رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
السؤال الحوار بين يسوع وتلاميذه (مر10:4-11)، وهو مركز المقطع الإنجيلي وقلبه النابض، فيعود إلى عدة صعوبات. وأول هذه الصعوبات هو تعبير الموقف: لم يعد يسوع في القارب وأمامه الجمهور، بل على انفراد مع تلاميذه، وهو وضع يبدو أنه، فيما بعد، أهمل تماماً (33:4-34). صعوبة أخرى هي صيغة السؤال. يرد السؤال في صيغة الجمع: الأمثال، في حين أن يسوع قبلها لم يكن قد قال إلا مثل الزارع، ويلي السؤال تفسير هذا المثل (13:4-20). الصعوبة الثالثة متعلقة بمعنى كلمة مثل: إنه كلام لا يهدف للتوضيح بل طريقة غامضة للرواية، كما لو كان كلام للستر وعدم الكشف. وتظهر في هذه الصعوبات يد الإنجيلي أو التقليد الذي جمعه الإنجيلي، التي تتناول مادة موجودة ويوظفها حسب رؤيته الخاصة، بدافع من الوحي الإلهي والذي يهمنا الآن معنى هذه الصعوبات؟ ما هي المسألة التي تعبر عنها؟ ما هو الرد الذي تعطيه؟. نقطة الانطلاق هي التضاد بين "أنتم" والذين في الخارج تجاه سر الملكوت: أنتم أعطيتم... إنها ملاحظة صيغت استناداً على الخبرة: يفهم البعض رسالة وإنجيل يسوع ولا يفهمها البعض الآخر. لماذا؟ هذه هي المسألة الكامنة وراء هذا المقطع كله. ولا تتعلق هذه المسألة فقط بالأمثال بل تمتد أيضاً لتشمل حدث يسوع المسيح نفسه في مجمله. ويظهر النص أن الأمر لا يتعلق فقط بمجرد فهم الأمثال. بل قصة يسوع بكاملها. ولذلك لا تقرأ في النص اليوناني: كل شيء يروي بأمثال بل كل شيء يتم بأمثال. فمسألة يسوع بالكامل هي المثل، أي أنها حقيقة يجب فهمها. هويته وتاريخه، وليس فقط كلماته، هذه المسألة واضحة بالنسبة للبعض (الذين من الداخل أعطى لهم) وتظل غامضة بالنسبة للكثيرين (أما الذين في الخارج...) لماذا؟. الجواب السبب الذي من أجله لا يفهم الذين في خارج هو في الواقع لأنهم يظلون في الخارج: فمن في الداخل فقط لا يستطيع أن يفهم المثل الكبير، أي حدث يسوع المسيح. أعطي للتلميذ أن يفهم لأنه يرافق يسوع ويتبق ويستطيع أن يسأله. أما الجماهير فهي ترى عن بُعد وتندهش لأنها تظل خارجاً وتنظر من الخارج. لا يستطيع أن يفهم سرّ الملكوت إلا من يختاره وينحاز له. يقول النص أعطى. ويستعمل الفعل اليوناني "ديدوناي" في الزمن التام المبني للمجهول. ونحن نعلم أن المبني للمجهول الإلهي يكون نائب فاعله هو الله نفسه وبالتالي الله هو الذي يعطي الملكوت هو عطية وهبة ولا يستطيع أحد يحصل عليه بقواه، ما لم يعط له. ولا يقول النص: أعطي أن يفهم، بل أعطىفقط. الملكوت هو الذي يعطي ولا يعطي فقط فهم سر الملكوت: إنه ملكوت يعطي وعلى التلميذ المؤمن زن يقبله ويعيشه وليس فقط يفهمه. الزمن التام يوحي أن الله الذي أعطانا الملكوت في يسوع يستمر في إعطائه: الشرط الأساسي للملكوت هو أن يُعطي باستمرار. ويحدد الإنجيلي سبباً آخر يجده في نص أش 9:6-10 وكثيراً ما يرد هذا النص في العهد الجديد (قارن يو 37:12-41، رسل 26:28-27) في سياق الحديث عن الخلاف حول شخص ورسالة يسوع، وبعد ذلك الكنيسة أيضاً: يقبل البعض بينما يرفض الآخر. فإذا كان هذا فعلاً إعلاناً إلهياً، ألا يجب أن يكون واضحاً للجميع ومقنعاً لهم؟ ويجيب الإنجيلي على هذا السؤال أنه لا عجب في أن تثير كلمة الله ردود أفعال متباينة لا بل متناقضة. فهذا جزء أساسي من طبيعة كلمة الله ذاتها كما سبق وأعلن أشعيا النبي أن كلمة الله هي حكم: نور لذي القلب الحر، وظلام لذي القلب القاسي المتحجر. ويورد الإنجيلي نص أشعيا مسبوقاً بحرف التعليل لكي يوحي نص أشعيا أن عدم إيمان البعض وقساوة قلبهم راجع إلى تحديد إلهي سابق. ولكن الأمر ليس كذلك، كما يوضح شرح مثل الزارع، الذي يتناول بوضوح مسألة المسؤولية الشخصية تجاه الكلمة. بذلك يريد الإنجيلي أن يوضح أن عدم الإيمان وليس الإيمان وحده، يدخل ضمن الخطة الإلهية. ونستطيع بعبارة أخرى أن نقول إنه يدخل في طبيعة كلمة الله ذاتها: لأنها كلمة الله فإنها لا تجبر أحداً، ولا تقلص مجال حرية الإنسان بل توسعه، إنها تطلب الموافقة ولكنها لا تقبل الرفض، فرفضها هو في حد ذاته إدانة للرافض. إن ضعف كلمة الله، وهو عثرة للكثيرين، هو علامة صدقها ومصداقيتها. وتمثل كلمات أشعيا كما يوردها القديس مرقس، بالرغم من قسوتها وحدَّتها، تأملاً ذكياً حول طبيعة الكلمة والملكوت. وهي في نفس الوقت تعبر عن تفكير وتأمل في الإنسان الذي قد يكون قادراً على الرؤية ولكنه يعجز عن الفهم. فالحقيقة مسألة أدبية وليست مسألة ذهنية. فهي قادرة على الإنارة، ولكنها في ذات الوقت قادرة على الإظلام: فهي توسع مدارك فهم من يقبلها، وتزيد أحاسيس من يرفضها تبلداً وقساوة، وكلما توالت مرات الرفض ازداد القلب قساوة ويصبح غير قادر على تحمل الحقيقة التي تقلقه. وبقدر ما تكون الحقيقة مضيئة ساطعة بقدر ما يقلق الإنسان الذي لم يعتد رؤيتها عينيه. وبذلك يبدو وكأن الحقيقة نفسها هي التي تعمي عينيه. ونجد رداً ثالثاً على السؤال الخاص بعدم إيمان الكثيرين وهو الأمر الهام جداً لإزالة كل لبث حول القدريّة، في شرح مثل الزارع. الأمر هنا لا يتعلق بطبيعة كلمة الله التي يمكنها أن تنير أو تظلم، تكشف أو تخفي، إنما يتعلق بمسؤولية الإنسان أمام الكلمة التي تناديه. رأينا أن الأسباب التي يسوقها بخصوص نوعي التربة الثاني والثالث واضحة جداً، في حين أن السبب الخاص بالنوعية الأولى عاجل وغامض. وحتى هنا لا يجب إطلاقاً اغفال مسؤولية الإنسان. حاولنا حتى الآن أن نبحث عن سبب عدم الإيمان في الحديث بالأمثال عموماً، ولكن بعيداً عن ثلاثية الأمثال الخاصة بالزرع (الزارع- الزرع الذي ينمي وحده- حبة الخردل). السبب الأهم والأعمق يرد في هذه الأمثال، حيث نلاحظ الطريقة المدهشة التي بها يقدم الملكوت ويستمر في التاريخ. إن عمل الملكوت لهو على درجة من الغرابة لدرجة أن المقاييس الخاصة بتقويم نجاحه أو فشله، وحضوره أو غيابه، قوته أو ضعفه مقاييس مقلوبة ظهراً على عقب، قياساً بالمقاييس البشرية العادية. وهذا الانقلاب هو سبب جدته وجماله والدهشة التي يثيرها دائماً. |
|