رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
ضَلَّ صيادٌ شابٌ طريقه في غابةٍ كثيفةٍ مترامية الأطراف. وبعد ساعاتٍ من السعي لإيجاد الدرب الصحيح، بدأ الإحباط واليأس يتسللان إلى نفسه، وتثاقلت خطواته بسبب التعب ودرجات الحرارة التي انخفضت بسرعة بعد مغيب الشمس. ومع سكون الغابة بدأت الأوهام ترتسم في مخيلته، فهل تهاجمه الذئاب الجائعة وتمزقه، أم تتجمد أطرافه ويتوقف قلبه من شدة الصقيع. وبعد بحثٍ طويلٍ، وجد قبالة النهر شجرةً كبيرة، فقال في نفسه: - "آه، وأخيراً. هذا مكانٌ مناسب، سأتسلق الشجرة وأجلس على ذلك الغصن، فهو عالٍ وجاف، وأستطيع أن أتبين من هناك أي حيوانٍ مفترس قد يهاجمني".ومرت ساعتان أو ثلاثة وهو جالسٌ على الغصن، يغني تارةً ويصفع وجهه تارة أخرى محاولاً أن يبقي نفسه مستيقظاً فلا يغفو فيسقط أو يتجمَّد من البرد. وبعد أن أعياه التعب والنعاس، سمع فجأة صوتاً غريباً بين الأشجار يتجه نحوه، فاستلّ قوسه مرتعباً وجهز نفسه ليرمي القادم الخفي نحوه بسهمٍ. آلمته أصابعه المخدَّرة من البرد، وأحسَّ بوهنٍ شديد أبطأ حركته لشد الوتر. وما هي إلا ثوانٍ، وأطلت من بين الأشجار امرأةٍ عجوزٍ تمشي بإعياءٍ واجتهادٍ على عجل.شَعَرَ الصيّاد بالارتياح قليلاً، وحاول أن يصدر صوتاً ليلفت نظر العجوز إليه، فلا يفاجئها. إلا أنها رمَقتهُ بسرعة بنظرةٍ عميقة وكأنها كانت تتوقع رأيته. وابتسمت بحياءٍ، وتابعت تقدمها. فبادرها بالتحية:- "كيف حالك يا سيدتي؟"- فابتسمت مجدداً وقالت له: "ما بالكَ جالساً هنا؟ ألا تشعر بالبرد والوحدة؟"- "نعم يا سيدتي، فأنا أجلس ههنا منذ ساعات، وقد ضللت الطريق." قال الصياد بحسرة.- "ألا تعلم أن هناكَ قصراً جميلاً أميناً على الجانب الآخر من النهر؟" - "لا، لم أسمع عن قصرٍ في هذه الغابة" قال الصياد، وبدأ يشعر بالريبة. رمقَ الشاب المرأة العجوز بنظرةٍ متفحِّصة فملأه الاستغراب أكثر. فوجهها وتسريحة شعرها لا توحي بأنها امرأة قروية، وقامتها ورصانة كلامها تدل أنها من نسبٍ عريق. ثوبها، وإن كان قديماً بالياً وملطّخاً بالتراب والطين، إلا أنه أشبه بثياب الأميرات. صوتها متعبٌ مبحوح، يداها مليئتان بالجروح، وتجاعيد الزمان تخط وجهها بوضوح. من هذه المرأة؟ - سأل نفسه - ولماذا هي هنا؟ وماذا تفعل وحيدةً في ظلمة الغابة؟ إنها بكل بساطة، لا تنتمي إلى هذا المكان.وأمام حيرة الصياد قالت العجوز:- "هل تريد أن ترافقني إلى ذلك القصر؟"- "لا أعرف... كيف أرافقكِ وأنا لا أعرفكِ؟ فمن أنتِ؟ ولماذا أتيتِ إلى هنا؟" قال الصياد وقد التبس عليه الأمر.- "أنا مجرد امرأةٍ عجوز... لا مجد لي ولا شهرةً ولا مال. من الطبيعي أن تتردد في مرافقتي... لكن كلُّ ما أستطيع أن أقوله لكَ، أنني أعرف الطريق الذي سيوصلكَ إلى الراحة وبر الأمان." قالت العجوز بحزن ولكن بثقة.- "وماذا تريدين مقابل هذه الخدمة؟"- " أريد راحتك، وخلاصك من هذه الظلمة والبرد المميت." ثم أردفت على عجل: "ولكنك لا تستطيع الوصول إلى القصر ودخوله إلا معي. لذا علينا أن نعبر سويةً هذا النهر الكبير ذا التيار الجارف".- "وكيف نستطيع ذلك؟" قال الصياد الشاب مستوضحاً.- "تيار النهر قوي، ولن نصمد أمامه. أنت نحيفٌ خفيف الوزن، وسيجرفكَ التيار بسهولة. وأنا، كما ترى، امرأةٌ عجوزٌ متعبة... وقدماي ضعيفتان لن تستطيعا مقاومة سرعة المياه."- "وما الحل؟" قال الصياد مرتاباً.- "سوف تحملني على ظهرك!"- "ماذا تقولين؟ ما هذه الفكرة المجنونة؟"- "لا تنزعج، أرجوك. إنه أمرٌ غير مريح أن تحمل عجوزاً قبيحةً رثَّةَ الملابس على كتفيك؛ لكن في هذا فائدةٌ لكلينا. فوزني سيثبت قدميك في قاع النهر فلا يستطيع أحدٌ أن يزحزحهما، وقوتُكَ وعنفوان الشباب فيك سوف يعبر بي النهر."كان صعباً على الصياد أن يوافق على ما قالته المرأة العجوز، لكنه أحسّ بالدفء في كلماتها وبصدق نواياها. أخيراً انحنى الشاب على ركبتيه وحملها على ظهره وسار باتجاه النهر. كان الشاب يترنّح يمنة ويسرى تحت ثقل حمْلِه، وكاد يرزح مرتين تحت العبء الثقيل لولا يدها التي ربتت على كتفه فأعطته الثقة والقوة.وصلَ حافة النهر، وأنزل رجليه بحذرٍ وبطءٍ في المياه الجارفة، وبدأ يخطو عابراً النهر. ومع اشتداد سرعة التيار وقوته، أحس بازدياد القوة في داخله وكأنَّ قوة خفية ترافقه، وشعر من الوقت بأن قدميه صارتا أعمدةً من صخر تضرب قاع النهر فتشقه. ومع تقدم المسير، ومع كلِّ خطوة، صار يلاحظ بأن حمله بات أخف.- "وأخيراً قد وصلنا" قال الشاب ووجهه يشع بالفرح، وانحنى إلى الأرض وهمَّ بإنزال العجوز على الضفة الثانية. لكنَّ الشّاب تسمّر في مكانه وانعقد لسانه عندما رفع رأسه ليرى العجوز المتعبة ذات الثياب الممزقة. لقد تحولت المرأة العجوز إلى أميرةٍ حسناء رائعة الجمال، وصارت التجاعيد على وجهها قسماتٍ وردية، والجراحات خيوطاً مذهّبة تلف اليدين الناعمتين، والثوب المتَّسخ بالطين غُسل بمياه النهر فصار حلةً ملوكية بهية.أمسكت الأميرة الشابة بيد الصياد المذهول، وقادته إلى قصرٍ يفيض بسلامٍ وأنوار، وفيه من الجمال والسكينة ما لم ترَ عينٌ، ولم يخطر على بال إنسان. وأرته مسكناً أبدياً كان قد أُعِدَّ مسبقاً لكلِّ مَن يعبر النهر بالأميرة. امتلأ قلب الشاب فرحاً لا يوصف، وحسب عناء الطريق ومخاطر الغابة ووحولة النهر أتعاباً وقتيةً لا تقارن بالراحة والسعادة والطمأنينة الماثلة الآن أمامه... لا بل أنه تحسّر أنه لم يلتق بتلك المرأة العجوز - أقصد الأميرة الشابة - قبل زمانٍ طويل، وتمنى لو أن أصدقاءه وأحبته قد رافقوه رحلة الصيد تلك، ووصلوا معه إلى هذه الراحة. هذا الصيادُ يشبه كثيرين منا. نحن تائهون في غابة أعمالنا، في سراديب نفوسنا، نبحث عن ما نصيده لنشبعَ وقتياً. الكنيسةُ تبدو لنا تماماً كتلك العجوز في قصتنا. ما من كثيرٍ في مظهرها الخارجي يلفت انتباهنا. وإن زرناها فهي للبعض مجرد متحفٍ يخبر عن زمانٍ عبر. وإن اقتربت إليها، أبصرتها مثقلةً بما نحسبهُ لوهلةٍ تقاليد جوفاء لا معنى لها ولا علاقة لها بحياتنا اليومية. ولكننا إنْ تركْنا قلوبنا الطيبة تتواضع، واستمعنا لها بقلبنا، وارتضينا حَمْلَهَا رغم أثقالها، وقبلنا عبء الالتصاق بها عبر نهر الحياة الجارف، فإن ثقلها سيتحول لنا راحةً، وفَقرها غنىً، وجراحاتها بلسماً شافياً. فَمَنْ حمل ضَعفاتها، وقَبِل ثقلها، ورفعها بما أُعطي من قوة، صار له نيرها هيّناً لأنه نيرُ سيدِها. وما أن يصل المرء الضفة الأخرى بها، حتى تتحول تلك العجوز المتعبة إلى الملكة المتوشحة بالشمس، وتصبح هي قصرَه وراحتَه وأورشليمَه السماوية التي الرب نورها. ☦️ عن فكرة من الأدب الروسي الأب نقولا وهبة، |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
للقلوب عتمة لا فجر لها |
وف عتمة ظروفي مليون سكة امل |
كل عتمة تنتظر صباح |
فى عتمة الليل |
فى وسط عتمة |