بقلم فاطمة ناعوت
كنتُ أتمنى أن أكتبَ لكم شيئًا حُلوًا، يُشبه حُلمى الذى تحقّق بزيارة العراق لأول مرة! زرتُ عديد الدول، لكن ظلّ يراودنى حُلمُ زيارة ثلاث دول: اليونان، الهند، العراق. والسبب أن ثلاثتها تضربُ بجذورها فى عُمق التاريخ والحضارة. اليونان استلبتنى بسبب قراءاتى النهمة لميثولوجيا الإغريق وفلسفاتهم التى بهرتنى وأنا بعد صبيةٌ تتلمّس خُطاها الأولى نحو المعرفة. حلمتُ أن أمشى حيث مشى سقراط وأرسطو وفيثاغور، وأدخلَ أكاديميا أفلاطون، وأصعدَ الأوليمب حيث عرش زيوس وهيرا. حلمتُ أن أجوبَ أنهارَ الهند التى نبتت على ضفافها واحدةٌ من أعرق حضارات الأرض.
أما العراق الحبيب، فكم حلمتُ أن أصافح به عشتار وجلجامش، وأقرأ فى بابل بالكلدانية شريعة حمورابى، لأتيقّن أننا لم نحفظ عهده، وأنّا نسيرُ للوراء. وها الحلمُ يتحقق وسأقرأ قصائدى فى بابل العريقة على شرف «مهرجان بابل الأول للثقافة والفنون العالمية». لكن الخطوط الجوية العراقية أزهقت فرحتى! بدأ «أطول يوم فى التاريخ» بتأخر قيام الرحلة عن موعدها بالقاهرة عدة ساعات. ودون تقديم اعتذار قامت الرحلة! وبدلاً من الهبوط فى بغداد، هبطنا اضطراريًّا فى مطار «آربيل».
وتم شحننا فى قاعة صغيرة، لا زرعَ فيها ولا ماء! لا نحن قادرون على دخول آربيل الكوردية، ولا الخروج من القاعة لتناول القهوة أو الطعام! سجناءَ كنّا! طاقمُ الطائرة ذهب إلى فندق واستراح، دون أن يعبأ بخمسين راكبًا بينهم العجوزُ المريضة، والأطفال الباكون لأنهم بعدُ لم يدركوا معنى القهر الذى يستقبله الكبارُ بصبر «المُعتاد»! ساعاتٍ طوالاً، قضيناها دون شربة ماء ولا كلمة «نعتذر!» وأخيرًا هلَّ علينا الطاقمُ السعيد نشيطاً منتعشاً بعد حمام ساخن ووجبة طعام، ليمروا على المسافرين التعساء، نحن، وابتسامةٌ عريضة تعلو وجوههم، ليخبرونا أنهم سيستقلون الباص للطائرة، وعلينا انتظار باص آخر خلال دقائق. وامتدتِ الدقائقُ ساعتين! لنذهب إلى الطائرة وقد اجتاحنا الليلُ والبرد والإعياء والضجر.
هبطنا فى بغداد بعد منتصف الليل، وقد حلّ موعدُ حظر التجوال. المسافرون العراقيون دبّروا أمرهم، وغير العراقيين لهم الله، أما أنا فكانت تنتظرنى رحلةٌ أخرى إلى بابل، مدينة الشعر والجمال!
الذى غصَّ حلقى ليس الوقتُ المُهدَر والعذاب وبرودةُ المطارات. فالشِّعرُ يستحق التعبَ والسفر والوقت، إنما أحزننى أمران. المُخطِئ، الخطوط العراقية، وطاقم الطائرة لا يشعرُ أنه أخطأ فى حق بشر، فلم يقدم مجرد اعتذار. والمُخطَأ فى حقهم، المسافرون، لم يعترضوا بكلمة! كأنما لا خطأ اِرتُكبَ فى حقِّهم! كأن الطرفين متفقان على عقدٍ غير مكتوب: أنا أظلمُك وأنت تبتسم! وحين وجدتُ أننى أعترضُ وحدى وأصرخ وحدى، قلتُ إننا نستحق ما يحدث لنا، مادمنا لم نتعلم أن نرفض إهدار حقوقنا. فانتهرنى أحدُ «الضحايا» المسافرين (!) قائلا: «اسكتى، الرجالُ ساكتين والحريم تتكلم، شِنو؟!»
وهنا أفهمتُه أن تلك المفردة القبيحة: «حريم»، تخصُّ أهلَ بيته، أولئك الذين، بكل فرح، لا أنتمى إليهم. ثم تساءلتُ: ولماذا صمتَ الرجالُ، فغضبتِ النساء؟!
معادلةُ القمع مكتملةُ الأركان، لا خللَ يشوبُها! القامعُ: لا يشعر بالذنب، والمقموعُ: لا يشعرُ بالظلم! أين المشكلةُ إذن؟ المشكلةُ عندى! أنا النغمةُ النشاز فى تلك المعادلة المُتقنة التى تكلّم عنها علماءُ النفس فى «متلازمة ستكهولم». سطا مجرمون على بنك فى ستوكهولم، واحتجزوا روّاد البنك رهائنَ لعدة أيام. وحين نجح البوليس فى السيطرة على البنك، كان المجرمون والمختطَفون قد أصبحوا أصدقاء! ودافع الضحايا عن الجناة وساعدوهم على الفرار! لماذا؟ لأنهم استعذبوا الذلَّ. أهلا بكم فى «مُتلازمة الخطوط الجوية العراقية»!!
المصرى اليوم