جاء مملوءاً نعمة وحقاً
نقرأ في هوشع 7: 8 «أَفرايم صارَ خُبزَ مِلَّةٍ لَمْ يُقلَبْ»، أي إن أفرايم أصبح مثل الكعكة التي وُضعت على النار لتُخبَز ولكنها تُركت على جانب واحد، حتى احترق والجانب الآخر ما زال نيئًا؛ والنتيجة أن تصبح الكعكة غير صالحة للأكل بالمرة. ويستخدم الرب هذا التشبيه لتوضيح الحياة البشرية غير المتزنة، حيث نرى الإنسان ينحاز ويتطرف في اتجاة معين وينسى الجانب الآخر تمامًا؛ وتكون النتيجة حرمانه من الحياة الناضجة الصحيحة، وحرمان الآخرين من الاستفادة من إمكانياته ومواهبه التي أعطاها له الله.
لكن عندما ننظر إلى سيدنا العظيم، كالإنسان الكامل على الأرض، نراه يطبِّق مبدأ الاتزان الكامل في حياته، مُحقِّقًا ما جاء عنه بالنبوة «قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يُخرِج الحق» (إشعياء 42: 3)، وفيه «الرحمة والحق التقيا، البر والسلام تلاثما» (مزمور 85: 10). وعندما كان في الأرض، قيل عنه «مملوءًا نعمة وحقًا» (يوحنا 1: 14). لنتأمل قليلاً في بعض المواقف التي نرى فيها حياة الاتزان الصحيحة التي عاشها على أرضنا، فنتعلم منه هذا الدرس الهام.
أولاً: في الحياة الشخصية
الخلوة الشخصية والخدمة: كثيرًا ما ننشغل بالخدمة والمسؤوليات اليومية العاجلة والهامة، فلا نجد الوقت الكافي للجلوس والسكون في الخلوة مع إلهنا المحب؛ وتكون النتيجة اضطرابات وتوترات في الحياة. لكن ما أعظم سيدنا، الذي نقرأ عنه في إنجيل مرقس، كالخادم الكامل، أنه كان يقضي فترات كثيرة في الصلاة منفردًا، سواء في الصباح الباكر أو في المساء، ثم يتجة إلى تتميم العمل الذي أعطاه الآب أن يكمله (مرقس 1: 21-35).
الخضوع للآب السماوي وللسلطات الأرضية: كثيرًا ما ننخدع من العدو ونُقنع أنفسنا بأنّ الخضوع لله يبرّر لنا تجاوزنا في الخضوع للسلطات الأرضية أيضًا. فعندما كان في سن الثانية عشر من عمره، وذهب مع أبويه الأرضيين إلى الهيكل، ودخل وجلس وسط المعلّمين يسمعهم ويسألهم، كان لسان حاله «ينبغي أن أكون في ما لأبي». ولكن عندما جاء أبواه، وطلبا أن ينزل معهما إلى الناصرة «نزل معهما... وكان خاضعًا لهما» (لوقا 2: 45-51). وفي مرة أخرى، سُئِل عن أعطاء الجزية لقيصر، فكان جوابه «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (مرقس 12: 17).
الاهتمام بالخدمة لم يُنسه الاهتمام بأمه: البعض يُقنع نفسه بأن الانشغال بخدمة الرب والآخرين تأخذ الأولوية، حتى على حساب احتياجات العائلة. ولكن ما أعظم سيدنا! حيث نراه وهو على الصليب، في أصعب مشهد على الأرض، وهو في قمة الآلام تنفيذًا لخطة الله العظيمة للخلاص، لم ينسَ احتياجات أمه المطوبة مريم ومشاعرها الحزينة، فنقرأ «فلمٍّا رأَى يسوع أُمَّهُ والتلميذ الذي كان يُحبُّهُ واقفًا، قال لأُمهِ: يا أمرأة، هوذا ابنكِ. ثم قال للتلميذ: هوذا أمُّكَ» (يوحنا 19: 26، 27).
المشاركة في أفراح وأحزان الآخرين: يظن البعض أن مشاركة الآخرين أفراحهم أو أحزانهم ليس له أهمية خاصة في الحياة، ونسوا ما يُعلِمهُ الروح القدس «فرَحًا مع الفَرحينَ وبُكاءً مع الباكينَ» (رومية 12: 15). وهذا ما نراه في حياة سيدنا على الأرض فنقرأ أنه «كان عرسٌ في قانا الجليل... ودُعيَ أيضًا يسوعُ وتلاميذهُ إلى العرسِ»، ثم نقرأ عن حادثة إقامة لعازر من الأموات «فلما رآها (مريم) تبكي واليهود الذين جاءوا معها يبكون... بكى يسوع» وهكذا كان وجوده في الحالتين الفرح والحزن ليس فقط مشاركة اجتماعية بل سبب بركة عظيمة لكل الحاضرين (يوحنا 2: 1-11؛ 11: 17-44).
ثانيًا:في الخدمة والتعامل مع الآخرين
الاهتمام بالجموع الغفيرة وكذلك الأشخاص منفردين: يميل البعض للاهتمام بالأعداد الكثيرة ويهملون الاحتياجات الفردية، لكن سيدنا؛ وسط مشاغله الكثيرة والجموع الغفيرة التي كانت تحيط به، لم ينسَ أو يقلِّل من أهمية العمل الفردي؛ فنقرأ مثلاً في يوحنا 4 قصة تقابلة مع المرأة السامرية على انفراد حيث روى عطشها الروحي فتحولت إلى امرأة كارزة للآخرين. وغيرها في الإنجيل ذاته.
الاهتمام بالأمور الكبيرة وكذلك الصغيرة: عندما نقرأ معجزة إشباع الجموع الغفيرة في الأناجيل الأربعة، نرى كيف أن السيد العظيم لم يهتم فقط بإشباعهم من الخبز والسمك بل اهتم أيضًا بطريقة توزيع الطعام؛ حيث أمر التلاميذ أن يُتكئوا الجموع «رفاقًا رفاقًا» على العشب الأخضر، ثم بعد أن أكلوا وشبعوا «قال لتلاميذه: اجمعوا الكِسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء» (مرقس 6: 39-44). أين نحن من هذا؟ كثيرًا ما نركز على الأمور الكبيرة ولا نهتم بالتفاصيل الصغيرة؛ فنُصاب بالفشل في تحقيق الهدف المطلوب من الخدمة.
الاهتمام بالاحتياجات الروحية وكذلك الجسدية للمخدومين: كثيرًا ما نركز على الاحتياجات الروحية للنفوس التي نخدمها وننسى أن الله خلق الإنسان كيانًا واحدًا متكاملاً، روحًا ونفسًا وجسدًا، فتكون خدمتنا ناقصة. أما سيدنا فنقرأ عنه أنه «أبصر جَمعًا كثيرًا، تحنن عليهم وشفى مرضاهم» ولما تقدم إليه التلاميذ قائلين «الموضع خلاء والوقت قد مضى، اصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعامًا»، كان جوابه لهم «لا حاجة لهم أن يمضوا، أعطوهم أنتم ليأكلوا» وكانت النتيجة النهائية «أكل الجميع وشبعوا» لقد سدد الاحتياجات الروحية والنفسية والجسدية (متى 14: 14-21). ما أعظمه معلِّمًا!
الغيرة المقدّسة والانتباه لعدم إيذاء الآخرين: كثيرًا ما نندفع بغيرة مقدسة صحيحة، لكن لا نراعي وضع الآخرين الذين نتعامل معهم؛ فنتصرف بدون حكمة ونتسبب في إيذاء الآخرين بدلاً من إصلاح وضعهم، وهكذا تفقِد رسالتنا تأثيرها الصحيح في النفوس. ولكن دعونا نتأمل ما فعله سيدنا عندما دخل الهيكل ووجد الذين كانوا يبيعون بقرًا وغنمًا وحمامًا والصيارف جلوسًا. ماذا فعل؟ صنع سوطًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم. ولكن يا للعجب، عندما جاء إلى باعة الحمام لم يقلب أقفاص الحمام، وإلا كانت قد طارت في السماء وخسر الباعة مصدر رزقهم. لكن ما أمجدة سيدنا إذ قال «ارفَعُوا هذهِ مِنْ ههُنا» (يوحنا 2: 13-17).
كلام النعمة المصلح بملح: ما أخطر تأثير الكلمة على سامعيها وبحق قال الرب يسوع «بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان» (متى 12: 37). كثيرًا ما لا نتنبة لكلامنا الخارج من أفواهنا، ونندفع بدعوى إعلان الحق دون انتقاء الكلمات المناسبة للشخص الذي نتكلم معه، فنقدم “ملحًا بدون نعمة”. دعونا نرجع لمقابلة الرب مع المرأة السامرية، ونرى كيف كان حديثهُ معها المثال الأعظم لتوازن النعمة والحق معًا. فعندما قال لها «ادعِي زَوجَكِ» كانت إجابتها «ليس لي زوج». فماذا كان ردّه؟ كان يمكن أن يقول لها “نعم أنا أعلم انكِ تعيشين في الزنا وعليك أن تتوبي عن ذلك الآن”. لكن ما أعظمه مثالاً في كل شيء، قال لها «حسنًا قُلتِ... هذا قُلتِ بالصدقِ». وهكذا استطاع كلام النعمة المُصلَح بالملح أن يكسر الحاجز النفسي لديها لتفتح قلبها له حتى النهاية.
هذا قليل من كثير نرى فيه حياة الاتزان الرائعة التي عاشها سيدنا العظيم على الأرض.
ليتنا نتعلم هذا الدرس الرائع والهام فلا ننجرف للتطرف إلى اتجاه معين دون أن نضع في الاعتبار الجوانب المختلفة من الأمر، وبالتالي بدلاً من أن نكسب الآخرين نتسبب لهم في متاعب أكثر.
لنذهب إليه ونتعلم منه، فهو الذي قال بحق «تعلَّموا منِّي، لأني وديع ومتواضع القلب» (متى 11: 29).