رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يسوع المسيح وشِفاء الأعْمى الأحد الرابع من الزمن الأربعيني: يسوع وشِفاء الأعْمى مُنذُ مَولِدِه في سلوان (يوحنا 9: 1-41) النص الإنجيلي (يوحنا 9: 1-41) المعجزة: شفاء الرجل الأعْمى (9: 1-12) 1 وبَينَما هو سائِرٌ رأَى رَجُلاً َأعْمى مُنذُ مَولِدِه. 2 فسأَلَه تَلاميذُه: ((رابِّي، مَن خَطِىءَ، أَهذا أَم والِداه، حَتَّى وُلِدَ َأعْمى؟)). 3 أَجابَ يسوع: ((لا هذا خَطِئَ ولا والِداه، ولكِن كانَ ذلك لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله. 4 يَجِبُ علَينا، مادامَ النَّهار، أَن نَعمَلَ أَعمالَ الَّذي أَرسَلَني. فاللَّيلُ آتٍ، وفيه لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَعمَل. 5 ما دُمتُ في العالَم. فأَنا نورُ العالَم)). 6 قالَ هذا وتَفَلَ في الأَرض، فجَبَلَ مِن تُفالِه طيناً، وطَلى بِه عَينَي الَأعْمى، 7 ثُمَّ قالَ له: ((اِذهَبْ فَاغتَسِلْ في بِركَةِ سِلْوامَ))، أَي الرَّسول. فذَهَبَ فاغتَسَلَ فَعادَ بَصيراً. 8 فقالَ الجيرانُ والَّذينَ كانوا يَرونَه مِن قَبلُ لأَنَّه كانَ شحَّاذاً: ((أَلَيسَ هو ذاكَ الَّذي كانَ يَقعُدُ فيَستَعْطي؟)) 9 وقالَ آخَرون: ((إِنَّه هو)). وقالَ غَيرُهم: ((لا، بل يُشبِهُه)). أَمَّا هوَ فكانَ يقول: ((أَنا هو)). 10 فقالوا له: ((فكَيفَ انفَتَحَت عَيناكَ؟)) 11 فأَجابَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ الَّذي يُقالُ لَه يسوع جَبَلَ طيناً فطَلى بِه عَينَيَّ وقالَ لي: ((اِذهَبْ إلى سِلْوامَ فَاغتَسِل. فذَهَبتُ فَاغتَسَلَتُ فَأَبصَرتُ)). 12 فقالوا له: ((أَينَ هو؟)) قال: ((لا أَعلَم)). تساؤلات الفريسيين حول المعجزة ورفضهم الإيمان (9: 13-34) 13 فَذَهبوا إلى الفِرِّيسيِّينَ بِذاكَ الَّذي كانَ مِن قَبْلُ َأعْمى. 14 وكانَ اليَومُ الَّذي فيه جَبَلَ يسوعُ طيناً وفَتحَ عيَنَيِ الَأعْمى يَومَ سَبْت. 15 فسأَلَهُ الفِرِّيسيُّونَ أَيضاً كَيفَ أَبصَر. فقالَ لَهم: ((جَعَلَ طيناً على عَينَيَّ ثُمَّ اغتَسَلتُ وها إِنِّي أُبصِر)). 16 فقالَ بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ: ((لَيسَ هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لأَنَّه لا يَحفَظُ شَريعةَ السَّبْت)). وقالَ آخَرون: ((كَيفَ يَستَطيعُ خاطِئٌ أَنَ يَأتيَ بِمثِلِ هذهِ الآيات؟)) فوَقَعَ الخِلافُ بَينَهم. 17 فقالوا: أَيضاً لِلَأعْمى: ((وأَنتَ ماذا تَقولُ فيه وقَد فَتَحَ عَينَيكَ؟)) قال: ((إِنَّهُ نَبِيّ)). 18 على أَنَّ اليَهود لم يُصَدِّقوا أَنَّه كانَ َأعْمى فأَبصَر، حتَّى دَعَوا والِدَيه. 19 فسأَلوهما: ((أَهذا ابنُكما الَّذي تَقولانِ إِنَّه وُلِدَ َأعْمى؟ فكَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن؟)) 20 فأَجابَ والِداه: ((نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا ابنُنا، وأَنَّه وُلِدَ َأعْمى. 21 أَمَّا كَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن، فلا نَدْري، ومَن فَتَحَ عَينَيه فنَحنُ لا نَعلم. إِسأَلوهُ، إِنَّه مُكتَمِلُ السِّنّ، سَيَتكلَّمُ هو بِنَفسِه عن أَمرِه)). 22 وإِنَّما قالَ والِداهُ هذا لِخَوفِهِما مِنَ اليَهود، لأَنَّ اليَهود كانوا قدِ اتَّفَقوا على أَن يُفصَلَ مِنَ المِجمَعِ مَن يَعتَرِفُ بِأَنَّه المسيح. 23 فلِذَلكَ قالَ والِداه: إِنَّه مُكتَمِلُ السِّنّ، فاسأَلوه. 24 فَدَعَوا ثانِيَةً الرَّجُلَ الَّذي كانَ َأعْمى وقالوا له: ((مَجِّدِ الله، نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا الرَّجُلَ خاطِئ)). 25 فأَجاب: ((هل هو خاطِئٌ لا أَعلَم، وإِنَّما أَعلَمُ أَنِّي كُنتُ َأعْمى وها إِنِّي أُبصِرُ الآن)). 26 فقالوا له: ((ماذا صَنَعَ لكَ؟ وكَيفَ فتَحَ عَينَكَ؟)) 27 أَجابَهم: ((لقد قُلتُه لَكم فلَم تُصغُوا، فلِماذا تُريدونَ أَن تَسمَعوه ثانِيَةً؟ أَتُراكم تَرغَبونَ في أَن تَصيروا أَنتُم أَيضاً تَلاميذَه؟)) 28 فشَتَموه وقالوا: ((أَنتَ تِلميذُه، أَمَّا نَحنُ فَإِنَّنا تَلاميذُ مُوسى. 29 نحَنُ نَعلَمُ أَنَّ اللهَ كَلَّمَ مُوسى، أَمَّا هذا فلا نَعلَمُ مِن أَينَ هو)). 30 أجابَهُمُ الرَّجُل: ((فعَجيبٌ أَن لا تَعلَموا مِن أَينَ هو وقَد فتَحَ عَينَيَّ. 31 نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ لِلخاطِئين، بل يَستَجيبُ لِمَنِ اتَّقاهُ وعَمِلَ بِمَشيئتِه. 32 ولَم يُسمَعْ يَوماً أَنَّ أَحداً مِنَ النَّاسِ فتَحَ عَينَي مَن وُلِدَ َأعْمى. 33 فلَو لم يَكُن هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لَما استَطاعَ أَن يَصنَعَ شَيئاً)). 34 أَجابوه: ((أَتُعَلِّمُنا أَنتَ وقد وُلِدتَ كُلُّكَ في الخَطايا؟)) ثُمَّ طَردوه. 35 لقاء يسوع مع الأعْمى (9: 35-41) فسَمِعَ يسوع أَنَّهم طَردوه. فلَقِيَه وقالَ له: ((أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنْسانِ؟)) 36 أَجاب: ((ومَن هو. يا ربّ، فأُومِنَ به؟)) 37 قالَ له يسوع: ((قد رَأَيتَه، هو الَّذي يكَلِّمُكَ)). 38 فقال: ((آمنتُ، يا ربّ)) وسجَدَ له. 39 فقالَ يسوع: ((إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَأعْمى الَّذينَ يُبصِرون)). 40 فسَمِعَه بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ الَّذينَ كانوا معَه فقالوا له: ((أَفنَحنُ أَيضاً عُمْيان؟)) 41 قالَ لَهم يسوع: ((لو كُنتُم عُمْياناً لَما كانَ علَيكُم خَطيئة. ولكِنَّكُم تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر فخَطيئَتُكُم ثابِتَة)). مقدمة ينفرد إنجيل يوحنا في رواية شِفاء الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه (يوحنا 9: 1-41) التي حدثت لأول مرَّة في تاريخ البَشَرِيَّة كي يُعلن عن شخص يسوع أنه إنسان (يوحنا 9: 11)، ونبي (يوحنا 9: 17)، ورجل الله (يوحنا 9: 33)، و"ابن الإِنْسانِ" (يوحنا 9: 35)، وربٌ مستحقٌ للسجود والعِبادة (يوحنا 9: 38)، انه جاء كي يفتح بَصر العِين وبصيرةَ القَلب، ويكشف للناس عن نور الإيمان والحقَّ والحَياة والخلاص، وفي نفس الوقت ليفضحَ عِمَى القيادات المُرائية المُتعَجْرفة التي لم تكتشف عماها الروحي وخطاياها؛ ويعلق البابا فرنسيس " إن شِفاء الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه هي العلامة العجائبية على تأكيد على ما يقوله يسوع عن نفسه: "أَنا نورُ العالَم"، النُّور الذي ينير ظلامنا على مستويين: المستوى الجسدي والروحي: ينال الَأعْمى أولاً بَصَر العينين الذي يحمله بعدها إلى الإيمان "بابن الإِنْسانِ" (عظة 22/3/2022). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 9: 1-41) 1 وبَينَما هو سائِرٌ رأَى رَجُلاً َأعْمى مُنذُ مَولِدِه. تشير عبارة "سائِرٌ" في الأصل اليوناني παράγων (معناها مُجتاز) إلى اجتياز يسوع في وسط القيادات اليَهودية عند مدخل الهيكل في أُورشَليم أو على القرب منه حيث كان يجتمع المُتسوِّلون (أعمال الرسل 3: 2)، متواريًا عن القيادات اليَهودية، لأنهم حملوا حجارة لكي يرجموه (يوحنا 8: 59)؛ أمَّا عبارة " رأى" فتشير إلى نظْرة يسوع للرَّجل الَأعْمى لا كما ينظر الآخرون إليه، إنما بنظرة الحب والشفقة، إذ أحبَّه وأتى إليه، كما جاء في الكتاب المقدس "أَنَّ الرَّبَّ لا يَنظُرُ كما يَنظُرُ الإِنْسان، فإنَّ الإنْسانَ إِنَّما يَنظُرُ إِلى الظَّواهِر، وأَمَّا الرَّبُّ فإِنَّه يَنظُرُ إِلى القَلْب" (1 صموئيل 16: 4-7). القلب في الكتاب المقدس في اللغة العبريّة לֵב (معناه لُب) يشير إلى مركز الأحاسيس والأفكار. أمّا في اللغة اليونانيّة καρδία فهو مركز اتخاذ القرارات المصيريّة. أمَّا عبارة "رجل َأعْمى" فتشير إلى إنسان محروم من نعمة البَصَر، أي الإدراك الحسي للضوء المرئي، وكما يقول أيوب البار "لِمَ يُعْطى لِلشَّقِيِّ نور وحَياةٌ لِذَوي النُّفوسِ المُرَّة " (أيوب 3: 20)، ولم يذكر الإنجيل اسم الَأعْمى، فهو مُهمَّشٌ، لأنه لا يستطيع أن يرى كالآخرين. وتكرّرت لفظة َأعْمى 12 مرة في الفصل التاسع من إنجيل يوحنا نظرًا لأهمية شخصيته. ويُعلق القديس أوغسطينوس " الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه هو رمز إلى كل إنسان، حيث إن كان الشَّرّ قد وجد له جذور فينا، فإن كل إنسانٍ وُلد َأعْمى ذهنيًا. لأنَّه إن كان يرى فعلًا، فلا يحتاج إلى قائد. وإذ كان يحتاج إلى من يقوده ويُنيره، فهو إذن َأعْمى مُنذُ مَولِدِه. فمَن لم يولد َأعْمى؟ بمعنى عمى القلب. ولكن الرب يسوع الذي خلق الاثنين يشفي الاثنين". أمَّا عبارة " مُنذُ مَولِدِه " فتشير إلى كونه وُلد َأعْمى لم يبق من أمل أن يبرأ بواسطة بشرية، لذلك كان شفاؤه في عيون الشعب أعجب من شفائه لو انه عُمي بعد البَصَر. 2 فسأَلَه تَلاميذُه: ((رابِّي، مَن خطئ، أَهذا أَم والِداه، حَتَّى وُلِدَ َأعْمى؟)). تشير عبارة "رابِّي" Ῥαββί من العبرية רַבֵּנוּ (معناها سيدي) إلى لقب يحمل أسمى عبارات التقدير والاحترام بين اليَهود في مخاطبتهم معلماً دينياً يُركن إليه في المجال الدينيّ. في القرن الأول المسيحي صارت اللفظة لقبًا رسميًا لُقِّب به أعضاء السنهدريم (= المجلس الأعلى) الذين اعتُبروا خبراء في مجال الشَّرّيعَة اليَهوديّة. أمَّا عبارة " مَن خطئ، أَهذا أَم والِداه، حَتَّى وُلِدَ َأعْمى؟" فتشير إلى سؤالٍ كان موضوع بحث عند اليَهود واختلفت فيه آراء علمائهم، لكنهم اتفقوا على أن ينسبوا كل المصائب الأرضية إلى خطايا النَّاس (لوقا 13: 1-4)؛ فهناك ربط بين المَرَض والخَطيئَة: مما سبّب للرَّجل أن يصبح أَعْمى، لأنه ارتكب إساءة ما. ولا تزال طريقة التفكير هذه لم تختفِ تماما في ثقافاتنا حتى يومنا هذا. يحدث الكثير من الأمراض والكوارث بعالمنا، وفي اعتقاد البعض منَّا إنّه يتمَّ بسبب استحقاق البشر هذا كعقاب على أفعالهم؟ هذه وجهة نظرهم الخاطئة التّي تَحصر مُهمة الله بتحديد مَن يُعاقب ومَن يُكافئ. أمَّا عبارة "مَن خطئ" فتشير إلى استفسار التلاميذ عن عِلَّة ميلاد الرجل َأعْمى، لانَّ معلمي اليَهود يرون أنه توجد علاقة بين الخَطيئَة والمَرَض، كما جاء في المَزامير" جُروحي أَنتَنَت وقاحَت مِن جَرَّاءِ حَماقتَيْ "(مزمور 38: 6)، كما هناك علاقة بين الخَطيئَة والمَوت أيضا؛ فهناك قول مأثور للرَّبَّانيين "ليس موت بدون خطيئة، ولا ألم بدون شر"؛ وقد حاول الرَّبَّانيون تبرير ذلك بما ورد في تعليم حزقيال النبي "النَّفْسُ الَّتي تَخطَأُ هي تَموت" (حزقيال 18: 20)، وهذا الأمر يُوضِّح ما قاله التلاميذ الذي لم يكن من وحي خيالهم، بل كان تعليمًا راسخًا في أذهان الكثير من اليَهود. أمَّا عبارة " أَهذا" فتشير إلى الَأعْمى الذي أخطأ وهو في حشا أمِّه في أثناء الحَمْل، قبل ولادته. وبَيّنت الشَّرّيعَة هذه العلاقة في صراع بين عيسو ويعقوب في أحشاء أُمِّهما "أصطَدَمَ الوَلَدانِ عيسو ويعقوب في جَوفِ أمَّهما رفقة" (التكوين 25: 22)، وجاء صاحب المَزامير يؤكِّد ذلك "إِنِّي في الإِثْمِ وُلدتُ وفي الخَطيئَة حَبِلَت بي أُمِّي"(مزمور 51: 7). أمَّا عبارة "أَم والِداه" فتشير إلى اعتقاد أكثر اليَهود أنَّ عِلَّة مصائب الأولاد قبل الولادة تكمن في خطايا والديهم مستندين على شريعة موسى "لأِنِّي أَنا الَرَّبُّ إِلهُكَ إِلهٌ غَيور، أُعاقِبُ إِثمَ الآباءِ في البَنين، إلى الجِيلِ الثَّالِثِ والَرَّابِعِ، مِن مُبغِضِيَّ " (خروج 20: 5)، فاعتقد بعض الرَّبَّانيين أن عقابا جزائيا لخطايا الآباء يلحق بالأبناء، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لقد تحدث التلاميذ هنا لا ليسألوا عن معلومات قدر ما كانوا في حَيْرَة". كيف يكون قد أخطأ قبل ولادته حتى يُولد هكذا، ألعلَّ هذا بسبب خطيئة والديه؟ وما ذنبه هو ما دامت الخَطيئَة ارتكبها أحد الوالدين؟ والواقع، إن مصائب البَشَرِيَّة نتيجة معصية آدم، كما جاء في التوراة (التكوين 3: 16-19) ويؤكِّد بولُس الرَّسول ذلك بقوله " فكَما أَنَّ الخَطيئَة دَخَلَت في العالَمِ عَن يَدِ إِنسانٍ واحِد، وبِالخَطيئَة دَخَلَ المَوت، وهكذا سَرى المَوت إلى جَميعِ النَّاسِ لأَنَّهُم جَميعاً خَطِئوا" (رومة 5: 2). لكن اليَهود جعلوا المصائب نتيجة خطايا شخصية، وهكذا عَمى رجل الأَعْمى هو إِمَّا نتيجة الرجل الأَعْمى أو إثم أهله. 3 أَجابَ يسوع: ((لا هذا خَطِئَ ولا والِداه، ولكِن كانَ ذلك لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله. تشير عبارة "لا هذا خَطِئَ ولا والِداه" إلى رفض يسوع معالجة الموضوع كمشكلة للبحث. ولم يُجبْ يسوع على السؤال، لكنَّه اعتبر المَرَض كفرصةٍ لتعليم الإنسان عن الإيمان وتمجيد الله (يوحنا 5: 14، 11: 4)، حيث وجَّه السيد المسيح أنظار تلاميذه إلى عناية الله الفائقة وخطَّته الخفيَّة، عوضا عن إدانة المولود َأعْمى أو والديه. سمح الله بعَمى البَصَر لكنه وهب الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه البصيرة الروحية كي يُمجِّد الله بشفائه؛ فالله لا يتعامل مع خطيئة الإِنْسانِ في الأرض بنيَّة العقاب، بل بنيَّة الشِّفاء. لكن يسوع لم ينكر في هذا النص أنَّ خطايا الوالدين قد تجلب على أولادهم الأمراض والمَوت (خروج 30: 5)، ولم يُنكر أيضا انه قد تكون بعض الخطايا علِّة بعض المصائب أو الأمراض (مرقس 2: 5)، كما ورد في التوراة (الأحبار 26: 16)، لكنه نفى أن يكون عَمى هذا الرجل من هذا الباب. ليس العَمى هنا هو الخَطيئَة، بل عدم الرغبة في الإيمان وعدم الرغبة في الانفتاح على الله. أمَّا عبارة " لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله" فتشير إلى المَرَض كفرصة لإظهار مجد الله وقدرته تعالى في عمل الله بمنحه هذا الرجل شفاء البصر لإثبات دعوى يسوع أنه المسيح، وأنَّه نور العالم، فينال الَأعْمى بشفائه الإيمان بالمسيح وخلاصه. وأعمال الله هي عمل شِفاء وتحرير وخلاص. كلّ أحداث الحَياة الـمُعاكسة ليست عقابًا، ولكنها فرصة للقيام بأعْمال الله. إن ضعف جَميعَ الأُمَمِ البَشَرِيَّة والعالم يفسح المجال أَمامَ الله لإظهار حقيقة ما يكنّه قلبه من الحب. ومن هنا علينا أن نتساءل ليس من أين أتى الألم؟ ولكن ماذا نعمل إزاءه ليصير الألم فرصة لعمل الله؟ قال الرب إلى بولُس الرَّسول لما جُعِلَ له شَوكَةٌ في جَسَده "َسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف" (٢ قورنتس 12: 9). يقول قائل: لماذا نعاني من أجل مجد الله؟ فيجيب القديس يوحنا الذهبي الفم "الحَياة الحاضرة ليست شرورًا، ولا الخيرات هي صلاح. الخَطيئَة وحدها هي شر، أمَّا العجز فليس شراً". ليس للمَرَض علاقة حتميَّة مع الخَطيئَة، بل يمكنه أن يكون مكانًا يُظهر فيه الله وحي الله، وتمجيده، كما أكَّد يسوع مرة أخرى في إحياء لعازر من القبر "هذا المَرَض لا يَؤُولُ إِلى المَوت، بل إِلى مَجْدِ الله، لِيُمَجَّدَ بِه ابنُ الله" (يوحنا 11: 4). 4 يَجِبُ علَينا، مادامَ النَّهار، أَن نَعمَلَ أَعمالَ الَّذي أَرسَلَني. فاللَّيلُ آتٍ، وفيه لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَعمَل. تشير عبارة "يَجِبُ علَينا" في صيغة الجمع إلى تعاون الآب والابن أو وحدة الحال القائمة في الجماعة المسيحية التي كانت تعدّ عملها امتدادًا لعمل المسيح مع تلاميذه ومع كنيسته، إذ أنَّ عمل الكنيسة هو امتداد لعمل المسيح. لكن عمل يسوع وعلاقته بالآب هما على مستوى مختلف تمامًا عن علاقته بتلاميذه، كما صرّح يسوع " إِنَّ أَبي ما يَزالُ يَعمَل، وأَنا أَعملُ أَيضاً" (يوحنا 5: 17). أمَّا عبارة "يجب" فتشير إلى التزام المحبة والطاعة والوحدة مع الآب في تحقيق هذا العمل؛ أمَّا عبارة "ما دامَ النَّهار" فتشير إلى وقت العمل حيث أنَّ الله وهبنا النَّهار للعمل كما يترنَّم صاحبُ المَزامير " يَخرُجُ الإِنْسانِ إلى شُغلِه وإلى عَمَلِه حتَّى المَساء" (مزمور 104: 23)، لذا لا يليق بنا أن نلهو في نهار عُمرنا ولا نُفسده، بل أن نُجاهد في طاعة الله أبينا حتى متى حل المساء لراحتنا. ما دام النَّهار يُمكن للشعب أن يُؤمن بالله وبيسوع، فالنَّهار لنا هو بمثابة مدة حياتنا على الأرض. فالله يريد أن يعمل معنا، فهل نُسلِّم له حياتنا ونعمل معه؛ أمَّا عبارة " أَن نَعمَلَ أَعمالَ الَّذي أَرسَلَني " فتشير إلى أعمال يسوع التي وكّلها الله له بإتمام أعمال الخلاص، وتجلّى نشاط الآب الخلاصي في يسوع من أجل خير جميع البشر، حيث أن يسوع هو السبيل الوحيد إلى الخلاص، كما يؤكد يسوع بقوله "جَميعُ ما هو لي فهو لَكَ، وما هو لَكَ فهو لي" (يوحنا 17: 10)، لأنَّه مهما عمل الآب فهذا يعمله الابن كذلك " جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي" (يوحنا 16: 15). أمَّا عبارة " اللَّيلُ آتٍ" فتشير إلى المستقبل حيث لا يقدر أحد أن يعمل. وليل الشخص قد يعني يوم موته أو خطاياه التي ينغمس فيها بلا توبة، كما جاء في قول صاحب الحكمة "كُلُّ ما تَصِلُ إِلَيه يَدُكَ مِن عَمَل فاْعمَلْه بِقوّتكَ فإِنَّه لا عمل ولا حُسْبانَ ولا عِلمَ ولا حِكمَةَ في مَثْوى الأَمْواتِ الَّذي أَنتَ صائرٌ إِلَيه"(الجامعة 9: 10). وهناك ليل عام وهو يوم الدينونة حين تنتهي فرصة كل إنسان خاطئ َأعْمى من أن يستنير بنور المسيح، أمَّا بولُس الرسول فيدعو الحَياة الحاضرة ليلًا، لأن من يستمر في شره وعدم إيمانه فهو في ظُلمَة "قد تَناهى اللَّيلُ واقتَرَبَ اليَوم. فْلنَخلَعْ أَعمالَ الظَّلام ولْنَلبَسْ سِلاحَ النُّور" (رومة 12: 13). أمَّا عبارة "لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَعمَل" فتشير إلى تشبيه حياة الإِنْسانِ بيوم عمل. ويُعلق القديس أوغسطينوس "يا له من إنسانٍ شقي! عندما كنتَ عائشًا كان وقت للعمل، الآن أنتَ في ليلٍ (ميت)، حيث لا يقدر إنسان أن يعمل". ويوضِّح يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لم يقل: "أنا لا أستطيع أن أعمل"، بل " لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَعمَل"، بمعنى أنه لا يعود يوجد إيمان ولا أعمال ولا توبة". 5 ما دُمتُ في العالَم. فأَنا نورُ العالَم. تشير عبارة "ما دُمتُ في العالَم" إلى يسوع كونه إنسانًا، فهو حاضر في هذا العالم إلى حين، إلى وقت قصير، لكن بكونه إلهًا، فهو حاضر في كل الأزمنة، كما أعلن بذلك "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إلى نِهايةِ العالَم " (متى 28: 20). وأمَّا عبارة "أَنا نورُ العالَم" فتشير إلى يسوع الذي أتى إلى البشر بالنُّور الذي يُمكِّنهم من خلاله السير بأمَان، بل إنَّه نبع النُّور، وعمله هو إشراق نوره على الجالسين في الظُلمَة "أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة " (يوحنا 8: 12)، إنَّه شمس البِرّ الذي يُنير نفوسَنا وأذهانَنا وكلَّ أعماقنا لكي نرى الحق، كما جاء في نبوءة أشعيا " وفي ذلك اليَومِ يَسمعُ الصُّمُّ أقْوالَ الكِتاب وتُبصِرُ عُيونُ العُمْيان بَعدَ الدَّيجورِ والظَّلام "( أشعيا 29: 18)، ويُعلق القديس كيرلس الكبير "الابن الوحيد هو نُور ليس فقط للعالم، بل ولكل خليقة عُلْويّة". ففي شخص يسوع الذي دخل بالصليب في مجد الآب، عليهم أن يروا " النُّور" أي ذاك الذي يُظهر الطَّريق المؤدِّي إلى الحَياة الحقيقية لدى الآب (يوحنا 8: 12). لا نُور في العالم سوى نُور المسيح. هو وحده حامل الخلاص (يوحنا 8: 12، 12: 35). لذا يوصينا يسوع "آمِنوا بِالنُّور، ما دام لكُمُ النُّور" (يوحنا 12 :36). لنطلب من الله أن يُضيء علينا بنُوره فنرى الرؤية الصحيحة في ضوء الإيمان، وكلمته المقدسة. 6 قالَ هذا وتَفَلَ في الأَرض، فجَبَلَ مِن تُفالِه طيناً، وطَلى بِه عَينَي الَأعْمى تشير عبارة "تَفَلَ" إلى البصاق الذي له خصائص شفائية بحسب اعتقاد الأقدمين. وهكذا يقوم يسوع بعمل مألوف، لكنه يُضفي عليه فعاليّة جديدة (مرقس 7: 33) حيث لا شِفاء لمولود َأعْمى من تَفَل أو طين أو ماء بِرْكَة، إنما شفاؤه بقوة إلهيَّة فقط. أمَّا عبارة "جَبَلَ مِن تُفالِه طيناً، وطَلى بِه عَينَي الَأعْمى" فتشير إلى إظهار يد الله في عمل يسوع الذي بيَّن كيف تمّ جبل الإِنْسانِ الأوّل، كما جاء في سفر التكوين "جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ تُرابًا مِنَ الأَرض ونَفخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة" (التكوين 2: 7). ويعلق القدّيس أفرام السِّريانيّ " فقد برهن بهذا العمل أنّه كان ابن من بيده "جَبَلَ الإِنسانَ تُرابًا مِنَ الأَرض" (تكوين 2: 7) "(شرح "الدِياطِسَّرون"). استخدم يسوع هذه الوسائل، لكنَّه أعطاها طابعًا آخر للوصول إلى الإيمان، إذ حَقَّق المسيح معجزات الشِّفاء، وأيّد كرازته بعلامات مادية وأفعال رمزية (يوحنا 9: 6)، كما جاء في تعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (1151). ويستعمل يسوع وسائلنا البَشَرِيَّة كي يُعلن من خلالها عن حقائق تُدْخلنا في إطار الملكوت، حيث أنه استخدم التراب ليؤكد أنه الخالق المُخلص، وان سرّ القوة في المسيح نفسه وفي عمل يديه. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "عندما أراد أن يشفي رجل الَأعْمى نزع عَماه بأمرٍ يزيد العَمى، إذ وضع طينًا". شفى يسوع الَأعْمى من دون أن يسأله أحد، كما حدث لدى شِفاء المُقعد عند بِرْكَة بَيتَ ذاتا قرب هيكل أُورشَليم (يوحنا 5: 6). وتمَّ الشِّفاء في مكان يجتمع الجماهير حتى لا يستطيع اليَهود إنكارها. 7 ثُمَّ قالَ له: ((اِذهَبْ فَاغتَسِلْ في بِركَةِ سِلْوامَ))، أَي الرَّسول. فذَهَبَ فاغتَسَلَ فَعادَ بَصيراً. تشير عبارة "اِذهَبْ فَاغتَسِلْ" إلى طلب يسوع من الَأعْمى غسل عينيه كشرط لنوال الشِّفاء وامتحانًا لإيمانِه وطاعتِه، كما امتحن الله نعمان السوري على يد اليشاع النبي (2ملوك 5: 10). يعلق القدّيس أفرام السِّريانيّ "ليست بِركَةُ سلوام هي مَن فتحَتْ عَينَيّ الأعمى، ولا مياه نهر الأردن هي الّتي طهّرت نعمان (22 ملوك 5: 14): بل إنّ وصيّة الله هي الّتي أتمّت كلّ شيء "(شرح "الدِياطِسَّرون"). إن غسل جسد الرجل الَأعْمى المجبول على شكل آدم، بحاجة إلى غسل الميلاد الثاني أي المعمودية (طيطس 3: 5). وهكذا يعتبر الاغتسال رمزًا للمعمودية، والمعمودية هي موت وقيامة مع المسيح المُرسل من عند الله، كما جاء في تعليم بولُس الرَّسول "أَوَتَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة (رومة 6: 3-4)؛ أمَّا عبارة " بِركَةِ سِلْوامَ" فتشير إلى بركة سلوان حاليًا الواقعة في وادي قدرون جنوب شرق هيكل أُورشَليم (2 ملوك 20: 20، أشعيا 8: 6). ويعود تاريخ البركة إلى الملك حزقيا (716-687 ق. م)، الذي بنى قناة في سلوام تحت الأرض لإمْداد المدينة بالمِياه من عين جيحون (عين ستنا مريم) خارج أسوار أُورشَليم (يبوس) إلى البِرْكة داخل الأسوار لجعل مياهٍ هناك في أُورشَليم أثناء حصارها (2 ملوك 20: 20). وتدعى سِلْوامَ Σιλωάμ وفي العبرية הַשִּׁלֹּחַ، أي الرَّسول أو المُرسل إمَّا لأنَ هذا الينبوع يُعتبر عطيَّة مرسلة من قبل الله لأجل استخدام مياهه في المدينة، كما يقول أشعيا النبي "لِأَنَّ هذا الشَّعبَ قد نَبَذَ مِياهَ سِلْوامَ الجارِيَةَ روَيداً رُوَيداً" (أشعيا 8: 6)، أو لأنَّ مياهها كانت تُرسل عبر قنوات أو أنابيب إلى جهات مُتباينة. وليس بالصدفة إنَّ لفظة سِلْوامَ הַשִּׁלֹּחַ أي المُرسَل هو أحد القاب يسوع، المُرسل من قِبل الآب لخلاص البشر، كما أعلن يسوع "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما كانَ الرَّسول أَعظَمَ مِن مُرسِلِه"(يوحنا 13: 16). والمسيح هو المُرسل، إذ إنه رسول العهد "هاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي " (ملاخي 3: 1)، وبِركَةِ سِلْوامَ ترمز للسيد المسيح المُرسل من قبل الآب لإنارة النفوس وشفائها. ويُكرِّر السيد المسيح في إنجيل يوحنا أن الآب قد أرسله. وكما يدعو يسوع الَأعْمى أن يذهب إلى بركة سِلْوامَ كذلك يدعو كل نفس تحتاج إلى الاستنارة أن تذهب إليه، وكما أنَّ ماء بركة سلوم (الرَّسول) أعادت البَصَر إلى الَأعْمى، كذلك المسيح المرسل يأتي بنُور الوحي إلى البشر. لعلَّ في ذلك تلميحًا إلى ليتورجيا المعمودية. وطلب يسوع من الَأعْمى أن يغتسل في بركة سِلْوامَ ليؤكد الحاجة إلى مياه المعمودية حيث أنَّ المعمودية هي استنارة الروح القدس خلال الميلاد الجديد (العبرانيين 6: 4)؛ أمَّا عبارة "فذَهَبَ فاغتَسَلَ " فتشير إلى طاعة الَأعْمى في كل شيء بيقين وثقةٍ وإيمان بيسوع الذي أمره، فأطاعه ولم يفعل شيئًا مضادًا له. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لِم لمْ يشفي السيد المسيح الَأعْمى في الحال، بل أرسل الَأعْمى إلى بركة سِلْوامَ؟ فيجيب "ليُعَرَفَ إيمان الَأعْمى، ولكي يُبكم مكابرة اليَهود، ولأنه كان واجبًا أن يُبصره كل من التقى به ذاهبًا إلى البركة "؛ وأمَّا عبارة " فَعادَ بَصيراً" فتشير إلى انتقال الَأعْمى من الظُلمَة إلى النُّور على مستوى الجسد والروح معًا. وهذا الشِّفاء يُذكِّرنا ما حدث سابقًا مع نعمان السوري الذي أمره اليشاع النبي بالاغتسال في نهر الأردن لكي يشفى، كما ورد في إنجيل لوقا "وكانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ البُرْصِ على عَهدِ النَّبِيِّ أَليشاع، فلَم يَبْرأْ واحِدٌ مِنهُم، وإِنَّما بَرِئ نُعمانُ السُّوريّ" (لوقا 4: 27). موضوع النُّور السائد في هذا المقطع الإنجيلي يُهيِّئنا لنّور القيامة الأبدي. في الواقع، يرغب يوحنّا بروايته حدث المولود َأعْمى أن يُظهر لنا وجه الرجل القادر على القيام بمغامرة إيمانيّة، ليَثبتَ في نور المسيح. 8 فقالَ الجيرانُ والَّذينَ كانوا يَرونَه مِن قَبلُ لأَنَّه كانَ شحَّاذاً: ((أَلَيسَ هو ذاكَ الَّذي كانَ يَقعُدُ فيَستَعْطي؟)) تشير عبارة "الجيرانُ والَّذينَ كانوا يَرونَه مِن قَبل لأَنَّه كانَ شحَّاذاً " إلى الفئة الأولى التي رأت المعجزة. وقد دُهشوا بالشِّفاء لدرجة أنَّهم أخذوا يشكّون في هوية الرجل الَأعْمى. ويبدو أن الَأعْمى أتى من البركة إلى بيته مباشرة، لأنَّه أول من شاهده بصيراً جيرانُه. أمَّا عبارة "أَلَيسَ هو ذاكَ الَّذي كانَ يَقعُدُ فيَستَعْطي؟" فتشير إلى سؤال تعجب وحَيْرَة، لانَّ اختبارهم بالَأعْمى في الماضي يختلف عمَّا يشاهدونه الآن مُبصرًا. 9 وقالَ آخَرون: ((إِنَّه هو)). وقالَ غَيرُهم: ((لا، بل يُشبِهُه)). أمَّا هوَ فكانَ يقول: ((أَنا هو)). تشير عبارة "قالَ آخَرون: ((إِنَّه هو)" إلى الفئة التي عاينت ما حدث مع الَأعْمى، إذ تمّ كل شيء علانية، أمَّا عبارة "وقالَ غَيرُهم: ((لا، بل يُشبِهُه)) " فتشير إلى الفئة التي لم تُصدِّق: "إنَّه يُشبهه"، لأنَّ عينا الَأعْمى المفتوحتان أعطته شكلًا مغايرًا تمامًا عمَّا كان عليه. اختلف الناس في آرائهم في الَأعْمى كاختلاف معَرَفَتهم به. أمَّا عبارة "أَمَّا هوَ فكانَ يقول: ((أَنا هو))" فتشير إلى شهادة الَأعْمى أنه هو ذاك الذي كان قبلًا َأعْمى يستعطي الناس، والآن يتمتع بشِفاء نعمة الله الفائقة. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لم يخزَ الَأعْمى من عَماه الأول، ولا خشي غضب الجمع، ولا استعفى من إظهار ذاته مناديًا بمن أحسن إليه". ولا يشهد هنا الرجل لنفسه أنَّه كان َأعْمى وأصبح مُبصرا فقط، بل يشهد للمسيح أيضا الذي شفاه، والذي كان يسوع يعَرَفَ نفسه "أنا هو" سواء للشعب اليَهودي بقوله لهم " إذا لم تُؤمِنوا بِأَنِّي أَنا هو تَموتون في خَطاياكم" (يوحنا 8: 24) سواء لحرس الهيكل الذي أرسلهم عظماء الكهنة والفِرِّيسيُّونَ يطلبوا يسوعَ النَّاصريّ. قالَ لَهم: " أَنا هو " (يوحنا 18: 5) وسواء لتلاميذه عندما فال لهم بعد القيامة " أَنا هو بِنَفْسي. إِلمِسوني وانظُروا" (لوقا 24: 39). وكأن الَأعْمى يريد أن يمثل حضور يسوع الإنساني والمُمجِّد وكأن لهما نفس المصير. 10 فقالوا له: ((فكَيفَ انفَتَحَت عَيناكَ؟)) تشير عبارة "فكَيفَ انفَتَحَت عَيناكَ؟" إلى سؤال الجيران وسؤال الذين أتوا عند سِماعهم عن شِّفاء الأعْمى العجيب وهم يريدون عن يعَرَفَوا كيف تمَّ شفائه. 11 فأَجابَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ الَّذي يُقالُ لَه يسوع جَبَلَ طيناً فطَلى بِه عَينَيَّ وقالَ لي: ((اِذهَبْ إلى سِلْوامَ فَاغتَسِل. فذَهَبتُ فَاغتَسَلَتُ فَأَبصَرتُ)). تشير عبارة "إِنَّ الرَّجُلَ الَّذي يُقالُ لَه يسوع " في أصلها اليوناني ἄνθρωπος (معنى الإِنسانِ) إلى إنسان، ولكن ليس ككل إنسان ويقال له يسوع. فالَأعْمى رأى يسوع أنه في وضع يفوق كل الناس، بِالرُّغمِ انه لم يكن قد عَرَفَه سابقاً، لكنه سمع عنه، وسمع صوته حين أمره أن يغتسل في بركة سِلْوامَ، لقد شعر بأنه صنع طينا بنفسه وطلى به عينيه؛ أمَّا عبارة "اذهَبْ إلى سِلْوامَ فَاغتَسِل" فتشير إلى وصف العملية التي سبَّبت الشِّفاء ويُنسبها إلى يسوع، أمَّا عبارة" ذَهَبتُ فَاغتَسَلَتُ فَأَبصَرتُ" فتشير إلى الواقع الذي حصل معه دون زيادة أو نقصان. وما وصفه الَأعْمى رمز لمسيرة المعمودية، كما وصفها بولُس الرَّسول " أَوَتَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة كما أُقيمَ المَسيحُ مِن بَينِ الأَمواتِ بِمَجْدِ الآب؟" (رومة 6: 3-4). 12 فقالوا له: ((أَينَ هو؟)) قال: ((لا أَعلَم)). تشير عبارة "أَينَ هو؟" إلى رغبة سائليه في رؤية يسوع، ذاك الشافي الذي له القوة العجيبة أو بُغية القبض عليه ليسوقوه إلى رؤساء اليَهود، لأنَّه فتح عيني الَأعْمى في يوم سبتٍ. أمَّا عبارة "لا أَعلَم" فتشير إلى توارى يسوع عن الأنظار للحال بعدما أمر الَأعْمى بالذهاب إلى بركة سِلْوامَ. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لاحظوا تواضع المسيح، فإنه لم يستمرْ مع مَن يشفيهم، لأنَّه لم يطلبْ أن يحصد مجدًا، ولا أن يجتذب الجماهير، ولا أن يُظهرَ نفسه". 13 فَذَهبوا إلى الفِرِّيسيِّينَ بِذاكَ الَّذي كانَ مِن قَبْلُ َأعْمى. تشير عبارة "فَذَهبوا إلى الفِرِّيسيِّينَ بِذاكَ الَّذي كانَ مِن قَبْلُ َأعْمى" إلى إحضار الَأعْمى المُعافى أَمامَ الفِرِّيسيِّينَ الذين هم فرع من المجلس المحلي الذي يعتبر شفاءَه يوم السبت مخالفًا للناموس. ولسوء الحظ أنتقل عَمى هذا الرجل إلى عَمى الفِرِّيسيِّينَ (يوحنا 9: 40). 14 وكانَ اليَومُ الَّذي فيه جَبَلَ يسوعُ طيناً وفَتحَ عيَنَيِ الَأعْمى يَومَ سَبْت. تشير عبارة "يَومَ سَبْت" في العبرية יוֹם הַשַּׁבָּת إلى يوم الرَّاحة الأسبوعية لدى اليَهود والاحتفال الديني للأسرة، وهو يوم العبادة عند الديانة اليَهودية، وكانت حتى المعالجة محرّمة يوم السبت إلاّ في حالة الطوارئ (يوحنا 5: 9)؛ إذ إنه في زمن يسوع، كان إفتاء الرَّبَّانيين يُجيز مخالفة شريعة السبت لإغاثة إنسان في حالة خطر المَوت، ولكنه لم يكن يتساهل في أي عمل طبِّي، ويعتبر هذا الشِّفاء من وجهة نظر الفقهاء الفِرِّيسيِّينَ حتى لو كان شِفاء عجائبي، هو عمل طِبِّي، لذلك هو عمل مُحرّم يوم السبت (لوقا 7: 7). أمَّا عبارة " جَبَلَ يسوعُ طيناً وفَتحَ عيَنَيِ الَأعْمى يَومَ سَبْت" فتشير إلى العناية بالمَرَضى الذي هو من الأعمال الممنوعة يوم السبت. وكان الفِرِّيسيُّونَ قد أعدُّوا قائمة طويلة من الأوامر والنواهي بيوم السبت، ويُعد عجين الطين وشِفاء الرجل الأعمى هما من الأعمال، وبالتالي فهي ممنوعة. أمَّا موقف يسوع فقد استباح استراحة السبت لشِفاء المرضى معتمدًا على حِجَج الربَّانيين "أَيُّها المُراؤون، أَما يَحُلُّ كُلٌّ مِنكُم يومَ السَّبْتِ رِباطَ ثَورِه أَو حِمارِه مِنَ المِذوَد، ويَذهَبُ بهِ فيَسقيه؟ وهذِه ابنَةُ إِبراهيمَ قد رَبطَها الشَّيطانُ مُنذُ ثَمانيَ عَشرَةَ سَنَة، أَفما كانَ يَجِبُ أَن تُحَلَّ مِن هذا الرِّباطِ يَومَ السَّبْت؟ (لوقا 13: 15-16). 15 فسأَلَهُ الفِرِّيسيُّونَ أَيضاً كَيفَ أَبصَر. فقالَ لَهم: ((جَعَلَ طيناً على عَينَيَّ ثُمَّ اغتَسَلتُ وها إِنِّي أُبصِر)) تشير عبارة "سأَلَهُ الفِرِّيسيُّونَ أَيضاً كَيفَ أَبصر" إلى قصد الفِرِّيسيِّينَ من السؤال ليس التعَرَفَ على الحقيقة، وإنما لإيجاد عِلة يشكون بها على يسوع، ويُشوِّهون بها صورته أَمامَ جمهور الشعب. أمَّا عبارة "أَيضاً" في الأصل اليوناني πάλιν (معناها من جديد أو بدورهم) فتشير إلى الفِرِّيسيِّينَ الذين سمعوا النبأ على ألسنة الناس الذين سألوا الَأعْمى، فأرادوا أن يسألوا الَأعْمى بدورهم كي يسمعوه من لسانه. أمَّا عبارة "جَعَلَ طيناً على عَينَيَّ ثُمَّ اغتَسَلتُ وها إِنِّي أُبصِر" فتشير إلى أقوال الرجل الَأعْمى في الاستجواب الثاني التي لم تكن مناقضة لأقواله في الاستجواب الأول، غير أنه لم يذكر عن السيد المسيح أنَّه "صنع طينًا" (يوحنا 9: 10)، ولا المكان الذي به أغتسل. وكانت شهادة جديدة ليسوع انه هو المسيح على لسان الَأعْمى الذي برئ، وفرصة جديدة لتبيان صحة تعليم المسيح. 16 فقالَ بَعضُ الفِرِّيسيِّين: ((لَيسَ هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لأَنَّه لا يَحفَظُ شَريعةَ السَّبْت)). وقالَ آخَرون: ((كَيفَ يَستَطيعُ خاطِئٌ أَنَ يَأتيَ بِمثِلِ هذهِ الآيات؟)) فوَقَعَ الخِلافُ بَينَهم. تشير عبارة "لَيسَ هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لأَنَّه لا يَحفَظُ شَريعةَ السَّبْت" إلى الفئة الأولى من الفِرِّيسيِّين التي ادّعت أنَّ يسوع ليس بنبيءٍ أرسله الله، لأنَّه لا يُراعي حُرمة السبت (تثنية الاشتراع 13: 1-6)، ومن هذا المنطلق، تُعتبر شِفاء يسوع للَأعْمى يوم السبت أنَّها تمَّت بقوة الشيطان، كما أتَّهموه أيضا لدى شِفائه اخرس ممسوس قائلين "أنَّهُ بِسَيِّدِ الشَّياطين يَطْرُدُ الشَّياطين (متى 9: 34). ويُعلق القديس أوغسطينوس "في الحقيقة يا إخوة هذا ما حثَّنا عليه الله عندما أمرنا بالسبت: "لا تَعمَلوا فيه عَمَلَ خِدْمَة (العبودية)" (الأحبار 23: 8). الآن اسألوا ماذا يعني عمل خدمة أو عبودية، وأصغوا إلى الرب: " كُلُّ مَن يَرتَكِبُ الخَطيئَة يَكونُ عَبْداً لِلخَطيئَة" (يوحنا 8: 34)، أمَّا يسوع فشفى يوم السبت لإبراز مفهوم السبت، إنه راحة في الرب، في ممارسة عمل الرب من حب ورحمة، وليس في حرفية قاتلة بالامتناع عن الأعمال اليومية الضرورية وأعمال المحبة"؛ ومن هنا جاءت توصية بولُس الرَّسول في هذا الصدد " فلا يَحكُمَنَّ علَيكم أَحَدٌ في المَأكولِ والمَشروب أَو في الأَعيادِ والأَهِلَّةِ والسُّبوت" (قولسي 2: 16). أمَّا عبارة "كَيفَ يَستَطيعُ خاطِئٌ أَنَ يَأتيَ بِمثِلِ هذهِ الآيات؟" فتشير إلى الفئة الثانية من الفِرِّيسيِّين الذين يميلون إلى يسوع قد يكون بينهم نيقوديموس ويوسف الرامي والذين اعترفوا أنَّ يسوع هو رجل من الله، حيث أنَّه أجرى معجزة الشِّفاء، وأن الشِّفاء علامة صادقة على صدق رسالته، والله لا يَستجيب للخاطئين، كما صرّح سابقا نيقوديموس "فما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَأَتِيَ بِتِلكَ الآياتِ الَّتي تَأتي بِها أَنتَ إِلاَّ إِذا كانَ اللهُ معَه" (يوحنا3: 2). أمَّا عبارة " فوَقَعَ الخِلافُ بَينَهم" فيشير بها القديس يوحنا الذهبي الفم إلى سبب الخلاف "لأنَّ بعضهم منعهم حبُّهم للرئاسة عن المجاهرة بالسيد المسيح، وبعضهم أسكتهم جُبْنُهم وخوفُهم من الكثيرين". 17 فقالوا: أَيضاً لِلَأعْمى: ((وأَنتَ ماذا تَقولُ فيه وقَد فَتَحَ عَينَيكَ؟)) قال: ((إِنَّهُ نَبِيّ)). تشير عبارة "فقالوا: أَيضاً لِلَأعْمى" إلى هدف وقوف كل من الحِزْبين على ما يسند قوله اعترافا منهما أن الَأعْمى المُعافى يعلم أكثر مِمَّا يعلمه غيره. أمَّا عبارة "وأَنتَ ماذا تَقولُ فيه وقَد فَتَحَ عَينَيكَ؟" فتشير إلى طلب الفِرِّيسيِّينَ من الَأعْمى المُعافى أن يصرّح عن اعتقاده بيسوع، بغيةً أن يفضّ الخِلاف بين الجماعة المتنازعة؟؛ أمَّا عبارة " إِنَّهُ نَبِيّ" فتشير إلى تأكيد أنَّ يسوع هو مُرسل من الله، ويتكلم ويعمل باسم الله، وله سلطان يفوق الطاقات البَشَرِيَّة، كما اعترفت فيه السامرية (يوحنا 4: 19). وكانت شهادته الجريئة والصادقة خِلاف قول أغلب مَجلس الفِرِّيسيِّينَ أنَّ " لَيسَ هذا الرَّجُلُ مِنَ الله " (يوحنا 9: 16). ونحن هل نخاف قول الحقيقة، وهل نقول ما نعَرَفَه وما نحن متأكدون منه دون خوف من الآخرين؟ 18على أَنَّ اليَهود لم يُصَدِّقوا أَنَّه كانَ َأعْمى فأَبصَر، حتَّى دَعَوا والِدَيه. تشير عبارة "اليَهود" إلى اسم يهوذا الذي هو من أبناء يعقوب الذين أصبحوا أبناء شعب يتميزون بأتباعهم الديانة اليَهودية وثقافتها وتراثها؛ أمَّا هنا فيقصد باليَهود أصحاب السلطات الدينية، خاصة الفِرِّيسيِّين وأعضاء المجمع المَحَلي. أمَّا عبارة "لم يُصَدِّقوا أَنَّه كانَ َأعْمى فأَبصَر" فتشير إلى رفض اليَهود المعجزة ومحاولة إلغائها من قلب الَأعْمى وقلب والديه، والحطِّ من قدر حقيقة الشِّفاء وصانعه. ولعلّ عدم تصديقهم شهادة الَأعْمى لأنها تُمجّد يسوع، مما يدلّ على عَمى ذهنهم عن صحة البراهين. أمَّا عبارة "حتَّى دَعَوا والِدَيه" فتشير إلى سؤال والِدَي الَأعْمى آملين أن يُكذبا شهادة ابنهما خوفا منهم أو إكراما لهم. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "بعد أن عجزَ الفرّيسيون عن إخافة هذا الرجل، وبعد أن رأوا أنّه كان يذكر اسم الشخص الذي شفاه بكلّ حريّة، اعتقدوا أنّهم يستطيعون إخفاء حقيقة المعجزة من خلال والدَيه "(العظة 58). 19 فسأَلوهما: ((أَهذا ابنُكما الَّذي تَقولانِ إِنَّه وُلِدَ َأعْمى؟ فكَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن؟)) تشير عبارة "((أَهذا ابنُكما الَّذي تَقولانِ إِنَّه وُلِدَ َأعْمى؟ فكَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن؟)) إلى ثلاث أسئلة " أَهذا ابنُكما؟"، هل وُلد َأعْمى؟ وبأي واسطة أَبصر؟ موجَّه من قبل َ مجلس الفِرِّيسيِّينَ إلى والِدَي الَأعْمى على آمل أن يجدوا في جواب أحدهما ما يبطل دعوى المسيح. 20 فأَجابَ والِداه: ((نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا ابنُنا، وأَنَّه وُلِدَ َأعْمى. تشير العبارة" نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا ابنُنا" إلى اعتراف والدي الَأعْمى أنَّ ابنهما كان َأعْمى يستعطي، أمَّا عبارة "وُلِدَ َأعْمى" فتشير إلى تأييد والِدَي الَأعْمى حقيقة أنَّ ابنهما َأعْمى مُنذُ مَولِدِه. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "حاول اليَهود أن يطمسوا المعجزة بالظُلمَة ويُزيلوها. ولكن هذه هي طبيعة الحق، بذات الوسائل التي يُهاجم بها البشر، يصير الحق أقوى، ويُشرق بذات الوسائل التي تُستخدم لطمسه". 21 أَمَّا كَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن، فلا نَدْري، ومَن فَتَحَ عَينَيه فنَحنُ لا نَعلم. إِسأَلوهُ، إِنَّه مُكتَمِلُ السِّنّ، سَيَتكلَّمُ هو بِنَفسِه عن أَمرِه)). تشير عبارة "أَمَّا كَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن، فلا نَدْري، ومَن فَتَحَ عَينَيه فنَحنُ لا نَعلم " إلى خوف والدي الَأعْمى وضعفهما للوقوف مع ابنهما في إجابتهما لليهود. خاف والِدَي الَأعْمى البشر فنصبا شركًا لنفسيهما ولابنهما، وكما يقول الحكيم: " خَشيَة البَشَرِ تُلْقي فَخًّا والمُتَّكِلُ على الرَّبِّ هو في أَمان"(أمثال 29: 25). ويُظهر إنجيل يوحنا آية الَأعْمى على ضوء الحالة التي يعيشها المسيحيون ومضايقات اليَهود لهم " غَيرَ أَنَّ عَدَداً كَثيراً مِنَ الرُّؤَساءِ أَنفُسِهِم آمَنوا بِه، ولكِنَّهم لم يُجاهِروا بِإِيمانِهِم، بِسَبَبِ الفِرِّيسيِّينَ، لِئَلاَّ يُفصَلوا مِنَ المَجمَع " (يوحنا 12: 42). أمَّا عبارة " إِسأَلوهُ، إِنَّه مُكتَمِلُ السِّنّ، سَيَتكلَّمُ هو بِنَفسِه عن أَمرِه" فتشير إلى إحالة الوالدين السؤال إلى ابنهما خوفا أن يُكرما يسوع بجوابهما. أمَّا عبارة " مُكتَمِلُ السِّنّ " فتشير إلى ابنهما الَأعْمى بلغ سن الثلاثين. 22 وإِنَّما قالَ والِداهُ هذا لِخَوفِهِما مِنَ اليَهود، لأَنَّ اليَهود كانوا قدِ اتَّفَقوا على أَن يُفصَلَ مِنَ المِجمَعِ مَن يَعتَرِفُ بِأَنَّه المسيح. تشير عبارة "لِخَوفِهِما مِنَ اليَهود" إلى قرار اليَهود بأن يطردوا من المجمع كل من يقول إن يسوع هو المسيح. لكن الإيمان يجب أن يتغلب على الخوف من تهديد الناس وعقوباتهم. لا يكون الإيمان صحيحاً إلاّ إذا كان الالتزام به دون تحفُّظ حتى لو كان يتطلب الاعتراف العَلني الذي قد يُؤدِّي إلى الفصل عن الجماعة، أو الاضطهاد أو الاستشهاد (يوحنا 9: 22، 12: 42، 17: 1-14). أمَّا عبارة " لأَنَّ اليَهود كانوا قدِ اتَّفَقوا " في الأصل اليوناني συνετέθειντο (معناها تعاهدوا) فتشير إلى اتفاق رؤساء اليَهود أن يقنعوا المجلس المحلي لفصل من المجمع كل من يعترف أنَّ يسوع هو المسيح. أمَّا عبارة "يُفصَلَ مِنَ المِجمَعِ" فتشير إلى اتخاذ الديانة اليَهودية بعض القوانين لفصل فئة من المُذنبين من المجمع حيت يُحرم من الحقوق الدينية والاجتماعية. ويُحسب فصله من المجمع وعزله عن الجماعة كمن قد ارتدَّ عن الإيمان اليَهودي، ويُحسب أيضا مُتمرِّدًا وخائِنًا للقيادة الدينية. ولم يَظهر تحريم المسيحيِّين من الدخول إلى المجمع إلاّ في أواخر القرن الأول. ومن المحتمل أن يوحنا الإنجيلي نسب إلى الماضي قانونا حديثا (يوحنا 12: 42، 16: 2). ويُعلق القديس أوغسطينوس " لم يَعد الطرد من المجمع بالأمر السيِّء. هم يُطردون والمسيح يستقبلهم". 23 فلِذَلكَ قالَ والِداه: إِنَّه مُكتَمِلُ السِّنّ، فاسأَلوه. تشير عبارة "إِنَّه مُكتَمِلُ السِّنّ، فاسأَلوه" إلى سبب ترك جواب الوالدين "فكَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن" إلى ابنهما خوفا من اعترافهما بصحة دعوى يسوع، مما قد يُسبب لهما الفصل من المجمع. 24 فَدَعَوا ثانِيَةً الرَّجُلَ الَّذي كانَ َأعْمى وقالوا له: ((مَجِّدِ الله، نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا الرَّجُلَ خاطِئ)). تشير عبارة "مَجِّدِ الله" إلى دعوة للرجل الَأعْمى للقسم باسم الله بقول الحق، وهكذا يتمجَّد الله الذي يراه، وإلا فهو يُهين العزة الإلهية. وهذا ضرب من استحلاف الشاهد بالاعتراف بالحق خوفاً من الله، وأرادوا أن يتشبَّهوا بقول يشوع بن نون عندما حكم على عاكان بالرجم إذ طلب منه أولًا "يا وَلَدي، مَجِّدِ الرَّبَّ، إِلهَ إِسْرائيلَ واحمَدْه، وأَخبِرْني بِما فَعَلتَ ولا تَكتُمْني" (يشوع 7: 19)؛ والاستحلاف بهذا اللفظ مبني على اعتقاد أنَّ الله يتمجَّد بإظهار الحق، لأنه إله الصِدق والقوَّة والسُّلطان، وهو يجازي الصادقين ويعاقب الكاذبين. وهذا الطلب يدل هنا على ضغط الفِرِّيسيُّونَ على الرجل حتى يُعلن خطأه. ويُعلق القديس أوغسطينوس "ماذا يعني " مَجِّدِ الله "؟ في نظر الفِرِّيسيِّين هو اجحد ما قد نلته. فإن مثل هذا التصرف لا يُمجِّد الله، بل هو تجديف عليه ". أمَّا عبارة "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا الرَّجُلَ خاطِئ" فتشير إلى يسوع، المّرة الوحيدة في إنجيل يوحنا، انَّه رجل خاطئ، إذ تمَّ اتفاق المجلس انه يستحيل أنَّ الله يهب قوة الشِّفاء لمن يتعدّى الشَّرّيعَة (يوحنا 9: 16)، فإذاً الرجل الأعمى هو كاذب فعليه أن يعترف بكذبه. وهنا يظهر رياء اليَهود الذين في حضور المسيح لم يجسر أحد أن يتَّهمه لمَّا سألهم" مَن مِنكم يُثبِتُ عَليَّ خَطيئة؟" (يوحنا 8: 46)، لكن من وراء يسوع يقولون عنه "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا الرَّجُلَ خاطِئ "، ويعُلق القديس يوحنا الذهبي الفم ويسألهم "من أين عَرَفَتم أنه خاطئ؟". 25 فأَجاب: ((هل هو خاطِئٌ لا أَعلَم، وإِنَّما أَعلَمُ أَنِّي كُنتُ َأعْمى وها إِنِّي أُبصِرُ الآن)) تشير عبارة "هل هو خاطِئٌ لا أَعلَم" إلى عدم تسليم الَأعْمى أنَّ يسوع خاطئ ولم ينكر ذلك. أمَّا عبارة " أَعلَمُ أَنِّي كُنتُ َأعْمى وها إِنِّي أُبصِرُ الآن" فتشير إلى جواب خبرة الَأعْمى مع يسوع وإصراره على صحة الشِّفاء واعترافه بالمعجزة، أنَّه كان َأعْمى، وانه أَبصر (يوحنا 9: 15). فهو ثابت في شهادته ويروي ببساطة ما حصل له. وترك للفِرِّيسيُّينَ الحكم على شهادته الأولى. انه لم يخفْ قول الحقيقة، وبذلك صار شاهدًا حقيقيًا لشخص السيد المسيح. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " هكذا حفظ نفسه بعيدًا عن الشكوك، فلا تفسد شهادته، ولا يتكلم عن تحيّز، بل يقدم شهادات من خلال الواقع". 26 فقالوا له: ((ماذا صَنَعَ لكَ؟ وكَيفَ فتَحَ عَينَكَ؟)) تشير عبارة "ماذا صَنَعَ لكَ؟ وكَيفَ فتَحَ عَينَكَ؟" إلى إعادة اليَهود استجوابه بطريقة أخرى لعلَّهم يجدون في إجابته ما يناقض ما سبق في الاستجواب الأول، فيجدون علة ًعلى السيد المسيح. ويحقِّق اليَهود عدة مرات مع الرجل المُعافى ومع والديه، لا بحثا عن الحقيقة، بل بحثا عن وسيلة لنفيْها. أمَّا عبارة "وكَيفَ فتَحَ عَينَكَ؟" فتشير إلى رجوع إلى سؤالهم عن شفائه وانتقلوا إلى سؤال عن كيفية أعاد يسوع شفائه. 27 أَجابَهم: ((لقد قُلتُه لَكم فلَم تُصغُوا، فلِماذا تُريدونَ أَن تَسمَعوه ثانِيَةً؟ أَتُراكم تَرغَبونَ في أَن تَصيروا أَنتُم أَيضاً تَلاميذَه؟)) تشير عبارة "لقد قُلتُه لَكم فلَم تُصغُوا، فلِماذا تُريدونَ أَن تَسمَعوه ثانِيَةً؟" إلى إزعاج الأعمى بتكرير سؤال اليَهود لمعَرَفَته سوء نِيَّتهم، وهي ليست الوقوف على الحق، بل جعله يُنكر الحق التي اختبره هو بنفسه مع يسوع. إذ لم يجدوا تناقض في شهادة الرجل الَأعْمى بِالرُّغمِ من الأسئلة المتعاقبة. أمَّا عبارة "فلَم تُصغُوا" فتشير إلى معنى لم تصدِّقوا. يبذل الفريسيُّون قصارى جهودهم لإنكار حقيقة شفاء الأعمى، التي جرت على مرأى منهم الجميع. إنهم عُمْيان، لكنهم لا يعلمون ذلك. أمَّا عبارة "أَتُراكم تَرغَبونَ في أَن تَصيروا أَنتُم أَيضاً تَلاميذَه؟" إلى سؤال استهزاء بالفِرِّيسيِّينَ حيث كان اهتمامهم هذا يقود إلى طريق التلمذة ليسوع؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس "ماذا يعني قوله: " أَتُراكم تَرغَبونَ في أَن تَصيروا أَنتُم أَيضاً تَلاميذَه؟" فمن جهتي أنا (الَأعْمى) قد صرت فعلًا تلميذا له، أتريدون أنتم أيضًا؟ إنني الآن أرى، أرى بدون ارتياب". مشكلة الفِرِّيسيِّين هي عدم قدرتهم على الإصغاء إلاَّ َ إلى أنفسهم ومعتقداتهم وشريعتهم. في حين الإصغاء هو الشَّرّط الوحيد لمعَرَفَة الله الحقيقية وللانفتاح عليه. فمن يصغي هو وحده الذي يبصر. 28 فشَتَموه وقالوا: ((أَنتَ تِلميذُه، أَمَّا نَحنُ فَإِنَّنا تَلاميذُ مُوسى. تشير عبارة "شَتَموه" إلى اليَهود الذين سبَّوا على الَأعْمى وعاتبوه، ووصفوه بما فيه نقصٌ وازدراء. لقد تعرَّض إيمان الَأعْمى بشدَّة للامتحان على يد بعض من ذوي السلطة. وفي هذا الصدد قال يسوع " طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي" (متى 5: 11)؛ أمَّا عبارة " أَنتَ تِلميذُه" فتشير إلى استخفاف اليَهود بالَأعْمى المُعَافَى، بِالرُّغمِ من أنه لم يكن بعد قد رأى يسوع ولا سمع لعظاته، لكنَّهم حسبوه تلميذه لأنه يشهد له، أمَّا هو فكان يعتزُّ بأن يكون تلميذه. أمَّا عبارة "أَمَّا نَحنُ فَإِنَّنا تَلاميذُ مُوسى" فتشير إلى افتخار الفِرِّيسيِّينَ بعلاقتهم بموسى النبي كمعلمٍ لهم، الذي أمرهم بحفظ السبت، وهم لا يحتاجون إلى معلمٍ آخر مثل يسوع الذي يدَّنس السبت. ولكن لو كانوا حقاً تلاميذ موسى لأمنوا بالسيد المسيح الذي تنبأ عنه موسى، عوض عن مقاومتهم له. ويُعلق القديس أوغسطينوس "أهكذا تتبعون العبد (موسى) وتديرون ظهوركم للرب يسوع؟ فإنكم بهذا لستم تتبعون العبد، لأنه هو نفسه يقود إلى الرب". يعتبر الفِرِّيسيِّونَ نفوسهم تلاميذ موسى، حامل الشَّرّيعَة، فيما الَأعْمى هو من تلاميذ المسيح. فالمسيح، حامل الوحي التام والنهائي تفوَّق على موسى، كما صرّح يسوع " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يُعطِكُم موسى خُبزَ السَّماء بل أَبي يُعطيكُم خُبزَ السَّماءِ الحَقّ" (يوحنا 6: 32). 29 نحَنُ نَعلَمُ أَنَّ اللهَ كَلَّمَ مُوسى، أَمَّا هذا فلا نَعلَمُ مِن أَينَ هو)). تشير عبارة "أَنَّ اللهَ كَلَّمَ مُوسى" إلى المكانة التي احتلتها الشَّرّيعَة في الديانة اليَهودية التي رفعت شأن موسى كنبي والمُشْترع الذي أخذ سلطانه ورسالته من الله. وكان الفِرِّيسيُّونَ يُعدُّونه المعلم المثالي. أمَّا عبارة "أَمَّا هذا فلا نَعلَمُ مِن أَينَ هو" فتشير إلى اعتقاد الفِرِّيسيِّينَ بأنَّ أصل يسوع مجهول، ولا برهان على أنَّ الله أرسله. وعذرهم على رفض يسوع هنا عكس العذر الذي أوردوه سابقا " على أَنَّ هذا نَعَرَفَ مِن أَينَ هو، وأَمَّا المسيح فلا يُعَرَفَ حينَ يأتي مِن أَينَ هو" (يوحنا 7: 27). فهناك تخبُّط اليَهود بين أقوالهم "أَمَّا هذا فلا نَعلَمُ مِن أَينَ هو" (يوحنا 9: 29) وبين أقوال الناس "على أَنَّ هذا نَعَرَفَ مِن أَينَ هو" (يوحنا 7: 27). فتساؤل الفِرِّيسيِّينَ عن أصل يسوع وسلطانه دليل على اندحارهم الواضح وانهزامهم. أمَّا عبارة " مِن أَينَ هو " فتشير إلى أصل الإِنْسانِ الذي هو دليل على طبيعته كسؤال اليَهود عن معمودية يوحنا (متى 21: 25) وكسؤال بيلاطس الموجَّه ليسوع " مِن أَينَ أَنتَ؟"(يوحنا 19: 9). 30 أجابَهُمُ الرَّجُل: ((فعَجيبٌ أَن لا تَعلَموا مِن أَينَ هو وقَد فتَحَ عَينَيَّ. تشير عبارة " فعَجيبٌ أَن لا تَعلَموا مِن أَينَ هو وقَد فتَحَ عَينَيَّ " إلى جواب الَأعْمى الذي فيه حكمة وشجاعة في دهشته أن الفِرِّيسيِّينَ الجالسين على كرسي القَضاء يجهلون أصل شخص قوّته التي تُجري معجزات كهذه بوجود عدة حقائق متوفرة: فتح يسوع عينيه، والله لا يسمع للخطأة (مزمور 66: 18) بينما هم يقولون إنَّهم يعلمون بأن هذا الإنسان خاطئ، في حين الله يسمع للأتقياء الذين يعملون إرادته، وأنَّه لم يسمع في تاريخ العالم أن أحدًا فتح عيني مولودٍ أعْمى. إن برهان الذي قدّمه الَأعْمى تفوَّق فيه على العلماء والفقهاء من الفِرِّيسيِّينَ واليَهود، وقد شكر يسوع الآب السماوي على هذه النعمة "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار" (متى 11: 25). 31 نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ لِلخاطِئين، بل يَستَجيبُ لِمَنِ اتَّقاهُ وعَمِلَ بِمَشيئتِه. تشير عبارة "نَحنُ نَعلَمُ" إلى علم الإِنْسانِ واختباره. أمَّا عبارة " أَنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ لِلخاطِئين " فتشير إلى رَدِّ فعل الَأعْمى على الفِرِّيسيِّينَ الذين نفوا أنَّ يسوع يَتَّقي الله ويعمل بمشيئته، وذلك بحقيقة شائعة " حينَئِذٍ يَصرُخونَ ولا يُجيب بِسَبَبِ تَشامُخِ الأَشْرار" (أيوب 35: 12) وتؤكد ذلك نبوءة أشعيا " فحينَ تَبسُطونَ أَيدِيَكم أَحجُبُ عَينَيَّ عنكم وإِن أَكثَرتُم مِنَ الصَّلاةِ لا أَستَمعُ لَكم لِأَنَّ أَيدِيَكم مَمْلوءَةٌ مِنَ الدِّماء" (أشعيا 1: 15). أمَّا عبارة "لِلخاطِئين" في الأصل اليوناني ἁμαρτωλῶν (معناها الخطأة)، إلى الذين هم مُصرّين على خطاياهم، كما يقول صاحب المَزامير " لو كُنتُ رأيتُ إِثمًا في قَلْبي لَما اْستَمعَ السَّيِّدُ لي"(المزامير 66: 18). أمَّا عبارة "يَستَجيبُ لِمَنِ اتَّقاهُ " في الأصل اليوناني θεοσεβὴς (معناها المُتعبِّد لله) تشير إلى أصحاب العِبادة والتقوى. أمَّا عبارة ُ "يَستَجيبُ لِمَنِ اتَّقاهُ وعَمِلَ بِمَشيئتِه" فتشير إلى الجمع بين التقوى التي يمتاز بها اليُونانيُّون والطاعة لله التي تستند على الكتاب المقدس. الله يسمع لأصحاب التقوى والطاعة مثل إيليا النبي الذي استجاب الله له في جبل الكرمل لتقواه وطاعته، ولم يستجب لكهنة بعل (1 ملوك 18: 17-40). 32 ولَم يُسمَعْ يَوماً أَنَّ أَحداً مِنَ النَّاسِ فتَحَ عَينَي مَن وُلِدَ َأعْمى. عبارة "يَوماً" في الأصل اليوناني αἰῶνος (معناها الدهر) تشير إلى بدء العالم أو في الزمن القديم، كما ورد في إنجيل لوقا "كَما قالَ بِلِسانِ أَنِبيائِه الأَطهارِ في الزَّمَنِ القديم αἰῶνος (لوقا 1: 70). أمَّا عبارة " فتَحَ عَينَي مَن وُلِدَ َأعْمى" فتشير إلى المُعجزة الوحيدة الذي تدور على شِفاء َأعْمى مُنذُ مَولِدِه وقد حدثت لأول مرة في تاريخ البَشَرِيَّة. وهذا دليل أنَّ يسوع هو رجل الله. أمَّا شِفاء إنسان أصيب بالعَمى وأصبح بصيرا فحدث سابقا على سبيل المثال شِفاء والد طوبيا "بِأَنَّ اللهَ قد أَنعَمَ علَيه بِرَحمَتِه ففَتَحَ عَينَيه" (طوبيا 7: 17)، لكنه لم يكن َأعْمى مُنذُ مَولِدِه. وهكذا تفوّق يسوع على موسى وسائر الأنبياء، إذ إنه لم يذكر إلاَّ عنه وحده فتح عيني مولود َأعْمى. 33 فلَو لم يَكُن هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لَما استَطاعَ أَن يَصنَعَ شَيئاً)). تشير عبارة " الرَّجُلُ مِنَ الله " إلى أحد أتقياء الله ورسله حيث استطاع الرجل الَأعْمى أن يُبرهن أن يسوع هو من الله عن طريق قياس منطقي: إنَّ الله لا يسمع للخطأة الكذَّابين، وحيث أنَّ الله سمع ليسوع، فهذا دليل على أنَّ الذي فعله لا يمكن أن يكون إلاَّ بقوة الله، فالنتيجة أنَّ يسوع هو ليس بخاطئ بل هو من الله. أمَّا عبارة " لَما استَطاعَ أَن يَصنَعَ شَيئاً" فتشير إلى يسوع المسيح الذي لم يكن أحد في إسرائيل حتى اليوم كان رجل الله على مستواه. 34 أَجابوه: ((أَتُعَلِّمُنا أَنتَ وقد وُلِدتَ كُلُّكَ في الخَطايا؟)) ثُمَّ طَردوه. تشير عبارة "أَتُعَلِّمُنا أَنتَ وقد وُلِدتَ كُلُّكَ في الخَطايا؟" إلى غضب الفِرِّيسيِّينَ الذين عبّروا عنه بشتم الرجل والإساءة إليه، لأنهم عجزوا أن يحملوا الَأعْمى على الكذب بالتهديد، وخجلوا من قوة حِجّته وشهادته الواضحة للحق. صوت قلب الَأعْمى يصرخ مغطِّيًا على صوت اليَهود الذين يريدون إسكاته، لكنّ إصراره وإيمانه جعلا صوته أعلى من صراخهم. فمن هو في العالم وليس من العالم يكون صوته صوت الحق، الصوت المدوّي الّذي لا يقف بوجهه صراخ الألوف المؤلّفَة وضجيجهم. وصدق قول المثل المأثور "الحق يعلو ولا يُعلى عليه ". أمَّا عبارة "ثُمَّ طَردوه" في الأصل اليوناني (ἐξέβαλον αὐτὸν ἔξω (معناها أخرجوه خارجا) فتشير إلى إخراج الَأعْمى المُعافى في ذلٍّ وانكسار انتقاما منه، ولكن هذا الطرد لا يعني الحرم الرسمي، وقد تنبأ يسوع فصل اليَهود لتلاميذه "سيَفصِلونَكم مِنَ المَجامِع" (يوحنا 16: 2). اضطهد الفرِّيسيُون الَأعْمى بسبب تمسكه بالحقيقة وتأديته الشهادة للمسيح. 35 فسَمِعَ يسوع أَنَّهم طَردوه. فلَقِيَه وقالَ له: ((أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنْسانِ؟)) تشير عبارة "فسَمِعَ يسوع أَنَّهم طَردوه" إلى معَرَفَة يسوع خبر طرد الَأعْمى وكان سبب طرده هو إصراره على اعترافه بالحق من جهة شفائه، وإقراره بانَّ يسوع نبي. وفي هذا الصدد يقول يسوع " طوبى لَكمُ إِذا أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا اسمَكُم ونَبذوه على أَنَّه عار مِن أَجلِ ابنِ الإِنْسانِ"(لوقا 6: 22). أمَّا عبارة "لَقِيَه " فتشير إلى مبادرة المسيح في البحث عن الَأعْمى الذي طرده الفِرِّيسيُّونَ، وحرموه من حقه كعضوٍ في شعب الله فوجده. بحث عنه حتى وجده لكي يُعزّي قلبه ويُقوِّي إيمانه، وفيه صدق صاحب المَزامير " إِذا ترَكَني أَبي وأُمِّي فالرَّبُّ يَقبَلني" (مزامير 27: 10). فالمسيح يبحث عن كل من خسر شيئاً لأجله مُعطيًا إيَّاه اختبارًا أعمق. إنه " أبو اليَتامى ومُنصِفُ الأَرامل " (مزمور 68: 6). التقى الَأعْمى مع ابن الإِنْسانِ الآتي من السماء ليَجْمَع البشر، انه مسيح المَطرودين والمَرذولين. أمَّا عبارة "ابنِ الإِنْسانِ " فتشير إلى المسيح الموعود، إذ عبّر اليَهود عن المسيح "بابن الله" بناء على ورد في المَزامير " أُعلِنُ حُكمَ الرَّبّ: قالَ لي: أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ " (مزمور 2: 7). لكن اليَهود فضّلوا أن يسمُّوه "بابن داود" متوقعين أن يجلس على كرسي داود كملك أرضي (متى 22: 42). لكن يسوع أراد أن يُظهر ملكوته روحيًا لا أرضيًا فسمّى نفسه "ابن الله". وهذا اللقب لمّح إليه دانيال النبي في رؤيته (دانيال 7: 9-15). ورد هذا اللقب على لسان يسوع في أثناء الدعوى أَمامَ مجلس اليَهود قائلا " سَوفَ تَرونَ ابنَ الإِنْسانِ جالِساً عن يَمينِ القَدير، وآتِياً في غَمامِ السَّماء" (مرقس 14: 62)، أمَّا عبارة "أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنْسانِ؟" فتشير إلى قول "أتؤمن بابن الله؟" لأن هاتين السِمتين لا تنفصلان، كما آمن نَتَنائيل فشهد "راِّيي، أَنتَ ابنُ الله" (يوحنا 1: 34). الفِرِّيسيُّونَ ينظرون إلى الرجل الَأعْمى أنه وُلد كله بالخطايا (يوحنا 9: 34)، ينظرون نظرة خارجية لإصدار حكم حسب المنطق الدنيوي. أمَّا يسوع فينظر إلى قلبه وإيمانه " أَنَّ الرَّبَّ لا يَنظُرُ كما يَنظُرُ الإِنْسانِ، فإنَّ الإِنْسانِ إِنَّما يَنظُرُ إلى الظَّواهِر، وأَمَّا الرَّبُّ فإِنَّه يَنظُرُ إلى القَلْب" (1 صموئيل 16: 7). رؤية الله تتجاوز حدود الإِنْسانِ ومعاييره. النظرة" الإلهيّة، تتَّجه إلى "قلب الإِنْسانِ" لا تتوقف مثلنا على السطح الظاهري أو الخارجي بل ترى أدق ما بالإِنْسانِ وما لا يستطيع الإنسان من رؤيته. نظرة يسوع نابعة من قلبه ومرتكزة على القلب البشري. والقلب هو مكان التأمل والذكاء وهو مركز الإِنْسانِ والمكان الذي يتخذ فيه القرارات واللقاء مع الله في الإصغاء إلى كلمته. ويسوع لا يزال يطرح علينا حتى يومنا الحاضر نفس سؤال "أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنْسانِ؟". 36 أَجاب: ((ومَن هو. يا ربّ، فأُومِنَ به؟)) تشير عبارة " مَن هو" إلى فهم الرجل الَأعْمى معنى لقب "ابن الإِنْسانِ"، ولكنه لا يعَرَفَ من هو. وبما انه اعترف بيسوع انه نبي فهو قادر أن يُعلمه من هو. سؤاله هذا هو شبيه بسؤال شاوُلَ المُسَمَّى الطَّرَسُوسيّ "مَن أَنتَ يا ربّ؟"(أعمال الرسل 9: 5). تشير عبارة "يا ربّ" في الأصل اليوناني Κύριε (معناها يا سيد) إلى احترام الَأعْمى ليسوع وتوقيره. أمَّا المسيحيون فيترجمونها "يا رب". 37 قالَ له يسوع: ((قد رَأَيتَه، هو الَّذي يكَلِّمُكَ)). تشير عبارة "هو الَّذي يكَلِّمُكَ" إلى إعلان يسوع انه المسيح تمامَا، كما كلّم المرأة السامرية قائلا لها "أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ" (يوحنا 4: 26). وكأن يسوع يقول له: إنك تشاهد المسيح الآن بعينيك وتسمع صوته بأذنيك". فيسوع قريب من الإِنْسانِ، كما يقول الرَّسول بولُس: لا تَقُلْ في قَلْبِكَ: مَن يَصعَدُ إلى السَّماء؟ (أَي لِيُنزِلَ المسيح) أَو: مَن يَنزِلُ إلى الهاوِيَة؟ (أَي ليُصعِدَ المسيحَ مِن بَينِ الأَموات) (فماذا يَقولُ إِذًا؟ ((إِنَّ الكَلامَ بِالقُرْبِ مِنكَ، في فَمِكَ وفي قَلبِكَ" (رومة 10: 6-8). 38 فقال: ((آمنتُ، يا ربّ)) وسجَدَ له. تشير عبارة "آمنتُ، يا ربّ " إلى الَأعْمى الذي لم يستردَّ بَصَر عينيه فحسب، إنَّما استردَّ أيضا بصيرته الرُّوحيَّة حين وجد يسوع، فأعترف به سيداً فنبيًا ثم رَبًا، على مثال اعتراف المرأة السامرية (يوحنا 4: 5-42)؛ ولا بدَّ من أنه كان مستعداً لهذا الإيمان بفعل الروح القدس الذي في قلبه وبتأمله في المعجزة التي صنعها يسوع له. أمَّا عبارة "آمنتُ" في الأصل اليوناني Πιστεύω (معناها "الحظوة بالاستقرار" هو نفس الفعل في العبرية אֱמוּנָה: "يؤمن" يعني "الاتكاء على"، "الاعتماد على") فتشير إلى الاتكال على الله وعلى كلمته التي بها سيتمكَّن الإنسان من الاستقرار بعد مروره بالشِّدة، وهكذا نستطيع أن نترنَّم مع صاحب المَزامير "نُعايِنُ النُّور بِنُوركَ (مزمور 36: 9)؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس "عَرَفَ الَأعْمى يسوع ليس فقط كابن الإِنْسانِ كما اعتقد قبل ذلك، بل ابن الله أيضًا الذي أخذ جسدنا". ونحن ما الذي نستطيع أن نراه في المسيح ما لم نكن نستطيع رؤيته من قبل؟ أمَّا عبارة " يا ربّ" في الأصل اليوناني κύριε "(معناها يا سيد) فتشير إلى اسم المُخلص يسوع المسيح في الجماعة المسيحية بعد قيامته، كما جاء في تعليم بولُس الرَّسول "وجُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات، أَلا وهو يسوعُ المسيحُ ربّنا" (رومة 1: 4). وهذا الاسم يتضمن احتراما وثقة من قبل الذين يقتربون من يسوع وينتظرون منه عونا متل المرأة السامرية (يوحنا 4: 11)، أو شِفاء مثل الأبرص الذي يَدنو من يسوع " فيَسجُدُ لَه ويقول: ((يا رَبّ، إِن شِئتَ فأَنتَ قادِرٌ على أن تُبرِئَني (متى 8: 2) ويعبّر هذا الاسم عن الاعتراف بسر يسوع الإلهي، كما جاء في بشرى الملائكة للرعاة " وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ "(لوقا 2: 11). أمَّا عبارة "سجَدَ له" فتشير إلى عمل تعبدي، إذ قدّم الَأعْمى ليسوع سجودًا لائقًا بالعبادة لله. فإعلان الإيمان أدَّى به إلى السجود، أي العبادة بالروح والحق. لذلك يطلب بطرس الرَّسول من المؤمنين "انمُوا في النِّعمَةِ وفي مَعَرَفَةِ رَبِّنا ومُخَلِّصِنا يسوعَ المسيح" (2 بطرس 3: 18). هذه آية هي خلاصة النص الإنجيلي الذي نحن بصدده. 39 فقالَ يسوع: ((إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَأعْمى الَّذينَ يُبصِرون)). تشير عبارة "إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ" إلى دينونة عَمى اليَهود لأنهم أبوا أن ينظروا الحق. والدينونة هي نتيجة حتمية لمجيء المسيح "لِأَنَّ الآبَ لا يَدينُ أحَداً بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلاِبْن "(يوحنا 5: 22). يُظهر المسيح بالدينونة ما هو في القلوب، ويميّز الأبرار من الأشرار؛ أنه نُور، والنُّور حين يظهر يكشف من معه ومن ضده، "ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل " (لوقا 2: 24). أمَّا عبارة " لإِصدارِ حُكْمٍ " في الأصل اليوناني κρίμα (معناها دينونة) فتشير إلى مجيئين: لم يأتِ المسيح في مجيئه الأول ليُدين، بل ليُخلِّص، ولكن أعمال الإِنْسانِ تُدينه. وأمَّا في مجيئه الثاني فأتى يسوع للدينونة لا للخلاص. والدينونة هي الانفصال عن المسيح، والمسيح هو النُّور والحَياة والفرح والسلام والمجد. أمَّا عبارة "أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَأعْمى الَّذينَ يُبصِرون " فتشير إلى انقلاب في المواقف. فعبارة "يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون " تشير إلى العُمْيان الذين يؤمنون بيسوع المسيح فيُشفون ويبلغون معَرَفَة الوحي، كالَأعْمى الذي شفاه يسوع والمرأة السامرية والمتواضعين هؤلاء الذين نالوا البصيرة الروحية فروا طريق الحق والخلاص. أمَّا عبارة " ويَأعْمى الَّذينَ يُبصِرون " فتشير إلى الفِرِّيسيِّينَ المتباهين بالنُّور، وحكماء في أعين أنفسهم (لوقا 10: 21)، ومدَّعين أنَّ لديهم "مِفتاحِ المَعَرَفَة" (لوقا 11: 52) لكنهم عاجزون عن رؤية يسوع الذي يأتي بنُور الخلاص "نُور العالَم" (يوحنا 9: 5) وينكرونه ليس جهلاً ولكن تجاهلاً للحقيقة. فهم يغلقون على أنفسهم للأبد في الظلمات والهلاك، كما صرّح يسوع " مَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد"(يوحنا 3: 17). 40 فسَمِعَه بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ الَّذينَ كانوا معَه فقالوا له: ((أَفنَحنُ أَيضاً عُمْيان؟)) عبارة " الفِرِّيسيِّينَ " مشتقة من الآرامية הַפְּרוּשִׁים (معناها المنعزلون) تشير إلى إحدى فئات اليَهود الرئيسية الثلاث مع الصدُّوقيين والأسِّينيين. الفِرِّيسيُّونَ هم قادة اليَهود في الأمور الدينية. وقد حصروا الصلاح في طاعة الشَّرّيعَة، فجاءت ديانتهم ظاهرية وليست قلبية داخلية. واشتهر معظمهم بالرِّياء فوبَّخهم السيد المسيح بشدِّة على ريائهم وادعائهم البرّ كذباً وتحميلهم الناس أثقال العرضيات دون الاكتراث لجوهر الشَّرّيعَة (متى 5: 20 و16: 6 و11 و12 و23: 1ـ 39). والغريب انهم هنا يتكلمون مع الجميع بشأن الَأعْمى المُعافى إلا معه. إنهم يتكلمون عنه ولكن ليس معه مباشرة. أمَّا عبارة " أَفنَحنُ أَيضاً عُمْيان؟" فتشير إلى استفهام من يسوع يدل على نوع من التهكم كأنهم يقولون نحن علماء الشَّرّيعَة أتحسبنا عميان بالروح. أدراك الفِرِّيسيِّونَ أنه يتحدث عن العَمى الروحي، فسألوه إن كان يقصدهم بهذا. وهذا دليل على كبريائهم وترفُّعهم على الآخرين، فهم يشعرون أنَّهم حكماء وأذكياء، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "قول الفِرِّيسيِّينَ للسيد المسيح " أَفنَحنُ أَيضاً عُمْيان؟" على نحو ما قالوا في غير هذا الموضع: "إننا ذرية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط؛ إننا لم نولد في زنى" (يوحنا 8: 33، 41) هكذا قالوا الآن". وهم نسوا ما قاله بولُس الرَّسول "وإِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ كُلَّ ما تَقولُه الشَّرّيعَة إِنَّما تَقولُه لِلَّذينَ هم في حُكْمِ الشَّرّيعَة، لِكَي يُخرَسَ كُلُّ لِسان ولِكَي يُعَرَفَ العالَمُ كُلُّه مُذنِبًا عِندَ الله" (رومة 3: 19). 41 قالَ لَهم يسوع: ((لو كُنتُم عُمْياناً لَما كانَ علَيكُم خَطيئة. ولكِنَّكُم تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر فخَطيئَتُكُم ثابِتَة)). تشير عبارة " لو كُنتُم عُمْياناً لَما كانَ علَيكُم خَطيئة " إلى عفو عَمى الجهل، إذ لو كان الفِرِّيسيُّونَ عُمْيانا على مثال الرجل الأعمى الذي شُفى، لكانوا بلا خطيئة مثله. لان المسؤولية على قدر الإدراك والمعَرَفَة. أمَّا عبارة " تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر" فتشير إلى اعتراف الفِرِّيسيِّينَ أنَّ لهم وسائط معَرَفَة الحق والنبوءات وهم يعتمدون بعُجب على ما عندهم، ومع ذلك فهم لا يؤمنوا بيسوع الذي يستطيع وحده أن ينتشلهم من الخَطيئَة بسبب عمى الكبرياء والاكتفاء الذاتي الذي يمنع من رؤية الحق، لذلك يحلُّ عليهم غضب الله "مَن آمَنَ بِالابن فلهُ الحَياة الأَبديَّة ومَن لم يُؤمِنْ بالابن لا يَرَ الحَياة بل يَحِلُّ علَيه غَضَبُ الله" (يوحنا 3: 36). أمَّا عبارة "خَطيئَتُكُم ثابِتَة" فتشير إلى دينونة أعظم للفَرِّيسيِّين بسبب ما لهم من امتيازات، لكنهم ادَّعوا أنهم مُبصرون، قادرون على إدراك الحق وتمييزه عن الباطل ويفهمون الشَّرّيعَة والنبوات، لذا أغلقوا على أنفسهم، وصارت خطيتهم ثابتة. وتقوم خطيئتهم على رفض رؤية العمل الذي يقوم به الله من خلال يسوع ابنه الوحيد، وادعاءهم أنَّهم يدركون أفضل من المسيح. فمثلهم هو مثل فِرعَون الذي لم يريد أن يرى عمل الله في الخَوارِقَ التي صنعها موسى وهارون أَمامَه بل قَسَّى قَلبَه (خروج 11: 10). والجدير بالملاحظة أنَّ رواية شِفاء الَأعْمى تبدأ وتنتهي بالإشارة إلى علاقة الخَطيئَة بالعَمى. خطيئة الفريسيين باقية عليهم لأنهم باختيارهم عَمُوا أنفسهم عن المسيح، ولم يؤمنوا به، لذلك تعتبر خطيئتهم تجديفًا على الروح القدس الذي لا مغفرة لها، كما صرّح يسوع "أَمَّا مَن جَدَّفَ على الرُّوحِ القُدُس، فلا غُفرانَ له أبداً، بل هو مُذنِبٌ بِخَطيئةٍ لِلأَبَد (مرقس 3: 29). ويتضَّح أن الخاطئ الحقيقي هم أولئك اليَهود العُمْيان المتكبرون الذين لم يؤمنوا بيسوع النبي وابن الإنسان وابن الله الحي القادر على الشِّفاء. ويتضح أيضا أنَّ يسوع يبدأ كلامه بإجابة تلاميذه عن العَمى الجسدي الذي لا علاقة بين العَمى الجسدي والخَطيئَة "لا هذا خَطِئَ ولا والِداه" (يوحنا 9:3)، وينتهي كلامه مع الفِرِّيسيِّينَ مُبينا العلاقة بين الخَطيئَة والعَمى الروحي " لو كُنتُم عُمْياناً لَما كانَ علَيكُم خَطيئة. ولكِنَّكُم تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر فخَطيئَتُكُم ثابِتَة". الخَطيئَة إذًا لا تكمن في المَرَض، بل في رفض الإيمان بكلمة الله، والإيمان برحمته تعالى التي تعمل دائم حتى يوم السبت. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 9: 1-41)، نستنتج انه يتمحور حول معجزة شِفاء الرجل الَأعْمى، وهي معجزة من سبع معجزات اختارها يوحنا الرَّسول لتدوينها في إنجيله، وهي: تحويل الماء خمرًا في عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 1-11) وشِفاء ابن عامل الملك (يوحنا 4: 46: -54)، وشِفاء مقعد بركة باب الغنم (يوحنا 5: 1-9)، ومعجزة تكثير الخبز والسمكتين (يوحنا 6: 1-21، وإحياء لعازر (يوحنا 11: 1-44). وتُبين معجزة شِفاء الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه آية من آيات أعمال الله في ابن الإِنْسانِ، يسوع المسيح، وآية للانتفال من الظُلمَة إلى النُّور. 1) شِفاء الَأعْمى: آية من آيات عمل الله انفرد إنجيل يوحنا برواية معجزة شِفاء الَأعْمى، وهي واحدة من المعجزات الثلاث التي ذكر أن يسوع صنعها في منطقة اليَهودية. وهي إحدى المعجزات التي توقع اليَهود أن يصنعها يسوع عند مجيئه بناء على نبوءة أشعيا "وفي ذلك اليَومِ يَسمعُ الصُّمُّ أقْوالَ الكِتاب وتُبصِرُ عُيونُ العُمْيان بَعدَ الدَّيجورِ والظَّلام " (أشعيا 29: 18). وهذه المعجزة هي آية أوردها يسوع على انه المسيح بقوله إلى تلاميذ يوحنا المعمدان" اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون: العُمْيان يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون"(متى 11: 4-5). أثبت يسوع لليهود علنًا في عيد المظال وأَمامَ الكثيرين أنه "نُور العالم" والمُرسل من الله عن طريق شفائه للمولود الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه الذي كان يتواجد حول الهيكل في أُورشَليم. فقول يسوع انه "نُور العالم" هو بيان نتيجة إيمان البعض به ورفض البعض إيَّاه. فالَأعْمى آمن به فانتقل من ظُلمَة العين إلى النُّور العين، ثم من الظُلمَة الروحية إلى النُّور الروحي. قدّم يوحنا الإنجيلي البشير هذا الشِّفاء كآية من آيات عمل الله. وقد وضع يسوع عمله في خطة عمل الله، وعمل الله يعني نشاطه الخلاّق وتدخلاته في سبيل شعبه، كما صرّح يسوع " لا هذا خَطِئَ ولا والِداه، ولكِن كانَ ذلك لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله" (يوحنا 9: 3). ويعلق القدّيس ايرينيوس اللِّيونيّ " عندما شفى يسوع الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه، لم يُعِدْ له بَصَره بواسطة كلمة فقط، إنَّما من خلال عمل قامَ به. هو لم يفعلْ ذلك صدفةً أو دون سبب، بل ليُظهرَ يد الله التي جبلَتْ الإِنْسانِ منذ البدء. فيسوع "هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى وبِكْرُ كُلِّ خَليقَة... ففيه خُلِقَ كُلُّ شيَء... كُلُّ شيَءٍ خُلِقَ بِه ولَه» (قولسي 1: 15–16) (ضدّ الهرطقات، الجزء الخامس) عندما ردّ يسوع إلى الَأعْمى بَصَره، أوضح انه أدَّى عمل الذي أرسله " يَجِبُ علَينا، مادامَ النَّهار، أَن نَعمَلَ أَعمالَ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 9: 4)، لذا لا تهدف أعمال المسيح إلاَّ لإظهار عمل الآب "أَرَيتُكم كثيراً مِنَ الأَعمالِ الحَسَنةِ مِن عِندِ الآب" (يوحنا 10: 23). ويسوع يعمل أعمال الله على إنها أعمال آبيه السماوي. ولم يخطئ رد فعل اليَهود في هذا "اشْتَدَّ سَعْيُ اليَهود لِقَتلِه، لأَنَّه لم يَقتَصِرْ على استِباحَةِ حُرمَةِ السَّبْت، بل قالَ إِنَّ اللهَ أَبوهُ، فَساوى نَفْسَه بِالله" (يوحنا 5: 18). أعمال الله التي يأتي بها يسوع تكشفه كابِن الله. وهذا هو جوهر المعجزة: وحدة عمل ووحدة كيان بين الآب والابن. إن الابن والآب واحد، فمن رأى عمل الابن رأى عمل الآب، ومن رآه رأى الآب، كما قال يسوع إلى تلميذه فيلبس "أَلا تُؤِمِنُ بِأَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ؟ إنَّ الكَلامَ الَّذي أَقولُه لكم لا أَقولُه مِن عِندي بلِ الآبُ المُقيمُ فِيَّ يَعمَلُ أَعمالَه. صَدِّقوني: إِنِّي في الآب وإِنَّ الآبَ فيَّ وإِذا كُنتُم لا تُصَدِّقوني فصَدِّقوا مِن أَجْلِ تِلكَ الأَعمال"(يوحنا 14: 10-11). لهذا السبب، رؤية آيات أعمال يسوع هي بلوغ الحد الأقصى في الإيمان، التي شهد لها الَأعْمى على مراحل: في المرحلة الأولى: اللقاء بيسوع الإنسان: شهد الَأعْمى أنَّه التقى بالرجُل الَّذي يُقالُ لَه يسوع " (يوحنا 9: 11). اللقاء هو نقطة البداية الأساسية لكل مسيرة إيمان حيث نلتقي بيسوع في إنسانيته ونعلم أنّ الله لمّ يره أحد من قبل وكشف لنا يسوع عنه من خلال إنسانيته " إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه"(يوحنا 1: 18). في المرحلة الثانية: يسوع رجل الله: بعد لقائه بيسوع الإِنْسانِ، اكتشف ذلك الرجل الَأعْمى إنّه رجل الله، أن ما يفعله هو بحسب إرادة الله وكلمته. أعلن الَأعْمى انه ما من أحد في إسرائيل حتى اليوم كان "رجل الله" بمستوى يسوع. في نهاية الاستجواب الثاني، صرّح الَأعْمى بهذه الحقيقة "فلَو لم يَكُن هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لَما استَطاعَ أَن يَصنَعَ شَيئاً" (يوحنا 9: 33). المرحلة الثالثة: يسوع نبي. اعترف الَأعْمى أنَّ يسوع نبياً، وذلك في ختام الاستجواب الأول الذي فرضه الفِرِّيسيُّونَ عليه بقولهم " أَنتَ ماذا تَقولُ فيه وقَد فَتَحَ عَينَيكَ؟ قال: إِنَّهُ نَبِيّ " (يوحنا 9: 17). المرحلة الرابعة: يسوع ابن الإنسان. تتكلل مسيرة الَأعْمى بالإيمان بـ "ابن الإِنْسانِ" (يو 9: 35). أي الإيمان بأن يسوع ينتمي إلى عالم الله. ولم يكن لقب "ابن الإِنْسانِ" في زمن يسوع يشير إلى الإنسانية بل إلى الألوهية التي تنتمي إلى العالم الإلهي. وهي مرحلة الاضطهاد بسبب الشهادة التي قام الَأعْمى بتأديتها للمسيح. فبلغ الَأعْمى المُعافى أقصى درجات شهادته فأحتمل الاضطهاد وطُرد من المجمع من أجل يسوع. وقد تنبأ يسوع عن الاضطهاد " أُذكُروا الكَلامَ الَّذي قُلتُه لَكم: ما كانَ الخادِمُ أَعظمَ مِن سَيِّده. إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً" (يوحنا 15: 20) في العهد القديم والأدب الرؤيوي اليَهودي (سفر دانيال) نرى " ابن الإِنْسانِ" يظهر على غمام السماء ويمارس الدينونة أو القضاء في الأزمنة الأخيرة. وهذه هي السلطة التي أولاها الآب للابن "أَولاهُ سُلطَةَ إِجْراءِ القَضاء لأَنَّه ابنُ الإِنْسانِ" (يوحنا 5: 27). وفي الأعمال التي يعملها يسوع، مُنح الإِنْسانِ القدرة على اتخاذ القرار وباتت مسالته مسالة حياة أو موت "مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياة الأَبَدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوت إلى الحَياة" (يوحنا 5: 24). وبعد أن طرد اليَهود الَأعْمى لَقِيَه يسوع وقالَ له: "أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنْسانِ؟"(يوحنا 9: 39). وبهذا السؤال أوجز يسوع دوره في الدينونة والقضاء بقوله " إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَأعْمى الَّذينَ يُبصِرون" (يوحنا 9: 39). فأعمال يسوع سرّ يحتجب عُمقه عن الذين لم يؤمنوا به. وبعد أنَّ شُفى المقعد يوم السبت، القى اليَهود مسؤولية الأمر على يسوع فأجابهم " فاشْتَدَّ سَعْيُ اليَهود لِقَتلِه، لأَنَّه لم يَقتَصِرْ على استِباحَةِ حُرمَةِ السَّبْت، بل قالَ إِنَّ اللهَ أَبوهُ، فَساوى نَفْسَه بِالله" (يوحنا 5: 18). المرحلة الخامسة: يسوع رَبٌّ. في هذه المرحلة الأخيرة رأى الَأعْمى يسوع في قوة عمله فشهد ليسوع ربًا والهًا "فقال: ((آمنتُ، يا ربّ)) وسجَدَ له" (يوحنا 9: 35-38). فالاطلاع على يسوع كآية بصورة صحيحة تؤدِّي إلى رؤية مجد المسيح وإلى الإيمان به، كما ورد في إنجيل يوحنا "لمَّا كانَ في أُورشَليم مُدَّةَ عيدِ الفِصْح، آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِها" (يوحنا 2: 32). يعلق القدّيس أفرام السِّريانيّ " وفي شفاء الأعْمى، كانت علامةٌ مرسومةً: الرّب يسوع، ابن الله الخالق. "(شرح "الدِياطِسَّرون") إن الإيمان، الذي هو انضمام الإِنْسانِ بثقة الشخص الابن، هو الشَّرّط الوحيد لنيل الحَياة الأبدية، وأكد ذلك يوحنا الإنجيلي "لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحَياة بِاسمِه" (يوحنا 20: 31). أتى يسوع لملاقاته وكشف له عن كونه " ابن الإِنْسانِ"، أي ذاك الذي أتى من السماء ليجمع شمل البشر ويرتفع بهم إلى المشاركة في حياة الله، كما صرّح "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَرونَ السَّماءَ مُنفَتِحَة، وملائِكَةَ اللهِ صاعِدينَ نازِلينَ فَوقَ ابنِ الإِنْسانِ" (يوحنا 1: 51). فإذا كان الابن يُدْعى ابن الإِنْسانِ، لانّ له سلطة الدينونة. "أَفنَحنُ أَيضاً عُمْيان؟" (يوحنا 9: 41). ونحن ماذا يتوجب علينا أن نزيله من حياتنا لننال نعمة البَصَر والبصيرة؟ ونستنتج مما سبق التوصيات التالية: أولا: انه لا يجوز أن نلوم المصابين ونحتقرهم كأن الله قد غضب عليهم كما فعل الفِرِّيسيُّونَ بالرجل الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه، بل واجبنا أن نشفق عليهم؛ ثانيا: لا يجوز أن ننسب كل مصيبة إلى خطيئة شخصية، كما عمل أصدقاء أيوب البار معه "فقَد أَثموا أيّوب" (أيوب 32: 3). قد يسمح الله بحكمته بالمصائب لخير أعظم لتكون وسيلة إلى إظهار رحمته وقوّته ومحبته وتمجيده تعالى، وواسطة نعمة لنا " فإِنَّ الَّذي بُحِبُّه الرَّبُّ يُوَبِّخُه كأَبٍ يُوَبِّخُ ابنًا يَرْضى عنه"(أمثال 3: 12) "إنَّ كُلَّ تَأديبٍ لا يَبْدو في وَقتِه باعِثًا على الفَرَح، بل على الغَمّ. غَيرَ أَنَّه يَعودُ بَعدَ ذلِكَ على الَّذينَ رَوَّضَهم بِثَمَرِ البِرِّ وما فيه مِن سَلام (عبرانيين 12: 6، 11)، وفي موضع آخر يقول سفر الرؤيا " إِنِّي مَن أَحبَبتُه أُوَبِّخُه وأُؤَدِّبُه فكُنْ حَمِيًّا وتُبْ" (رؤية 3: 19). ثالثا: يتوجب على المصابين التسلح بالصبر، لأنه ربما لم يظهر قصد الله من مصائبهم إلاَّ بعد زمان طويل ربما لم يظهر لهم إلاَّ بعد المَوت. 2) شِفاء الَأعْمى آية للانتقال من الظُلمَة إلى النُّور في إنجيل يوحنا، قدّم يسوع نفسه أنه الماء الحي (يوحنا 4: 10) ثم خبز الحَياة (يوحنا 6: 35) واليوم يُقدِّم نفسه نُور العالم "ما دُمتُ في العالَم. فأَنا نُور العالَم"(يوحنا 9: 5). اعترف يسوع بواقع المَرَض وحاول أن يُشفيه مُقدِّمًا للمريض آية أو علامة للوصول إلى النُّور المسيح الحقيقي، الذي هو السبيل الوحيد للخلاص " أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة (يوحنا 8: 12). إنّ النُّور هو عطيَة السيد المسيح لمن يطلبه، كما نرى ذلك في نص الرجل الَأعْمى حين تفتّح بَصَره وعَرَفَ الرب. طلب أن يُبصر الطَّريق ليسير مع الطَّريق وفي الطَّريق وبالطَّريق إلى نهاية الطَّريق، طريق الحق والحَياة، لأنَّه، أي يسوع، هو وحده الطَّريق والحق والحَياة. أصاب المثل القائل "العيون نوافذ العقل والروح". ولما نال الَأعْمى شِفاء البَصَر، انفتح قلبه وعقله وبصيرته للحقيقة عن المسيح، معترفا به: " آمنتُ، يا ربّ وسجَدَ له" (يوحنا 9: 34). ولمَّا شهد بإيمانه ليسوع أنه نُور العالم، وابن الإِنْسانِ والدَّيان، انتقل من الظُلمَة إلى النُّور، من ظُلمَة العَمى إلى نُور البَصَر، ومن المَوت إلى الحَياة. وموضوع النُّور والظُلمَة منتشرة في إنجيل يوحنا. أشرق النُّور في الظلمات (يوحنا 1: 5) وشهد له يوحنا المعمدان "لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور."(يوحنا 1: 8). فعندما جاء يسوع إلى العالم، حقَّق الأمل المسيحاني بتمكين العُمْيان من استعادة البَصَر الذي هو أحد أعمال المسيح المنتظر، كما تنبأ أشعيا النبي "في ذلك اليَومِ تُبصِرُ عُيونُ العُمْيان بَعدَ الدَّيجورِ والظَّلام " (أشعيا 29: 18). وبما أنَّ يسوع هو النُّور الآتي إلى العالم ففي إمكانه أن يُنير العالم، كما صرّح "جِئتُ أَنا إلى العالَمِ نوراً فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام" (يوحنا 12: 46). ورسالته هي إنارة لا للعيون فقط، بل للقلوب أيضا. أصبح مجيء المسيح أمراً حاسماً من خلال شفاء الأعمى. فالَأعْمى مُنذُ مَولِدِه أَبصر بعيني جسده. وأَبصر بنُور الإيمان: حين اعترف بيسوع "ابن الإِنْسانِ" وسجد له. وبلغ إيمانه تدريجيا: بقوله انه إنسان" إنَّ الرَّجُلَ الَّذي يُقالُ لَه يسوع" (يوحنا 9: 11) ثم " إِنَّهُ نَبِيّ" (يوحنا 9: 17) ثم " هذا الرَّجُلُ مِنَ الله"(يوحنا 9: 33) حتى بلغ ذروة الإيمان بقوله " آمنتُ، يا ربّ انه المسيح المنتظر (يوحنا 9: 38). فان يسوع كون نُور العالم مكّن الَأعْمى من رؤية ضوء الشمس الحقيقي بعين جسده ورؤية شمس البِرَّ بإيمانه. أمَّا جيران الَأعْمى، الذين هم يعَرَفَون الَأعْمى تمام المعَرَفَة، فهم شهود عيان لِما حدث، لكنَّهم بسبب عظمة المعجزة وعدم توقعهم لحدوثها، أبدوا دهشة وتشككًا؛ وأمَّا والداه آمنا، لكنهما خافا أن يعترفا بالمسيح خشية طردهما من المجمع، أمَّا في نظر الفِرِّيسيِّينَ مجيء يسوع نُور العالم فإنه أمر مزعج، لأنَّهم منغمسون في العَمى الداخلي ولا يبصرون الحقيقة، كما صرّح يسوع " إِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّور جاءَ إلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة. فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه" (يوحنا 3: 19-20). أنّ الَأعْمى الحقيقي ليس من فقد النظر بالعين، لأن هذا الَأعْمى، رغم انه فقد النظر بعينيه، إلا أنّه يُبصر بقلبه وعقله وفكره، وما قوله ليسوع: "يا ابن الله"، في وسط الجموع، إلا تأكيداً على أنّ قلبه وفكره كانا مُستنيرين ومُبصرين. إنه آمن بالمسيح. جاء يسوع إلى العالم كما أعلن:"إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حكم" (يوحنا 9: 39). الدينونة هي النتيجة الحَتْمية لمَجيء المسيح على الأرض كي "يكون نُور العالم"، “وأَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَأعْمى الَّذينَ يُبصِرون": من يقبلون إلى النُّور ينالون الإيمان، وهكذا كان موقف وَالِدي الَأعْمى منذ ولادته الذي انتقل من العَمى إلى رؤية الإيمان ومعَرَفَة يسوع المسيح، وأمَّا الذين يعتبرون انهم يمتلكون الحقيقة وأظهروا عدم الإيمان والإنكار والحقد مثل الفِرِّيسيِّينَ فهم يبقون في ظُلمَة الشَّرّ والخَطيئَة "فخَطيئَتُهم ثابتة". فيما أظهر الرجل الَأعْمى إيمانه بيسوع اظهر الفِرِّيسيُّونَ عدم الإيمان والإنكار والتحيّز، فهم لا يريدون أن يروا ويَظنون أنهم يَرون، ويعتبرون انهم يمتلكون الحقيقة، وهم مراؤون في مفهوم يوحنا الإنجيلي، إذ يستبدل يوحنا البشير لقب مرائي بلقب َأعْمى؛ فخطيئتهم تقوم على قولهم "إننا نرى" في حين أنهم عميان (يوحنا 9: 40). فعدم إيمان الفِرِّيسيِّينَ لا يرتكز على عدم كفاية البراهين، بل على الحقد والغيرة وتفضيل الظلام، فهم يُعلنون موقفهم السلبي تجاه يسوع، ويرفضون الإيمان بآية يسوع وعمله في شِفاء الَأعْمى، فلم يوصلوا إلى جوهر السِّر الذي يُمكنهم من القول " إني أرى"، لذا جاء حُكم المسيح "إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَأعْمى الَّذينَ يُبصِرون" (يوحنا 9: 39). فهم عميان يحكمون على نفوسهم، ويسجنون نفوسهم في ظُلمَة الشَّرّ. ادعى الفِرِّيسيُّونَ أنهم مُبصرون. بادعائهم هذا صاروا في غباوة بلا رجاء، وحكموا على أنفسهم، أمَّا الأعمى إذ اعترف بعماه فانفتح أَمامَه باب الرجاء وتمتع ببصيرة فائقة ونعِم بالحَياة الأبدية في المسيح يسوع. تجاه يسوع، لا تتمَّ الاستنارة بالإيمان إلاَّ للذين يعلمون أنهم عُمْيان. فلا بدَّ لمَن يريد أن يرى مجد المسيح أن ينسى علمه. أمَّا الذين يقولون إنهم يعلمون ويرون، فإنهم لا يضعون أنفسهم موضع الاستنارة، لذلك تظل خطيئتهم ثابتة، كما صرّح لهم يسوع: "لو كُنتُم عُمْياناً لَما كانَ علَيكُم خَطيئة. ولكِنَّكُم تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر فخَطيئَتُكُم ثابِتَة"(يوحنا 9: 41). أمَّا الذين يتقبلون نُور المسيح، مثل هذا الَأعْمى، فهم ينتقلون من العَمى إلى رؤية الإيمان وفي النهاية يكتشفون يسوع هو المسيح "لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحَياة بِاسمِه" (يوحنا 20: 31). فمن يريد أن يقدِّم نفسه للمسيح، عليه أن يَطرح على نفسه السؤال الذي طُرح يسوع على الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه "أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنْسانِ؟" (يوحنا 9: 35). ويعلق البابا فرنسيس " الَأعْمى الذي شُفي وأصبح يرى بعيني الجسد والروح هو صورة لكل معمّد، إذ تمَّ انتشاله من الظلمات إلى نُور الإيمان" (عظة 22/3/2022). الخلاصة يدل إنجيل شِفاء الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه إلى مسيرة إيمانه بين الشك واليقين، بين ضعفه وقوته، نظرته السطحيّة والباطنيّة، وذلك من خلال نظرة وحوار مع يسوع. وكما أمنت المرأة السامرية التي ترى المسيح المنتظر في الرجل الذي يتحدث معها قائلا "أنا هو، أنا الذي يكلمك" (يوحنا 4: 26)، كذلك آمن الرجل الَأعْمى مُنذُ مَولِدِه عندما وجّه له يسوع كلمته الأخيرة: أتؤمن أنت بابن الإِنْسانِ؟" فقال: "آمنت، يا رب" وسجد (يوحنا 9: 35-38). لقد سمع يسوع وآمن وسجد، غسل وجهه فرأى، ولم يستردَّ بَصَر عينيه فحسب، إنَّما بصيرة قلبه، فتغيّرت حياته، إذ أعلن إيمانه بالمسيح: إنسانا فنبيّاً ثم ربّاً وأخيرا ابن الإِنْسانِ. فنظرة يسوع لقلب الَأعْمى، حملت الإيمان لقلبه فتغيرت حياته ونال نعمة "الرؤية" الحقيقية لذاته ولله وللآخر. من كان َأعْمى لديه يقين واحد فقط: إنّه كان أعْمى وها هو يُبصر الآن (يوحنا 9 :25). عبر الأعْمى من الجهل إلى المعَرَفَة خلال مسيرة إيمانيّة بسبب اللقاء مع نُور المسيح الذي غيّر حياته. إنّه اليقين الوحيد للمؤمن بيسوع. كذلك ثقتنا بأنّ اللقاء مع يسوع غيّر وسيغّير حياتنا فنعبر من جهل الظلمات إلى نُور الإيمان. أظهر يسوع حقيقة رسالته في هذه المعجزة انه نُور العالم. فالَأعْمى الذي شُفي قد آمن بيسوع، أمَّا الفِرِّيسيُّونَ فلم يؤمنوا بل تثبَّتوا في رفضهم، إذ ثلاث مرات بالنص يؤكدون أنهم "يعَرَفَون": أن يسوع ليس من عند الله لأنه شفى في يوم السبت (يوحنا 9: 16)؛ وأنّه خاطئ (يوحنا 9: 24) 4)؛ أنّ الله كلم موسى (يوحنا 9 :28). لديهم الكثير من اليقين لدرجة أنه لا يوجد شيء يُمكن أن يُشككهم بخلاف قوّة الحقيقة الذي قالها الَأعْمى لثلاث مرات " أَعلَمُ أَنِّي كُنتُ َأعْمى وها إِنِّي أُبصِرُ الآن" (9: 12، 25). يحذرنا هذا الإنجيل من مثل الفريسين الذين هم يقينين بمعَرَفَتهم لكل شيء، ولكنهم غير مستعدِّين للقيام بأيّ مغامرة، فم يتوصلوا لمعَرَفَة حقيقة يسوع برويتهم له، بل استمروا في ارتداء قناع العَمى الباطني. فأدان يسوع عماهم بتعابير قاسية: انهم عميان ويجهلون " تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر فخَطيئَتُكُم ثابِتَة" (يوحنا 9: 41). هكذا ينقسم العالم إلى مؤمنين وغير مؤمنين: فريق يعترف بعماه فيؤمن ويقبل النُّور، وآخر يظن أنه مُبصر فيرفض الإيمان ويبقى في ظلمته، ويصير حضور يسوع وأعماله وآياته دينونة عليهم. يدعونا يسوع في لقائه مع الأعْمى إلى طلب نعمة الشِّفاء والتحرر من عَمى القلب! دعاء أيها الرب يسوع، إله المَطرودين والمرْذولين، تتطلع إلينا بعينيك كما تطلعت إلى المولود َأعْمى! اقلب ظلامنا نُوراً، واشفِ بحبك قلوبَنا وبصائرَنا! فتنفتح عيوننا معترفين أنك أنت هو النَّهار الذي لا يكف عن العمل! أنت النُّور الذي يُبدد الظُلمَة التي فيّنا! أنت النُّور المُشرق في داخلنا التي لا تقدر قوات الظُلمَة أن تقاومه. وأشرق عليّنا بنُورك البهي، فنصير أبناء النُّور فنسير مع المسيح على درب الخلاص، ونرى أبواب السماء مفتوحة أَمامَنا ترحب بنا! آمين. |
|