رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
دمار بسبب الحرمان من العون إلهي خلفية هذا المزمور هي تذكر الأحداث المُرّة التي حلت بإسرائيل في الماضي، وما سببته من دمار، حينما لم يكن داود قد استلم العرش على كل الأسباط. إنها صورة مرة يليق بالمؤمن أن يضعها أمام عينيه حيث يكتشف ما كان عليه من دمار داخلي حينما كان بعيدًا عن ملكه الحقيقي السيد المسيح ابن داود. يذكر أيام الخراب الماضي لتدفعه إلى حياة الشكر على ما تمتع به، ويطلب نمو ملكوت الله الدائم في قلبه كما في قلوب إخوته. بهذا يترنم بحب الله الفائق. "تراءى لي الرب من بعيد، ومحبة أبدية أحببتك، من أجل ذلك أدمت لك الرحمة" (إر 31: 3). يَا اللهُ، رَفَضْتَنَا. اقْتَحَمْتَنَا. سَخِطْتَ. أرْجِعْنَا [ع1]. يرى متى هنري أن داود النبي وقد بلغ أوج نصرته مع استقرار مملكة إسرائيل كلها في بداية حكمه، يعود بذاكرته إلى ما حلّ بإسرائيل من متاعب وكوارث في أيام شاول الملك، وأيضًا ما عانى منه إسرائيل حين ملك على يهوذا وحدها. فإن سرّ هذه الكوارث هو تخلي الله عن شعبه بسبب انحرافهم. هذا الأمر ينطبق أيضًا على مملكتي إسرائيل ويهوذا حين صارتا تحت السبي البابلي بسبب الخطية. وينطبق على كل إنسان أو جماعة تترك الحق الإلهي، وتعتمد على الأذرع البشرية. هنا يعترف المرتل أمام الله بما حلّ بشعبه من تشتيت ودمار. يتكلم باسم الأمة كلها أو الشعب كله. هكذا يليق بكل مؤمنٍ كعضوٍ حقيقي في جسد المسيح أن يُصلي باسم الكنيسة كلها، الجسد الواحد. سبق فقدم دانيال اعترافًا باسم الشعب كله (دانيال 9). "يا الله، رفضتنا": جاءت الكلمة هنا تعني أننا نحمل رائحة كريهة، في حال فساد، وهي تُقال عن المتمردين المقاومين، وعن المحتقرين. كأن الله يتعامل معهم بكونهم مقاومين له. "يا الله، اقتحمتنا" أو "شتتَنا": وذلك عندما تحدث هزيمة في معركة فيتشتت الجيش (2 صم 5: 20). كأن الله قد تخلى عنهم في المعركة، فعوض أن يكون قائدًا لجيوشهم، صار قائدًا لجيوش أعدائهم، فاقتحم جيوشهم، وسبب لها خسائر عظيمة. "سخطت"، أي تتعامل معنا بكونك ثائر ضدنا. حينما يتحدث عن سخط الله أو غضبه، فإنه يحدثنا المرتل بلغة يمكننا أن نفهمها. فحقيقة غضب الله ليس انفعالًا في الله، إنما الكشف عن الثمر الطبيعي للخطية. الخطية مهلكة، ملأت بالويلات القلوب والبيوت والأمم وعالمنا. غضب الله ضد الخطية هو العلة الوحيدة لبؤس الجميع، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي، في العائلات والكنائس والأمم. هذه الويلات التي تحل وتدوم مع الزمن وتبلغ إلى الأبدية ما لم نرجع عنها ونتمتع بالشركة مع الله. حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزه عن كل انفعالٍ أو شائبةٍ. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديان والمنتقم عن كل الأمور الظالمة التي ترتكب في هذا العالم. وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المخوف المجازي عن أعمالنا، وأن نخشى عمل أي شيء ضد إرادته. لأن الطبيعة البشرية قد ألفت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة. فالغضب المنتقم يخشاه عادة أولئك الذين يعذبهم اتهام ضمائرهم لهم، بالطبع ليس لوجود هذه النزعة في عقول هؤلاء الذين سيلتزمون بالإنصاف في أحكامهم. لكن بينما هم في غمرةٍ من هذا الخوف، فإن ميول القاضي نحوهم تتسم بالعدالة وعدم التحيز واحترام القانون الذي ينفذه. وهذا مهما سلك بالرفق واللطف، موصوم بأقسى نعوت السخط والغضب الشديد من أولئك الذين عوقبوا بحقٍ وإنصافٍ . القديس يوحنا كاسيان لاحظوا دقة التعبير: "تذخر لنفسك غضبًا" (رو 2 :5)، موضحًا أن الدينونة لا تصدر عن الديّان، إنما هي نتيجة لعمل الخاطئ، إذ لا يقول "يذخر الله لك" وإنما "تُذخّر لنفسك"... إنه يحاول اجتذابك بكل وسيلة، فإن ظللت على عنادك تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة. ولكن لا يتبادر إلى ذهنك أن غضبه انفعال عنيف إنما هو العدالة، هو "استعلان"، حيث ينال كل إنسان ما يستحقه . القديس يوحنا الذهبي الفم هذا القول كأنه من اليهود، فإنهم يقولون: "أقصيتنا"، أي أبعدتنا عن أورشليم مسكنك، وطردتنا إلى بلاد بابل البعيدة. وهدمتنا، أي سمحت لنا أن نفقد مواهبنا. وفي حزنٍ سخطت، أي بسخطك علينا سقطنا في الأحزان، والشدائد لكي بها نتأدب ونتدرب على الصبر. ثم تراءفت علينا، ورجعت بنا إلى ما كنا عليه من عظم رحمتك ومحبتك للبشر... قوله "سخطت.."، يترجمه أكيلا: "بغضبك رددتنا"، فيكون معنى قوله دالًا لا على سبيهم إلى بابل، بل ما جرى عليهم بعد صلبهم للمسيح، لأنه في ذلك الحين طرحهم الله عنه وأقصاهم من كونهم خاصته، وقطعهم بالكلية... وشتّتهم في البلاد مهانين... يقول القديس باسيليوس الكبير: إن الله قد احتد غضبه علينا سابقًا لأننا كنا جاعلين أنفسنا أولاد غضب، ولم يكن لنا رجاء في الخلاص لكوننا كنا عديمي المعرفة بالله. ثم تراءف علينا وأرسل ابنه الوحيد، وجعله لمغفرة خطايانا... الأب أنثيموس الأورشليمي "أرجعنا": ارجع إلينا، ولتكن القائد لنا، وتتقدم جيوشنا. كثير من المزامير تبدأ بالصلاة أو الصراخ لطلب النجدة، وتنتهي بالتمتع بالخلاص، حيث يسمع الله للصرخات، فيقدم المرتل تسابيح الشكر لله. زَلْزَلْتَ الأَرْضَ فَصَمْتَهَا. اجْبُرْ كَسْرَهَا، لأَنَّهَا مُتَزَعْزِعَةٌ [2]. الهزيمة التي حلت بهم جعلتهم يشعرون كأن الأرض قد تزعزعت بواسطة زلازل لا يُمكن مقاومتها. كأن الله قد كسر الأرض وشققها، فارتجت تمامًا. من يقدر أن يُصلح ما قد حلّ بالأرض بسبب الزلازل سوى الله نفسه خالقها. يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن النبي يقصد بالأرض هنا مدينة أورشليم التي اضطربت لما حاربها الأشوريون (البابليون)، وأيضًا فلسطين كلها اضطربت بما حل بها من ضيقات وشدائد. كما يمكن القول بأن الأرض تشير إلى النفس المرتبطة بالأرضيات. إن كان شاول الملك قد مزق الشعب وحطمه كما تفعل الزلازل بالأرض، فإن هذا قد تم بسماح إلهي ليعود الكل إليه، فيقوم الرب نفسه يجبر كسرها. * تُدعى نفوسهم مجازًا "أرضيًا"، فيطلب النبي من شافي النفوس والأجساد، أن يشفي كسرها ويصلح خللها. الأب أنثيموس الأورشليمي * كيف تضطرب الأرض؟ في ضمير الخطاة. إلى أين نذهب؟ إلى أين نهرب عندما يلوح بالسيف مهددًا؟ "توبوا لأنه اقترب ملكوت السماوات" (مت 3: 2؛ 4: 17). القديس أغسطينوس حقًا إن الضيقات التي تحل بنا، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي، كثيرًا ما تدفعنا للانطلاق نحو عرش النعمة الإلهية، وتحتل الصلاة المركز الأول في اهتماماتنا. أَرَيْتَ شَعْبَكَ عُسْرًا. سَقَيْتَنَا خَمْرَ التَرَنُّحِ [ع3]. أخذ المرتل هذا التشبيه من الذين يدمونون شرب الخمر، فالإدمان يجعل الإنسان في حالة سكر، ويعاني من متاعبٍ كثيرةٍ بسبب عدم وعيه. كما يتحدث هنا عن السكر الذي يدفع بالإنسان إلى الغباوة والترنح بلا تعقل وبلا قوة للعمل بحكمة، كما كان الخمر يستخدم في القتل بوضع السم فيه. إن كان هذا هو فعل المُسكر بالخمر، فكم يكون عمل السُكر بالخطية التي ترفع بالشخص أو الجماعة للسقوط تحت الغضب الإلهي! يتطلع المرتل إلى حال الشعب وقد شرب من كأس الخطية، فرأى الضيقات تحل عليهم، كما يراهم وقد صاروا كرجل شرب مسكرٍ، ففقد وعيه، وصار في حالة دوار، يعجز عن أن يضبط اتزانه وهو يمشي، بسبب ما سمح به الله له من متاعب ومصائب. فكيف يمكنه أن ينجح في عملٍ ما، أو ينتصر إن دخل في معركة. يرى البعض أن المرتل يصف حال إسرائيل بعد هزيمته بواسطة موآب. ويرى آخرون أنه يصف حال إسرائيل بعد قتل شاول الملك حيث حل الاضطراب بإسرائيل إلى أن ملك داود على كل إسرائيل. * يدعو المصائب التي أصابتهم خمرًا، بما أن المصائب تُسكر القلب وتُذهب العقل، فإن قبل الإنسان الشدائد، وعرف أنها تسقط عليه بسماح من الله، من جراء خطاياه وتاب، فتُدعى خمر الخشوع والندامة. الأب أنثيموس الأورشليمي للأب قيصريوس أسقف آرل تعليق على هذه العبارة بخصوص السكر الروحي. * كما أن الأشخاص الذين يختبرون شرب الخمر يشغفون بالعطش إليها بالأكثر عندما يصيرون سكرى، هكذا بالنسبة للنفس المكرسة والطاهرة، التي هي متعقلة وتائبة، وبهذا يمكنها القول مع المرتل: "سقيتنا خمر الترنح" (مز 60: 3) عندما تبدأ النفس في تفكر في الرجاء في الحياة المقبلة وتتشرب بالعطش نحو الخيرات السماوية. إنها تعرف كيف تشبع... ويمكنها أن ترتبط بالنبي في كلمات اشتياقه: "تاقت نفسي إلى خلاصك" (مز 119: 81). وأيضًا: "قد فني لحمي وقلبي يا إله قلبي" (راجع مز 73: 26). وأيضًا: "تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب" (مز 84: 2). الأب قيصريوس أسقف آرل * "أريت شعبك عُسرًا (مصاعب)". كيف؟ في الاضطهادات التي تحل على كنيسة المسيح، عندما تُسفك دماء كثيرة للشهداء. "سقيتنا خمر الترنح (النخس بمهماز). بأي نخس؟ ليس نخس القتل. فإن هذا ليس قتل للتدمير، بل هو دواء بارع. القديس أغسطينوس |
|