي اطردهم إليها" (إر 24: 9). "ليبك الكهنة خدام الرب بين الرواق والمذبح، ويقولوا: أشفق يا رب على شعبك، ولا تسلم ميراثك للعار حتى تجعلهم الأمم مثلًا. لماذا يقولون بين الشعوب: أين إلههم" (يؤ 2: 17). * ها أنتم ترون ما الذي أثر عليه بالأكثر، أن يرى نفسه موضع سخرية بالأكثر، هؤلاء الذين يوبخهم على الشر الذي يمارسونه. القديس يوحنا الذهبي الفم البابا غريغوريوس (الكبير) يَكْرَهُونَنِي. يَبْتَعِدُونَ عَنِّي، وَأَمَامَ وَجْهِي لَمْ يُمْسِكُوا عَنِ الْبَصْقِ [10]. هنا يبرز أيوب البار كرمزٍ للسيد المسيح حيث قال عن نفسه: "فيهزأون به ويجلدونه ويتفلون عليه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم" (مر 10: 34). "لأنه يُسلم إلى الأمم ويُستهزأ به ويُشتم ويُتفل عليه" (لو 18: 32). * يهرب كل الأشرار من الكنيسة المقدسة، لا بأقدامهم، بل بسمات ممارستهم. إنهم يهربون بعيدًا، لا عن المكان بل بهجرها. إذ يكون للكبرياء أساسًا فيهم يزدرون بها بلومٍ علني. لأن البصق على الوجه ليس فقط تقليلًا من شأن الصالحين في غيبتهم، بل ويكذبون على كل واحدٍ حتى في الحضرة. هكذا يسخر الشرير بهم علانية، ويحطون من شأنهم ويكيلون لهم الشتائم... أما الكنيسة المقدسة (مثل أيوب) فتعرف أن تثبت في وسط الآلام، وتنال حياة مكرمة وسط الإهانات. إنها تتعلم ألا تنهار بواسطة النكبات، ولا أن تفتخر في فترات الرخاء. البابا غريغوريوس (الكبير) ذاك الجاهل كيف تجاسر وتفل في وجهه! كيف تجاسرت أيها اللسان أن تنضح بالبصاق...؟! كيف احتملتِ أيتها الأرض هزء الابن...؟! نظرة مخوفة، مملوءة دهشًا، أن ينظر الإنسان الشمع قائمًا ويتفل في وجه اللهيب... وهذه أيضًا من أجل آدم حدثت، لأنه كان مستحقًا البصاق لأنه زل! وعوض العبد قام السيد يقبل الجميع! قدم وجهه ليستقبل البصاق، لأنه وعد في إشعياء أنه لا يرد وجهه عن احتمال خزي البصاق...! شفق سيد (آدم) على ضعفه، ودخل هو يقبل الخزي عوضًا عنه! القديس مار يعقوب السروجي لأَنَّهُ أَطْلَقَ الْعَنَانَ وَقَهَرَنِي، فَنَزَعُوا الزِّمَامَ قُدَّامِي [11]. يصور أيوب ما حدث بأنه بسماح من الله الذي يشبهه بمن يطلق السهم نحو الهدف، فأصاب أيوب وقهره، أو سبب له جرحًا خطيرًا. وكأن ما حلّ به ليس مصادفة، وإنما بسماح إلهي، وإن كان لا يعرف علة غضب الله عليه. هذا وإذا أضاء الله لهم باللون الأخضر كي يفعلوا بأيوب ما يشاءون، صاروا كفرسان يمتطون خيولًا قوية وعنيفة، فتركوا الزمام (اللجام) لتهجم عليه بكل قوة. مع مرارة التصويرين إلاّ أن أيوب يدرك حقيقة هامة أن ما حلّ به إنما بسماح من الله، وإن كان لا يعرف علة هذا السماح. * "وإذا أرخى الله وتره وأذَّلني" [11]. ماذا يقصد بوتر الله إلا مشورته السرية؟ الآن يطرح الرب السهم من الوتر عندما يصدر حكمًا من مشورته السرية. فإننا نعلم أن أي إنسانٍ يمكن أن يُجلد، ولكن لأي سبب تصدر الجلدات، هذا ما لا نعرفه. لكن بعد الجلد يحدث إصلاح في الحياة، فيُكشف عن قوة المشورة. هكذا الوتر المغلق هو المشورة الخفية. إننا نُؤدب بواسطة وتر مفتوح عندما نتحقق بعد الجلد بأية مشورة ضُربنا. استغل الأشرار هذا السماح الإلهي فظنوا أنهم يحطمون أيوب بلا عائق. تركوا ألسنتهم تسخر بأيوب دون أن يضعوا لجامًا أو حدودًا. أما أولاد الله فيعرفون متى يتكلمون ومتى يصمتون. يستخدمون لجام الصمت بحكمةٍ وتعقلٍ. * "ويضع لجامًا في فمي"... يرى القديسون لجام الصمت موضوعًا عليهم من جهة القلوب القاسية التي للخطاة الضائعين، عندما يقولون بالنبي: "كيف نرنم ترنيمة الرب في أرضٍ غريبة" (مز 4:137). أوصى بولس بوضع لجامٍ عندما أمر تلميذه: "الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه" (تي 10:3). فالمعلمون القديسون غالبًا بمعرفة علوية يفحصون قلوب الذين يعارضونهم، وإذ يرون أن هذه القلوب تركها الله يحزنون ويتنهدون، ويصمتون. ألم يصنع سليمان أحيانًا لجامًا على المعلمين عندما يقول: "لا توبخ مستهزئًا لئلا يبغضك" (أم 8:9)... الكنيسة المقدسة التي تقدم كلماتها دومًا بروح المحبة، توقف أحيانًا كلماتها من أجل المحبة، فتقول: "ضع يا رب حارسًا لفمي" (مز 3:141). البابا غريغوريوس (الكبير) عَنِ الْيَمِينِ السَّفَلَةُ يَقُومُونَ، يُزِيحُونَ رِجْلِي، وَيُعِدُّونَ عَلَيَّ طُرُقَهُمْ لِلْبَوَارِ [12]. جاء في بعض الترجمات: "عن اليمين الأحداث يقومون". وجاء في الترجمة اليسوعية: "قام السٌَفلة عن يميني يعثرون قدميٌَ"، وأيضًا: "يعثرون قدميٌ، ويمهدون إلى سُبل المصيبة". القيام عن اليمين تعبير يستخدم عن صب الاتهامات ضد الشخص. هكذا ثاروا عليه بعنف الشباب، ووضعوا له فخًا ورفعوه ليسقط فيه عقبه، ثم يطأوون عليه بأقدامهم. فالأمر لا يقف عند الاتهامات الباطلة، وإنما بعنف وقوة يسقطونه ويطأوون عليه. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن القيام ضد الشخص عن الشمال يشير إلى مقاومة الأعداء له من الخارج، أما القيام ضده عن اليمين فيشير إلى مقاومة من كان يلزم أن يكونوا مدافعين له، أي المقاومة من الداخل؛ وهذه أخطر وأمرَّ. * تقدم النكبات عن الشمال إن التقت الكنيسة بعدوٍ يضطهدها على أيدي أشخاصٍ خارج حظيرة الدين، هؤلاء الذين يجحدون المسيح. لكن عندما تعاني من متاعبٍ صادرة عن أشخاصٍ يبدو أنهم مؤمنون يُسجلون تحت اسم المسيح ويقاومون اسمه فيها. بنفس الطريقة يُستخدم "اليمين" عن من نحسبه عظيمًا، "وأراني يسوع الكاهن العظيم قائمًا قدام ملاك الرب، والشيطان قائم عن يمينه ليقاومه" (زك 1:3- 2). * "يعثرون قدمي، ويضغطون بسبلهم كما بتموجات " [12]. ماذا يقصد بقدميٌ الكنيسة إلا أعضاءها البعيدين جدًا؟ إنهم يستسلمون للأعمال الأرضية، وسرعان ما ينخدعون من الأعداء بقدر عدم فهمهم للعلويات. لذلك يعثر الأعداء قدميها عندما يجتذبون الأعضاء البعيدين جدًا إلى أخطاء تعاليمهم. لا تقدر القدمان المُعثرتان أن تحفظا الطريق، إذ كل الضعفاء، إما أنهم ينخدعون بوعود المضطهدين، أو يرتعبون من تهديداتهم، أو ينكسرون بعذاباتهم، وبهذا فإنهم ينحرفون عن الطريق المستقيم. البابا غريغوريوس (الكبير) فْسَدُوا سُبُلِي. أَعَانُوا عَلَى سُقُوطِي. لاَ مُسَاعِدَ عَلَيْهِمْ [13]. جاء في الترجمة الكاثوليكية: "ويقطعون عليَّ الطريق، ويساهمون في هلاكي، ولا يحتاجون لأي معين". عمل عدو الخير وأتباعه الأشرار أن يبذلوا كل الجهد بإفساد الطريق، بنزع العلامات، فيضل الإنسان طريقه، ويفقد سلامه أثناء رحلته. * لينطق الطوباوي أيوب بهذه الأمور عن الأرواح الشريرة، الأعداء الخفيين. لتتكلم الكنيسة الجامعة عن الأشرار المضطهدين، الأعداء الظاهرين، فإن هؤلاء يقطعون عليها طريقها، وذلك عندما تقاوم نفوس الضعفاء طرق الحق معترضين إياها بخداعٍ. البابا غريغوريوس (الكبير) * هذا الطريق صالح يقود الإنسان الصالح إلى الآب الصالح، الإنسان الذي يجلب خيرات من كنزه الصالح، العبد الصالح والأمين (مت 7: 14؛ لو 6: 45؛ مت 25: 21). لكن هذا الطريق ضيق، لا يستطيع الغالبية، الذين هم بالأكثر جسديون أن يسافروا فيه. لكن الطريق ضيق أيضًا بالنسبة للذين يجاهدون ليعبروا فيه، إذ لم يُقل "إنه محصور" بل ضيق. العلامة أوريجينوس القديسأغناطيوس الأنطاكي يَأْتُونَ كَصَدْعٍ عَرِيضٍ. تَحْتَ الْهَدَّةِ يَتَدَحْرَجُونَ [14]. يأتون عليه مثل كسَّارة حجارة عريضة، فمهما كانت صلابته لن يفلت منهم، بل يسحقونه. إنهم لا يمشون نحوه بل يتدحرجون بسرعة كما بعاصفةٍ مدمرة. إن كان عدو الخير يظهر ككسارة حجارة ليسحق البشرية كالحجارة الملقاة في الطريق، فقد نزل إلينا حجر الزاوية (زك 4: 7؛ أف 2: 20)، لكي يضمنا معًا فيه فيقيم منا هيكلًا سماويًا، لا يقدر العدو أن يمسه. يرى القديس أغسطينوسأنه بدعوة السيد المسيح رأس الزاوية، وهو رأس الكنيسة، تكون الكنيسة هي الزاوية التي ضمت اليهود من جانب والأمم من الجانب الآخر. اِنْقَلَبَتْ عَلَيَّ أَهْوَالٌ. طَرَدَتْ كَالرِّيحِ نِعْمَتِي، فَعَبَرَتْ كَالسَّحَابِ سَعَادَتِي [15]. في مرثاةٍ لحاله يقول أيوب إن الأهوال قد تحولت نحوه وثقلت عليه، أزالت كرامته (نعمته) كريحٍ عصفت بها، وتركه رخاؤه كسحابة عبرت وزالت. يتعجب أيوب مما حدث، فإن هذا يلحق بالأشرار الذين يذبلون، حيث تحل بهم الكوارث، ويفقدون نجاحهم وكرامتهم. * "طردت كالريح رغبتي... فعبرت كالسحاب صحتي" [15]. يحلق السحاب في الأعالي، وأما نسمة الريح فتسحبه كما في طريق سريع. هكذا بالتأكيد يكون مصير خيرات الأشرار الزمنية. إنهم يظهرون في علو الكرامة، ليعبروا حياتهم كمن هم في العُلَى، لكنهم سرعان ما يهبطون يوميًا في الحياة، كمن يُنسفون بحياتهم القابلة للموت. البابا غريغوريوس (الكبير) الآن بعد أن قدم أيوب مرثاة يندب حاله، فقد وجه الله سهامه ضده، واستغل الأشرار الموقف فهاجموه بكل وسيلة، في عنفٍ بلا رحمة، وحلت به الكوارث من كل جانب، الآن يكشف أثر ذلك على صحته النفسية والجسدية. فَالآنَ انْهَالَتْ نَفْسِي عَلَيَّ، وَأَخَذَتْنِي أَيَّامُ الْمَذَلَّةِ [16]. يرى أيوب كأن أيام المذلة التي طالت جدًا وقد ألقت القبض عليه، ولم تتركه، فانهارت نفسه وجفت تمامًا. * "الآن جفت نفسي فيّ، أمسكت بي أيام المذلة" [16]. تجف نفوس المختارين الآن إذ تصير فيما بعد خضراء في الأبدية المنتصرة. الآن تمسك بهم أيام الحزن، تتبعها أيام الفرح فيما بعد. كما هو مكتوب: "لمتقي الرب حُسن الخاتمة" (ابن سيراخ 13:1). مرة أخرى قيل عن الكنيسة: "تضحك في اليوم الأخير" (أم 25:31). الآن هو وقت الحزن بالنسبة للصالحين، ويأتي يوم يتبعهم المجد عوض الدموع. قيل في موضع آخر: "سحقتنا في موضع الأحزان" (مز 19:44). "موضع الأحزان" هو الحياة الحاضرة، لذلك فإن البار ينسحق هنا، وأما في الحياة الأبدية -موضع النعيم- فيرتفع. لكن عندما قال: "تجف النفس" بحق استهلها بقوله: "في ذاتي"... ففي ذواتنا تحزن بالحق نفوسنا، أما في الله فتنتعش. البابا غريغوريوس (الكبير) اللَّيْلَ يَنْخَرُ عِظَامِي فِيَّ، وَعَارِقِيَّ لاَ تَهْجَعُ [17]. هنا يتحدث عن الليل كشخصٍ كما في أيوب (أي 3: 3). فالليل يقوم بدور خطير، عمله أن ينخر عظامه فينهار هيكله العظمي، وعروقه في داخله لا تتوقف عن بث الألم الذي ينخر في كيانه! بِكَثْرَةِ الشِّدَّةِ تَنَكَّرَ لِبْسِي. مِثْلَ جَيْبِ قَمِيصِي حَزَمَتْنِي [18]. فقد أيوب ثياب الكرامة بكونه حاكمًا وقاضيًا له دوره وكلمته في المجتمع، ولكن ما هو أخطر أن ثيابه تهلهلت وساء حالها تمامًا بسبب ما حل بجسمه من أمراض وقروح. تحولت ثيابه الخارجية إلى ثياب حداد دائم، أو ثياب حزن، طوَّقت بجسمه ولا تفارقه، مثلها مثل ثيابه الداخلية. * حسب التفسير التاريخي ماذا يعني ثوب الطوباوي أيوب سوى جسده؟ بالحق أُستهلك الثوب عندما تعرض جسمه للعذاب. البابا غريغوريوس (الكبير) قَدْ طَرَحَنِي فِي الْوَحْلِ، فَأَشْبَهْتُ التُّرَابَ وَالرَّمَادَ [19]. قديمًا كان البسطاء من الشرقيين يُعبرون عن حزنهم الشديد إما بالجلوس على التراب، أو يضعونه على رؤوسهم وهم ينوحون. هنا يصور أيوب الله كمن يطرحه في التراب ليمارس الحزن في أقصى صوره، ومما زاد ألمه أن أيوب رأى في نفسه أنه قد صار شبيهًا بالتراب والرماد. على أي الأحوال حملت هذه المرثاة صورة لما بلغه أيوب من انسحاق نفس وتواضع، إذ حسب نفسه ترابًا ورمادًا. قال إبراهيم: "إني قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد" (تك 18: 27). وجاء في ابن سيراخ: "الرب يستعرض جنود السماء العليا، أما البشر فجميعهم تراب ورماد" (أي 17: 31). هكذا يتطلع الإنسان إلى حقيقة نفسه فيجد نفسه ترابًا، لكن بالمسيح يسوع يصير خليقة جديدة على صورة خالقه. *يقول الكتاب: "احتقرت نفسي، وانطرحت، حسبت نفسي ترابًا ورمادً" (أي 19:30 Vulgate). هذا هو تواضع النادمين. عندما تحدث إبراهيم مع إلهه، وأراد أن يناقش معه موضوع حرق سدوم، قال: "أنا تراب ورماد" (تك 27:18). كيف يوجد هذا التواضع على الدوام في العظماء القديسين؟ القديس أغسطينوس القديس باسيليوس الكبير بستان الرهبان إِلَيْكَ أَصْرُخُ، فَمَا تَسْتَجِيبُ لِي. أَقُومُ فَمَا تَنْتَبِهُ إِلَيَّ [20]. كثيرًا ما يشعر بعض المؤمنين وسط مرارة نفوسهم كأن الله لا يستجيب لصلواتهم وصرخاتهم. مع أنه يُدعى "سامع الصلاة" (مز 65: 2). في سماعه للصلاة قد تكون الاستجابة بتحقيق الطلبة لكن في الوقت اللائق. وذلك كاستجابته لطلبة إبراهيم فأعطاه اسحق ولكن في زمن الشيخوخة؛ وقد يرفض الله الطلبة لأنه يعلم أنها ليست لصالح طالبها. * عندما يعاني قديسوه من ضغوط اضطهاد الأعداء، وعندما يصرخون بلا انقطاع متوسلين لكي ينقذهم، فبتدبيرٍ عظيمٍ يبدو الله كمن لا يسمع أصوات توسلاتهم، حتى يتزكوا بالأكثر في آلامهم. إنهم يتزكون بالأكثر عندما لا تُستجاب طلبتهم سريعًا... كُتب: "إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب" (مز 2:22). البابا غريغوريوس (الكبير) لا تقل: طلبت كثيرًا ولم أجد، ولعلني لا أجد أبدًا. القديس مار يعقوب السروجي تَحَوَّلْتَ إِلَى جَافٍ مِنْ نَحْوِي. بِقُدْرَةِ يَدِكَ تَضْطَهِدُنِي [21]. في مرارة نفسه يرى أيوب كأن الله قاسٍ، يستخدم كل قوة يده ضده. ليس من تناسب بين قدرة يد الله القوية وضعف الإنسان، فكيف يمكن له أن يتحمل مقاومة الله؟ جاء في الترجمة اليسوعية: "أصبحت لي عدوًا قاسيًا، وبقوة يديك حملت عليّ". يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الله يبدو جافًا أو عنيفًا مع قديسيه، ليس لأن فيه قسوة وعنف، إنما يبدو هكذا بمقاومته لإرادتنا، فنحسبه هكذا. حَمَلْتَنِي، أَرْكَبْتَنِي الرِّيحَ، وَذَوَّبْتَنِي تَشَوُّهًا [22]. جاء في الترجمة اليسوعية: "خطفتني، وعلى الريح أركبتني، وأذابتني العاصفة". وجاء في ترجمة NKJ: "رفعتني إلى الريح، وأركبتني إياه، وأفسدت نجاحي". لعل أيوب حسب أيام رخائه كمن كان قد رفعه الله إلى الريح، فصار عاليًا جدًا؛ صارت الرياح مركبته الفائقة. لكن بقدر ما ارتفع سمح له الله أن يسقط، فيتحطم كل ما قد ناله! حقًا إن مجد العالم الزائل مجد باطل، هو جلوس على الريح غير الآمن، فبقدر ما يحسب الإنسان نفسه طائرًا كما على الريح يكون سقوطه مدمرًا له تمامًا. * مجد الحياة الحاضرة يبدو أنه عالٍ، لكنه ليس فيه أي ثبات، فيكون الإنسان كمن رُفع إلى أعلى وجلس على الريح (أي أنه في غير ثبات، إنما يسقط منه). البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ إِلَى الْمَوْتِ تُعِيدُنِي، وَإِلَى بَيْتِ مِيعَادِ كُلِّ حَيٍّ [23]. كان رجال العهد القديم يتطلعون إلى الموت، وهو مصير كل إنسانٍ، عبورًا إلى الهاوية التي هي بيت كل حيّ، وداره الذي يعود إليه. لكن جاء السيد المسيح، ونقل الأموات المؤمنين من الجحيم إلى الفردوس، كغنائم خلصها من يد إبليس ومن سلطان الموت الأبدي. * في الجزء السابق من هذا العمل أشرت إلى أنه قبل مجيء الرب نزل حتى الأبرار إلى مساكن الهاوية، حتى وإن كانوا ليسوا ساقطين في ويلات، وإنما كانوا في راحة... بحق كان ذلك يناسب أيوب قبل نعمة المخلص، إذ كان الأبرار يُحملون إلى مساكن الهاوية. مجرد دخول الهاوية يُدعى "بيت كل الأحياء". البابا غريغوريوس (الكبير) وَلَكِنْ فِي الْخَرَابِ أَلاَ يَمُدُّ يَدًا؟ فِي الْبَلِيَّةِ أَلاَ يَسْتَغِيثُ عَلَيْهَا؟ [24] جاء في الترجمة الكاثوليكية: "لا شك أن اليد لا تُمد إلى الخراب، وفي الانهيار تأتي النجدة" [24]. نظرة رائعة لأيوب البار، وموقف إيماني حيّ، ففيما تبدو له يد الله قاسية، وتصرفات الله تصدر كما من عدو، إذا به يعترف أن ما يسمح به الله من خراب زمني إنما هو بمثابة يد الله للبنيان الأبدي. يتطلع إلى بليته فيدرك وهو يستغيث أنها لخلاصه، حتى وإن وصل إلى الانهيار المؤقت. * "على أي الأحوال لا تمد يدك لخرابهم، وإن سقطوا أرضًا ستنقذهم بنفسك". بينما يروي أيوب عن ظروفه وعدم معاقبة الآخرين... يرى أن الرب لا يمد يده لهلاك الذين يخطئون، عندما يُصلح من حالهم بضربهم. البابا غريغوريوس (الكبير) أَلَمْ أَبْكِ لِمَنْ عَسَرَ يَوْمُهُ؟ أَلَمْ تَكْتَئِبْ نَفْسِي عَلَى الْمِسْكِينِ؟ [25] بإيمان حيّ يطالب أيوب البار التدخل الإلهي، فهو لا يبرر نفسه، لكنه يؤمن أنه كما ترفق بل وكما كان يبكي حين كان يجد إنسانًا في ضيقٍ، ويرثي لحال المساكين، فحتمًا يرد له الله هذا الحنو بالحنو, كأنه يقول لله: "قانونك: بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم". لقد قدمت كل حنو للنفوس المتألمة المجروحة، وكل تعزية للمساكين، الآن نفسي تئن من الجراحات، ومحتاجة إلى تعزيات إلهية، أليس من حقي أن أغتصبها منك يا أيها البار وحده؟ * لاحظوا كيف دربٌ نفسه بخصوص آلام الجسد وإهانته، فبقدر ما لم يعانِ من شيءٍ كهذا قط حيث كان يعيش دومًا في غنى وفير وسموٍ اعتاد أن يهتم بمصائب الآخرين، واحدًا واحدًا. هذا ما أعلنه عندما قال: "لأني ارتعابًا ارتعبت فأتاني، والذي فزعت منه جاء عليَّ" (أي 25:3). مرة أخرى "ألم أبكِ لمن عسر يومه؟! ألم تكتئب نفسي حين كنت أرى إنسانًا في محنةٍ" (راجع 25:30). بسبب هذا لم يرتبك من أي شيءٍ حلٌ به . * لتكن مراحمنا فياضة، ولنقدم دلائل عن محبتنا الشديدة للإنسان، سواء باستخدام أموالنا أو تصرفاتنا. فإن رأينا شخصًا ماٍ يُساء إليه ويُضرب في السوق، فإن كنا نقدر أن نقدم مالًا عنه، فلنفعل ذلك، أو إن كنا نخلصه بالكلمات، فلا نتراجع عن ذلك. فحتى تقديم الكلمة لها مكافأتها، وبالأكثر تنهداتنا. هذا ما قاله أيوب: "بكيت على كل إنسان متعسر، وتنهدت عندما كنت أرى إنسانًا في محنة" (أي 25:30). القديس يوحنا الذهبي الفم لهذا يليق بنا أن نعرف أننا نعطي بطريقة كاملة عندما نبلغ إلى المتألمين، وفي نفس الوقت نحمل في داخلنا ذات مشاعرهم. يليق بنا أولًا أن نحمل آلام الشخص المتألم في داخلنا، وبعد ذلك نشاركه أحزانه، مظهرين تعاوننا خلال الخدمة العملية... يبلغ حنو قلبنا الكمال حينما لا نخشى أن نلقي على أنفسنا شر الاحتياج من أجل زميلنا، لكي ما ننقذه من الألم. هذا النموذج من الحنو، في الواقع وهبنا إياه الوسيط بين الله والناس. فإنه كان يمكنه أن يأتي ليعيننا دون أن يموت، لكنه أراد أن يعين البشرية بالموت. بالتأكيد لو أنه لم يحمل جراحاتنا، لكان حبه لنا قليلًا جدًا... لقد أظهر مدى عظمة فضيلة الحنو بأن وضع لنفسه أن يصير إلى حالٍ لا يريدنا أن نكون عليه، وذلك من أجلنا... هذا أيضًا ما يليق أن تفعله الكنيسة المقدسة. إنها إذ ترى شخصًا يحمل دموع التوبة، تربط دموعها به بالصلاة الدائمة، وتتعاطف مع الإنسان المسكين لكي ما تعين الذهن العاري من الفضائل بتوسلاتها وشفاعتها. إننا نرثي الحزين، متعاطفين معه، عندما نشعر أن جراحات الآخرين هي جراحاتنا، ونجاهد بدموعنا لغسل خطايا المرتكبين المعصية. البابا غريغوريوس (الكبير) حِينَمَا تَرَجَّيْتُ الْخَيْرَ، جَاءَ الشَّرُّ، وَانْتَظَرْتُ النُّور،َ فَجَاءَ الدُّجَى [26]. يدهش أيوب الذي كان يترجى البركات مقابل حنوه على إخوته فانهالت الشرور (التجارب) عليه. وإذ أنار الطريق لمن هم حوله أحاطت الظلمة به. توقع إشراق الصباح المنير على حياته، فإذا به في ليلٍ بهيم. هذه هي المشاعر البشرية حتى بالنسبة لرجال الله أحيانًا، حين تشتد بهم التجارب في وقت كانوا يترجون فيضًا من البركات! * يترجى المؤمنون الخير لكنهم ينالون شرًا، وينتظرون النور فيأتي عليهم الظلام، لأن من أجل الرجاء في نوال المكافأة للتمتع بأفراح الملائكة، يُسلمون لأيدي الذين يضطهدونهم، وإن تأخر نوالها قليلًا هنا في العالم السفلي. البابا غريغوريوس (الكبير) أَمْعَائِي تَغْلِي، وَلاَ تَكُفُّ. تَقَدَّمَتْنِي أَيَّامُ الْمَذَلَّةِ [27]. صورة للأبرار أو للكنيسة بكونها متألمة، تشارك مسيحها صليبه. داخلها غليان لا يهدأ، إذ تعيش كما في أيام الشقاء. وكما يقول المرتل: "في المساء يحل البكاء، وفي الصباح الفرح". * غليان أحشاء الكنيسة المقدسة بالنسبة لها هو احتمال عنف الاضطهاد... "أيام المذلة عاقتني". تعرف كنيسة المختارين أنها ستعاني من شرورٍ كثيرة في الضيق الأخير، لكن أيام المذلة تعوقها، لأنه حتى في زمن السلام تحتمل في داخلها حياة الأشرار بروح متثقلة. البابا غريغوريوس (الكبير) اِسْوَدَدْتُ لَكِنْ بِلاَ شَمْس. قُمْتُ فِي الْجَمَاعَةِ أَصْرُخُ [28]. يرى البابا غريغوريوس (الكبير)أن حديث أيوب هنا هو حديث كل بارٍ يحترق قلبه لا بنار شمس التجارب، وإنما بنيران الغيرة المقدسة والرغبة الصادقة لخلاص كل نفس. فالإنسان المؤمن لن يستريح حتى يجد الكل قد استراح معه في الرب، ويتمتع معه بخبرة عربون السماء! إنه يصرخ مع إرميا النبي قائلًا: "أحشائي، أحشائي، توجعني جدران قلبي. يئن فيَّ قلبي. لا أستطيع السكوت" (إر 4: 19). * "صرت في ثوب حداد (أسود) دون إثارة غيظ، قمت في الجماعة أصرخ" [28]. مع أن هذا الرجل كان له سلطان فوق زملائه، لكنه كان داخليًا يقدم للرب ذبيحة سرية للقلب النادم، وذلك خلال حداده. "ذبائح الله روح منكسر وقلب منكسر وتائب" (مز 51: 17)... كان شاهدًا على نفسه أنه في وسط كل تلك الظروف (من الغنى والسلطة إلخ.) لم يتنعم، بل صار في حدادٍ. فإنه بالنسبة للقديس الذي لا يزال في حالة سياحة (في العالم) كل شيء مهما كان مملوءً بالرخاء بدون رؤية الله يكون فقرًا مدقعًا. فإن المختارين إذ يرون كل شيء يحزنون أنهم لا يرون خالق كل الأشياء، وبالنسبة لهم كل هذه الأمور تافهة للغاية مقابل حرمانهم من ظهور الكائن الأعظم. البابا غريغوريوس (الكبير) صِرْتُ أَخًا لِلذِّئَابِ، وَصَاحِبًا لِلنَّعَامِ [29]. لم يجد أيوب إنسانًا ما يسنده وسط ضيقته، حتى بالنسبة لأسرته مثل زوجته أو أقاربه، فحسب الذئاب المفترسة إخوته، يعيش بينهم كحملٍ بسيط. كما حسب أصدقاءه كالنعام التي لها مظهر جميل لكنها عاجزة عن الطيران كغالبية الطيور. لا نعجب أننا نعيش في عالمٍ لا يفرز الأبرار من الأشرار، ولا ينقي الحنطة من القش، حتى تأتي الساعة التي فيها يتم الفصل الحقيقي أمام الديان القدير. يقول إني سقطت إلى مستوى الطيور أو النعام. لم أعد بعد أعرف طبيعتي، صار حالي ليس أفضل من حالهم. هذا أيضًا ما قاله داود: "صرت مثل بوُمة الخرب... صرت كعصفورٍ منفرد على السطح" (مز 102: 6-7). القديس يوحنا ذهبي الفم ولكن ماذا يفهم من الذين يُشار إليهم بالنعام سوى المحبون للظهور؟ فللنعامة جناحان لكنها لا تطير، هكذا كل المحبين للظهور، لهم مظهر القداسة، لكن ينقصهم صلاح القداسة. هذا أيضًا يتفق مع كلمات الطوباوي أيوب، هذا الذي كان على مستوى من الجلَدْ والثبات، كان رجلًا صالحًا بين الأشرار. فإنه ليس من إنسانٍ كاملٍ لا يكون حليمًا وسط شرور أقربائه. من لا يحتمل شرور الآخرين في رباطة جأشٍ، بطول أناته، يشهد عن نفسه أنه بعيد جدًا عن فيض الصلاح. من لا يختبر حقد قايين يرفض أن يكون "هابيل". ففي البيدر توجد الحنطة تحت ضغط القش... وتنمو الوردة ذات الرائحة الجميلة بين الأشواك الشائكة. كان أبناء نوح الثلاثة في الفلك، لكن اثنين استمرا في التواضع، وواحدًا في طيشٍ استخف بأبيه. كان لإبراهيم ابنان، واحد كان بارًا، والآخر كان مضطهدًا لأخيه. كان لإسحق ابنان، واحد خلص في تواضع، والثاني طُرد حتى قبل أن يُولد. وُلد اثنا عشر ابنًا ليعقوب، من بين هؤلاء بيع واحد في براءة، والبقية كانوا بائعين لأخيهم خلال شرهم. أختير اثنا عشر تلميذًا في الكنيسة المقدسة، لكنهم لم يبقوا دون فحص، واحد امتزج بهم، الذي باضطهاده (لهم) اُمتحنوا. يلتصق الإنسان البار بشر الخاطي، كما في التنور يُضاف القش إلى الذهب في النار، فالقش يحترق، والذهب يتنقى. حقًا إنهم أناس صالحون، هؤلاء القادرون أن يتمسكوا بالصلاح، حتى في وسط الأشرار. قيل للكنيسة المقدسة بصوت العريس: "كالسوسنة بين الشوك، كذلك حبيبتي بين البنات" (نش 2:2). وهكذا يقول الرب لحزقيال: "وأنت يا ابن الإنسان لديك غير مؤمنين والساقطون، وأنت ساكن بين العقارب" (حز 2: 6). مجَّد بطرس حياة الطوباوي لوط، قائلًا: "وأنقذ لوطًا البار مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة، إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يُعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2 بط 2: 7-8). يمَّجد بولس حياة تلاميذه، وبتمجيدهم يقويهم، قائلًا: "في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم، متمسكين بكلمة الحياة" (في 2: 15-16). هكذا بواسطة يوحنا يحمل ملاك كنيسة برغامس شهادة لذلك بالكلمات: أنا عارف... أين تسكن حيث كرسي الشيطان، وأنت متمسك باسمي، ولم تنكر إيماني" (رؤ 2: 13) البابا غريغوريوس (الكبير) إِسْوَدَّ جِلْدِي عَلَيَّ، وَعِظَامِي احْتَرَقَتْ مِنَ الْحُمَّى فِيَّ [30]. إذ يُشير أيوب إلى الكنيسة يرى البابا غريغوريوس (الكبير)حزن الكنيسة على النفوس الضعيفة التي تحرق شمس الضيقات جلدهم وتحرق عظامهم، فتُحسب ما حلّ بهم إنما حلّ بها، بكونهم أعضاء الكنيسة. "اسوَّد جلدي عليّ، واحترقت عظامي من الحرارة فيَّ" [30]... يشير بالجلد إلى الضعفاء، هؤلاء الذين يخدمون فيها لنفعٍ خارجي. والعظام تمثل الأقوياء، إذ خلالها يتم ترابط الجسم كله. يسقط الضعفاء في الكنيسة عن الثبوت في الإيمان، إما بالإغراء المالي أو التحطيم بالاضطهادات. وبعد سقوطهم يقومون هم أنفسهم باضطهادها، فتعاني الكنيسة من سواد جلدها. "وتجف عظامي من الحرارة"، فقد احترقت أقوى عظمة للكنيسة المقدسة، بولس، وجفت بالقلق على الآخرين، عندما قال لبعض الساقطين: "من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا ألتهب؟" (2 كو11: 29). هكذا اسوَّد الجلد، وجفت العظام من الحرارة، لأن الضعفاء يثبون نحو الشر، والأقوياء يتعذبون بنار غيرتهم. البابا غريغوريوس (الكبير) * يا له من شعور عجيب في الراعي. يسقط الآخرون ويقول: إني أؤكد حزني. يتعثر آخرون فيقول: تلتهب نيران آلامي! ليت كل الذين عُهد إليهم قيادة القطيع العاقل أن يتمثلوا بهذا، ولا يظهروا أنهم أقل من الراعي الذي يهتم إلى سنوات كثيرة بقطيع غير عاقلٍ. ففي حالة القطيع غير العاقل لا يحدث ضرر يًذكر حتى إن حدث إهمال، أما في حالتنا فإن هلك خروف واحد أو افتراس سيكون الضرر خطيرًا جدًا ومرعبًا والعقوبة لا يُنطق بها، فوق هذا كله إذ سبق الرب واحتمل سفك دمه من أجله، فأي عذر يقدمه هذا الإنسان أن يسمح لنفسه أن يهمل ذاك الذي اهتم به الرب وبذل كل الجهد من جانبه لرعاية القطيع؟ القديس يوحنا الذهبي الفم صَارَ عُودِي لِلنَّوْحِ، وَمِزْمَارِي لِصَوْتِ الْبَاكِينَ [31]. يرى القديس أغسطينوس أن أيوب هنا يتطلع إلى الروح القدس الذي يضرب على أوتار النفس البشرية، فيقيم منها عودًا ومزمارًا؛ تذوب النفس بحب البشرية في الرب. يقضي الإنسان حياته حزينًا على كل نفس متألمة، وباكيًا مع الباكين. هذه هي حكمة الله العاملة في الإنسان فيشارك الكل مشاعرهم، وهو في هذا يشعر بسلام فائق أثناء حزنه على الآخرين. ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن المؤمن أشبه بوتر في عود أو قيثارة، إن ضُرب عليه بخفة شديدة لا يقدم صوتًا، وإن ضُرب عليه بشدة يسبب إزعاجًا. لذا يليق بالإنسان أن يسلك باعتدال في كل شيء، ففي نسكه لا يبالغ حتى لا يدمر حيويته، ولا يترك النسك كلية فلا يقدر أن يضبط جسده. إننا أوتار مختلفة في قيثارة الله، نعمل معًا، فتخرج سيمفونية مبهجة يتقبلها الله ذبيحة تسبيح وشكر مقبولة ومرضية لديه. بهذا يتمتع المؤمن بالحياة السماوية بكونها حياة جماعية في الرب، كل عضو بمفردة يشعر بلمسات يّد الله العازفة به، ولكن بذات اليد تضرب على الأوتار الأخرى في تناغمٍ وتناسقٍ بديعٍ! * يصعب علينا أن نشك - على ما أظن - أن أيوب في هذه العبارة يعني الروح القدس. موضوع النقاش هو الحكمة، من أين تأتي إلى البشر، إنها لا تأتي من كثرة السنين، بل الروح القدس الذي (يسكن) في القابلين للموت والنسمة التي للقدير هي تعلم... واضح تمامًا أنه لا يتحدث عن روح الإنسان في عبارة "الروح الذي في القابلين للموت". لقد أراد أن يظهر من أين ينال البشر الحكمة، فإنها ليس من عندهم... بنفس الطريقة في عبارة أخرى في ذات السفر يقول: "فهم شفتي لا يتأمل النقاوة. الروح الإلهي الذي شكلني ونسمة القدير تعلمني" (راجع أي 30: 3-4 LXX). القديس أغسطينوس البابا غريغوريوس (الكبير) من وحي أيوب 30 نفسي تئن في مرارة! * كثيرًا ما أتطلع إلى حياتي، فأراها عبرت سريعًا بلا ثمر. كنت أود أن أشهد لك كلما عبر بيّ الزمن. لكن نفسي مُرّة، إذ لا أرى ثمارًا روحية في حياتي وخدمتي! من ينزع روح اليأس عنيّ، سوى صليبك يا واهب الرجاء! لألتصق بك، فتحملني على ذراعيك، وتطمئن نفسي بك، يا منقذ النفوس من الفساد! * كثيرون يسخرون بيّ حتى في شيخوختي! يعكسون ما في قلوبهم من عوزٍ وجوعٍ وخزيٍ، ويسكبونه على نفسي لتحطيمها. لكن أنت هو خبزي السماوي وشبعي ومجدي! سمرِّ عيني عليك، فأرتفع عن المزبلة التي أعاني منها. * التف حوليّ من لم يذوقوا الحق ولا الشبع بنعمتك، وها هم يسخرون بيّ. لقد خرجوا عليك كأنما على لصٍ، وها هم يمارسون ذات العمل مع كنيستك! هب لي ألاّ تضطرب نفسي! * تركوا مدينة الله بكل بركاتها. عوض العودة إليها، يشمتون في رجال الله المتألمين. * انطلقوا إلى القفار والبراري، حرموا أنفسهم من الغرس الإلهي ومياه الروح القدس، ظنوا أنفسهم أقوياء، فجاءوا يسخرون بالغروس الإلهية، كرم الله العجيب! * لماذا تئن نفسي من سخرية العالم. حبك مشبع لنفسي! آلامك وعار صليبك وموتك عني تعزيتي الحقيقية! من يستحق أن يشترك معك في عارك المجيد؟ من يتأهل أن يحمل معك صليبك؟ * في ضيق نفسي أراك قد أطلقت العنان لمضايقي، تبدو كمن يصوب السهام ضدي. لكنك وأنت الحب كله تحول مراراتي إلى عذوبة. تحول مضايقات المقاومين إلى أمجاد أبدية. تتركهم يسخرون بألسنتهم، يصبون الاتهامات ضدي. ويمارسون الظلم كما بغير ضابطٍ! وفي هذا كله عيناك عليّ، تترفقان بيّ! أنت هو خلاصي ومجدي! * إذ أسقط تحت الآلام، تتجلى أمامي يا أيها المتألم لأجلي، أنسى آلامي برؤياك المفرحة لقلبي. وتتحول مرثاتي إلى أغنية سماوية وتهليل لا ينقطع. * ليس للمخادع عمل سوى أن يُضللني عن الحق. يظن أنه يقطع عليّ الطريق، فلا أعبر إلى الملكوت. يا لغباوته. أنت هو الطريق الذي لا تستطيع قوة أن تحجبه عني. إنه يطلب هلاكي، ولم يدرك أنك أنت هو مخلصي القدير. * يتحرك العدو نحوي كما في عاصفة ليدمرني. يظن أنه يسحقني كحجر تحت كسَّارة حجارة عريضة. لم يدرك أنك حجر الزاوية تضمني بك إلى الهيكل السماوي! ليس من قوة تقدر أن تسحقني مادمت في يديك! * صارت حياتي كريحٍ عابر أو سحابةٍ سرعان ما تختفي. صارت كأنها بلا هدف ولا طعم! جفت تمامًا كشجرةٍ بلا حياةٍ ولا ثمرٍ. هاج الليل عليّ، فصار ينخر عظامي. عروقي في داخلي لا تعرف الراحة. التحفت بالآلام كثوبٍ ملتصق بي. انطرحت في وسط الوحل. وتحولت حياتي إلى تراب ورماد. * فقدت حياتي كل استقرار وأمان. تحولت عيناي إلى القبر، كبيتٍ يستقر فيه كل إنسانٍ! تحول النور إلى ظلمة بالنسبة ليّ. أحشائي في داخلي ذابت من الغليان. لم يعد ليّ من يواسيني، ولا من يشاركني آلامي. صرت أخًا للذئاب المتوحشة، والنعام العاجز عن الطيران! لم أعد أعزف على قيثارة نفسي نشيدًا أو أغنية. إنما تحول كل كياني إلى قيثارة تعزف مراثٍ دائمة! * هذه مرثاتي، من يقدر أن يعزيني غيرك؟ من يستطيع أن يقيمني من القبر غير القائم من الأموات؟ من يرفعني من المزبلة إلا السماوي الذي بحبه نزل إليّ؟ من يعطي لحياتي طعمًا سوى ذاك الذي يحول المرارة إلى عذوبة، مرثاتي لا تحطم نفسي، بل تهبني رجاءً فيك، يا مفرح القلوب! |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أيوب | مرثاة مع الرجاء في الوسيط! |
قدم لنا أيوب مرثاة يتغنى فيها بعشقه للموت |
أيوب إذ قدم مرثاة، مشتهيًا لو كان قد مات في الرحم |
مرثاة أيوب |
أسرة البلتاجي تعزي أسرة أحمد سيف الإسلام |