رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
رخاء الأشرار عندما أتذكر ارتاع، وأخذ جسدي رعدة [6]. لِمَاذَا تَحْيَا الأَشْرَارُ وَيَشِيخُون؟ نَعَمْ وَيَتَجَبَّرُونَ قُوَّةً [7]. أفاض الأصدقاء الثلاثة في الحديث عما يحل بالأشرار من نكبات وبؤس، أما أيوب فيدهش وينتاب جسده رعدة لما يراه أحيانًا من تمتع الأشرار بالخيرات حتى بلوغهم الشيخوخة، ولما ينالونه من قوة وسلطة وهم في تجبرٍ وقسوةٍ على الغير. لا ينكر أيوب حدوث هذا مع الأشرار أحيانًا. إنهم يحيون وهم سالمون (1 صم 25: 6)، بل وتمتد حياتهم حتى الشيخوخة، ويصير لهم أبناء وأحفاد، ويجمعون ثروات ضخمة، فنسمع في سفر إشعياء "الخاطئ يُلعن ابن مئة سنة" (إش 65: 20). ليس فقط قد تمتد أعمارهم إلى الشيخوخة، وإنما "يتجبرون قوة"، أي يرتفعون إلى مناصب السلطة والرئاسة. يسيء بعض الأشرار فهم طول أناة الله عليهم، ويحذرنا الكتاب المقدس من ذلك: "لا تقل قد أخطأت فأي سوء أصابني؟ فإن الرب طويل الأناة" (سيراخ 5: 4). "أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة" (رو 2: 4). * إن كنا لا نسقط تحت تأديب ولازلنا مستمرين في سلوكنا ذاته، فلنستخدم كلمة الرسول التي تسحرنا: "إن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة، ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب" (رو 2: 4-5). * "غير عالمٍ أنَّ لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة، ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب" (رو 2: 4-5). إن قلبك قد تقسَّى مثل قلب فرعون، لأن عقوبتك قد تأجلت، ولم تُضرب في الحال! أُرسلت الضربات العشرة على فرعون ليس كما من الله الغضوب، وإنما كما من أبٍ يحذر، وقد طال يوم الحنو عليه حتى رجع عن توبته (بعد كل ضربة). لكن حلّ به القصاص عندما اقتفى أثر الشعب في البرية، وفي حماسه دخل أيضًا البحر نفسه وراءهم. فكان هذا الطريق الذي به يتعلم الدرس أنه كان يلزم أن يهاب الله الذي تطيعه حتى عناصر الطبيعة. القديس جيروم يطالبنا القديس أمبروسيوس ألاَّ نحكم على البشر حسب الخيرات المقدمة لهم من قبل مراحم الله الذي بالحق يعتني بالكل؛ لأن هذا لا يعني أن الله لا يبالي بتصرفاتهم، أو أنه يجهل ما يفعلونه سرًا، أو لا يدرك ما في ضمائرهم، لكن ما يؤكد أنه مع فيض الخيرات التي توهب للأشرار إلاَّ أنهم بائسون لا يعرفون السعادة . نَسْلُهُمْ قَائِمٌ أَمَامَهُمْ مَعَهُمْ، وَذُرِّيَّتُهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [8]. يشير أيوب إلى بعض الخطاة الذين يتمتعون برؤية نسلهم المتكاثر. كثيرًا ما ينشغل المؤمنون وأيضًا حتى غير المؤمنين بالتساؤل: لماذا يسمح الله للأشرار بالصحة وطول العمر والغنى، وأيضًا التمتع بالسلطة والمراكز القيادية. هذا مع تمتعهم برؤية نسلهم يشاركونهم كل هذه البركات الزمنية. فإن الإنسان بسبب قصر حياته يظن أن عدالة الله يلزم أن تتحقق في هذا العالم، ويصعب عليه أن ينتظر يوم الرب العظيم ليرى تحقيق العدالة الإلهية. هذا وأنه يصعب للفكر البشري أن يتقبل طول أناة الله الفائقة، الذي ينتظر رجوع الأشرار عن شرورهم والعودة إلى الأحضان الإلهية. *يقدم أيوب إعلانه هذا لأصدقائه: "إن كنت أعاني من هذا الطريق بسبب خطاياي، فلماذا يحيا الأشرار؟ إنهم يشيخون في غنى أيضًا، نسلهم حسب مسرتهم، ذريتهم أمام أعينهم، بيوتهم في رخاءٍ، ليس فيهم خوف، لا تسقط عليهم عصا الله" . القديس أمبروسيوس بُيُوتُهُمْ آمِنَةٌ مِنَ الْخَوْفِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ عَصَا اللهِ [9]. إن كان صوفر قد أشار إلى مخاوف الخطاة المستمرة وانزعاجهم الدائم، إلاَّ أن أيوب يشير إلى بعض الخطاة الذين يحظون ببيوتٍ آمنة من المخاطر والمخاوف، والذين لا يمد الله عصاه عليهم. إذ تنشغل قلوب الأشرار بالبيوت المصنوعة من الطين والحجارة، وما تضمه من أثاثات، وما يُحفظ فيها من كنوزٍ، يعطيهم الرب سؤل قلوبهم، فيهبهم السلام الزمني المؤقت، ولا يقترب أحد إلى ممتلكاتهم وكنوزهم. أما الأبرار فإن ما يشغلهم البيت السماوي والمساكن العلوية، فيعطيهم الرب أيضًا سؤل قلوبهم. الأولون ينالون بفيضٍ من البركات الزمنية والأمان الوقتي، بينما الآخرون ينالون ميراثًا أبديًا لا يفسد ولا يفنى، ومجدًا سماويًا خالدًا. إنهم يتهللون، إذ يسمعون الصوت الإلهي: "أنا أمضي لأُعد لكم مكانًا، وإن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتي وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا معي" (يو 14: 2-3). لهذا يقول المرتل: "يعطيك (الرب) سؤل قلبك" (مز 37: 4). "شهوة قلبه أعطيته، وملتمس شفتيه لم تمنعه سلاه" (مز 21: 2). ثَوْرُهُمْ يُلْقِحُ وَلاَ يُخْطِئُ، بَقَرَتُهُمْ تُنْتِجُ وَلاَ تُسْقِطُ [10]. بعض الخطاة أغنياء ومقتنياتهم في تزايد، حتى ثيرانهم تنجح في تلقيح البقر لكي تحبل وتلد بكثرة، وحيواناتهم تتكاثر ولا تموت سريعًا بأمراضٍ مفاجئةٍ. شهوة قلب الشرير أن تلد حيواناته الكثير، ولا يكون بينها سقط واحد. أما أولاد الله فشهوة قلوبهم أن يتمتعوا بأبناء كثيرين في الرب، ولا يكون بينهم أحد هالكًا. إنهم يترقبون يوم الرب ليترنموا: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب" (إش 8: 18). أولاد الله ليس بينهم عقيم، بل الكل متائم، أي يلد كثيرين. ففي خطاب الرسول بطرس يوم العنصرة اِنضم إلى الكنيسة حوالي ثلاثة آلاف قبلوا الإيمان، وقدموا توبة، وتمتعوا بالميلاد الجديد بالمعمودية. ففي يوم واحد صار لبطرس الرسول آلاف من الأبناء ولدهم بإنجيل المسيح. وماذا نقول عن الرسول بولس الذي يكاد كل يوم أن يضم كثيرين إلى حظيرة الإيمان خلال كرازته بالقلب الناري الملتهب. إنه لا يكف عن أن يلد حتى وسط القيود، فيقول عن العبد الهارب اللص أنسيموس: "ولدته في قيودي" (فل 10). إن كانت الحيوانات في الكتاب المقدس غالبًا ما تشير إلى الجسد، فإن ما يشغل أهل العالم هو الأمور الجسدية لا الروحية. ينشغل الشرير بولادة الحيوانات، وينشغل المؤمن الحقيقي بميلاد البشر الروحي ليصيروا أبناء الله القدوس، حتى وإن كانت التكلفة هي القيود والسجن أو الموت. * كان أنسيموس يستحق كرامة عظيمة، إذ وُلد في صراعات بولس نفسها، في محنة من أجل المسيح . * لاحظوا التهاب قلب بولس. لقد كرز بالإنجيل وهو مقيد وتحت الجلد. آه، يا لطوباوية القيود، كيف تعمل بجهدٍ عظيمٍ في تلك الليلة، وكيف ولدت أبناء! حقًا يقول عنهم: "قد ولدْتُهم في قيودي". لاحظوا كيف يتمجد بولس! قد صار له أبناء خلال هذا الطريق يُحسبون في شهرة عظيمة. يا لمجد هذه القيود التي لا يُعبر عنها، إذ تهب بهاءً ليس فقط للذين ولدهم، بل وللذين وُلدوا بواسطته في هذه الظروف . القديس يوحنا الذهبي الفم يُسْرِحُونَ مِثْلَ الْغَنَمِ رُضَّعَهُمْ، وَأَطْفَالُهُمْ تَرْقُصُ [11]. يَحْمِلُونَ الدُّفَّ وَالْعُودَ، وَيُطْرِبُونَ بِصَوْتِ الْمِزْمَارِ [12]. يحيون هم وأبناؤهم، يزداد عدد الأطفال الصغار حتى يسيروا بين جيرانهم كالغنم بلا عدد، ويقضي الأطفال أوقاتهم في رقصٍ ومرحٍ. يعزف الكبار على آلات الموسيقى ويرقص الصغار. لا ينشغل الآباء بسلوك أولادهم في طريق الرب كما أوصى إبراهيم أبناءه (تك 18: 19)، ولا يحثونهم على العبادة لله، بل كل ما يشغلهم هو اللهو والطرب والتمتع بالملذات الزمنية. كثيرًا ما حذر القديس يوحنا الذهبي الفم الوالدين من الإهمال في تربية أبنائهما، مظهرًا مدى خطورة هذه الخطية التي يحسبها أحد الخطايا الخطيرة للغاية، فلم يتردد عن أن يدعوها قتلًا للأطفال. * لا يأتي فساد الأطفال من فراغ، بل من الجنون الذي يلحق بالآباء نحو الاهتمامات الأرضية. الاهتمام بالأرضيات وحدها، واعتبار كل شيء غيرها ليس بذي قيمة، يدفعهم لاإراديًا نحو إهمال نفوس أطفالهم. أقول، إن هؤلاء الآباء (ولا يظن أحد أن هذهالكلمات تتولد فيَّ عن غضب)، أشر من قتلة الأبناء. الأول يفصل الجسم من النفس، أما الآخر فيطرح كليهما معًا في نيران جهنم. الموت أمر محتم حسب النظام الطبيعي، أما المصير الثاني فيُمكن للآباء تجنبه لو لم يؤدِ إهمال الآباء إليه. الموت الجسماني يمكن أن ينتهي في لحظة بالقيامة حينما تحل، لكن لا توجد مكافأة تنتظر النفس المفقودة. إنها لا تنعم بالقيامة، بل تعاني آلامًا أبدية. هذا يعني أنه ليس بغير عدلٍ ندعو هؤلاء الآباء أشر من قتلة الأبناء. إنه ليس بالأمر القاسي أن تسن سيفًا وتمسك به باليد اليمنى لتغرسه في قلب طفلٍ مثلما أن تحطم النفس وتذلها، فإنه ليس من شيءٍ يعادل النفس. القديس يوحنا الذهبي الفم يَقْضُونَ أَيَّامَهُمْ بِالْخَيْرِ. فِي لَحْظَةٍ يَهْبِطُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ [13]. مع هذا كله فهم ناجحون، يقضون أيامهم في رغد الحياة؛ ليس للفقر موضع عندهم. أما عن ثمرة شرورهم ففي لحظة يهبطون إلى الهاوية، دون إنذار. لعله يقصد أنهم أحيانًا في موتهم لا يعانون من أمراض مستعصية وآلام، وإنما في لحظة يموتون ويهبطون إلى القبر. وكما يقول المرتل: "بعد قليل لا يكون الشرير، تطلع في مكانه فلا يكون" (مز 37: 10). كما يقول الحكيم: "كعبور الزوبعةٍ، فلا يكون الشرير، أما الصديق فأساس مؤبد" (أم 10: 25). يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الحديث هنا لا يعني بالضرورة سقوط الأشرار في لحظات، وانهيارهم، وفقدانهم للخيرات الزمنية، إنما قد يعني أن ما يتمتعون به في هذا العالم مهما طالت حياتهم إنما يتمتعون كما إلى لحظة، حيث يعبر العمر كله في لحظة، فيجدوا أنفسهم أمام الديان، وقد أعدوا لأنفسهم طريق الهاوية أو جهنم الأبدية. *نعم، أيها الطوباوي، لقد أسهبت في وصف مباهجهم. كيف تعلن الآن أنهم في لحظة يهبطون إلى الهاوية، إلاَّ لأن كل هذا الزمن الطويل لحياتهم الحاضرة يُعرف أنه ليس إلا لحظة عندما تبلغ إلى النهاية. البابا غريغوريوس (الكبير) |
|