13 - 09 - 2022, 04:29 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
الاحد الثاني من المجيء: مجيء الرب ورسالة يوحنَّا المعمدان
(متى 3: 1-12)
يصف انجيل الاحد الثاني من المجيء (متى 3: 1-12) رسالة يوحنَّا المعمدان في اعداد طريق الرب على ارضنا. فهو مثالنا في زمن المجيء. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع نص الإنجيل وتطبيقاته.
أولا: وقائع نص الإنجيلي (متى 3: 1-12)
1في تِلكَ الأَيَّام، ظهَرَ يوحنّا المَعمَدان يُنادي في بَرِّيَّةِ اليَهودِيَّةِ فيقول:
تشير عبارة "في تِلكَ الأَيَّام " الى ذلك العصر أو ذلك الزمان، وقد حدّد لوقا عمر المسيح في هذا الوقت بحوالي 30 عامًا (لوقا 23:3). وقد سبق القدّيس يوحنا المعمدان يسوع بأشهرٍ قليلة حينما بلغ الثلاثين مــــن عمـــره،وهو السن القانوني للخدمة الكهنوتيّة عند اليهود؛ اما عبارة "ظهَرَ" فتشير الى بدء خدمة المعمدان قبل خدمة المسيح بشهور؛ أما عبارة " يوحنّا المَعمَدان " فتشير الى يوحنا وقد أطلق عليه الشعب اسم المعمدان لأنه كان يُعمّد. وُلد تقريباً سنة 7 ق. م. في عين كارم حسب التقليد المسيحي، وهو ابن زكريا وأليصابات ونسيب يسوع المسيح (لوقا 1: 5-80). وكان من حق يوحنا أن يصير كاهنًا، ولكنه كُرّسمنذ ولادته ليكون سابق المسيح (لوقا 1: 5-25)، فترك الهيكل والكهنوت ذاهبًا إلى البرية ليهيئ الطريق لربنا يسوع. وكان ملاخي قد سبق وتنبأ عنه (ملاخي 1:3) وتنبأ عن مجيء إيليا قبل مجيء الثاني للمسيح (ملاخي 4: 5)، ولما كان اليهود لا يفهمون أن هناك مجيء أول ومجيء ثاني، ظنوا أن إيليا يجب أن يظهر قبل المسيح. ولكن المعمدان جاء في صورة إيليا الساكن في البراري والجبال وبنفس قوته، أما عبارة "يُنادي" في اللغة اليونانية κηρύσσω وفي العبرية יִּקְרְאּ فتشير الى المناداة باسم الملك كما هو الشأن مع يوسف في مصر "نَزَعَ فِرعَونُ خاتَمَه مِن يَدِه وجعَلَه في يَدِ يوسف، وأَلبَسَه ثِيابَ كَتَّانٍ ناعِم وجَعَلَ طَوقَ الذَّهَبِ في عُنُقِه، وأَركَبَه مَركَبَتَه الثَّانِيَة، ونادَوا أَمامَه: ((اِحذَرْ)). وهكذا أَقامَه على كُلِّ أَرضِ مِصْر"(تكوين 41: 42-43). ثم انتقل المعنى الى الحقل الديني أي المناداة باسم الله "أُنفُخوا في البوقِ في صِهْيون وآهتِفوا (نادوا) في جَبَلِ قُدْسي ولْيَرتَعِدْ جَميعُ سُكَانِ الأَرض فإِنَّ يَومَ الرَّبِّ آتٍ وهو قَريب "(يوئيل 2: 1). وتُستعمل هنا هذا الفعل "يُنادي " للدلالة على كرازة يوحنا المعمدان، وستستعمل أيضا للدلالة على كرازة يسوع (متى 4: 17) وكرازة تلاميذ يسوع (متى 10: 7) وكرازة الكنيسة الأولى (اعمال الرسل 8/ 5). وفي انجيل متى، يرد مضمون المناداة بإيجاز بعبارة " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات " (متى 3: 2)، او يُشار اليه بعبارتي " بشارة الملكوت" (متى 4: 23) او "البشارة" (متى 26: 13). ويجدر بالذكر ان فعلي "نادى" و "بشّر" هما شبه مترادفين؛ أما عبارة " بَرِّيَّةِ" فتشير الى منطقة قليلة السكان والتي تبعد نحو قرابة 32كم عن اورشليم وبيت لحم. ولم تكن برّيّة قاحلة، إنّما كانت تضم ست مدن مع قراها (يشوع 15: 61-62)، لكنها منطقة غير مزدحمة وغير مُحاطة بالحقول والكروم كبقيّة البلاد. وفي هذه البرية عاش يوحنا صباه (لوقا 1: 80)؛ والبرية تحمل في الكتاب المقدس رنة عميقة. فهناك عاش الشعب العبراني بداية مسيرته مع الرب، والى هناك أراد الرب ان يُعيد شعبه (هوشع 2: 16)؛ اما عبارة "اليَهودِيَّةِ " فتشير الى منطقة غير محددة تحديداً دقيقاً، تقع بين سلسلة الجبال الممتدة من أورشليم الى حبرون (الخليل)، والبحر الميت (متى 3: 5).
2 ((توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات)).
تشير عبارة " توبوا " في الأصل اليوناني μετανοέω الى تغيير في العقلية وفي النظر الى الأمور وتبديل في القلوب من جهة الخطيئة. وهو الموضوع الرئيسي الذي عالجه إرميا والانبياء في العهد القديم؛ فالتوبة تتطلب تغيير الاتّجاه حيث يعطي الإنسان لله الوجه لا الظهر خلال اتّحاده بالمسيّح والعودة بلا شرط الى إله العهد، كما يصف ارميا النبي " إِنَّهم قد وَلَّوني ظُهورَهم لا وُجوهَهم" (إرميا 2: 27), ويُوحّد متى الإنجيلي بين مواعظ يوحنا المعمدان "توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات" (متى3: 2)، وقد عبَّر اليهود عن هذه التوبة بقبول المعمودية لمغفرة الخطايا، ومواعظ يسوع " تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات " (متى 4: 17)، وقد عبّر المسيحيون عن هذه التوبة بمعمودية الروح القدس. لكن هناك تمييز بين خدماتهما الرسولية: يوحنا يُعّمد بالماء، اما يسوع فيعمّد بالروح القدس (متى 3: 11)؛أما عبارة "اقتَربَ" فتشير الى ان ملكوت الله صار قريبا، وبالتالي بدء نظام جديد، وتدل العبارة أيضا على ان الملكوت حاضر " فقد وافاكُم مَلكوتُ الله"(متى 12: 28)؛ وهذا الحضور يمكن ان يفهم بطرق مختلفة: فأمّا ان هذا الملكوت قد حُقّق تماماً، وإمّا أنه أفتتح افتتاحا سريا في شخص يسوع ونشاطه، على ان يُظهر علانية للجميع في وقت قريب. ومهما يكن الآمر، فإنّ الملكوت يقتضي ان يتوب الإنسان؛ أما عبارة "مَلكوتُ السَّموات" فتشير الى اصطلاح خاص في انجيل متى، أما باقي الإنجيليين فكانوا يستعملون اصطلاح ملكوت الله. لأن متى كان يكتب لليهود الذي اعتادوا ان لا يلفظوا اسم الله. فاستعمل متى الإنجيلي عبارة "ملكوت السماوات" (33) مرة، واستعمل (4) مرات عبارة "ملكوت الله" (متى 12: 28، 19: 24، 21: 31). ولا تدل عبارة " ملكوت السماوات " على ان هذا الملكوت سماوي، بل ان الرب الذي في السماوات يملك على العالم. وقد ورد في العهد القديم أنَّ الملكوت هو للرب كما يترنم صاحب المزامير "لأَنَّ المُلكَ لِلرَّبَ وهو يَسودُ الأمَم" (مزمور 22: 29)، ويبشّر متى الانجيلي بان هذا الملكوت الدائم قد اقترب من الناس في شخص يسوع عندما دخل الله بنفسه الى تاريخ الجنس البشري كإنسان. فالمسيح يسوع يملك الآن في قلوب المؤمنين، كما يقول الرسول بولس " إِنَّ الكَلامَ بِالقُرْبِ مِنكَ، في فَمِكَ وفي قَلبِكَ " (رومة 10: 8). لكن ملكوت السماوات لن يتحقق تماما إلاَّ بعد إدانة كل الشر الذي في العالم وإزالته. والملكوت هو واقع حاضر وهو رجاء مقبل، وهو ليس مكان ندخل إليه بل هو حالة نعيشها.
3فهُوَ الَّذي عَناهُ النَّبِيُّ أَشَعْيا بِقَولِه: ((صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ واجعَلوا سُبُلَه قويمة)).
تشير عبارة "صوت" الى صوت الذي يسبق "الكلمة الإلهية"؛ صوت كرازة يوحنا المعمدان الذي يوجَّه النظر ليسوع، ويدعو الناس للتوبة فيكونوا مستعدين لقبول الرب يسوع؛ فالغرض الوحيد لوعظ يوحنا المعمدان ان يوجّه أنظارالناس ليسوع بدعوتهم الى التوبة، وبذا يجعلهم مستعدِّين لقبول الرب؛ اما عبارة " اجعَلوا سُبُلَه قويمة " فتشير إلى عبارة مقتبسة من اشعيا النبي " صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: ((أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وآجعَلوا سُبُلَ إِلهِنا في الصَّحْراءِ قَويمة "(اشعيا 40: 3)، فنجد الفرق في عبارة "سُبُلَ إِلهِنا" في سفر أشعيا، وعبارة " سُبُلَه في أنجيل متى . فمتى الإنجيلي ُطبّق هذه النبوءة على يسوع نفسه. "الرب هو الله في العهد القديم، وهو هنا في العهد الجديد يسوع المسيح الذي يهيئ له يوحنا المعمدان الطريق، إذ كان من عادات الشرق أن يسبق الملك رسول يهيئ له الطريق، والسيّد المسيح كملكٍ روحيٍ أعد لنفسه رسولًا؛ اما عبارة " واجعَلوا سُبُلَه قويمة " فتشير الى طلب يوحنا المعمدان من المؤمنين ان يتوبوا، أي مَن ارتفع قلبه بالكبرياء، أو مَن التهب قلبه بالطمع أو الشهوة فليغير طريقه. والعكس فمن كان يشعر بيأس أو صغر نفس فليكن له رجاء منذ الآن كما تنبأ أشعيا "كُلُّ وادٍ يَرتَفعِ وكُلُّ جَبَلٍ وتَلٍّ يَنخَفِض والمُنعَرِجُ يُقَوَّم ووَعرُ الطَّريقِ يَصيرُ سَهلاَّ " (اشعيا 40: 4).
وتصبح طريقنا قويمة للرب عندما نستقبل بتواضعٍ كلماته، وتكون قويمة إن مارسنا حياتنا في توافق مع وصاياه. لذلك قيل " إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً "(يوحنا 14: 23). ويوصينا القديس أمبروسيوس "فليُعد طريق الرب في قلوبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق". فالمسيح وحده يستطيع ان يعطي حياتنا معنى.
4وكانَ على يوحنّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ.
تشير عبارة " لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد " إلى لباس الأنبياء التقليدي (زكريا 13: 4)، ولا سيما لباس إيليا النبي (2 ملوك 1: 8) الذي رآه يسوع في شخص يوحنا المعمدان (متى 17: 9-13). ان إيليا النبي لا بد ان يعود لدعوة أخيرة الى التوبة، قبل الدينونة الأخيرة (متى 11: 14). وقد كان انتظار نبي للأزمنة الأخيرة منتشرا في بيئات مختلفة، ولربما كان يستند الى قول موسى "يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون"(ثنية الاشتراع 18: 15) اما عبارة "الجَراد" فيشير الى اكل الفقراء جدا؛ واما عبارة " العَسلَ البَرِّيّ " فتشير الى العسل الذي يجدونه في الصخور وجذوع الأشجار. ونستنج من ذلك ان يوحنا المعمدان لم يكرز بناموس الله قط، لكنه عاشه.
5وكانَتْ تَخرُجُ إِليهِ أُورَشليم وجَميعُ اليهوديَّةِ وناحيةُ الأُردُنِّ كُلُّها.
تشير عبارة "تَخرُجُ إِليهِ أُورَشليم" الى امر جديد عكس العادة حيث الجماهير من كل مكان يتوجّهون إلى أورشليم في حين هنا تخرج الجماهير من اورشليم. فم يُعد هيكل اورشليم مصدر توجّه الجماهير، بل من المسيح الذي يهيأ له يوحنّا المعمدان. وعليه تدل الآية على ان الجماهير خرجت من كل المدن لتشهد أول نبي حقيقي على مدى أربعمائة عام، ولترى مثالًا حيًا للحياة التائبة العمليّة، الأمر الذي يفضح الفرّيسيّين لريائهم، اذ كانوا يتمسكون بحرفية الناموس، لكنهم يتجاهلون مضمونه الحقيقي فيُذكّرهم أنّه يجب عليهم أن يتوبوا لاستقبال المسيح من ناحية؛ ومن ناحية أخرى كسب يوحنا الجماهير لصَفّه، مقدّمًا لهم مفاهيم روحيّة تهدم أفكار الصدّوقيّين الذين كانوا يستخدمون الدين لتأييد موقفهم السياسي. لقد كانت رسالته قوية وصادقة وكان الشعب في انتظار نبي مثل أيليا (ملاخي 4: 5)، وبدا يوحنا هو هذا النبي. فلكي نرجع إلى الله ونلتقي به، علينا أن نخرج من العالم.
6فيَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم.
تشير عبارة "يَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ" الى معمودية يوحنا المعمدان التي كانت تُعرض على الجميع، ولا تُمنح إلاّ مرة واحدة، بعكس الاغتسال الطقسي اليهودي للحسيديم חֲסִידָים التي كان يتم يوميا للتطهير من النجاسات الطقسية (مرقس 6: 4)؛ كما تختلف معمودية يوحنّا عن معمودية الدخلاء التي كانت تطهّرهم لتمكنهم من الاتصال باليهود (مرقس 1: 4)؛ وفي أيام يوحنا المعمدان انتشرت هذه الممارسة انتشارا واسعا، كما هو الحال في شأن جماعة قمران حيث كان الاغتسال اليومي تعبيراً عن مثالهم الاعلى في الطهارة وهم ينتظرون للتطهير الجذري (القانون 2: 25-3: 12). وبإختصار، فإنّ معمودية يوحنَّا مرتبطة بالتوبة، فهي تُمهد للمعمودية التي أتى بها يسوع، معمودية الروح القدس والنار (متى 3: 11)؛ أما عبارة "نَهرِ الأُردُنِّ" فتشير الى النهر الذي ينبع من جبل الشيخ (حرمون) ويفصل بين فلسطين والأردن ويصب في البحر الميت مارا ببحيرة طبرية، ويبلغ طوله حوالي 251 كم. وعند نهر الأردن جدّد بنو إسرائيل عهدهم مع الله (يشوع 1: 2)، ودعاهم يوحنا المعمدان في نفس المكان ان يجدِّدوا عهدهم. وهناك أيضا كان يوحنا المعمدان يبشر ويعمد في الفترة الأولى من بشارته في موقع عند نهر الأردن معروف باسم "المغطس" وهو يقع في "وادي الخرار" في المملكة الأردنية الهاشمية. ويذكر يوحنا الإنجيلي الموقع باسم " بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ" (يوحنا 28:1) وهناك عدة ينابيع طبيعية تشكل بركاً يبدأ منها تدفق المياه إلى وادي الخرار، وتصب في النهاية في نهر الأردن. وقد تمَّ إدراج هذا الموقع المقدس على قائمة التراث العالمي تحت مسمى "موقع المعمودية بيت عنيا عبر الأردن"؛ أما عبارة "مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم " فتشير الى علامة ندامة داخلية لقبول المعمودية. فالاعتراف بالخطايا معروف في العهد القديم، ولا سيما في بعض الظروف مثل عيد التكفير (الاحبار 5: 5-5-6) او في رُتب تجديد العهد (عزرا 10: 1) 17). وهذا الإقرار بالخطايا يمثل عودة الانسان الى الله للحصول على الغفران (المزمور 32: 5). وحافظت الكنيسة على هذا الإقرار بالخطايا منذ انطلاقها مع بطرس الرسول الذي دعا المؤمنين الجدد الى التوبة والعماد لتغفر خطاياهم " فقالَ لَهم بُطرُس"توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (أعمال الرسل 2: 38).
7ورأَى كثيراً مِنَ الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّينَ يُقبِلونَ على مَعموديَّتِه، فقالَ لَهم: ((يا أَولادَ الأَفاعي، مَن أَراكم سَبيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟
تشير عبارة " الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّينَ " الى المقاربة بينهم بالرغم من انهما حزبين دينيّن متناقضين عقائديا وسياسيا. الفريسيون هم أهم طوائف اليهود الدينية، التي كانت قد ظهرت فيما بين العهدين، أيام المكابيين سنة 150ق.م. وهدفهم الدفاع عن وجهة النظر الدينية عند اليهود امام التأثير الهلنستي. والاسم " الفِرِّيسيِّينَ" هو صيغة يونانية Φαρισαῖος للفظة العبرية הַפְּרוּשִׁים أي “المفروزون". فهم "المنعزلون" عن كل ما ليس يهودياً. ويسمون أنفسهم " الحسيديم" חֲסִידָים أي الاتقياء، ويتعلّقون بشريعة موسى بدقة والتقاليد الشفوية أي تقليد الشيوخ (متى 15: 2)، وكانوا حماة الطقسي في الديانة اليهودية؛أما عبارة "الصدُّوقيون" فتشير الى طائفة يهودية كبيرة ويرجح انهم نشأوا أصلا كمضادين للفرِّيسيين. ويشتق اسمهم من اسم صادوق رئيس الكهنة، ومعنى اسم صادوق في اللفظ العبري צַּדּוּקִ " صادق ومعناه البار. وهم يؤمنون بأسفار موسى الخمسة فقط (من التكوين الى سفر تثنية الاشتراع) باعتبارها هي وحدها كلمة الله، لكنهم لا يؤمنون بقيامة الموتى والملائكة ولا يتمسَّكوا بتقليد الشيوخ (اعمال الرسل 23: 8)؛ وقد علموا أنَّ الفضيلة تراعى من اجل نفسها، وليس من أجل أي أجر، وأنكروا القيامة. وقد ارتبطوا بعالم السياسة؛ أما عبارة "قالَ لَهم " فيشير الى تعليم يوحنا المعمدان عن التوبة الحقيقية التي تتوجّه أولا الى الرؤساء: الفريسيين والصدوقيين. أما عبارة "الأَفاعي" في الصيغة اليونانية ἔχιδνα الى الصنف السام من الأفاعي. وهذه الأفعى رمز للقضاء الذي يحل بالأشرار كما قال الحكيم صوفَرُ النَّعماتِيُّ "رَضَعَ سُمَّ الأَصْلال فقَتَلَه لِسانُ الأَفْعى" (أيوب 20: 16) وهي رمز تدبير الشر التي يريده الأشرار " ينقُفونَ بَيضَ الحَيَّات ويَنسِجونَ خيوطَ العَنْكَبوت. وبَيضُهم مَن أَكَلَ مِنه يَموت وما كُسِرَ مِنه يَنشَقُّ عن أَفْعى"(أشعيا 59: 5)، اما عبارة "أَولادَ الأَفاعي" فتشير الى تدبير الشر التي يريده الفِرِّيسيِّونَ والصَّدُّوقيِّونَ ؛ أذ لم يكن يوحنا بالقصبة التي تحرّكها الريح فيهتز أمام هؤلاء القادة متملقًا إيّاهم، وإنما بقوّة كان يشتهي خلاصهم، فاضحًا الشرّ الذي فيهم، وعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " حسنًا دعاهم أولاد الأفاعي، إذ يُقال أن ذلك الحيوان عند ولادته تأكل الصغار بطن أمها وتهلكها فيخرجون إلى النور، هكذا يفعل هذا النوع من الناس، إذ هم قتلة آباء وقتلة أمهات يبيدون معلّميهم بأيديهم"؛ أما عبارة " الغَضَبِ الآتي " فتشير الى الدينونة الآتية، فالغضب يدل على موقف الله من الخطيئة، والعقاب الذي يُصيب الخاطئين (اشعيا 3: 27-33). ينبئ يوحنا المعمدان بمجيء الديان الوشيك، لكن يسوع يظهر بمظهر العبد الوديع المتواضع (متى 12: 18-21)، الذي يقول بولس الرسول فيه إنه يُنجّي من الغضب " تَنتَظِروا أَن يَأتِيَ مِنَ السَّمَواتِ ابنُه الَّذي أَقامَه مِن بَينِ الأَمْوات، أَلا وهو يسوعُ الَّذي يُنَجِّينا مِنَ الغَضَبِ الآتي"(1 تسالونيقي 1: 10).
8فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم،
تشير عبارة "ثَمَر" الى دعوة يوحنا الى الناس الى ما هو أكثر من مجرد طقوس، دعوة الى تغيير سلوك وعدم الاكتفاء في مظهر خاص من مظاهر التقوى او الأخلاق. فتغيير الحياة هي علامة التوبة الحقيقية. إذا كانت هناك توبة، فلتظهر في السلوك، وألا كانت توبة كاذبة. التوبة التي بلا ثمر هي مظاهر ورياء حيث إن دخول ملكوت الله ليس امتيازا خاصا بجنس او امه معينة بل هو مباح للجميع على أساس التوبة والايمان كما جاء في تعليم بولس الرسول " فلَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع. فإِذا كُنتُم لِلمسيح فأَنتُم إِذًا نَسْلُ إِبراهيم وأَنتُمُ الوَرَثَةُ وَفقًا لِلوَعْد"(غلاطية 3: 28-29).
9ولا يَخطُرْ لَكم أَن تُعلِّلوا النَّفْسَ فتَقولوا ((إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنَّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارةِ أَبناءً لإِبراهيم.
تشير عبارة "إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم" تشير الى اعتقاد اليهود ان الخلاص يقوم بالولادة او بارتباط ديني او اجتماعي. فهم يظنون أنهم يخلصون لمجرد انتسابهم لإبراهيم. ولكن المعمدان يشرح لهم أن الخلاص ليس ميراثًا من الآباء. وإن كان هؤلاء القادة قد اعتمدوا على نسبهم لإبراهيم، فيلزمهم تأكيد هذه البنوّة بذات الروح الذي عمل به أبونا إبراهيم. فقد أوضح لهم بطلان هذه الحجّة. فإن كانوا يدعون أنهم "أبناء إبراهيم" ففي الحقيقة هم "أولاد الأفاعي"، لأنهم لا يحملون إيمان إبراهيم الحيّ ولا يسلكون على منواله، فالخلاص يقوم على الايمان كما جاء في تعليم بولس الرسول لليهود " فلَيسَ اليَهودِيُّ بِما يَبْدو في الظَّاهِر، ولا الخِتانُ بِما يَبْدو في ظاهِرِ الجَسَد، بلِ اليَهودِيُّ هو بِما في الباطِن، والخِتانُ خِتانُ القَلْبِ العائِدُ إِلى الرُّوح، لا إِلى حَرْفِ الشَّريعة" (رومة 2: 28-29). بالإيمان نبرهن عن صدقنا بسلوكنا تجاهه. الرب هو الذي جعل منا ابناء إبراهيم، ابناء الايمان، وما يعمله فينا هو نعمة مجانية؛ اما عبارة "الحِجارةِ " فتشير الى تلك الحجارة אבנין التي كانت ملقاة على الأرض التي تدل على كل قلب تقسى وتحجر، والله يحركه بالتوبة فيصير ابنًا لإبراهيم.בנין ؛ وكل من تحجَّر قلبه، فالله قادر أن يحوّله مرة أخرى إلى قلب لحم كما جاء في نبوءات حزقيال " أُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم "(حزقيال 36: 26). ويرى القديس أوغسطينوس "أن الحجارة التي صارت أولادًا لإبراهيم إنّما تُشير إلى الأمم الذين عبدوا الأوثان فصاروا حجارة، وإذ قبلوا الإيمان الذي كان لإبراهيم صاروا من نسله روحيًا". ويقصد يوحنا المعمدان أن الامة اليهودية لم تمتلك في عيني الله، بسبب انتمائهم الى إبراهيم أكثر مما للحجار. كذلك نحن لا فائدة منا إن كنا مسيحيين بالاسم فقط، فإن لم يستطيع الآخرون أن يروا إيماننا في طريقة حياتنا.
10ها هيَ ذي الفَأسُ على أصولِ الشَّجَر، فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ ثَمراً طيِّباً تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار.
تشير عبارة " الفَأسُ على أصولِ الشَّجَر " الى آلة من آلات المحطِّبين (ثنية الاشتراع 19: 5)، وهي تدل على دينونة قريبة تُقطع الشجرة التي لا تثمر بعد ان تُعطى لها مهلة (لوقا 13: 7)؛ اما عبارة " فكُلُّ شجَرةٍ لا تُثمِرُ " فتشير الى الناس الذين يدّعون أنهم يؤمنون بالله لكنهم لا يعيشون له؛ واما عبارة "تُلقى في النار " فتشير الى عقاب ينتظر الهالكين. فهذا المثل يشير للغضب القادم. فالمسيح أتى ليُبشر بيوم مقبول وسنة مقبولة، فإما أن يستجيب الإنسان له أو تأتي عليه الدينونة.
11أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار.
تشير عبارة "أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة " الى ان المعمودية هي علامة خارجية للتوبة، اما العلامة الحقيقية فهي التوبة. فالمعمودية تفترض التوبة. ولهذا لم يعمّد يوحنا الفريسيين والصدوقيين، لأنهم لم يعطوا ثمرا يدلُّ على التوبة (متى 3: 7-8)؛ واما عبارة "ألآتي بَعدِي" فتشير الى السيد المسيح الموكب الرسمي الأخير وهو الأهم. وهكذا يعلن متى الانجيلي الى أتباع يوحنا المعمدان (اعمال الرسل 19: 1) ان رئيسهم يوحنا لم يكن هو المسيح، بل سابق المسيح ومهيّا الطريق له؛ اما عبارة " فهو أَقْوى مِنِّي" فتشير الى وصف يسوع بالقوي، وهي صفة تُطلق على الله في العهد القديم " أَيُّها السَّيِّدُ الإِلهُ العَظيمُ الرَّهيب، حافِظُ العَهدِ والرَّحمَةِ لِلَّذينَ يُحِبُّونَكَ ويَحفَظونَ وَصاياكَ "(دانيال 9: 4)، وتطلق هذه العبارة أيضا على المسيح المنتظر في العهد الجديد. ولم ترد هذه الصفة إلاَّ مرتين في إنجيل متى (متى 12: 29)، إذ يفضل متى كلمة "سلطان " على كلمة "قوة" كما جاء في وصف تعاليمه "لأَنَّه كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن لَه سُلطان، لا مِثلَ كَتَبَتِهم. (متى 7: 29)، كما جاء أيضا في وصف قدرته على مغفرة الخطايا " فلِكَي تَعلَموا أَنَّ ابنَ الإِنسانِ لَه في الأَرضِ سُلطانٌ يَغْفِرُ بِه الخَطايا "(متى 9: 6)، وفي وصف قوّته " إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض" (متى 28: 18)؛ أن القوة هي من صفات المسيح (اشعيا 11: 2)، ستظهر خاصة في صراع يسوع مع الشيطان (مرقس 3: 27)؛ اما عبارة " أَخلَعَ نَعْلَيْه “فتشير الى عمل من أعمال العبيد. ذاك هو وضع يوحنا بالنسبة الى يسوع؛ لقد شعر يوحنا أنه ليس مستحقا ان يؤدِّي، ولو واجبا صغيرا للرب يسوع. هذا هو سر اواضع يوحنا المعمدان وبالتالي عظمته؛أما عبارة " النَّار "فتشير الى عمل الله الذي يُطهّر ويمتحن "مَنِ الَّذي يَحتَمِلُ يَومَ مَجيئه ومَنِ الَّذي يَقِفُ عِندَ ظهورِه؟ فإِنَّه مِثلُ نارِ السَّبَّاك "(ملاخي 3: 2). فنار الروح القدس تحرق الفساد في حياة المؤمن وتلهبه من أجل الله، كما جاء في وصف أرميا النبي" كانَ في قَلْبي كنارٍ مُحرِقَة " (ارميا 20: 9). إن الصفة المميزة للمؤمن المسيحي هي انه ينقاد بروح الله كما يصرّح بولس الرسول " إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا" (رومة 8: 14). فإذا أراد الانسان ان يشارك الله في قداسته، عليه ان يمرّ في النار كالمعدن. ولكن إن رفض، كانت النار التي تمرّ في حياته غضبا وعقاباً (1 قورنتس 3: 12-13). هذا الأقوى هو إله وإنسان يسوع المسيح.
12بيَدِه المِذْرى يُنقِّي بَيْدَرَه فيَجمَعُ قَمحَه في الأَهراء، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بنارٍ لا تُطْفأ)).
تشير عبارة " المِذْرى " الى خشبة ذات أطراف الأصابع، ترفع بها الحبوب المختلطة بالتبن والقش، فتسقط الحبوب لأسفل لثقلها، أما القش والتبن فيطيران بعيداً. وبهذا تجمع الحبوب وحدها والتبن وحده، وهذا يتم في مكان متسع بجانب الحقل يسمى البيدر أو الجرن. وهذه العملية تسمى التذرية أي تنقية الحنطة من التبن؛ اما عبارة " القمح" فتشير الى الجزء النافع من النبات، وهو يجمع الى مخازن، اما التبن فهو قشرة خارجية لا قيمة لها فلذلك يحرق؛ كذلك الآن يعيش الأبرار مع الأشرار، والمؤمنون مع غير المؤمنين، حتى يأتي يوم الرب العظيم الذي يقوم بنفسه بالتذرية. أما عبارة " الأَهراء" ἀποθήκη فتشير الى المخزن او البيت الكبير الذي يجمع فيه القمح، وهي رمز الى الدينونة كما يؤكد متى الإنجيلي "يُرسِلُ ملائِكَتَه ومَعَهُمُ البُوقُ الكَبير، فيَجمَعونَ الَّذينَ اختارَهم مِن جِهاتِ الرِّياحِ الأَربَع، مِن أَطرافِ السَّمَواتِ إِلى أَطرافِها الأُخرى" (متى 24: 31)؛ أما عبارة "نارٍ " فتشير هنا الى الغضب، والغضب هو موقف الله من الخطيئة (اشعيا 30: 27-33)؛ أمِّا عبارة "لا تُطْفأ" فتشير الى نار لن تُخمد أبدا حتى يتم غرضها كما يُصرّح اشعيا النبي "لا تَنطَفِئُ لَيلاً ولا نَهاراً ودُخانُها يَصعَدُ مَدى الدَّهر ومِن جيلٍ إِلى جيلٍ تَخرَب وإِلى أَبَدِ الآبِدينَ لا يَجْتازُ فيها أَحَد" (اشعيا 34: 10)، فالحصاد صورة عن الدينونة الأخيرة في نهاية الأزمنة، وفيه يتم فصل الصالح عن الرديء (متى 13: 30). إن عملية الدينونة مستمرة خلال عصر الانجيل إذ يُفصل القمح من التبن بواسطة قبول الإنجيل او رفضه. ويبلغ ذلك حد الكمال في اليوم الأخير.
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 3: 1-12)
بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 3: 1-12)نستنتج ان النص يتمحور حول رسالة يوحنا المعمدان في البرية لأعداد الطريق لمجيء الرب وذلك من خلال رسالته النبوية والتعليمية.
1) رسالة يوحنا النبوية
هيّأ يوحنا المعمدان طريق الرب من خلال رسالته النبوية. إن الجميع ينظرون إلى يوحنا كنبي. وفي الواقع إنه أُسوة بأنبياء الأيام السالفة، يترجم الشريعة في عبارات تفيد في الحياة اليومية، فكان يوحنا على سيبل المثال يقول لهيرودس انتيباس "إِنَّ هِيروديّا امرَأَةِ أَخيهِ فِيلبُّس لا تَحِلُّ لَكَ" (متى 14: 4). وإنه يُنذر باقتراب الغضب والخلاص "توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات" فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم" (متى 3: 2 و8). وبواسطة يوحنا يُقدِّم كل الأنبياء الشهادة ليسوع " فَجَميعُ الأَنبِياءِ قد تَنَبَّأوا، وكذلك الشَّريعة، حتَّى يوحنّا (متى 11 :13). ويضيف لوقا البشير " ومِن ذلكَ الحِينِ يُبَشَّرُ بِمَلكوتِ الله، وكُلُّ امْرِئٍ مُلزَمٌ بِدُخوِله" (لوقا 16:16).
يُقدَّم يوحنا على ضوء نبوات الأنبياء، على أنه آتٍ ليعدّ قلوب الناس لمجيء يسوع المسيح. إنه يُبشر بالدينونة الأخيرة وبمجيء الملكوت. فكان لا بد من وجوده كي نلمس الفرق بين تعاليم النبوة وموضوعها أي المسيح. فيوحنا يميز نبوياً المسيح " ذاك " الذي هو موجود في العالم دون أن يعرفه العالم، مشير إليه " أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه" (يوحنا 1: 26). فكان ليوحنا رسالة نبوية حول مجيء المسيح من خلال مظهره ومأكله وتواضعه وموته.
ا) رسالة نبوية من خلال مظهره ومأكله
يصف متى الإنجيلي يوحنا المعمدان بقوله "كانَ على يوحنّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ. " وكان هذا لباس الأنبياء (زكريا 4:13). لقد قدّم متى الانجيلي هذا المظهر ليتذكّر اليهود إيليّا النبي الغيور، فقد جاء يوحنا المعمدان كإيليّا يسبق الرب. ويوحنا المعمدان الذي قدّر له أن يكون إيليا الجديد (لوقا 1: 16 -17)، يذكّرنا بالنبي إيليا العظيم بملبسه وبطريقة الحياة الخشنة (متى 3: 4) التي مارسها في البريّة منذ شبابه، لم يلبس يوحنا الملابس الطويلة كالفرّيسيّين، ولا الملابس الناعمة كحاشية الملك، وإنما ارتدى الملابس اللائقة بالدعوة للتوبة. تحوّل يوحنّا عن كلّ شيء من أجل أن يتطلّع إلى الربّ فقط. ليس لديه أيّ شيء في الصحراء؛ كلّ ما كان يملك هو ثوبه من وبر الإبل وأيّ طعام استطاع أن يجده في الصحراء. إنّ يوحنّا يعيش الرسالة الّتي كان يُعلنها. ويعلق العلامة أوريجانوس "كانت صرخات يوحنا لا تخرج من فمه فحسب، وإنما تنطلق من كل حياته، تعلنها حياته الداخليّة ومظهره الخارجي، حتى ملبسه كان أشبه بعظة صامتة وفعّالة، وأيضًا طعامه".
ويظهر يوحنا بما فيه من غيرة متّقدة أنه إيليا الجديد المنتظر الذي عليه أن يُعدّ الناس لمجيء المسيح (متى 11: 14)، كما تنبا ملاخي النبي "هاءَنَذا أُرسِلُ إليكم إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبلَ أَن يأتي يَومُ الرَّبِّ العَظيمُ الرَّهيب " (ملاخي 3: 23). وكان عمله " أن َيَرُدُّ قُلوبَ الآباءِ إِلى البَنينَ وقُلوبَ البَنينَ إلى آبائِهم، لِئَلاَّ آتي وأَضرِبَ الأَرضَ بِالتَّحْريم" (ملاخي 3: 24)، وهي آخر مهلة حدَّدها الله لتسكين الغضب قبل أن يتفجر كما جاء في كتابات يشوع بن سيراخ " اَكتُتِبتَ في إنْذاراتٍ للأيَّام الآتِيَة لِتُسَكِّنَ الغَضَبَ قَبلَ اْنفِجارِهَ وتردَّ قَلبَ الأبِ إلى الاْبن وتُصلِحَ أَسْباطَ يَعْقوب" (يشوع بن سيراخ 48: 10).
إن هذا الانتظار للأزمنة الأخيرة (مرقس 15: 35-36) قد تَمَّ في يوحنا المعمدان كما صرّح يسوع المسيح لتلاميذه " إِنَّ إِيلِيَّا آتٍ وسيُصلِحُ كُلَّ شَيء. ولكن أَقولُ لَكم إِنَّ إِيلِيَّا قد أَتى، فلَم يَعرِفوه، بَل صَنَعوا بِه كُلَّ ما أَرادوا. وكذلك ابنُ الإِنسانِ سَيُعاني مِنهُمُ الآلام. ففَهِمَ التَّلاميذُ أَنَّه كَلَّمهم على يوحنّا المَعمَدان"(متى 17: 10-13) لكن بطريقة سريّة، لأن يوحنا لم يكن هو إيليا كما جاء في رد يوحنا على من سأَلوه قال: " لَستُ إِيَّاه". (يوحنا 1: 21)، وإن كانت كرازته ترد قلوب الابناء إلى آبائهم فلم يكن هو الذي يسكن غضب الله. قد حقق يوحنا المعمدان مثال إيليا فيما يختص بالمناداة بالتوبة في البرية (متى 3: 4). لكن يسوع هو الذي حقَّق صفاته الرئيسية في الشفاء والخلاص. فمنذ الناصرة حدّد المسيح رسالته الشاملة بالمقارنة مع رسالة ايليا (لوقا 4: 25-26). لكن لم يبالِ اليهود برسالته.
ب) رسالة نبوية من خلال تواضعه
أقرّ المعمدان أنه لا يستحقّ أن يحلّ سير حذاء الذي يأتي بعده، مع أنه "كائن قبله" (يوحنا1: 19-30). "وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه "(متى 3: 11)، وهنا يتنبأ المعمدان عن مجيء المسيح “من يأتي" ويعمّد بالروح والنار (متى 3: 11-12)، فهو يسوع الذي نزل عليه الروح أثناء اعتماده على يده (يوحنا 1: 31-34).
وبعدما أعد يوحنا المعمدان البشر لملاقاة الرب، احتجب بعد مجيء يسوع كما صرّح يوحنا نفسه لليهود "أَنتُم بِأَنفُسِكم تَشهَدونَ لِي بِأَنِّي قُلتُ إِنِّي لَستُ المَسيح، بل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يوحنا 3: 28). وكما وصف يوحنا البشير " جاءَ شاهِداً لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس. لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور" (يوحنا 1: 7-8). فعلى كل نبي أن يصغر لكي يعظم المسيح كما صرّح يوحنا المعمدان "لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يوحنا 3: 30)، وذلك لكي تبنى الكنيسة في الرب، وفي الروح، وترتفع هيكلاً مقدسا يسكن فيه الله كما يعلمنا بولس الرسول "فيه يُحكَمُ البِناءُ كُلُّه وَيرتَفِعُ لِيَكونَ هَيكلاً مُقدَّسًا في الرَّبّ، وبِه أَنتُم أَيضًا تُبنَونَ معًا لِتَصيروا مَسكِنًا للهِ في الرُّوح" (أفسس 2: 21-22).
ونستنج هنا أن حكمة القدير تسرّ بالكشف عن ذاتها، بواسطة المتواضعين الذين يحتقرهم العالم، كما جاء في تعليم بولس الرسول " وما كانَ في العالَمِ مِن غَيرِ حَسَبٍ ونَسَبٍ وكان مُحتَقَراً فذاكَ ما اختارَهُ الله: اِختارَ غَيرَ المَوجودِ لِيُزيلَ المَوجود، حتَّى لا يَفتَخِرَ بَشَرٌ أَمامَ الله. "(1 قورنتس 1: 28-29). فسر نجاح يوحنا المعمدان هو تواضعه؛ فما أعظم التواضع الذي يتحلّى به ذاك الذي يرسله الرب، ليُعدّ له الطريق!
ج) رسالة نبوية من خلال موته:
لم يكتف المعمدان ان يتنبأ عن مجي المسيح من خلال حياته، بل تنبا عنه أيضا من خلال موته. فلم يكن ليوحنَّا المعمدان أية قوَّة او جاه في النظام السياسي، إلاّ أنه كان شجاعاً لا يخاف المواجهة، ولا يقبل إنصاف الحلول. فكان يتحدث بسلطان لا يُقاوم. لأنه كان يتكلم بالحق (لوقا 1: 17). وكان يحث الناس على ترك خطاياهم ويُعمّدهم كرمز لتوبتهم (متى 3: 9).
وقد حثَّ يوحنا المعمدان الملك هيرودس على الاعتراف بخطيئته، وندّد بزنى الملك هيرودس، اما هيروديا التي تزوَّجت هيرودس خلافا للشريعة، فقررت ان تتخلص منه وتعرّضه للسجن ثم للقتل (متى 14: 3-12). وبالرغم من أنها تمكنت من قتله إلاَّ انها لم تقدر ان توقف رسالته.
فقد جاء المسيح الذي كان يوحنا المعمدان ينادي به فبدأ خدمته، وبهذا أتمَّ يوحنا إرساليته. الشهادة للحق أهم من الحياة ذاتها. فأصبح استشهاده مقدّمة إلى آلام ابن الإنسان" كما جاء في جواب يسوع على سؤال التلاميذ “إِنَّ إِيلِيَّا يَأتي أَوَّلاً ويُصلِحُ كُلَّ شَيء. فكيفَ كُتِبَ في شأَنِ ابنِ الإِنسان أَنَّه سَيُعاني آلاماً شديدةً ويُزدَرى؟ على أَنِّي أَقولُ لَكم إِنَّ إِيليَّا قد أَتى، وصَنَعوا بِه كُلَّ ما أَرادوا كَما كُتِبَ في شأَنِه " (مرقس 9: 11-13). فاستحقَّ المعمدان من سيدنا يسوع المسيح أعظم شهادة ‘إذ نظر إعجاب إلى يوحنا المعمدان بوصفه آخر الأنبياء وأعظمهم وصرّح " لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يوحنّا المَعمَدان".
وبما أن ملكوت الله قد افتتح عصراً جديداً، يتابع يسوع قوله: " ولكنَّ الأَصغَرَ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ أَكبرُ مِنه " (متى 11: 11-12). فعلينا ان نكون شهوداً ليسوع المسيح في حياتنا، وذلك من خلال أعمالنا، وسيرتنا الحميدة، وإيماننا القوي والراسخ بيسوع، وأن نؤدي الشهادة بجرأة، كما أدَّاها يوحنا المعمدان الذي لم يثنيه عن القيام بهذه الشهادة، لا مصاعب، ولا سجن، ولا الاستشهاد في سبيل الحق.
2) رسالة يوحنا التعليمية
لم يُهيّ يوحنا المعمدان طريق الرب من خلال رسالته النبوية فحسب، أنما أيضا من خلال رسالته التعليمية. وتتضمن رسالة التعليمية محورين: دعوة للتوبة والمعمودية.
أ) دعوة للتوبة لإعداد مجيء الرب
في مطلع إنجيل متى نجد الدعوة إلى التوبة التي حملها الأنبياء في كرازة يوحنا المعمدان، آخر الأنبياء وخاتمهم. وإن جملة واحدة تلخص رسالته بكاملها " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات " (متى 3: 2). يطلب يوحنّا من مستمعيه تحويل أفكارهم وقلوبهم بعيداً عن كلّ ما كانوا يعتبرونه هدف حياتهم وأن يتطلّعوا إلى الربّ فقط. والسبب هو أنّ "ملكوت السماوات قد اقترب". ومام إنجيل لوقا فيلخص رسالة يوحنا المعمدان ايضا بقوله " يَرُدُّ كَثيراً مِن بَني إِسرائيلَ إِلى الرَّبِّ إلهِهِم ويَسيرُ أَمامَه وفيهِ رُوحُ إيليَّا وَقُوَّتُه، لِيَعطِفَ بِقُلوبِ الآباءِ على الأَبناء، ويَهْديَ العُصاةَ إلى حِكمَةِ الأَبرار، فَيُعِدَّ لِلرَّبِّ شَعباً مُتأَهِّباً " (لوقا 1: 16-17).
فالتوبة هي تغيير الاتجاه وتغيير القلب والعقل من جهة الخطيئة ليهتدي الانسان ويتجه نحو الله ويرجع اليه. إنها التحوّل عن الخطيئة الى الله. إنها تغييرٌ في السلوك بحيث يدير الإنسان وجهه لا ظهره لله تعالى، ويقوم بتصحيح المفاهيم الخاطئة الّتي قد تُعطّله عن الاقتراب إلى السيّد المسيح. وعليه فان يوحنّا المعمدان يناشد مستمعيه ان يحوّلوا وجوههم الى 180 درجة، من حياة التركيز على الذات، الذي يؤدي الى تصرفات خاطئة مثل الكذب، والخداع، والسرقة، والنميمة، والانتقام، والفساد، وخطايا الجنس والحسد والبغض، الى إتباع طريق الله كما هي مدوّنة في كلمته في الكتاب المقدس. وهذا يتطلب ثلاث خطوات: خطوة الى الماضي وهي الندامة، وخطوة الى الحاضر، وهي الاعتراف كما يؤكد يوحنا المعمدان، وخطوة الى المستقبل، وهو القصد بعدم العودة الى الخطيئة اعتمادا على نعمة الله. ومن يقبل التوبة تنفتح عيناه الروحية التي اغلقتها الخطيئة. ومن تنفتح عيناه يعرف المسيح حين يظهر، وهكذا كان يوحنا يهيئ الطريق للمسيح.
لكن التوبة بلا ثمر هي مظاهر ورياء. وكان اليهود يظنُّون أنهم يُخلِّصون لمجرد انتسابهم لإبراهيم. فشرح يوحنا لهم أن الخلاص ليس ميراثًا من الآباء، وان الانتماء إلى ذرية ابراهيم لن يُجدي نفعاً فقال لهم "لا يَخطُرْ لَكم أَن تُعلِّلوا النَّفْسَ فتَقولوا ((إِنَّ أبانا هوَ إِبراهيم)). فإِنَّي أَقولُ لَكم إِنَّ اللهَ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ مِن هذهِ الحِجارةِ أَبناءً لإِبراهيم" (متى 3: 9). فجميع البشر ينبغي أن يعترفوا بأنهم خطأة، وأن يثمروا ثمراً يليق بالتوبة "أَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم" (متى 3: 8)، وأن يتبنّوا سلوكاً جديداً ملائماً لحياتهم الجديدة (لوقا 3: 10-14). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم: "جاء يوحنا ليقودهم إلى التوبة لا لكي يُعاقَبوا، وإنما خلال التوبة يدينون أنفسهم مسرعين إلى نوال المغفرة. فإنهم ما لم يدينوا أنفسهم لا يقدرون أن يطلبوا نعمته، وبعدم طلبهم هذا لا يمكنهم نوال المغفرة".
ويفتح مجيء المسيح باباً للرجاء؛ ولكنّ يوحنا يركز خاصة على الدينونة التي ستسبق هذا الرجاء كما جاء في كلامه للفريسيين والصدوقيين "مَن أَراكم سَبيلَ الهَرَبِ مِنَ الغَضَبِ الآتي؟" (متى 3: 7). باختصار، رسالة التوبة هي بشرى سارّة لمن يتجاوبون معها، ويصغون إليها ويطلبون الغفران، ولكنّها بشرى مُرعبة للّذين يأبون الإصغاء ويرفضون مصدر رجائهم الأبديّ الا وهو يسوع المسيح.
ب) دعوة للمعمودية لإعداد مجيء الرب
لم يهيّا يوحنا المعمدان مجيء الرب يسوع من خلال دعوة الناس الى التوبة، بل ايضا من خلال معمودية الماء. كان عمل يوحنا المعمدان الاساسي هو تأسيس سر المعمودية " الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ " (يوحنا 1: 33)؛ فكان يُعرض معمودية الماء كعلامة للتوبة. وهذه المعمودية تُعدّ التائبين لمعمودية النار والروح القدس، التي سيمنحها المسيح " أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" (متى 3: 11). كان يوحنا المعمدان ينبئ بالعماد في الروح والنار، لذا لم تكن معمودية يوحنا إلا مؤقتاً، ويُعلق القديس أمبروسيوس "كثيرين يتطلّعون إلى يوحنا المعمدان كرمز للناموس، بكونه يقدر أن ينتهر الخطيّة، لكنّه لا يقدر أن يغفرها". ولم تكن معموديّة يوحنا تحمل في ذاتها القدرة على غفران الخطايا والتقدّيس، ولم يكن لها أن تهب البنوّة لله، الأمر الذي انفردت به معمودية المسيح، إنّما ما حملته من قوّة فقد استمدّته كرمز من قوّة المرموز إليه، كما حملت الحيّة النحاسيّة قوّة الشفاء خلال الصليب الذي ترمز إليه.
وكانت معمودية يوحنا المعمدان معروضة على الشعب اليهودي بأسره، لا على الخطأة والمهتدين وحدهم. إنها معمودية فريدة تمنح في البرية من اًجل التوبة وغفران الخطايا كما جاء في انجيل مرقس " ظَهَرَ يوحنّا المَعمَدانُ في البَرِّيَّة، يُنادي بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا"(مرقس 1: 4). وتفرض المعمودية الاعتراف وبذل الجهد للهداية النهائية التي ينبغي أن يعبّر عنها بالشعائر الطقسية “يَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم" (متى 3: 6). وهي توبة تتطلّب جهداً في تجديد الحياة (مرقس 1: 4-5): لا يفيد المرء أن يكون ابناً لإبراهيم إن لم يمارس البرّ (متى 3: 8-9)، الذي يحدّد يوحنا التزاماته لجمهور البسطاء (لوقا 3: 10-14).
وفي هذه المعمودية يركز يوحنا المعمدان على ضرورة النقاوة الروحية، دون التخلي عن الوظائف كما كان موقفه مع العشارين والجنود؛ فأوصى العشارين "لا تَجْبوا أَكثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكم " (لوقا 3: 10)، واوصى الجنود " لا تَتَحاملوا على أَحَدٍ ولا تَظلُموا أَحَداً، واقْنَعوا بِرَواتِبِكم "(لوقا:3: 14). أما الفريسيون والكتبة فلم يؤمنوا به (متى 21: 25). فعندما أتوا إليه، فأنذرهم بأن غضب الله سوف يقضي على كل شجرة غير مثمرة (متى 3: 10).
يسوع يختلف نوعاً ما عن يوحنا المعمدان (متى 11: 3)، إنه يطالب مثله بالتوبة الكاملة، ولكن بدلاً من أن ينبئ بالإدانة الوشيكة الوقوع على يد إله منتقم (متى 3: 7-12)، فهو يعلن سنة مرضيّة (لوقا 4: 19). هذا هو الوضع الذي ينتهجه يسوع لنفسه، إذ يعد بالفرح الذين يكتشفون الكنز (متى 13: 44-45). وما أسعد الذين يعيشون بتلك الساعة!
ولما أعلن يوحنا عن يسوع أنه حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم (يوحنا 1: 29)، لم يكن يعرف كيف سيرفع الخطيئة، كما كان لا يدرك سبب رغبة المسيح في الاعتماد منه (متى 3: 13-15). ولكي يرفع يسوع الخطيئة، كان عليه أن يقبل معمودية أخرى لم تكن معمودية يوحنا إلا مجرّد مثال لها، وهي معمودية آلام (مرقس 10: 38، لوقا 12: 50). وسيتمّم يسوع هكذا كل برّ (متى 3: 15)، لا بإهلاك الخطأة، بل بتبرير الجموع الذين حمل خطاياهم (اشعيا 7:53 -8 ،11-12).
وباختصار، ان شهادة يوحنا المعمدان تسند شهادة يسوع الذي جاء الى العالم ليشهد للحق وليخلصه (يوحنا 18:37). وفي مقابل هذه الرسالة، يمجد يسوع رسوله الأمين، يوحنا المعمدان داعياً إيّاه "السّراج المتّقد المنير" (يوحنا 5: 35)، و"أعظم نبيّ في أولاد النساء" (متى 11: 11)، ولكنه يستدرك " أن أصغر الذين في ملكوت السماوات أكبر منه"، مظهراً بذلك تفوّق نعمة الملكوت على موهبة النبوّة، دون أن يحطّ من شأن قداسة يوحنا المعمدان. ولكن يبقى يوحنّا المعمدان ذاك النبي بل خاتم الأنبياء الّذي يُعدّ لمجيء المسيح، وهو مثالنا في زمن المجيء.
دعاء
ايها الرب الاله، إنك تحيي فينا الرجاء في رؤية يوم المسيح المنتظر، ساعدنا أن نُعدّ قلوبنا وقلوب إخوتنا من خلال ردم أودية الخطيئة وتسوية جبال الكبرياء، كي تكون مستعدة لمجيئك القريب، أشركنا في قوة الروح القدس الذي ملأ يوحنا المعمدان، كي نعرف كيف ننتظر مجيء الرب بروح الصلاة والتواضع والتوبة. استجبنا ايها الرب المبارك الى دهر الدهور. آمين.
الأب لويس حزبون - فلسطين
|