رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يكشف أيوب عن الطريق الذي فيه كان يخاف الرب ويحيد عن الشر. لا يفكر أيوب في السعادة المادية وحدها، بل يقدّر الصداقة مع الله [4-5]. إنه لم يسئ استخدام السلطة ككثيرٍ من الملوك. لقد كان أيوب قادرًا على الشرب من كأس الألم دون أن يفقد سلامه الداخلي وابتسامته. يبدو أن أيوب توقف عن الحديث إلى لحظات بعد أن تكلم عن الحكمة والفهم في الأصحاح السابق. ولعله توقع أن يقدم أحد أصدقائه تعليقًا ما أو ملاحظات على كلماته. وإذ لم يجدوا ما ينطقون به أكمل حديثه عن حياته، مقدمًا لنا ذكرياته عن ماضيه الذهبي. 1. سعادته السابقة في الرب وَعَادَ أَيُّوبُ يَنْطِقُ بِمَثَلِهِ فَقَالَ: [1] يَا لَيْتَنِي كَمَا فِي الشُّهُورِ السَّالِفَةِ، وَكَالأَيَّامِ الَّتِي حَفِظَنِي اللهُ فِيهَا [2]. هنا نرى الإنسان المريض الحزين والحائر يتذكر أيام نجاحه وراحته، ويخبرنا كيف أن الله حفظه، وكان جميع الناس يحترمونه، ويقفون له عند خروجه، وجعلوه رئيسًا عليهم. أما الآن فإن الناس حتى أدناهم - في نظر المجتمع - يحتقرونه ويستهزئون به. يؤكد أنه لم يكن مذنبًا بارتكاب خطايا شهوانية، كما لم يظلم المسكين والأرملة، ولم يمسك الطعام عن اليتامى، ولم يفعل أية خطايا سرية. كان يرفض الكذب والغش والظلم والبخل والطمع وعبادة الأصنام والشماتة والشح والرياء والاستغلال إلخ. بهذا يعلن عن براءته. لكن هذا ليس عن فضلٍ منه، وإنما بسبب رعاية الله له. فإن سرّ استقامة حياته هو حفظ الله له. تطلع أيوب إلى ماضيه وقارنه بما هو عليه، فاشتهى لو عاد الزمن، وبقي حاله كما كان عليه. وهو في هذا لا ينسب سعادته وغناه ونجاحه لمجهوداته الخاصة، ولا لقدراته ومواهبه، بل لمراحم الله، قائلًا: "حفظني الله". لم يكن يرى في ثروته حصنًا له (أم 15:10)، ولا اتكل على كثرة غناه (مز 7:52)، بل كان له "اسم الرب برجًا حصينًا" (أم 10:18). يعترف أيوب أن الله هو سور نار محيط به وسياج يحفظه، الله هو سرٌ أمانه. * "عندئذ استأنف أيوب مقاله الافتتاحي: آه لو كنت على حالي السابق لمدة شهر". ماذا يقول؟ أود لو أنني أحيا لمدة شهر في الحياة الصالحة التي كانت لي في الأزمنة السابقة لكي أسد أفواهكم، وأظهر لكم ما كنت عليه. يطلب شهرًا واحدًا مثل الشهور والأيام السابقة. لم يطلب شيئًا غير عادي، بل أن يحيا لمدة ثلاثين يومًا في سعادة الأزمنة الأخرى، ويتمتع بالخيرات التي لم يقدمها له أحد... لاحظوا تقوى الرجل، فإنه ينسب كل شيء لله. لا يستطيع إنسان محروم من العون العلوي أن يبقى في حياة مستقيمة. يقول: "حفظني الله فيها"، فإن بحثه عن حياته الصالحة السابقة، إنما للشهادة عن عناية الله. * يريد (الرسول بولس) أن يقول إن الله هو ينبوع كل الخيرات ومصدرها، ليس في حاجة إلى شريك أو مشير. هو بدء كل الخيرات وأساسها وموجدها؛ هو الخالق. دعا غير الموجود موجودًا. يدير كل شيء ويرتبه ويحفظه حسب إرادته! القديس يوحنا الذهبي الفم حِينَ أَضَاءَ سِرَاجَهُ عَلَى رَأْسِي، وَبِنُورِهِ سَلَكْتُ الظُّلْمَةَ [3]. كان النور المشرق منه هو نور الله الذي أضاء سراجه على رأسه، وكأن أيوب أشبه بمنارة، لا قيمة لها بدون السراج الإلهي. إنه مدين لله "النور الحقيقي"، الذي قاده وسط الظلمة، يهبه تعزيات إلهية وسط الأحزان، ويحفظه من العثرات. يقدم أيوب بروح التواضع مع الشكر لله نفسه منارة، مهما كان معدنها، وأيا كان شكلها، فإن سرّ قوتها في النور الذي يُوضع على القمة لكي تهتدي به السفن على بعد أميالٍ كثيرة. يعترف أيوب أنه وإن كان منارة، فإن النور الذي على رأسه، هو نور الله، وليس نوره هو. إنه سراج الرب، النور الحقيقي. يرى داود النبي في كلمة الله "سراجًا لرجله" (مز 119: 5: 1) يضيء له، فيسير وسط ظلمة هذا العالم، أما أيوب فيرى في كلمة الله نورًا إلهيًا مثبتًا كما على رأسه ليقود سفنًا كثيرة نحو الميناء! يليق بالمؤمن أن ينحني أمام الله ليملأ حياته بعمل روحه القدوس واهب الاستنارة، فيترنم قائلًا: "بنورك نرى نورًا" (مز 26: 9). لم يقل "أعاين"، بل "نعاين"، فإذ يستنير المؤمن يجتذب الكثيرين معه للتمتع بالنور الإلهي. *عندما شرح أيوب صلاح أعماله، أضاف:"عندما أضاء السراج على رأسي" (أي 29: 3). هذا السراج الذي يُضاء بزيت الأعمال الصالحة لكل واحدٍ منا. لكننا إن مارسنا شرًا، وصارت أعمالنا شريرة، ليس فقط لا نضيء، بل ونطفئ ذاك السراج الذي لنا، ويتحقق قول الكتاب: "من يصنع الشر يسلك في الظلمة، ومن يبغض أخاه فهو في الظلمة" (راجع 1 يو 2: 11). ألا يظهر لكم من يطفئ نور المحبة أنه أطفأ السراج؟ أما من يحب أخاه (راجع 1 يو 4: 21)، فيثبت في نور الحب، ويمكنه في يقينٍ أن يقول: "وأما أنا فشجرة زيتون مثمرة في بيت الله" (مز 25: 8)، "بنوه مثل غروس الزيتون حول مائدته" (مز 128: 3). العلامة أوريجينوس البابا غريغوريوس (الكبير) لقد وضع الله الأسفار المقدسة في العالم كسراج نورٍ يضيء ظلمته. فالذي يحبّ نفسه يستنير بالقراءة، ويسير على هداها. اقترب من الكتاب بحبٍ، تأمل جماله. فإنك لن تستفيد بدون الحب، لأن الحب هو مدخل الفهم. يفرض الكتاب حبَّك، فإن كنت لا تحبه فلا تقرأه. إنه يكلمك، فإن ضجرت من قراءته حرمك من إيماءاته. يجب أن تحبَّه وتفتحه وتقرأه وتتأمل جماله، وإلا فلا تقرأه، لأنك إن كنت لا تحبَّه لن تستفيد منه. القديس مار يعقوب السروجي كَمَا كُنْتُ فِي أَيَّامِ خَرِيفِي، وَرِضَا اللهِ عَلَى خَيْمَتِي [4]. جاء النص كما ورد في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير): "وكان الله يجالسني في خيمتي". عبارة تكشف عن تواضع الله الفائق، وحبه العجيب نحو الإنسان! لعلها تشير إلى تجسد الكلمة الإلهي الذي صار كمن في خيمتنا، إذ قبل الناسوت. تطلع أيوب إلى أيام شبابه، فحسبها أيام خريفه، وقد لمس فيها رضا الله على خيمته. بمعنى آخر أدرك أنه في شبابه لم يسلك حسب أهواء الجسد، بل دخل كما في صداقة مع الله، فوجد الله مسرته في خيمة أيوب، يجتمع معه ويرعاه ويقوده حتى يعبر به إلى المسكن الأبدي. * "كما كنت في أيام صباي، وكان الله يجالسني في خيمتي" [2]... من يفكر في صمت في وصايا الله، هذا يسكن الله سريًا في خيمته. البابا غريغوريوس (الكبير) إن كان الله قد أقام من أيوب منارة تحمل شعلة نور إلهي تهدي السفن إلى الميناء السماوي الآمن، فإنه من جانب آخر قد جعل من خيمته سماء ثانية. كأن الله يُسر بأن ينزل ليجلس مع محبوبه أيوب! إن كنا نتطلع إلى أجسادنا كخيامٍ تقطنها النفوس أثناء رحلتها في هذا العالم، فإن الله خالق الجسد لن يستنكف منها ولا يزدري بها، لأنها من عمل يديه. إنه يقدس أجسادنا بكل عواطفها وأحاسيسها وطاقاتها، يسكن فيها ويهديها لنتمتع بالأمجاد الأبدية الخالدة. وَالْقَدِيرُ بَعْدُ مَعِي، وَحَوْلِي غِلْمَانِي [5]. في شبابه شعر أيوب بمحبة الله، وهذا كان سرٌ كفايته وشبعه. شعر كمن كان في قصرٍ سماويٍ، لا يشغله الغنى ولا الجاه ولا السلطان، لكن مع غلمانه كان الكل في شركة مع الله رب البيت الحقيقي. * لماذا ترفضون الإقتداء برجال ونساء العهد القديم القديسين؟ اخبروني! خاصة أنتن أيتها الأمهات، فلتفكرن في حنة كمثال، أنظرن ماذا فعلت. لقد أحضرت ابنها الوحيد صموئيل إلى الهيكل حينما كان لا يزال طفلًا! من منكن لا تريد أن يكون ابنها مثل صموئيل الذي هو أفضل من ملكٍ على العالم كله ربوات المرات؟ تقولين: "هذا مستحيل! فإن ابني لن يكون عظيمًا هكذا مثله! لماذا هذا الأمر مستحيل؟ لأنكِ بالحقيقة لا تريدين هذا. أودعيه في يديْ ذاك القادر أنيجعله عظيمًا. ومن هو هذا؟ الله! فقد أودعت حنة صموئيل في يدي الله. لم يكن رئيس الكهنة عالي قادرًا بالحقيقة أن يشَّكله، فقد فشل في تشكيل ابنيه. إنه إيمان الأم وغيرتها جعلا كل شيء ممكنًا. لقد كان ابنها البكر والوحيد. لم تكن تعرف هل سيكون لها ابن آخر غيره، ومع هذا لم تقل قط: "سأنتظر حتى يكبر، ويذوق مباهج العالم، على الأقل في صبوته". لا، فقد رفضت مثل هذه الأفكار كلها. كان لها هدف واحد، كيف استطاعت من البدء أن تكرس بهجة قلبها لله. لتخجلوا أيها الرجال أمام حكمة هذه المرأة. لقد قدمت صموئيل لله، وعند الرب تركته. بهذا تبارك زواجها بالأكثر، لأن غايتها الأولى هي الأمور الروحية. كرست بكر رحمها لله، فنالت بعد ذلك أبناء كثيرين. لقد رأت صموئيل مكرمًا حتى في هذه الحياة. إن كان الناس يردون التكريم بالتكريم، أما يرد الله بالأكثر لمن يكرمه؟ إنه يعطي الكثير جدًا حتى للذين لا يكرمونه نهائيًا! إلى متى نبقى هكذا ككتلٍ جسدية؟ إلى متى نلتصق بالأرض؟ ليصر كل شيء في المرتبة التالية بعد اهتمامنا بأولادنا، فنربيهم في تعليم الرب وإنذاره (أف 6: 4). القديس يوحنا الذهبي الفم إِذْ غَسَلْتُ خَطَوَاتِي بِاللَّبَنِ، وَالصَّخْرُ سَكَبَ لِي جَدَاوِلَ زَيْتٍ [6]. وهبه الله كل شيء بفيضِ، فمن كثرة الأغنام خُيل إليه أنه كمن يغسل قدميه باللبن، ومن فيض ثمار أشجار الزيتون حسب كأن الصخور المحيطة به تفيض زيتًا. إلى أي شيء يشير غسل خطوات الإنسان باللبن أو الدسم، وسكب الصخور له جداول زيت، سوى إلى شعور بالمؤمن بالشبع الداخلي، فتصير له جداول لبن يغسل فيها قدميه، وجداول زيت، فلا يدهن بمسحة زيت أعضاء نفسه فحسب، بل ويصير كمن غطست نفسه وسُحبت في جداول زيت مقدس. يشير هنا إلى معصرة الزيت الحجرية، حيث يفيض منها الزيت كنهرٍ. "وأجرى أنهارهم كالزيت يقول السيد الرب" (حز 32: 14). جاء في نشيد موسى قبل انتقاله: "وأرضعه عسلًا من حجر، وزيتًا من صوان الصخر" (تث 32: 13). يترنّم المرتّل قائلًا: "أعيُن الكل تترجّاك، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه. تفتح يديك فتُشبع كل حيّ من رضاك" (مز 145: 15-16). هذا وإذ يشير أيوب إلى الكنيسة، فإنها إذ تكرز بإنجيل المسيح تقدم للعالم فيضًا وشبعًا داخليًا. إنها كرازة بالمصلوب المرفوض من العالم، لكن فيه كل كنوز العلم والمعرفة، فيه كل كنوز السماء! * "إذ غسلت قدميٌ بالزبدة" [6]... تُغسل الأقدام بالزبدة حيث يمتلئ الكارزون القديسون بدسم الأعمال الصالحة. "والصخر يفيض بي أنهارًا من الزيت" [6]. يقصد بالصخرة المسيح، حيث يؤكد الكارز العظيم "والصخرة كانت المسيح" (1 كو 4:10). هذه الصخرة تفيض الآن أنهار زيت، تستخدمها الكنيسة المقدسة، إذ يتكلم فيها الرب، ويقدم الكرازة بالدهن الداخلي. البابا غريغوريوس (الكبير) إذن ليتنا نجوع ونعطش إلى البرّ، لكي نشبع منه... ليت إنساننا الداخلي يجوع ويعطش حتى يكون له الطعام والشراب المناسبان له. لقد قال (الرب): "أنا هو الخبز الذي نزل من السماء" (يو 6: 41). هذا هو خبز الجياع! ليتنا نشتاق أيضًا إلى الشرب كالظمأى، "لأن عندك ينبوع الحياة" (مز 36: 9). الشيخ الروحاني نعم يا إلهي. فأنت وحدك القادر أن تعيد لي حياتي السعيدة. لك اَعترف ببؤسي، وذلك عند رحيل اليوم الذي كنت فيه غارقًا بين أباطيل العالم المتعدّدة، محرومًا منك أنت موضوع حبّي الوحيد. ذلك اليوم الذي فيه كانت أشواقي الجسديَّة مشتّتة في المباهج الخادعة. وما أكثر هذه المباهج تلك التي تحمل في بهجتها أتعابًا لا حصر لها؟! هذه المباهج وعدتني بأمورٍ كثيرة، ومع ذلك فهي لم تجلب عليَّ سوى الفقر. انتقلت من واحدة إلى أخرى لعل إحداها تقدر أن تشبع نفسي، لكنّها عجزت، إذ لم تكن نفسي تحيا بعد إلاَّ فيك! حقًا، إن فيك الجمال، يا من وحدك سرمدي، وسام، وكامل على الدوام! من يقتفي آثارك لن يضل قط! من يبلغ إليك لا يلحقه يأس! من يمتلكك تشبع كل رغباته! لكن يا لبشاعة بؤسي! ويحي يا إلهي، فإن قلبي يميل إلى الهروب منك؛ أنت أيّها الغنى الحقيقي والفرح الحقيقي، لكي يتبع العالم الذي ليس فيه إلاَّ الحزن والألم. القديس أغسطينوس حِينَ كُنْتُ أَخْرُجُ إِلَى الْبَابِ فِي الْقَرْيَةِ، وَأُهَيِّئُ فِي السَّاحَةِ مَجْلِسِي [7]. سعادته الفائقة في بيته لم تشغله عن الاهتمام بالآخرين، فكان يخرج إلى باب المدينة ليرأس مجلس القضاء، ليس حبًا في العظمة، بل من أجل تمتع الكل بالعدالة، ورفع روح الظلم عن المتألمين. * "حيث كنت أخرج إلى باب المدينة، وفي الطريق أعدوا لي كرسيًا "... كانت العادة لدى القدامى أن يجلس الشيوخ عند الأبواب، ويقضون في قضايا الداخلين إلى المدينة، حتى يكون الشعب في المدينة في أمان، فلا يُسمح للذين على خلافٍ أن يدخلوها. الآن إذ نوقر التفسير التاريخي نذكر أن أيوب فعل هذا كله من أجل حفظ العدالة. البابا غريغوريوس (الكبير) رَآنِي الْغِلْمَانُ فَاخْتَبَأُوا، وَالأَشْيَاخُ قَامُوا وَوَقَفُوا [8]. كانت له رهبة عظيمة، فكان يخشاه السالكون في غير نضوجٍ كغلمانٍ مستهترين. هؤلاء كانوا يرونه فيختبئون منه، حتى لا تنفضح شرورهم. أما الذين سلكوا كشيوخٍ مختبرين حكماء، فكانوا يقفون في إجلالٍ وتوقيرٍ له. وكما يقول الرسول: "وأما الشيوخ المدبرون حسنًا، فليُحسبوا أهلًا لكرامة مضاعفة" (1 تي 17:5). "فأعطوا الجميع حقوقهم... الخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رو 7:13). * "رآني الغلمان فاختبأوا، والشيوخ يقفون منتصبين" [8]. إن تطلعنا إلى التفسير التاريخي نصدق ما يقوله. إن أخذنا ما قاله بمعنى رمزي، فإن الذين لم تتثقل نفوسهم بثقل المشورات يُدعون "غلمانًا". عادة ما يدعو الكتاب المقدس الذين لهم وزن (خبرة في الماضي) في شخصياتهم بأنهم شيوخ، ليس فقط بكونهم صاروا ناضجين خلال الكم من السنوات... يقول أحد الحكماء: "لأن الشيخوخة المكرمة لا تقوم على كثرة الأيام، ولا تُقاس بعدد السنين. ولكن شيب الإنسان هو الفهم، وسن الشيخوخة هي الحياة التي بلا عيب" (حك 8:4-9)... الآن "يرى الغلمان" الكنيسة المقدسة ويختبئون، ويقوم الشيوخ وينتصبون، لأن غير الناضجين يخشون نشاطها واستقامتها، والشيوخ يمجدونها. التافهون في الفكر يهربون، وأما الجادون والكاملون فيثنون عليها بالارتفاع للتأهل لحياتها. الناقصون يلومون نظامها وحبها الكامل. "الغلمان يرونها ويختفون"، لأنهم يخشون أن يُكتشف سلوكهم الخفي. البابا غريغوريوس (الكبير) الْعُظَمَاءُ أَمْسَكُوا عَنِ الْكَلاَمِ، وَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ [9]. صَوْتُ الشُّرَفَاءِ اخْتَفَى، وَلَصِقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِأَحْنَاكِهِمْ [10]. كان لأيوب شخصيته القوية القائمة على حكمته وقدراته ومواهبه، فكان موضع تكريم العظماء والشرفاء. ففي حضرته يصمت الكل ليصغوا إليه، وينتفعوا بحكمته وخبرته الفائقة. ولعل العظماء والشرفاء إذا ما تنازعوا في أمرٍ أو اختلفوا في الرأي يجدون الحل الحاسم لدى أيوب. * "العظماء أمسكوا عن الكلام، ووضعوا أيديهم على أفواههم. يتخافت صوت الرؤساء، وتلصق ألسنتهم بأحناكهم" [9-10]. من هم هؤلاء الذين يُفهمون هنا بأنهم قادة أو شرفاء إلا الذين يبثون شرورًا هرطوقية؟ قيل عن هؤلاء بالمرتل: "يسكب هوانًا على رؤساء، ويضلهم في تيه بلا طريقٍ" (مز 40:107). فإن مثل هؤلاء الأشخاص لا يخشون من تفسير تدبير الله بمعنى خاطئ، وبالتأكيد يجتذبون القطعان الخاضعة لهم إلى تيه بلا طريقٍ، وليس في الطريق الذي هو المسيح. على هؤلاء ينسكب بحقٍ الهوان (النزاع)، عندئذ يكونون كمن يضعون أصابعهم على أفواههم.... يلتصق لسانهم بفمهم، إذ لا يجسرون أن ينطقوا بما هو شرير، بمنطوقات غير منضبطة، لكن يغطون كل ما يفعلونه في داخلهم لكي لا يقترحوا ما هو غير حقٍ ضد الإيمان الحقيقي... "يتخافت صوت الرؤساء، وتلصق ألسنتهم بأفواههم". وكأن الكنيسة تقول بوضوح: حين تُعطي لي فرصة للكرازة بصوتٍ علنيٍ عالٍ، يرهبني كل إنسانٍ غير خاضعٍ للحق. البابا غريغوريوس (الكبير) * من علامات القديسين أن يخفوا ما صنعوه من أعمال صالحة، لئلا يجلبوا على أنفسهم السقوط في الافتخار. لذلك يقول الحق: "احترزوا من أن تصنعوا برّكم قدام الناس لكي ينظروكم" (مت 1:6). هكذا أيضًا إذ وهب نورًا للأعميين الجالسين على الطريق أمرهما قائلًا: "انظرا، لا يعلم أحد" (مت 30:9). وقد قيل عنهما إنهما "خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها"... يليق بهما أن يختفيا لتحقيق هدفٍ ما، وأن يعلنا ذلك عن ضرورة. ليكن اختفاؤهما لأجل حفظ نفسيهما، وليكن إعلانهما لأجل نفع الآخرين. لهذا كُتب: "لا يوقدون سراجًا، ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت. فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 15:5-16). توجد أوقات يلتزم فيها قديسون أن يمارسوا أعمالًا صالحة حتى في حضور زملائهم المخلوقين، أو يقولوا لهم عما يفعلونه، ولكن ليس بهدف أن يتمجدوا بهذه الأعمال، بل يتمجد أبوهم الذي في السماوات... لهذا يتجنب الكارزون الصالحون الكرامة، ومع ذلك يرغبون في أن يُكرموا لكي يقتدي الآخرون بهم. بنفس الطريقة بالتأكيد عندما كان يتكلم الرسول بولس مع تلاميذه كان يهرب من الكرامة، ومع ذلك يُظهر كيف يستحق أن يُكرم جدًا. إذ قال لأهل تسالونيكي: "لسنا نطلب مجدًا من الناس، لا منكم، ولا من غيركم، مع أننا قادرون أن نكون في وقارٍ كرسل المسيح، بل كنا مترفقين في وسطكم" (1 تس 6:2-7). مرة أخرى في رسالته إلى أهل كورنثوس إذ تجنب الكرامة يقول: "فإننا لسنا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح" (2 كو 5:4)... لهذا أظهر بطريقة مدهشة نعمة التواضع، وطلب فيض من المنفعة، كمن يعلن عن نفسه أنه خادم تلاميذه، ويبرهن أنه أفضل من أعدائه. البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنَّ الأُذُنَ سَمِعَتْ فَطَوَّبَتْنِي. وَالْعَيْنَ رَأَتْ فَشَهِدَتْ لِي [11]. لا تقوم هذه الكرامة على غناه، ولا على سلطانه، وإنما على سلوكه العملي، فالكل شهدوا له خلال سماع الأذن لحكمته وأحكامه، ورؤية العين لحبه وحنانه. لقد كان يتمثل بالله العادل المحب للبشر، فشهد الكل له. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في شخص أيوب الطوباوي رمزًا للكنيسة المطوٌَبة، فإن الكنيسة لها تقديرها وتكريمها وتطويبها من كل الذين يسمعون لها، ويرون حياتها المقدسة. تبقى الكنيسة مُضطهدة من المقاومين، لكنها مطٌوبة ومهوبة ومكرمة. لأَنِّي أَنْقَذْتُ الْمِسْكِينَ الْمُسْتَغِيثَ، وَالْيَتِيمَ وَلاَ مُعِينَ لَهُ [12]. تطويب الكل له يقوم على أعمال محبته، فلم يكن يستريح حتى يجد المسكين راحته، ولا يلذ له طعام حتى يجد اليتيم فيه عونًا له. يطالبنا القديس باسيليوس الكبير أن نتمثل بأيوب البار الذي صار أبًا للأيتام ومعينًا لهم (أي 29: 12). وقد قدم مفهومًا روحيًا عميقًا لهذا العمل الأبوي. فتبني الأيتام لا يقف عند مساندتهم ماديًا، وإنما يمتد لاحتضان الصغار لتكريس قلوبهم وحياتهم للرب. ففي إجابته على السؤال: "في أي عمر يُسمح للشخص أن يكرس نفسه لله، وفي أي وقت يًحسب نذر البتولية آمنا؟ يجيب هكذا: [مادام الرب يقول: "دعوا الأولاد يأتون إليٌ" (مز 10: 14)، ويمتدح الرسول من يعرف الكتاب المقدس من طفولته (2 تي 3: 15)، ومن يوجه أطفاله أن يُبنوا "بتأديب الرب وإنذاره" (أف 6: 4)، يبدو لنا كل أوقات الحياة، حتى المبكرة جدًا مناسبة للقبول للتلمذة (الرهبانية). حقًا يلزمنا أن نقبل أولئك الأولاد المحرومين من والديهم تحت رعايتنا، فنصير آباء للأيتام، مقتدين بأيوب (أي 29: 12).] * ليوضح لماذا يعلنون أنه مطوٌَب. يقتبس أعماله الصالحة، قائلًا: "لأني أنقذت المستغيث من يد المضايقين"، لكن يأتي هذا بعد أن ينسب الاستحقاق لله أولًا الذي حفظه وصانه حتى يمجد الرب (1 كو 31:1). * انظروا إنه لا يفتخر بأنه حاد عن الشر، ولا أنه قدم ذبائح كما فعل اليهود، إنما يفتخر أنه يتمم ما يريده الله (إنقاذ المساكين). يقول: "اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة" (إش 17:1). لاحظوا إنه لا يستبد بسلطانه، إنما يستخدمه متى كانت هناك حاجة إليه. كان أبًا ومدافعًا عن الجميع. لم يستخدم غناه في الظلم، ولا مجده للافتخار، ولا حكمته للشر، بل أن ينقذ الذين تثقلوا من ضغط الأشرار. القديس يوحنا الذهبي الفم الآن تنقذ "اليتيم الذي لا معين له"، حيث يهرب كل واحدٍ من شهوات العالم المُضطهد... ويجري إلى حضن الكنيسة المقدسة، فيجد فيها عون النصح. ربما يُفهم ب "اليتيم" أي مؤمن فبالموت عن الآب الصالح (يصير يتيمًا)، حيث يحرم منه إلى حين، ولا يُحرم من السلوان. البابا غريغوريوس (الكبير) بَرَكَةُ الْهَالِكِ حَلَّتْ عَلَيَّ، وَجَعَلْتُ قَلْبَ الأَرْمَلَةِ يُسَرُّ [13]. كان الذين تحت ضغوط مدمرة يجدون نجدتهم فيه، فينجون، وتحل بركتهم عليه، إذ لا يكفون عن الدعاء له، وكانت قلوب الأرامل المنكسرة تُسر وتبتهج بأعمال محبته وحنوه. إن كان الله ينسب نفسه للمرذولين والمحتاجين ومنكسري القلوب بكونه أب اليتامى وقاضي الأرامل، فإن أيوب وجد مسرته في الاهتمام بكل هذه الفئات المتألمة. * كم قدَّر القديس أيوب سمو الموت، إذ قال: "لتحل بركة ذاك الذي اقترب إلى الموت عليّ" (أي 29: 13)... إن رأينا أي فقير في لحظة الموت، فلنعينه على نفقتنا. ليقل كل شخص: "لتحل بركة الشخص الذي قارب الموت عليّ". إن رأينا أحدًا في ضعف لا نتخلى عنه. إن رأينا أحدًا في آلامه الأخيرة، لا نتركه... ليت كل شخصٍ وهو يموت يمدحك؛ كل شخصٍ يموت عن شيخوخة أو مصابًا بجرحٍ خطير أو يعاني من مرضٍ، وهو في لحظة الموت. هذه العبارة جلبت بركة لكثيرين جدًا... لتكن آخر كلمات ينطق بها الشخص قبل موته هي أن يردد اسمك، وإذ تفارق نفسه جسده تحل بركته عليك. *إذا كان من واجبنا أن نقدم الرحمة للجميع، ألا يلزمنا بالأولى أن نقدمها لذاك الصالح (المؤمن الذي يعاني من السجن)؟! وإن لم ينل منك شيئًا وقت الخطر حين يُقاد للموت، فتظن أن أموالك أفضل من حياة الرجل الذي يموت، أية خطية ترتكبها! لذلك ينطق أيوب بقوله الرائع: "بركة ذاك الذي في طريقه للهلاك والموت فلتحل عليٌ" (أي 13:29) . القديس أمبروسيوس البابا غريغوريوس (الكبير) لَبِسْتُ الْبِرَّ فَكَسَانِي. كَجُبَّةٍ وَعَمَامَةٍ كَانَ عَدْلِي [14]. لم تكن تصرفاته الحانية -إذ لم يسمح لأحدٍ أن يُظلم أو يُهان، ولا لمحتاجٍ أن يُذلَّ- تمثل دورًا معينًا يلتزم به، بل كانت ثوبه الذي لم يخلعه. لقد حسب هذه الأعمال ليست أمرًا ثانويًا في حياته، بل هي أمر ضروري، بدونها يتعرى أمام الله نفسه، فيرجع إلى حال أبويه آدم وحواء، وهما يستظلان تحت التينة في خوفٍ ورعدةٍ، مع عريٍ وخزيٍ! حسب أعمال البٌر ليست هبة منه يمنحها للغير، بل عطية إلهية تكسوه بالمجد. إنها عمامة (إكليل) ملوكية! لم يكن يلبس تاج الملوكية للافتخار والكرامة، إنما كان تاجه هو العدالة والرحمة. لم تكن كرامته في الثوب الملوكي الأرجواني ولا التاج ولا الصولجان لكن كرامته ودفئه في ثوب البرّ وإكليل الحق. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أيوب لبس البٌر كعباءة، أو كمن يرتدي ثوب القاضي. ليس من أحدٍ قام بتعيينه قاضيًا للناس، لكن حياته الفاضلة المقدسة دفعته لهذا العمل، وأخضعت الناس لقبول حكمه في القضايا برضا. كما أن حياة موسى الفاضلة هيأته للعمل القيادي، هكذا بالنسبة لأيوب، فإن ممارسته للعمل القضائي جاء طبيعيًا من حياته الفاضلة. * يقول: "لبست البٌر"، فإنه يوجد أشخاص لهم مكانة أعظم من غيرهم، لكنهم كثيرًا ما يمارسون الظلم. لم يكن هذا حال أيوب، إذ عاش على الدوام في طريق البرّ. "لبست البٌر مثل عباءة"، أي هو حلتي للتزين. البعض يستاءون من هذا العمل، يتذمرون ويشعرون أنه عمل مرهق وشاق، لكنني أنا لست هكذا... ومع هذا من أقامه كقاضٍ؟ هذا صادر عن شخصه، بسبب فضيلته، وذلك كموسى. هذا ما يليق أن يكون عليه الرجال. أما من يجحد الفضيلة، فيجعل عليه ولاة. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس القديس أمبروسيوس القديس أغسطينوس هكذا نتطلع بعيني القلب إلى كل الاتجاهات، فنكون حريصين بكل اجتهاد في كل جانبٍ. لذلك بحقٍ قيل أيضًا بسليمان: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة" (أم 23:4). فقبل التحفظ أضاف أولًا "كل". بالتأكيد يليق بكل أحدٍ أن يفحص نفسه باجتهادٍ من هذا الجانب وذاك الجانب. ومادام هو في هذه الحياة يعرف أنه موضوع في معركة يخوض فيها ضد أعداء روحيين، لئلا يفقد المكافأة التي ينالها خلال مجموعة معينة من الأعمال بمجموعة أخرى. لئلا من جانب يسد الباب في وجه العدو، لكنه يفتح بابًا له من جانب آخر. فإنه إن كانت مدينة ما بمتاريس واقية عظيمة ضد أعداء مخادعين، ومحصنة بأسوارٍ قوية، ويحميها حرس لا ينامون من كل جانب، لكن وُجدت فتحة وحيدة غير محصنة وذلك خلال الإهمال، فإن العدو بالتأكيد يدخل... فذاك الفريسي الذي صعد إلى الهيكل ليصلي، لنسمع كيف كان لمدينة نفسه حصون، إذ يقول: "أصوم مرتين في الأسبوع، وأعشر كل ما أقتنيه". ذاك الذي يقول: "أشكرك" بالتأكيد وضع حصونًا غير عادية. ولكن لننظر أين ترك فتحة بلا دفاع تجاه خطط العدو. "إني لست مثل هذا العشار" (لو 11:18-12). ها أنتم ترون كيف فتح مدينة قلبه لخطط العدو خلال مديحه لنفسه، المدينة التي عبثًا أحكم إغلاقها بالصوم والصدقة. البابا غريغوريوس (الكبير) كُنْتُ عُيُونًا لِلْعُمْي،ِ وَأَرْجُلًا لِلْعُرْجِ [15]. وهبه الله أن يكون عيونًا للعميان، حيث يقدم مشورة الصالحة لمن هم في حيرةٍ. وكان أرجلًا للعرج، حيث لا يقف الأمر عند تقديم النصيحة، بل بالحب يحل الكل ليكون أرجلًا تقود العرج في طريق الحق، فيبلغ بهم عمليًا إلى الحياة المتهللة في الرب. * "كنت عيونًا للعمي وأرجلًا للعرج" [15]. لم يقل قد خففت من أحزانهم، ولا كتمت شعورهم بالعمى، بل "كنت عيونهم"... في كل موضع حولت لهم الظلمة إلى نورٍ. القديس يوحنا الذهبي الفم * بالكرازة تنير الكنيسة العميان، بينما تسند العرج بمعونتها لهم. فإن الأعمى هو ذاك الذي لا يرى إلى أين هو ذاهب، والأعرج هو ذاك الذي ليس له القدرة أن يذهب إلى الموضع الذي يراه. غالبًا ما تُرتكب الخطية، إما بالجهل (العمي) أو الضعف (العرج)؛ فإما لا يعرف الإنسان ما يلزم أن يشتهيه، أو لا يقدر أن يفعل كل ما يشتهيه. البابا غريغوريوس (الكبير) أَبٌ أَنَا لِلْفُقَرَاءِ، وَدَعْوَى لَمْ أَعْرِفْهَا فَحَصْتُ عَنْهَا [16]. لم يكن مدافعًا عن الفقراء وسخيًا معهم فحسب، وإنما قدم أبوة صادقة، فلم يستنكف كملكٍ أن يدعو نفسه أبًا للفقراء. إذا قُدمت له قضية لا يتسرع في الحكم، بل يهتم بالاستماع إلى كل الأطراف، وفحص كل الجوانب بدقةٍ، فلا يجيب على أمرٍ قبل أن يسمعه (أم 13:18)، ولا يصدر الحكم لأول وهله لمجرد المنظر. "الأول في دعواه محق، فيأتي رفيقه ويفحصه" (أم 17:18). خلال أبوة أيوب الحانية لم يكن يهتم فقط بمن يسأله أن ينقذه من الظلم، وإنما يهتم أيضًا بمن لا يسأله. يجد لذته في البحث عن النفوس المحطمة لإنقاذها، فيفحص الدعاوى التي لم تُقدم له ولا عرفها. ربما يتساءل شخص ما: إن كنا نود أن نحمل نوعًا من الحنو أو الأبوة نحو الآخرين فهل نهتم بأمورهم الجسدية، بينما طلب السيد المسيح ممن دعاه للعمل معه أن يترك الموتى يدفنون موتاهم، ويتفرغ هو للخدمة الروحية (لو 60:9). يجيب البابا غريغوريوس (الكبير)على هذا التساؤل قائلًا: [فوق كل شيء يلزم على الذين يشرقون بالمواهب الروحية ألا يتجاهلوا تمامًا شئون إخوتهم الضعفاء، بل يلزمهم أن يعهدوا بهذا الأمر إلى آخرين لكي يديره من يناسبهم ذلك.] * حقًا، طوبى لذاك الذي لا يُخرج المسكين من بيته فارغ اليدين. ليس من هو أكثر طوباوية من ذاك الذي يشعر باحتياجات الفقراء وضيقات الضعفاء والعاجزين. ففي يوم الدينونة ينال الخلاص من الرب، الذي يحسب نفسه مدينًا له من أجل أعمال الرحمة التي أظهرها. القديس أمبروسيوس القديس يوحنا الذهبي الفم لقد أعلنت العطية النبوية في أكثر وضوح أننا لا ندعوه أبًا حسب الطبيعة، بل بعمل نعمة الله بالتبني. ولكي تتعلم بأكثر تدقيق من الكتاب المقدس الإلهي أنه ليس فقط يُدعى "أبًا" من هو أب طبيعي بل وغيره أيضًا، اسمع ماذا يقول الرسول؟ "لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح، لكن ليس آباء كثيرون، لأني ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (1 كو 15:4). كان بولس أبًا للكورنثويين، ليس لأنه ولدهم حسب الجسد بل خلال التعليم، وولدهم مرة أخرى حسب الروح. اسمع أيضًا أيوب: "أب أنا للفقراء". لقد دعا نفسه أبًا، ليس لأنه ولدهم جميعًا، بل من أجل اهتمامه بهم. القديس كيرلس الأورشليمي هَشَّمْتُ أَضْرَاسَ الظَّالِمِ، وَمِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ خَطَفْتُ الْفَرِيسَةَ [17]. قدرما قدم أبوة حانية للفقراء، لم يخشَ عنف الأشرار الظالمين المتكبرين. "هشمت أضراس الظالم". لم يقل أنه ينتقم منهم أو يقتلهم، لكنه يهشم قوى الشر والعنف، وينزع الفريسة من بين أسنانهم، ويخلصها بشجاعة، كما أنقذ داود الشاه من فم الأسد. * "أهشم أضراس الظالم". هذا ما يوصي به الرسول: "ليت من يحكم يعمل باجتهاد" (أنظر رو 8:12). "ومن بين أسنانه خطفت الفريسةٍ". لاحظوا صعوبة العمل. هؤلاء الذين بالفعل قد اُفترسوا وأُمسكوا، فإنه يقوم بإصلاح أمورهم... لاحظوا أيضًا أن فضيلته لا تُقارن في كل الأحوال. إن استدعى الأمر يعاقب، وإن استدعى الأمر يسند الآخرين. القديس يوحنا الذهبي الفم يظهر بالأضراس الخطط الخفية (لإبليس)، ويظهر بالأسنان ممارسة الخطية علنًا. قال المرتل عن هذه الأضراس والأسنان: "اللهم كسٌر أسنانهم في أفواههم. أهشم أضراس الأشبال يا رب" (مز 6:58). البابا غريغوريوس (الكبير) الأبثيوناس فَقُلْتُ: إِنِّي فِي وَكْرِي أُسَلِّمُ الرُّوحَ، وَمِثْلَ السَّمَنْدَلِ أُكَثِّرُ أَيَّامًا [18]. حسب أيوب نفسه في وكرٍ، يهرب إليه حيث يقيم فيه مطمئنًا، أو عشًا يستقر فيه كما في قمة شجرة مطمئنًا من أية مخاطر تلحق به حتى تأتي لحظة تسليم روحه. كان يظن أنه يقضي كل أيامه في سلامٍ بعيدًا عن أية عواصف تقدر أن تحطم وكره أو تزعزع عشه. العجيب أن أيوب يتطلع إلى حياته بكونها كالرمل (السمندل) الذي على شاطئ البحر، وكأنه كان يظن أن عمره يطول جدًا، ولم يدرك أنه كحبات الرمل التي تتساقط من الساعة الرملية، وتنفذ في وقت قصير. * "وكنت أقول إني سأموت في عُشٌي، وكالنخلة أزداد أيامًا(1191)" [18]... يليق تشبيه حياة البار بالنخلة، وذلك لأن النخلة من تحت خشنة في ملمسها، وبطريقةٍ ما هي مغلفة باللحاء الجافة، ومن فوق تحمل ثمارًا. من تحت مضغوطة بلحائها المنبسط، ومن فوق منبسطة بخضرةٍ عظيمةٍ. هكذا هي حياة المختارين، مُحتقرة من أسفل، وجميلة في الأعالي... البابا غريغوريوس (الكبير) أَصْلِي كَانَ مُنْبَسِطًا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالطَّلُّ بَاتَ عَلَى أَغْصَانِي [19]. كان أيوب يعتبر نفسه أشبه بشجرةٍ مغروسةٍ على مجاري المياه، ترتوي على الدوام، مما يجعلها مثمرة ومزدهرة حيث لا تذبل قط. "الطل باتٍ على أغصانه"، إن كان أيوب مغروسًا كشجرةٍ يتمتع بدسم الأرض، فإنه يستقبل البركات السماوية كطلٍ. إنه موضع سرور الله الذي يرعاه. * "جذوري منفتحة على المياه" [19]، وذلك عندما ينتشر فكر العقل سريًا لقبول مجاري الحق. في الكتاب المقدس، تشير الجذور إلى الفكر الخفي. لذلك نحن نفتح جذورنا على المياه، عندما نبسط فكر قلبنا الخفي إلى المياه الداخلية... يقول المرتل: "يكون كالشجرة المغروسة على مجاري المياه" (مز 3:1)... "والطل بات على محصولي"... يسقط الطل من فوق، ولكن المحصول يُجمع من تحت. هكذا يستقر الطل على المحصول، لأن النعمة النازلة من العلا تجعلنا أشخاصًا يليق بنا أن نُجمع في العالم من أسفل. بذات النعمة التي تروينا من أعلى نحمل ثمر العمل الصالح. هكذا بحقٍ يقول بولس: "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا، ونعمته المُعطاة لي لم تكن باطلة" (1 كو 10:15)... إذ نتطلع إلى المحصول ناميًا تحت الطل، نسمعه يقول: "نعمته المُعطاة لي لم تكن باطلة بل أنا تعبت أكثر من جميعهم" (1 كو 10:15). البابا غريغوريوس (الكبير) كَرَامَتِي بَقِيَتْ حَدِيثَةً عِنْدِي، وَقَوْسِي تَجَدَّدَتْ فِي يَدِي [20]. مع كل يومٍ جديدٍ يحمل فكرًا جديدًا في حياة البرّ، إذ كان يهوى الحب والحنو، لهذا لم تشخ كرامته. يقول: "كرامتي بقيت حديثة عندي"، لن تذبل قط. لا يمل من الجهاد بكل قوته من أجل المظلومين، إذ يقول: "قوسي تجددت في يدي". *"مجدي بقي حديثًا عندي، وقوسي تجددت في يدي" [20]... كل الذين يعرفون ما هو حق، يدركون أن القِدَمْ (الشيخوخة) عادة هو من سمات الشر، وأما الجدة فمن سمات الفضيلة. لذلك يقول بولس: "إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم (الإنسان) الجديد" (كو 9:3)... فبالنسبة لغيرتنا (حماسنا)، عندما نكون بين أعدائنا الروحيين أو بين أقربائنا الجسديين المتنوعين، إلى حد ما ونُستغرق في عاداتهم فنشيخ، ونلوث شكل جدتنا الذي نلناه بالصلاة والقراءة وبالحياة الصالحة، وبالآلام الجادة، والسهر اليومي، فإننا في شيخوختنا نتجدد وننتعش. إذن، إذ تغتسل حياتنا بالدموع، وتمارس الأعمال الصالحة، وتمتلئ بالتأملات المقدسة تستعيد تجديدها بلا توقف... يشير "القوس" في الأسفار المقدسة أحيانًا إلى خطط الأشرار بقوله: فَوَّقُوا سَهْمَهُمْ كَلاَمًا مُرًّا" (مز 3:64). وأشار ذات المرتل إلى يوم الدينونة: "أريت شعبك عُسرًا، سقيتنا خمر الترنح. أعطيت خائفيك راية تُرفع لأجل الحق، لكي يهربوا من أمام القوس" (مز 4:60)... أحيانًا يُستخدم القوس في الكتاب المقدس لأمورٍ حسنةٍ. هذا عن قوس الكنيسة، وذاك عن قوس الرب الذي منه تصدر السهام - الكلمات المرعبة - إلى قلوب البشر. بحقٍ قال المرتل: "مٌد قوسه وهيأها، وسدَد نحوه آلة الموت، يجعل سهامه ملتهبة" (مز 12:7-13)... فالقوس في إلىٌد هو الكتاب المقدس في العمل. فهو يمسك بقوسٍ في يده، من يمارس عمليًا الإعلانات الإلهية التي تعلمها بفهمٍ. هكذا فإن "القوس يتجدد في اليد"، وذلك بأن كل ما نتعلمه بخصوص الإعلان المقدس بالدراسة يتحقق بممارسته عمليًا... يخبرنا الطوباوي داود عن ظروفه، ويسبق فيخبرنا عن ظروفنا، وبينما يشير إلى أحزانه، على قدم المساواة يتحدث عما يخص الكنيسة المقدسة وظروفها بذات المعنى. البابا غريغوريوس (الكبير) لِي سَمِعُوا وَانْتَظَرُوا، وَأنَصَتُوا عِنْدَ مَشُورَتِي [21]. إذ امتزجت أبوته للفقراء بشجاعته وصراعه من أجل المظلومين بحكمةٍ ووقارٍ، صار صاحب المشورة الأول، متى تكلم، يصمت الكل منصتين إليه، عالمين أنه لا يعيبه شيء، ولا ينقصه شيء. * "الذين سمعوا لي انتظروا حكمي، والذين أنصتوا صمتوا عند مشورتي"... إننا نفتقد هذا الوقار الذي يقدمه الذين تحته؛ إنه موجه نحو الطوباوي أيوب. أيضًا الكنيسة المقدسة التي تعاني الأمرين من الهراطقة أو من الجسدانيين، تتذكر الأيام السابقة أيضًا، حين كان كل الذين تتكلم معهم من المؤمنين يصغون إليها بمخافة. إنها ترثي جسارة المقاومين لها، فتقول: "الذين سمعوا لي انتظروا حكمي، والذين أنصتوا صمتوا عند مشورتي". البابا غريغوريوس (الكبير) بَعْدَ كَلاَمِي لَمْ يُثَنُّوا، وَقَوْلِي قَطَرَ عَلَيْهِمْ [22]. متى تكلم شعر الكل أنه لا حاجه بعد إلى البحث في الأمر، فقد امتاز أيوب بدقة بحثه للأمور. لهذا لم يكن يوجد من يثني بعد كلامه أو يزيد عليه شيئًا. يعلق البابا غريغوريوس (الكبير)على قول الطوباوي أيوب: "وعلى كلامي لا يزيدون"، بالقول إن المؤمنين لم يجسروا أن يضيفوا من عندهم شيئًا إلى كلمات الكنيسة المقدسة، كما فعل الهراطقة الذين تجاسروا وأضافوا شيئًا إلى كلماتها، وكأنهم يشغلون أنفسهم ليصححوا استقامة تعاليم الكنيسة وكرازتها. وَانْتَظَرُونِي مِثْلَ الْمَطَرِ، وَفَغَرُوا أَفْوَاهَهُمْ كَمَا لِلْمَطَرِ الْمُتَأَخِّرِ [23]. كان الكل أشبه بقفرٍ محتاجٍ إلى مطرٍ يهطل من شفتي أيوب، فتتحول بريتهم إلى جنةٍ مثمرةٍ. إنهم أرض عطشى للمطر. يدرك الكل قيمة الحكمة الخارجة من فمه، ينتظرونها ويشربونها لتثمر في داخلهم كما في سلوكهم الظاهر. * "وانتظروني مثل المطر، وفغروا أفواههم كما المطر المتأخر" [23]. إننا نخضع لكلمات الكرازة المقدسة كالمطر، وذلك عندما ندرك بالتواضع الحقيقي جفاف قلوبنا، ونشتهي أن نستقي بجرعات الكرازة المقدسة. بحقٍ قيل لله بواسطة المرتل: "عطشت نفسي إليك كأرضٍ ناشفةٍ" (مز 6:143). يوصينا النبي أن نرتوي بمجاري التعليم، قائلًا: "أيها العطاش جميعًا هلموا إلى المياه" (إش 1:55). البابا غريغوريوس (الكبير) إِنْ ضَحِكْتُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُصَدِّقُوا، وَنُورَ وَجْهِي لَمْ يُعَبِّسُوا [24]. متى ابتسم لأحدٍ يكون الشخص في سعادة فائقة، حتى يظن أنه كما في حلمٍ. فالكل يطلب رضاه ومسرته، إذ يرفع الكلفة، فيبتسم ويضحك. كان يهب من هم حوله جوًا من الود والفرح. لا يسيء الحاضرون بساطته، ولا يقللون من احترامهم له، بل يتطلعون إلى بهاء وجه بتهليلٍ بغير عبوسة. * "إن ضحكت عليهم لم يصدقوا، ونور وجهي لم يسقط أرضًا" [24]. إن فهمنا هذا خلال التفسير التاريخي يليق بنا أن نتصور أن الإنسان القديس يُظهر نفسه بطريقة ما للذين هم تحته، أنه حتى في ضحكه قادر أن يكون مهوبًا. لقد روى أنه كان أبًا للمساكين، ومعزيًا للأرامل. هذا الأمر يحتاج إلى تمييز عظيم، كيف أنه مع حزمه هذا في العمل يظهر أيضًا لطفًا عظيمًا هكذا وعطفًا حانيًا فيه... هكذا يليق بنا أن نتعلم هنا أن يضبط الإنسان نفسه في علاقته بالآخرين بالمقياس التالي: أنه وهو يضحك يليق أن يكون وقورًا، وحين يغضب يليق أن يكون محبوبًا. في مرحه الزائد لا يكون تافهًا، ولا يكون غضبه بلا حدود فيجعله مكروهًا. كثيرًا ما نحطم الذين تحت رعايتنا عندما نبالغ في حفظ العدالة بما يتعداها. فلا يكون ذلك عدالة. إنها لا تحفظ ذاتها تحت مثل هذا الانضباط المبالغ فيه... لننظر كيف أن بولس يحمل ابتسامة خلال النعمة التي من الأعالي... حتى في وسط مخاوفه وضيقاته... لقد نُقل إلى السماء الثالثة التي فوقه، وحُمل إلى الفردوس حيث سمع كلمات سرائرية لا يُخبر عنها (2 كو 2:12). ومع هذا بقي خائفًا، إذ يقول: "بل أقمع جسدي وأستعبده، حتى بعدما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1 كو 27:9). ها أنتم ترون كيف إذ تبتسم له النعمة الإلهية يمتلئ باليقين والرجاء، ومع هذا لا يثق في الاعتماد على ذاته. البابا غريغوريوس (الكبير) كُنْتُ أَخْتَارُ طَرِيقَهُمْ، وَأَجْلِسُ رَأْسًا، وَأَسْكُنُ كَمَلِكٍ فِي جَيْشٍ، كَمَنْ يُعَزِّي النَّائِحِينَ [25]. في بساطة يبتسم بوقارٍ لكي يسكب على الحاضرين روح البشاشة، وفي نفس الوقت لا يتخلىٌ عن قيادة سفينة حياتهم، فهو ربان السفينة. "كنت أختار طريقهم، وأجلس رأسًا". ابتسامته لا تنزع مهابته كملكٍ وقائدٍ معركةٍ: "وأسكن كملكٍ في جيشٍ". متى أصدر أمرًا أطاعه الكل كما يطيع الجنود قائد الجيش. يقول لهذا أذهب فيذهب، ولذاك أن يأتي فيأتي، ولعبده أفعل هذا فيفعل" (مت 9:8). قيادته لا تسبب ضيقًا وتبرمًا، فهو لا يهوى السلطة، إنما يقود ليعزي النائحين برقة قلبه وتعضيده للجميع في الحق الممتزج بالحب. * "أختار طريقهم، فأجلس رأسًا (رئيسًا)" [25]. في قلوب الخطاة الهالكين تحتل أعمال الجسد مركز الصدارة، وأعمال النفس المركز التالي. بالتأكيد في أفكارهم لا يجلس المسيح في الصدارة، بل يحتل المركز الأخير. أما المختار فيهتم بالأمور الأبدية فوق كل شيءٍ. إن كان هناك أمر زمني، فيدبره كأمرٍ ثانويٍ، ويحتل اهتمامًا أقل. يقول صوت الحق: "اطلبوا أولًا ملكوت الله وبرَّه، وهذه كلها تُزاد لكم" (مت 33:6)... "حين جلست كملكٍ يحوط حولي جيش، لكنني كنت معزيًا للنائحين". يجلس الرب كملكٍ في القلب، إذ يحكم عواطف القلب الصاخبة في أفكارنا. فإنه في النفس التي يسكن فيها يهب حماسًا للخاملين، ويضبط القلقين، ويلهب الباردين، ويلطف من الملتهبين، ويلين القساة، ويربط المنحلين، حتى بهذا التنوع من الأفكار يحيط به نوع من الجيش. أو بالتأكيد يجلس كملكٍ يحوط حوله جيش، لأن ذاك الملك يحكم على عقول المختارين وسط طغمة من الفضائل. هو أيضًا "المعزي للنائحين"، خلال الوعد الذي قدمه، قائلًا: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزون" (مت 4:5). مرة أخرى: "ولكني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 22:16)... تتعزى أيضًا قلوب الحزانى بواسطة الكنيسة المقدسة، إذ ترشد نفوس المختارين. إنها تتثقل بويلات الرحلة الحاضرة، وتبهجهم بالوعد بالمدينة الأبدية... تمزج الكنيسة المقدسة الرجاء والخوف معًا للمؤمنين بها، فيتلامسون مع حنو المخلص وعدله في خدمتها المستمرة. تفعل هذا لكي لا يعتمدوا على الرحمة خلال الرخاوة، ولا أن يفقدوا الرجاء بالرعبٍ من العدالة. فهي تُبهج الذين يُحذرون بكلمات رأسها، قائلة: "لا تخف أيها القطيع الصغير، لأن أباكم قد سُرّ أن يعطيكم الملكوت" (لو 32:12). كذلك تحذر المتجاسرين: "اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة" (مر 38:14). وتبهج الذين في رعبٍ، قائلة: "افرحوا بالحري أن أسماءكم كُتبت في السماوات" (لو 20:10). أما الذين يعتدون بذواتهم فترعبهم، قائلة: "رأيت الشيطان ساقطًا من السماء كالبرق". تبهج الذين في رعبٍ، قائلة: "خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي" (يو 27:10-28)... * يمتزج الحنو بالقسوة (الحزم)... هذا بالحقيقة يظهر في تابوت العهد، حيث يُوجد فيه العصا والمن معًا بجانب لوحي الشريعة، هناك حيث توجد معرفة الكتاب المقدس في صدر الحاكم الصالح، مع عصا القسوة (الحزم)، فليوجد مّنْ العذوبة. هكذا يقول داود: "عصاك وعكازك يعزيانني" (مز 4:23). البابا غريغوريوس (الكبير) فإن كنَّا من أجل الشفاء الجسداني نقبل أدوية مرَّة كريهة، ونخاطر بقطع الأعضاء وكيّ النار، ونحن في ذلك نشكر الأطباء والجرَّاحين المعتنين بنا رغم العلاجات المؤلمة، فكم بالحري يدعونا الصواب إلى أن نفعل هذا من أجل خلاص نفوسنا، ولو كان علاج هو النصح والتوبيخ مرًا؟! القديس باسيليوس الكبير القديس أغسطينوس القديس يوحنا الدرجي رعايتك ليّ موضوع تسبيحي! * أتطلع إلى الماضي، فألمس يدك التي حفظتني. إن وُجد فيَّ صلاح، فهو من غنى نعمتك عليّ! * حسبتني كمنارةٍ فأضاء سراجك على رأسي. أنت هو النور الحقيقي. كلمتك هي سراج لرجلي، ونور لفكري. أقمتني كمنارة لأحمل نورك. أشهد لرعايتك فتجتذب الكثيرين بيّ إليك. * لقد باركت طبيعتي فيك، يا من تجسدت لأجلي. لأقف في دهشة أمام حبك، يا من تجالسني في خيمتي. * أقف وسط أسرتي، فأراك حالًا تباركنا. كم تشتهي نفسي أن أقف مع كل البشرية، وأراك تتجلى بحبك ورعايتك في وسط الجميع! * برعايتك تهبنا كل شيء بفيضٍ، ففي وجودك معنا لا ينقصنا شيء. تُنقينا وتُغسلنا كما باللبن، وتُفيض بجداول زيت من الصخور! * أشبع بك، فأشتهي خدمة الكل! لا أطلب ما لنفسي، ولا ما لكرامتي، بل ما هو لمحبوبيك! * رعايتك للكنيسة فائقة! تهبها حكمتك، فتنطق بكلماتك، وتحمل فكرك العجيب! تقضي بين البشر، لا كمن يدين، بل كمن يسند ويترفق. تهبها كرامة، لا لكي تتشامخ، بل لكي تنحني وتغسل الأقدام. * في رعايتك تسمح حتى للهراطقة بكمال حريتهم. يضايقون كنيستك، لكنها وسط الضيق تتمتع بالتطويب السماوي. ووسط المقاومة تجتذب كثيرين إلى سماواتك! أنت هو الصالح الذي يخرج من الآكل أكلًا، وتقيم من الشرور ما هو لبنيان الكثيرين. * بسطت ذراعيك لي أنا اليتيم! وصار لي الآب أبًا ليّ، فتحول يُتمي بالبنوة العملية الفائقة. هب لي أن أترفق بكل يتيمٍ، متى أرى كل البشرية تتمتع بالبنوة العملية لله؟! * متى نرد النفوس التي تيتمت إلى أبيها السماوي، فننعم ببركاتها علينا. * هب لي أن أستتر ببرك، فلا أكف عن العطاء. هب لي أن أتزين بتاجك: أي بالبرّ والرحمة! برَّك صار موضوع عذوبتي، أقتنيه، فأترفق بكل بشرٍ! ليأخذ العالم ثوبه مني، كما فعلت السيدة المصرية مع يوسف البار، لكن لا تسمح لإبليس أن ينزع ثوبك الذي وهبتني! ليس من حقه أن يغتصبه مادمت أعتز به! * هب لبرّك أن يستر كل كياني، ولا يكون لعدو الخير منفذ إلى أعماقي! لن يجد فيَّ ثغرة مادمت محفوظًا ببرِّك. * هب لي بنعمتك أن أصير عيونًا للعميان. تنيرني، وتقيم مني نورًا للغير. تنزع ظلمتي، وبك أسند الجالسين في الظلمة. * هب لي روح الأبوة الحانية، يا أب كل البشرية. فأترفق بالكل، واهتم إن أمكن بالجميع! * هب لي نعمتك من فوق كالطل، ولتروي حياتي على الأرض بمياه روحك القدوس. فيتجدد مثل النسر شبابي الروحي، فلا تشيخ نفسي بروح العجز والضعف. * هب لي يا رب أن أسلك بالروح. إن فرحت وضحكت أحمل روح الحزم. وإن صرت حازمًا أحمل روح الحنو. يتكامل مرحي مع حزمي. ويتكامل حزمي مع حنوي! * هب لي روح البشاشة، فأكون بك مصدر فرحٍ. وفي بشاشتي لن أتراخي عن العمل بجدية. هب لي روح القيادة غير المتعجرفة، فأعمل لا بروح التسلط، بل بروح الأبوة! أعضد الجميع، ليحملوا روح القيادة الجادة! |
|