رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الأصحاح الثاني عشر اللقاء الأخير مع رئيس الملائكة! إعدادنا للعُرْسِ الأبدي تُعتبَر الأصحاحات الثلاثة (12-14) ملحقًا رائعًا للأحداث الواردة في الأصحاحات 1-11، والتي تدعونا للتعرُّف على رسالتنا كأبناء الله، وكيف نمجد الله ونبارك اسمه القدوس ونهتم بخلاصنا الأبدي خاصة في وقت الضيق. انتهت الأحداث لا بالاحتفال بعُرْسِ طوبيا وسارة، بل بإعدادنا للعُرْسِ الأبدي واتحادنا بالعريس السماوي، وتمتعنا بالأمجاد الأبدية كميراثٍ مُقَدَّسٍ لا يفسد ولا يضمحل. في الأصحاح الذي بين أيدينا إذ يعلن رئيس الملائكة عن شخصه، يبرز جوانب متعددة لبنياننا الأبدي. أولاً: لقد تأهَّل طوبيت وطوبيا أن يتعرَّفا على شخص رئيس الملائكة لأنهما اتسما بالسخاء في العطاء، وعدم جحودهما للملاك الذي خدمهما دون أن يعلن عن شخصه [1-5]. ثانيًا: لم يكشف رئيس الملائكة لهما عن شخصه لئلا يُبهَرا به وبحُبِّه وتواضعه وحكمته وخدمته، ويطيعانه دون الحوار معه وينشغلا بشخصه عن تمجيد الله من أجل أعماله العظيمة ولا يهتما بخلاصهما الأبدي. لهذا دعاهما سرًّا وسألهما أن يشكرا الله على أعماله العظيمة، وألاَّ يتباطئا في تقديم التشكُّرات له [6]. ثالثًا: أوضح لهما التمييز بين العمل في القصر الملكي البشري والعمل في مملكة الملك السماوي [7]. يلتزم العاملون في قصر الملك أن يكتموا أسرار الملك، أما العاملون مع ملك الملوك فيشهدون لأعماله العظيمة، لأسبابٍ كثيرةٍ: 1. بالنسبة للملك الأرضي يلتزم العاملون معه بالسرية لئلا يتعرَّف الأعداء على أسراره ويُخَطِّطوا لاغتياله، والاستيلاء على المملكة. أما العاملون مع ملك الملوك يلزمهم أن يكشفوا أعماله العظيمة بحكمة. فيرتعب إبليس وملائكته، إذ يزداد إيمان البشر به ويطلبون الشركة معه. 2. الكشف عن أسرار الملك ومديحه في كل وقتٍ قد يُفسِد حياة الملك بالتشامخ ويُفسِد حياة العاملين معه بالالتجاء إلى المداهنة والرياء في التعامل معه. أما في ملكوت الله فالكشف عن أعمال الله يحثّ البشر على تقديم الشكر له، فيُحسَب ذلك ذبيحة مقبولة لله، كما ينزع عن الإنسان أحزانه ويتمتَّع بتعزيات سماوية. 3. الحديث المُبالَغ فيه عن الملك الأرضي والرؤساء والقادة كثيرًا ما يُسَبِّب عثرة للآخرين، خاصة إن اكتشفوا ضعفات فيهم. أما الحديث عن الله وأعماله فيسند المتألمين والمتضايقين واليائسين ليتمتَّعوا بتعزيات سماوية ويطلبوا سلام الله لهم ولإخوتهم المتضايقين مثلهم، وينعموا بالفرح السماوي. رابعًا: يدعوهما رئيس الملائكة أن يهتما بخلاصهما وأبديتهما. فقبل أن يكشف رافائيل عن خدمته لهما وللبشرية، سألهما أن يهتما بالإيمان العملي من صلاة وصوم وأعمال البرّ [8-9]، خاصة الصدقة، ليكون لهما نصيب في الشركة مع السمائيين. خامسًا: قبل أن يُفارِقَهما رئيس الملائكة رافائيل، قَدَّم لهم حديثًا إن اعتبرناه وداعيًا، فهو وِدَاع حبّ وشركة واعتزاز الملائكة بالمؤمنين. كأنه يعلن لهما عن محبة السمائيين للبشر، الأمر الذي ينكشف بوضوح من خدمته لهما واعتزازه بهما: 1. كشف حديثه لهما عن اهتمامه بخلاص البشر، فدعاهم للصلاة مع الصوم والصدقة [8- 9] ككنوزٍ ثمينة للغاية، مع تحذيرهم من الإثم الذي يجعل الإنسان في عداوة مع نفسه كما مع الغير [10]. 2. إعلانه معرفة الحق، بقوله: "أما أنا فأعلن لكما الحق، ولا أكتم عنكما أمرًا مخفيًا" [11]. 3. تصرفاته أوضحت أن الملائكة تُسَرّ بمرافقتها للمؤمنين. "حين كنت تصلي بدموعٍ وتدفن الموتى وتترك طعامك وتخبئ الموتى في بيتك وتدفنهم... كنت أرفع صلاتك إلى الربّ" [12]. 4. اهتمامه بأمورهما الروحية واحتياجاتهما النفسية والاجتماعية. يقول: "أرسلني الرب لأشفيك، وأُخَلِّص سارة أيضًا من الشيطان" [14]. 5. حثّهما على تمجيد الله وتسبيحه، مؤكدًا أن ما قدَّمه لهم (الملاك) إنما إتمامًا لمشيئة الله الصالحة. "لما كنت معكم، إنما كنت بمشيئة الله، فباركوه وسبحوه... وحدثوا بجميع عجائبه" [18]. سادسًا: تعكس رغبة طوبيا في إكرام رئيس الملائكة هنا على وفاء الكنيسة نحو قديسيها وخدامها. وفي نفس الوقت شجَّع رئيس الملائكة طوبيت أن يُسَجِّل الأحداث مُسَبِّحًا الله الرحوم على أعمال محبته العجيبة. كما شجَّعه على تسجيل صلواته وتسابيحه وهو ملتهب بالروح ومتهلل للغاية! أَكَّد رئيس الملائكة أنه لا يأكل ولا يشرب. إن كان قد جلس معهم على المائدة ظهر كمن يأكل والحقيقة إنها مجرد رؤيا دون أن يأكل [19]. 1. رئيس الملائكة يوجههما لإعلان أعمال الله [1- 7] عندئذٍ دعا طوبيت ابنه وقال له: "يا بنّي احسب أجر الرجل الذي مضى معك، ويجب أن تزيد عليه [1]. أجابه: "يا أبي لا يسيئني أن أعطيه نصف ما قد حصلت عليه [2]. فإنه أحضرني إليك سالمًا، وشفى زوجتي، وأحضر لي الفضة، وأيضًا شفاك" [3]. أجاب الشيخ: "إنه يستحق هذا" [4]. فدعا الملاك وقال له: "خذ نصف من كل ما أحضرته" [5]. عندئذ دعا الاثنين سًّرا، وقال لهما: باركا الله، قدما له التشكُّرات. قدما له التبجيل واحمداه أمام كل الأحياء من أجل أعماله معكما. صالح أن تباركا الله وتُمَجِّدا اسمه، وتعلنا أخبار أعمال الله العظيمة وأن لا تترددا في تقديم التشكُّرات له [6]. من الخير أن تكتما سرّ الملك، أما أعمال الله فمن المجد أن تُعلَن. اعملا الخير، فلا يحلّ بكما شر [7]. بروح التقوى وتنفيذ الوصية دعا طوبيت ابنه كي ينفذ الوصية: "لا تُبَتْ أُجرَةُ إِنْسانٍ ما يَعمَل عِندَكَ، بلِ ادفَعْها في الحال" (طو 4: 14)". لقد سأله وأخذ رأيه فيما يُعطَى لذلك الإنسان [1]. أما طوبيا الابن العارف بالجميل، ومقدار تعب الآخرين معه، أخذ يُعَدِّد أتعاب أجيره لأبيه [3]. لماذا سأل طوبيت ابنه عن أجرة الأجير مع أنه سبق أن وعده أنه سيقوم بدفع الأجرة؟ احتار طوبيت وابنه ماذا يُقَدِّمان للملاك في مقابل كل خدماته. وهذا يدفعنا للتساؤل: وماذا نُقَدِّم نحن لله في مقابل كل ما يعمله معنا. اتَّسم طوبيا بالسخاء مثل والده طوبيت، إذ قال لأبيه: ""يا أبي لا يسيئني أن أعطيه نصف ما قد حصلت عليه [2]." كان يتذكَّر إحسانات الآخرين له، ولم يكن جاحدًا. لم ينسَ ما قام به الملاك [3]: أ. أخذه وسار به ورجع به سالمًا. لقد خلَّصه من افتراس السمكة وافتراس الشيطان له. ب. عن طريقه تم الزواج المبارك من سارة. ج. حطَّم الشيطان الذي أفسد سلام سارة وفرَّح والديهما. د. فتح عيني والده. ه. سكب بركة وخيرًا على الكل! الملاك لا يطلب أجرًا (5- 7): لكنه يطلب أن يُمَجِّدا الله ويُحَدِّثا بأعماله العظيمة معهما. وقال إن الملوك الأرضيين يجعلون أمورهم أسرارًا حتى لا يضرّهم أحد. لكن أعمال الله يجب أن تُذَاع حتى يتمجَّد الله، خاصة وأبناء الله هؤلاء، طوبيت وعائلته يعيشان وسط الأمم لعل الأمم يؤمنون. * الطوباوي طوبيت الذي عرف كيف يكسر خبزه للجائع، أعدَّ أن يدفع بسرعة للخادم الأجير على عمله... إننا ندهش على معاملات الأب والابن، وعن الطريقة التي تعلموها بواسطة الملاك، هذا الذي ظناه خادمًا أجيرًا أرضيًا تحت مجد سماوي. بالحقيقة ضُرِب طوبيت بكارثة العمى حتى يتقبَّل الملاك كطبيبٍ، الذي كان ملتهبًا بجمرٍ، التقط أنفاسه، قائلاً: "الصلاة صالحة مع الصوم والصدقة" (طو 12: 8). صلاة البار مفتاح السماء. الصلاة تصعد، ورحمة الله تنزل. بالرغم من أن الأرض عميقة إلى أسفل، والسماء عالية إلى فوق... قال طوبيت: "أيها الابن لنصرف هذا الرجل ونزيد على الأجرة التي اتفقنا عليها. عدَّد الابن المعاملات التي تقبَّلاها منه، وقال لأبيه: أيها الأب، إن هذا الحق، لأن خادم كهذا إن أخذ الأجرة التي اتفقنا عليها، (لا تتناسب مع) قيادته الصالحة التي لا يمكن تقييمها! إننا سندفع له بكرامة قليلة جدًا مهما وضعنا من مقياس لاستحقاقاته. هل هو قدَّم لنا فقط ما اتفقنا عليه؟ ما اتفقنا عليه هو أن يكشف لي عن الموضع والإنسان الذي ائتمنته على المال. أولاً سافر كمن هو منطلق في طريقٍ سماوي. وأَعدّ من السمكة مرهمًا طبيًا محتاج أنت وأنا إليه. لقد قادني وردَّ لي المال، وأعطاني سارة زوجة. هل يستحق فقط الأجر الذي اتفقنا عليه، بينما كان بالنسبة لي من يهتم بالعروس. بجانب هذا يا أبي شفى القشور التي على عينيك التي كانت تغطيها. لقد جعل كل بيتنا مضيئًا بمصابيح أعيننا. إنني بكل وضوحٍ إذ أراك تنظر، أيها الأب العظيم ألا يستحق نصف ما لنا؟ ليت قائد معين مثل هذا، طبيب وحارس كما قال، يقبل نصيبه، نصف ما لنا مما جلبته معي، إذ أظهر لي حنوًا كهذا في قيادته. إذ أحبه الأب الصالح تجاوب ابنه الحكيم. بدأ يسأل الخادم الأجير أن يأخذ أجرته . القديس أغسطينوس القديس أغسطينوس سرّ الملك هو العلاقة الشخصية السرية بين المؤمن ومسيحه (ملكه) والتي لا يليق بنا كشفها أمام الآخرين. غالبًا ما يتطلَّع الإنسان إلى نفسه في وقت الضيق فيظن كأنه في قفرٍ بلا ساكنٍ، عقيم بلا ثمرٍ، أما الرب العريس السماوي فيرى في عروسه عكس هذا، إذ يقول: "أُخْتِي الْعَرُوسُ جَنَّةٌ مُغْلَقَة،ٌ عَيْنٌ مُقْفَلَةٌ، يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ" (نش 4: 12).كأنه يقول لها: اذكري الإمكانيات الكاملة في داخلك، أنتِ جنة وعين وينبوع، إمكانيات الروح القدس الساكن فيكِ، هذه التي لا تعلن فيكِ إلاَّ إذا قبلتي الآلام وانحنى ظهركِ للصليب. يقول القديس غريغوريوس النيصي [جنتنا مغلقة من كل جانب بسور الوصايا حتى لا يتسلَّل إلى مدخلها لص أو وحش مفترس. إنها مغلقة بسياج الوصايا، فلا يستطيع خنزير بري أن يقترب إليها.] يوصينا الوحي الإلهي ألا نُبَدِّد مياه ينابيعنا في الخارج، في الشوارع، مع الغرباء. وكما يقول القديس غريغوريوس إنه حينما تنحرف أفكارنا الداخلية نحو الخطية (الغريبة) نكون قد أضعنا مياه ينابيعنا وقدَّمناها للغرباء. [إنها النقاوة هي التي تختم هذا الينبوع ليكون لسيده.] قد نظن في أنفسنا أننا فارغون، لكن الله يرى في داخلنا فردوسًا وعينًا وينبوعًا لا يحق أن تفتح إلاَّ له وحده، فهو عريس النفس الوحيد، الذي من حقه أن يدخل جنة القلب ويشرب ينابيع حبه! بمعنى آخر تلتزم النفس كعروسٍ أن تبقى في عذروايتها مشتاقة إلى العريس السماوي وحده، تفتح له قلبها وأحاسيسها وعواطفها وكل طاقتها، بكونها العذراء العفيفة المُنتظِرة عريسها (مت 25)، كعضوٍ في كنيسة الأبكار. وللقديس أمبروسيوس تعليق جميل، إذ يقول: [ينطق السيد بهذا القول للكنيسة التي يُريدها بتولاً بلا دنسٍ ولا عيبٍ. الجنة المخصبة هي البتولية التي يمكن أن تحمل ثمارًا كثيرة لها رائحة صالحة... إنها جنة مغلقة، لأنها محاطة بسور الطهارة من كل جهة. وهي ينبوع مختوم، لأن البتولية هي ينبوع العفة وأصلها، تحفظ ختم النقاوة مصونًا بغير اضمحلال، فيه تنعكس صورة الله، حيث تتفق نقاوة البساطة مع طهارة الجسد أيضًا.] يُقَدِّم لنا العلامة أوريجينوس تفسيرًا للعبارة: "من الخير أن تكتما سرّ الملك"، قائلاً بأن سرّ الملك المكتوم يشير إلى أفكار البشر ونياتهم تبقى في الكتمان حتى تُعلَن في يوم الدينونة، حيث يُدَان البشر علانية. إذ يقول الرسول: "الذين يُظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم، شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح" (رو 2: 15-16). كما يقول: "إذًا لا تحكموا في شيءٍ قبل الوقت، متى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام، ويُظهِر آراء القلوب، وحينئذ يكون المدح لكل واحدٍ من الله" (1 كو 4: 5) . وللعلامة أوريجينوس تفسير آخر لنفس الآية، إذ يرى الملك هنا يشير إلى الله الذي تبقى أسراره الإلهية فوق قدرة الإنسان، يكشفها لكل واحدٍ قدر قامته الروحية. فالرسول بولس إذ كان أمينًا، كشف له ربّه ومَلِكه عظمة ثروته، وأرسله ليجند جيشًا روحيًا للملك ويختبرهم، ويكشف لهم عن أسرار الملك جزئيًا، ليس بتقارير مفصلة بل خلال الرموز والإشارات حتى تبقى أسرار القصر الملكي في الكتمان، لهذا ما قاله الرسول عن نفسه: "لأننا نَعْلَم بعض العِلْم، ونتنبأ بعض التنبؤ... الآن نعرف بعض المعرفة، ولكن حينئذ سأعرف كما عُرِفت" (1 كو 13: 9، 12)، وذلك من أجلنا. فإننا عاجزون عن أن ندرك حتى ما أدركه هو جزئيًا. هكذا فإن سرّ الملك في الكتمان يتعرَّف عليه قلة من البشر، ومع هذا يُعتبَر في الكتمان . * يلزمنا ألاَّ نستعرض الأسرار المقدسة قبل اختبار الإيمان. ليت الوثنيون في جهلهم لا يسخرون بها، والموعوظون ليتهم لا يقاوموا إذ يبالغون في حُبّ الاستطلاع . القديس أثناسيوس الاسكندري عندما صلى هذا الإنسان في حوالي الساعة التاسعة ظهر ملاك يحمل شهادة لأعماله، يقول: "يا كرنيليوس صلواتك وصدقاتك صعدت أمام الله". هذه الصلوات صعدت سريعًا إلى الله حيث أعمالنا تعتمد على الله . القديس كبريانوس 2. رئيس الملائكة يُوَجِّههما نحو الصلاة مع الصوم الصدقة [8- 10] الصلاة صالحة مع الصوم والصدقة والبرّ. صلوات قليلة مع البرّ أفضل من برّ كثير مع الشر. حسن أن تقدم صدقة عن أن تدخر ذهبًا [8]. لأن الصدقة تُنقِذ من الموت، وهي تغفر كل ذنبٍ. الذين يمارسون الصدقة والبرّ يمتلئون حياة [9]. أما من يخطئون فهم أعداء حياتهم [10]. أولاً: يربط الآباء الصلاة مع الصوم والصدقة [8].هنا يرشدهما الملاك إلى عناصر العبادة الثلاثة: الصلاة والصدقة والصوم. وهي ترتبط ببعضها البعض ارتباطًا وثيقًا، فالصوم يحلنا من العبودية لشهوات الجسد والمادة، ويُمَهِّد للاتحاد مع الله على مذبح الصلاة، وأمّا الصدقة فتجعل لنا دالة أمام الله. الصدقة تُنَجِّي من الموت. والصلاة تجعلنا في صلة مع الرب والصوم هو زهد يرفعنا عن محبة العالم فنقترب إلى الله والصدقة بها نعمل خيرًا مع الرب نفسه فنراه. فالرب وضع نفسه مكان الجوعان والعطشان والمسجون.... ثانيًا: يتحدثون عن فاعلية الصلاة [8] فيقولون: * لنتبارى مع بعضنا البعض في الصلاة في منافسة مقدسة، بقلبٍ واحدٍ فلا تصارعون ضد بعضكم البعض، بل ضد إبليس، العدو العام لكل القديسين. "الصوم والأسهار وكل ميتات الجسد تسند الصلاة بقوة. " القديس أغسطينوس * الآن الصوم يعني الامتناع عن كل الشرور، سواء في العمل أو الكلام أو الفكر نفسه . القديس إكليمنضس السكندري موسى تسلَّم الناموس عندما كان صائمًا (خر 34:28). وهكذا بطرس عندما كان صائمًا تعلَّم نعمة العهد الجديد. ودانيال أيضًا بفضيلة صومه أبطل أنياب الأسود، ورأى (تنبأ عن) أحداث قادمة مع الزمن (دا 14: 37-38؛ 9: 2-3). وأي خلاص نناله بدون الصوم، إذ به نزيل خطايانا. يقول الكتاب المقدس: الصوم مع الصدقة يُطَهِّر من الخطايا (طو 12: 8-9) . القديس أغسطينوس إنه ليس إلا صوت الوثنيين القائل: "لنأكل ونشرب"، هؤلاء الذين يقول عنهم الرسول باستخفاف: "إن كنت كإنسانٍ قد حاربت وحوشًا في أفسس فما المنفعة لي. إن كان الأموات لا يقومون، فلنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت" (1 كو 15:32). بمعنى: ماذا ينفعني جهادي حتى الموت مالم أخلع جسدي؟ باطلاً يخلص (الجسد) إن كان لا يوجد رجاء في القيامة. فإذا فُقِد الرجاء في القيامة، لنأكل ونشرب، ولا نفقد التمتُّع بالأشياء الحاضرة. لأننا سوف لا ننال شيئًا في المستقبل. الذين لا يترجّون شيئًا بعد الموت ينهمكون في الطعام والشراب. أخيرًا فإن أتباع أبيقورس هم أتباع الملذات، لأن الموت بالنسبة لهم لا يعني شيئًا، فإن ما ينحل ليس له شعور، والذي ليس له شعور لا يساوي شيئًا عندنا. هكذا هؤلاء يُظهِرون أنهم يعيشون حسب الجسد فقط وليس روحيًا، إنهم لا ينجزون ما يليق بالنفس، بل يهتمون فقط بالجسد، ظانين أن مسئولية الحياة تقف بعد انفصال النفس عن الجسد، وفضائل النفس وكل طاقتها تنتهي. القديس أمبروسيوس تصلي الكنيسة في أوشية القرابين قائلة بتوسلٍ عن مُقَدِّمي القرابين المحبّين للصدقة: "أعطهم الباقيات عوض الفانيات، والسمائيات عوض الأرضيات، والأبديات عوض الزمنيات، وكما ذكروا اسمك القدوس على الأرض (بحبهم للعطاء) اذكرهم هم أيضًا في ملكوتك." يُقَدِّم لنا القديس كيرلس الكبير سرّ اهتمام الله بالصدقة. إن كانت الصدقة تكشف عن حب المؤمن لإخوته، فهي تُعلِن عن شركته في محبة الله للبشرية. يليق بالمؤمن كابن لله أن يحمل في نفسه علامات الحب المتأصلة. في إحدى رسائله الفصحية كتب حديثًا يوجه للشخص الغني: [من سيحصل على ما اقتنيته بالفعل؟ يليق بك أن تفعل ما هو أفضل: أن تجري عدلاً وبرًا "كقول النبي (راجع إر 33: 15). الآن إجراء البرّ في رأينا هو الحنو على أخٍ أو أختٍ لنا بالحب والمودة المشتركة والرحمة التي تهب نصرات على النار الأبدية. فإن إله كل الكرامات الرحوم يرغب في تكريم من تحمل نفوسهم علامات اللطف، إذ يقول: "كونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم" (لو 6: 36). فكما أن الأب يحب طفله متهللاً بالمولود عندما يرى شكله مشرقًا بالجمال في نسله، وأحيانا يثور فيه حب أعمق، هكذا أيضًا إلهنا إذ يري في محبته للفضيلة نفسًا تقبَّلت شكل الصلاح متأصلاً فيها، يتأكد أن هذا ليس بأمرٍ باطلٍ. إنه يكللها بالرجاء والنعمة وينزع عنها كل تلوثٍ، ويقيمها إلى شركة القديسين. إنه يقول: "الصدقة تنقذ من الموت وهي تغفر كل ذنب" (طو 2:9) يرى القديس الأنبا زوسيما نقلاً عن الأب تادرس، أنه كان في مدينة الإسكندرية في أيام الأسقف يوحنا النيقاوى، فتاة وثنية ثرية، حدث أنها بينما كانت في نزهة رأت شابًا يريد الانتحار بسبب ثقل ديونه، فوعدته بسداد ديونه حتى لو تكلفت في ذلك كل ثروتها، وقد حدث ذلك بالفعل، فافتقرت ثم باعت نفسها للخطية، وعند موتها توسلت إلى جيرانها أن يبلغوا البابا برغبتها في العماد، ولكنهم رفضوا لكونها خاطئة فحزنت، ولكن ملاك الرب وقف بها في صورة ذلك الشاب الذي أنقذته من الموت، وعرفها أنه هو نفسه، فطلبت منه أن يعينها في قبول العماد، فأحضر ملاكين آخرين، واتخذوا ثلاثتهم شكل ثلاثة أراخنة المدينة وحملوها إلى البابا الذي عمدها بناءً على تزكيتهم لها، ولمَّا عُرِف أمر عمادها من ملابسها البيضاء ووصل الخبر إلى أولئك الأراخنة، ذُهِلوا لعدم علمهم بهذا الأمر، فرجعوا إلى الفتاة حيث عرفوا منها حقيقة الأمر، فمجَّد البابا البطريرك الرب، قائلاً عادل أنت يا رب وأحكامك عظيمة جدً جدًا . * بالرغم من أننا نرتكب أخطاء خطيرة نجد طبيبًا عظيمًا. لقد تسلَّمنا دواء نعمته العظيم دواء الرحمة الذي يزيل خطايا كثيرة (جا 10: 4). نجد معونات كثيرة جدًا بها نخلص من خطايانا. لديكم مالاً، أخلصوا من خطاياكم. الله ليس للبيع. أما أنتم فللبيع. بخطاياكم صرتم للبيع، خلصوا أنفسكم بأعمالكم، خلصوا أنفسكم بمالكم. المال رخيص، وأما الرحمة فثمينة. يقول: الصدقة تُخَلِّص من الخطايا . القديس أمبروسيوس الشهيد كبريانوس إني لا أخفي عنكما أي شيء، لأني قلت إنه من الخير أن يُكتَم سرّ الملك، وأما أعمال الله فمن المجد أن تُعلَن [11]. عندما كنت تصلي أنت وسارة كنتك كنتُ أقدم صلاتكما أمام القدوس. وأيضًا عندما كنت تدفن الموتى كنت أيضًا أُرافِقك [12]. وعندما كنت لا تتوانى فتقوم وتترك عشاءك لكي تنطلق وتهتم بالموتى، لم تختفِ عني أعمالك الصالحة، بل كنت معك [13]. والآن أرسلني الله لأشفيك أنت وسارة كنتك [14]. يهتم الله ويكافئ على كل خدمة نؤدِّيها. والملائكة ترفع صلواتنا لله، وذلك لأن صلواتنا ضعيفة بها شوائب كثيرة. رأينا صورة لذلك في مجامر الأربعة والعشرين قسيسًا الذين يُقَدِّمون بخورًا هو صلوات القديسين (رؤ 8:5) إذ كنت مقبولاً أمام الله لابُد أن تُمتحَن بتجربةٍ، ليصير لك إكليل أعظم حينما تتنقى. بخصوص تقديم صلواتنا لله بواسطة رئيس الملائكة [11] * "لتُعرَف طلبتكم لدى الله" (في 4: 6). لا يُفهَم هنا أنها ستُعرَف لدى الله، الذي عرفها قبل النطق بها. وإنما تُفهَم بالمعنى التالي أنها تُعرَف لنا في حضرة الله، بانتظارنا إياه في صبرٍ، وليس في حضرة الناس بتباهٍ بالعبادة. أو ربما أن تُعرَف أيضًا للملائكة الذين في حضرة الله، هذه الكائنات التي تُقَدِّم (صلواتنا) لله وتتشاور معه بخصوصها، ويمكن أن تخبرنا بطريقة علنية أو خفيّة أن نسمع لوصاياه، إذ يعرفون إرادة الله، ويليق بهم أن يتمموها كواجب ملتزمين به، إذ قال الملاك لطوبيت: "الآن حين تصلي مع زوجة ابنك سارة أُقَدِّم صلواتكما تذكارًا أمام القدوس" (راجع طو 11:12)[16]. القديس أغسطينوس بخصوص دفن الموتى [12] خَصَّص القديس أغسطينوس في كتابه "مدينة الله" فصلاً[17] عن مقاومة الحكام الأشرار لدفن الشهداء المسيحيين مؤكدًا أن المؤمنين مع اهتمامهم بدفن الأموات، غير أنه لا يصيب المؤمن ضررًا إن منع الأشرار دفنه جسده. * يحمل المؤمنون في ذهنهم التأكيد الذي أُعطِي لهم أن شعرة من رؤوسهم لا تهلك؛ حتى إن افترستهم وحوش، هذا لا يعوق قيامتهم (من الأموات). لم يقل الحق باطلاً: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها" (مت 10: 28). ما يستطيع أن يفعله العدو بالجسد المذبوح مهما بلغ لن يؤثر على الحياة العتيدة... فالملائكة لا تحمله إلى قبرٍ من الرخام، بل ترفعه إلى حضن إبراهيم. الذين أتعهدهم مدافعًا عن مدينة الله يضحكون على هذا كله. لكن حتى فلاسفتهم استخفُّوا بالاهتمام بالدفن. حتى في كل الجيوش المحاربة كان القتلى يُترَكون في أرض المعركة ويصيرون طعامًا للوحوش المفترسة. قال واضع أنشودة الدفن عن عدم الاهتمام النبيل (بالدفن): "من ليس له قبر فالسماء مسكنه[18]". كم بالأكثر يكون أمر الذين يحتقرون جثث المسيحيين التي لا تُدفَن. هؤلاء الذين وُعِدوا أن الجسد نفسه سيقوم ويحمل شكلاً جديدًا، وأن كل أعضائه ستُجمَع ليس فقط من الأرض، بل من الأماكن الخفية الأخرى التي وُضِعَت فيها الأجساد الميتة التي أُخفِيَت فيها. مع هذا يلزم عدم احتقار أجساد الموتى وتُترَك بدون دفن، على الأقل أجساد الأبرار والمؤمنين التي استخدموها كأعضاء وآلات برّ لكل الأعمال الصالحة. فإنه إن كان ملبس أب أو خاتمه أو أي شيء كان يلبسه، يُحسَب ثمينًا بالنسبة لأبنائه بسبب حُبِّهم له، كم بالأكثر يلزم أن نعتني بأجساد الذين نُحِبّهم، إذ هي أقرب إلينا من أي ملبس! فالجسد ليس حلية خارجية أو معين بل هو جزء من ذات طبيعة الإنسان... مُدِح طوبيت، بشهادة الملاك، وقيل عنه إنه أرضى الله بدفنه الموتى (طو 12: 12). ربنا نفسه أيضًا وإن كان سيقوم في اليوم الثالث مدح... العمل الصالح الذي فعلته المرأة التقية، حيث سكبت الطيب الثمين على أعضائه، وقد فعلت هذا لتكفينه (مت 26: 10-13). القديس أغسطينوس * طوبيت أيضًا بدفنه الموتى نال إحسانًا من الله، وذلك بشهادة الملاك (طو 2: 7؛ 12:12). القديس أغسطينوس * قول الرسول: "لتُعلَم طلباتكم لدى الله" (في 4:6) لا تُؤخَذ بمعنى أنه بالفعل تُعلَم لدى الله، إذ هو بالتأكيد يعرفها قبل النُطق بها، وإنما أنها تعرف لدينا نحن أمام الله، وذلك خلال صبرنا، وليس أمام الناس خلال افتخارنا. أو ربما أنها تعرف لدى الملائكة الذين مع الله، حتى يقدمون صلواتنا لله ويتشاورون فيها، ويقدمون لنا إجابته علنًا أو سرًا، وذلك عندما يعرفون إرادته، إذ يليق بهم أن يعرفوا. هكذا قال الملاك لإنسانٍ: "عندما كنت تصلي أنت وسارة كنتك كنت أقدم صلاتكما أمام القدوس" (طو 12: 12). القديس أغسطينوس أنا رافائيل أحد السبعة ملائكة القديسين الذين يرفعون صلوات القديسين، ويدخلون بها أمام مجد القدوس." [15]. عندئذٍ اضطرب الاثنان وسقطا على وجهيهما وخافا [16]. لكنه قال لهما: "لا تخافا، سلام لكما. باركا الله إلى الأبد [17]. فإنني لم آت ِ بنعمةٍ مني، بل بالحري أتيت بإرادة إلهنا، فلتباركاه إلى الأبد [18] كل هذه الأيام التي ظهرت فيها لكما لم آكل ولم أشرب، إنما ما رأيتماه هو رؤيا [19]. الآن أشكرا الله لأني صاعد إلى ذاك الذي أرسلني. أكتبا كل ما حدث في كتاب [20]. عندئذ ٍ قاما ولم يعودا ينظرانه [21]، لقد أدركا أعمال الله العظيمة العجيبة، خاصة عندما ظهر ملاك الرب لهما [22]. في غمرة تلك الأفراح التي تمتَّع بها الكثير من اليهود المسبيين في نينوى، لم ينسَ طوبيت وابنه ذلك الرجل التقي، رئيس الملائكة المتخفي، الذي ساهم فيما نالهم من بركات إلهيةٍ وتعزيةٍ وبهجةٍ. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن رئيس الملائكة رافائيل (في ميمر عنه): [هو ملاك وهو وكيل العريس لأنه اتفق مع طوبيا وأقام العُرْس. إنه لا جسد له، لأنه لم يذق شيئًا طوال الأيام التي صار فيها معه. إنه شفيع، فقد توسَّل إلى السيد الرب صاحب كنوز الرأفة لأجل طوبيت وطوبيا ابنه ولأجل سارة. هو نشيط، لأنه عندما كان طوبيا في العُرْسِ أخذ جملاً إلى راجيس وأحضر الفضة. هو طبيب، لأنه أبرأ عيني طوبيت الرجل الرحوم ثم أوصى ابن طوبيت أن يعمل الرحمة من ماله، لأن الصدقة تنقذ الإنسان من الموت. هو قائد، لأنه قيَّد أسموديس (الشيطان). هو متطوّع، لأنه لم يأخذ أجرًا اتفقوا عليه معه. إنه خادم نشيط لأنه قام بكل ما احتاجوا إليه. إنه خدوم لأنه وقف معه وخدم كعبد أمين. يا لعظم رأفة الله ويا لطاعة رئيس الملائكة الواقف في حضرة رب الجنود، وقد وقف أمام إنسان يخدمه.] سجودهما للملاك (16- 20) أظهر تقواهما ومخافة الله التي في قلبيهما. أخذ القديس أغسطينوس قصة ظهور رئيس الملائكة لطوبيا وطوبيت، وتحرُّكه مع الأول وخدمته له، وتقديم نصائح له، دليلاً على محبة السمائيين لنا. ودليل على أنه ليس من الصعب إدراك عودة الجسد واتحاده مع النفس التي فارقته عند موته. * القيامة المُقبِلة للجسد هي برهان أن النفس بعد الموت بالتأكيد تكون بدون جسد. هذا ليس زعمًا لا إجابة عليه، لأن الملائكة الذين يشبهون نفوسنا غير المنظورة، يرغبون أحيانًا أن يظهروا في أشكال جسدية وأن يكونوا منظورين... كما حدث مع إبراهيم (تك 17: 6) ومع طوبيا (طو 12: 16). القديس أغسطينوس * ماذا يقول الملاك في سفر طوبيا؟ "وكان يظهر لكم أني آكل وأشرب معكم" (طو 19:12). هل كان يبدو أنه يأكل، لكنه في الواقع لم يأكل؟ لقد أكل فعلاً. إذًا ما معنى هذه الكلمات، "وكان يظهر لكم أني آكل وأشرب معكم"؟ كن تقيًا واستمع لما أقول: أصغِ إلى الصلاة (أي لإرشاد صوت الله خلال صلاتك) أكثر من استماعك إليَّ حتى تدرك ما نقول، وتمسك به بحيث تفهم ما تسمع. بما أن جسدنا قابل للفساد والموت فهو يحتاج للطعام، ولذا يوجد فينا وجع الجوع. فنحن نجوع ونعطش، وإن توانينا عن إشباع هذا الجسد طويلاً يضعف ويهزل ثم يمرض، تُستَنزف قوته ولا يستطيع أن يستردَّها، وإذا مكث هكذا طويلاً تأتيه المنية (يموت). لأن جسدنا -إن جاز التعبير- يزول باستمرار ويفقد شيئًا ما من ذاته، لكننا لا نشعر بهذا، أي بما نفقده لأننا نُعَوِّضه بالطعام. ما نأخذه بوفره، نفقده قليلاً قليلاً، لذلك نسترد في وقت وجيز هذه الطاقات التي فقدناها في مدة زمنية أطول. هكذا الحال بالنسبة لزيت المصباح الذي يُصب في وقت وجيز ويستهلك قليلاً قليلاً على مدى أطول. وحين يوشك الزيت أن يستنفذ يخفت نور المصباح، معلنًا أنه متعطش للوقود، منذرًا إيانا حتى نسرع في الحال لسد احتياجه حتى يسترد ضوءه بإمداده بالزيت، وهو الغذاء المناسب له والذي يوفي احتياجه. هكذا بالمثل ما نأخذه من طاقات. بتناولنا الطعام لا نفقده دفعة واحدة بل قليلاً قليلاً. نلاحظ هذه الظاهرة تحدث الآن وأثناء قيامنا بأي عمل ثم تستمر حتى أثناء راحتنا لأن طاقتنا في حالة تجديد دائم. إذا ما استنفذت تمامًا حينئذ يموت الإنسان كمصباح منطفئ. وحتى لا يأتي الموت، أي لا تخمد الحياة في هذا الجسد، أي لنحفظها فيه، يجب أن ننفخ فيه لنعوضه ما يفقده نملأه مرة ثانية بالطعام. لأنه لماذا نقول "نملأه ثانية"؟ ولماذا نفعل ذلك إذا كنا لم نفقد شيئًا؟ لذلك فإن هذا الاحتياج وهذه القابلية للموت يُرمَز إليها بالجلد الذي لبسه آدم وحواء عندما طُرِدا من الفردوس (تك 21:3-24). الجلد يُمَثِّل الموت، لأنه يُنزَع عادةً من جثث الحيوانات الميتة. لذلك بما أننا نحمل طبيعة ضعيفة وقاصرة، فحاجتنا للطعام لا تتوقَّف، بل نلجأ إليها دائمًا لاسترداد طاقتنا، ورغم ذلك لا نستطيع أن نتجنَّب الموت. وهكذا فيما يخص حالة الجسد خلال السنوات المتعاقبة طالما الجسد قائم سوف يأتي في النهاية إلى كبر السن وبعد ذلك لا يجد نهاية أخرى سوى الموت... لذلك طالما نحمل هذه الأجساد المائتة، نحتاج إلى ما ينقصنا، وينبع الجوع عن هذا الاحتياج فنأكل نتيجة لهذا الجوع. لكن على العكس لا يأكل الملاك عن احتياج. كما قلنا الواحد يأكل عن اقتدار (الملاك) والآخر (الإنسان) عن احتياج. يأكل الإنسان حتى لا يموت. أما الملاك فيأكل حتى يتكيَّف مع ضعف الإنسان. لأنه إن كان الملاك لا يخشى الموت، فهو لا ينتعش بنقص الطعام. وإن كان لا ينتعش بنقص الطعام إذًا هو لا يأكل عن احتياج. ومع ذلك فالذين رأوا الملاك يأكل ظنُّوا أنه جائع. هذا ما قاله: "وكان يظهر لكم..." لا يقول: تراني آكل لكنني لم أكل، لكنه يقول "كان يظهر لكم" بمعنى أنني أكلت لأعمل وفق طرقكم، وليس بسبب الجوع أو أي احتياج تختبرونه فيجبر على الاعتقاد أن كل من ترونه يأكل هو يأكل للاحتياج فقط، لأنكم تحكمون على الآخرين بمقياسكم أنتم، وهذا هو معنى الكلمات، "وكان يظهر لكم...[19]" القديس أغسطينوس * رأيتني آكل لكن كل ما رأيته هو رؤيا (طو 12: 19)، بمعنى: لقد ظننت أنني أخذت طعامًا كما أنت فعلت لإنعاش جسدي... بالحقيقة حتى بعد القيامة عندما صار جسد (المسيح) روحيًا، بالحقيقة أخذ ربّنا طعامًا وشرابًا مع تلاميذه (لو 24: 42-43). إنه ليس طعامًا عن احتياج الجسد ليأكل ويشرب... ستصير الأجساد روحية دون إنكار أنها أجساد. إنما وجودها قائم على الروح الواهب الحياة. القديس أغسطينوس انسحق قلبي بحب ملاكك لبني البشر * حلَّت اللحظة الحاسمة ليرفع رئيس الملائكة الحجاب عن شخصه! لم تنته رسالة رئيس الملائكة عند إقامة حفل العُرْسِ في نينوى. لم يكن الحفل قاصرًا على طوبيت وحنة مع العروسين، بل جاء الأقارب واليهود المسبيون يشاركون الأسرة تهليلها في الربّ. * في لقاء سرّي بين رئيس الملائكة وطوبيت وطوبيا، تحدَّث رئيس الملائكة معهم، مُعلِنًا لهما ما يشغله من نحوهما. قدَّم لي ولإخوتي المؤمنين درسًا رائعًا عن الحب الممتزج بالتواضع بروح التهليل. هذا الحب هبة نعمة الله لكل السمائيين كما هو مُقدم ليتمتَّع به المؤمنون. * بينما كان طوبيت وطوبيا يناقشان كيف يُعَبِّران عن تقديرهما لهذا الأجير المتخفّي، إذا به يرد لهم هذا الحب بالحب. فماذا قَدَّم في حُبِّه لهما؟ قَدَّم لهما أثمن وصية تُحسَب كنزًا في عيني الله. الصلاة الصالحة مع الصوم والصدقة والبرّ. هذا هو الأجر الذي يُسرّ به رئيس الملائكة. أن يرانا حاملين برّ الله، مؤهَّلين بالحق للميراث الأبدي. * لقد أخفى حقيقة شخصه إلى حين، وأخفى عمله معهما حين كان يحمل صلواتهما وخدمتهما للربّ. لكن حان الوقت ليعلن أن ما فعله هو بأمر الله محب البشر. طلب أن يُقَدِّما الشكر لله الذي أرسله. ملحق طوبيت 12 مقتطفات من قطعة شعرية للأب برودينتيوس عن الصوم سبق لنا الحديث عن هذا الأب في ملحق طوبيت 2. وضع هذا الأب قطعة بالشعر عن "الصوم"، ودعاه "سرّ الصوم The Mystery of Fast" في 220 بيتٍ شعريٍ. يفتتح القطعة في فترة الصوم، قائلاً إننا نُقَدِّم الصوم الطاهر والمقدس تقدمة للناصري نور بيت لحم، كلمة الآب السرمدي، المولود من رحم العذراء. الصوم يُحَرِّرنا من ثقل الشهوات الجسدية لنصم عن الشهوات الجسدية ونستند بالسماويات الصوم المقدس وحياة البرية أو الوحدة لقاء موسى النبي الصائم مع الله المُمجد! المعمدان الصائم الناسك الصوم يُحَرِّرنا من ثقل الشهوات الجسدية دعا هذا الأب الصوم "سرًّا"، لأنه لا يقف عند الامتناع عن الطعام والشراب، أو استبدال الأطعمة الدسمة والشهية بأطعمة أخرى مثل الخضروات وأحيانًا الأسماك. إنما هو سرّ يمسّ علاقتنا بالله، حيث يطلب المؤمن نعمة الله أن تعمل فيه، فيتحرَّر من الضجر والتذمُّر، كما يُلجِم اللسان وكل أعضاء الجسم عن الشهوات الجامحة كالنهم والإدانة والشهوات الجسدية والمزاح الباطل والخمول وكثرة النوم. هذا من الجانب السلبي، أما من الجانب الإيجابي، فالصوم يُحَرِّك القلب بعواطفه والعقل بأفكاره وكل الطاقات الداخلية والأعضاء للعمل بقيادة روح الله بتعقُّلٍ وحكمةٍ لبنيان ملكوت الله فينا. * بالحقيقة ليس شيء أنقى من هذا السرّ، الذي يُطَهِّر كل تليّف للقلب المتضجر، ويُلجم الجسد بكل شهواته الجامحة، لئلا تفرح رائحة الدخان الصادرة عن اللحوم الدسمة، فتُثقل الذهن بقوة خانقة. [6-10] * يُخضع هذا الصوم الانحلال والنهم، وينزع الخمول المعيب الصادر عن النوم الثقيل والخمر، والشهوة الخسيسة والهزل الإباحي والمزاح، هذه الأمراض المتعددة التي تصيب الحواس المتسيبة، يلزم ضبطها بعصا الزهد. [11-15] * من يستسلم للطعام والشراب (بتهاونٍ)، لا يستطيع شكم الجسم بالأصوام المقدسة. فيتقلص لهيب روحه السامية المتلألئة الطاهرة، بكل الشهوات الخانقة، ويطفئه. بهذا تسقط النفس في النوم ببلادة مشاعرها. [16-20] لنصم عن الشهوات الجسدية ونستند بالسماويات لا يقف الصوم عند ضبط شهوة الأكل والشرب، وإنما يلزم أن يمتد إلى داخل الإنسان فيكفّ بنعمة الله عن الشهوات الجسدية، وتنطلق النفس نحو السماويات بروح الحكمة. الصوم لا يُحَدّ بالامتناع عن الكلام الباطل فحسب، إنما أن يتقدَّس اللسان ليُسَبِّح الخالق السماوي! * ليتنا إذ نضبط شهوات الجسد بلجامٍ حازمٍ. ونسمح لنور الحكمة أن يشرق في قلوبنا. تشق النفس السماوات وتعبر إليها برؤيا قوية. وتتنسم هواء السماء المُتَّسِع. فتُسَبِّح خالق كل الأشياء بأكثر كمالاً. [21-25] الصوم المقدس وحياة البرية أو الوحدة عاش إيليا النبي في البرية كمن هو منطلق للتأمل في السماويات، حتى ظن بعض الأنبياء أن روح الربّ كان يحمله من قمة جبلٍ إلى جبلٍ آخر، أو من موضعٍ إلى آخر خاصة في البرية (2 مل 2: 16-18). كان الصوم يسند هذا النبي فلا يتعلَّق قلبه بأمرٍ زمنيٍ يعوقه عن التفكير في السماويات. هكذا يليق بنا في ممارستنا للصوم أن ينطلق فكرنا إلى فوق للتأمل في الأبديات ولا تأسرنا الزمنيات. * إيليا بحفظه الصوم المقدس، تزايد في النعمة، وكان الكاهن القديم الذي سكن في البرية بعيدًا عن العالم الباطل. قيل إنه تجنَّب كثرة من الخطايا، وسط مباهج الوحدة البسيطة... [26-30] * وبمبادرة انطلق في الهواء نحو السماء. حملته مركبة نارية تجرها فُرس نارية. حتى لا تلمس النسمات الدنسة الأرضية هذا الرجل القديس. هذا الذي عاش سنوات طويلة حياة السلام والهدوء. عُرِف بالزهد الذي يُطهر نفسه (2 مل 2: 11). [31-35] لقاء موسى النبي الصائم مع الله المُمجد! يتصوَّر هذا الشاعر موسى النبي الذي قضى أربعين نهارًا وأربعين ليلة في حضرة الله وهو صائم لا يأكل ولا يشرب (تك 24: 18). يرى كأن الله يحدق بعينيه على نبيه المحبوب موسى الذي تأهَّل بالصوم أن يتمتَّع بهذه الحضرة الإلهية المجيدة. بهذا فتح الباب للمؤمنين المُخلِصين أن يمارسوا الصوم المقدس بهدف التلامس مع حضرة الله، فينعكس بهاء الله عليهم. في تأمل سريع يرى الأب برودينتيوس كأن الشمس قد مارست 40 دورة خلال الأربعين يومًا وسط الكواكب الأخرى وهي تدهش لهذا الصائم الذي لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماءً، لأن الله صار طعامه وشرابه الروحي. وإن كانت الأرض هي التي تدور، لكننا نرى كأن الشمس هي التي تُشرِق وتتحرَّك ثم تغرب حتى الشروق التالي. * موسى الوسيط المخلص أمام عرش الله لم يقدر أن ينظر ملك السماء السابعة، حتى حققت الشمس دورتها المتسعة بين الكواكب أربعين دورة. في كل هذه الأيام تطلَّع (الله) على النبي الذي ينقصه الخبز (تك 34: 28). [36-40] * إذ اجتمع مع الله كان طعامه الوحيد هو الدموع. كان يبلل التراب بالليل ببكائه. كان ينحني إلى أسفل، ويضغط بوجهه على الأرض. حتى يتأثر بصوت الله الذي ينذره. كان يرتعب أمام تلك النار البهية التي تعجز العيون الجسدية (عن رؤيتها). [41-45] المعمدان الصائم الناسك للقديس يوحنا المعمدان دوره الفريد، يراه القديس مار يعقوب السروجي أنه الوحيد بين أناس الله الكارزين يُنسَب للعهدين القديم والجديد، كواحدٍ من الأنبياء وفي نفس الوقت من رجال العهد الجديد إذ رأى السيد المسيح. بدأ خدمته وكرازته وهو جنين في بطن أمه، وأشار إلى السيد المسيح، قائلاً: "هذا هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم" (يو 1: 20). جاء كلمة الله المتجسد إلى العالم ليشارك البشرية في الأكل والشرب "حلّ بيننا" (يو 1: 14) وصار كواحدٍ منا، حتى نستطيع أن نقترب إليه وندخل معه في صداقةٍ، لكنه أَعدَّ السابق له. فكان رجل صوم وزهد وعاش في البرية. نزل الحق (كلمة الله) إلى العالم، وأَعَدّ القديس يوحنا له الطريق كما تنبأ عنه إشعياء النبي. تحدث عنه الأب برودنتيوس في هذه القطعة الشعرية عن الصوم، فقال: * تفوَّق يوحنا المعمدان في هذا الطقس (الصوم). السابق لابن الله الأبدي (يهيئ له الطريق)، الذي جعل الطرق الملتوية والمنحنية مستقيمة. أصلح المنحنيات وهيَّأ الطرق. جعل الطرق الرئيسية سهلة يسير فيها كل بشرٍ (مت 3: 3). [46-50] * إنه رسول الربّ الذي اقترب مجيئه (بتجسده). حفظ (يوحنا) الناموس بأمانة، وهيَّأ الطريق حسنًا. جعل كل تلٍ منخفضًا، والطرق الوعرة سهلة. لئلا إذ ينزل الحق من السماء إلى الأرض، يوجد حاجز لاقترابه السريع. [51-55] * كان (يوحنا) عجيبًا في ميلاده، وفي طريقه العام. الطفل الذي وُلِد مؤخرًا كان يرضع من ثديي أمه الجافين. حضن العجوز كان لا يزال يُقَدِّم لبنًا. لقد تقدَّمت المرأة (اليصابات) في السن جدًا قبل أن تلد. لقد عرف (يوحنا) ربَّه وهو في رحم أمه (لو 1: 42-43). [65-60] _____ |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
تفاصيل اللقاء الأخير بين هيثم أحمد زكي وأخيه |
اللقاء الأخير لـ فيلان شقيقان في الهند |
اللقاء الأخير |
مرتضى منصور يكشف عن اللقاء الأخير لفيريرا |
المقال الأخير للحسيني أبوضيف قبل إصابته |