رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
التأملات: عمقها، وأنواعها
ما معنى التأمل؟ يتأمل إنسان شيئًا، يعنى أنه يمعن النظر فيه، يدقق يفحص، يحلله، يرى ما أعماقه. التأمل إذن هو الدخول إلى العمق، سواء في عمل الفكر أو عمل الروح.. هو الوصول إلى لون من المعرفة، فوق المعرفة العادية بكثير، هي معرفة قد تكون فوق الحس. هي معرفة جديدة عليك، مبهجة لروحك، تجد فيها غذاءً ومتعة روحية... أو التأمل هو تفتحّ العقل والقلب والروح لإستقبال معرفة من فوق! والتأمل يناسبه السكون والهدوء، والبعد عن الضوضاء التي تشغل الحواس، وبالتالى تشغل العقل وتبعده عن عمل الروح.. اذن فالتأمل يزداد عمقًا، كلما تحررت الحواس من الشغب الخارجى، وكلما تحرر العقل من سيطرة فكره الخاص لكي يستقبل ما تعطيه الروح. ويساعد على التأمل: الرغبة في الفهم، والسعى إلى العمق.. وللتأمل مجالات عديدة، نذكر من بينها: التأمل في الخليقة والطبيعة، والتأمل بالأكثر في السماء والملائكة، وفي الموت والدينونة وما بعدهما. وأيضًا التأمل في الأحداث، وفي سير الأبرار، وفي الفضيلة عمومًا، وفي وصايا الله... وهناك نوع آخر أسمى وأعمق، هو التأمل في صفات الله الجميلة. ومنها التأمل في المطلق، في الحق، وفى الخير على أن موضوعات التأمل هي أكثر من أن نحصيها، بحيث يتأمل الإنسان الروحى في كل شئ، حتى الماديات، محاولًا أن يستخرج منها روحيات تفيده... على أن الخطوة الأولى التي يقوم بها الذهن في التأمل، هي فتح الباب للروح... وما المجهود الذي تقوم به أفكارنا وقلوبنا سوى طلب نرجو به من نعمة الله أن تفتح عقولنا لتستقبل ما يسكبه الله فيها... ومن هنا تظهر أهمية إرتباط التأمل برفع القلب إلى الله، لكي يملأ عقولنا بالفهم الذي من عنده، وما أعمقه! وهكذا يصبح التأمل هبة من الله، تأخذ منه الروح ما يريد أن يعطيه... إن التفكير العقلى المحض لا ينتج تأملًا... بل قد ينتج علمًا أو فلسفة وما اشبه.. وهنا يبدو الفرق بين العالم والعابد، بين الدارس والمتأمل، بين الباحث والمستِقبل من الروح! إن التأمل ليس هو مجرد فكر، إنما هو خلط الفكر بالقلب، وترك العقل كمجرد أداة من الروح. ثم تبتهل الروح لتأخذ من الله ما تعطيه للعقل... فلا تقف يا أخى في تأملاتك عند مستوى العقل... بل اطلب من الله الذي عنده كنوز المعرفة، ليعطيك الفهم العميق... القراءة في الكتب الدينية والروحية، قد تكون مصدرًا للتأمل: القارئ السطحى يقرأ كثيرًا ولا يتأمل. أما القارئ الروحى فالقليل من القراءة يكون له نبع تأملات لا ينضب. إنه لا يركز على كثرة القراءة إنما على ما فيها من تأملات. وقد تستوقفه عبارة واحدة، فيغوص في أعمقها، ويظل سابحًا في تلك الأعماق... ويفتح الله قلبه، فيجد في تلك العبارة الواحدة كنزًا عظيمًا، مهما اغترف منه لا ينتهى... إن تركت القراءة في نفسك تأثيرًا، فلا تقف عند حد هذا التأثير. بل خذها مجالًا لتفكيرك وتأملك، منتظرًا أن يمنحك الله من خلالها شيئًا... معاملات الله مع الناس، هي أيضًا مجال واسع للتأمل ليس فقط من جهة الأبرار، وسادتنا الرسل الاطهار الذين أحبهم الله وأحبوه، وكانت له معهم علاقة وطيدة، واستخدمهم في رسالات... وإنما أيضًا معاملة الله للخطاة الذين انتفعوا من طول أناة الله وغنى رحمته، فتابوا وتغيرت حياتهم إلى العكس تمامًا. وأيضًا معاملته تعالى للذين عاندوا وتقسّت قلوبهم... حقًا إن معاملات الله تصلح للتأمل. وما أكثر الكتب التي نشرت عنها.. اقرأ اذن كثيرًا في الكتب الروحية (، فالقراءة تشغلك بفكر روحى. ويظل هذا الفكر يتعمق فيك. والفكر يلد فكرًا من نوعه، ويلد أيضًا الكثير من المشاعر والعواطف والتأملات، ويمنح قلبك نقاوةً وطهرًا... ومتى قرأت لا تقف عند حدود القراءة والتأمل في ما تقرأ، بل اخلط ذلك بحياتك العملية، واستخرج منه منهجًا تسير عليه، ويدخل في علاقتك بالله والناس. كما أن التأمل في ما تقرأ، يفتح لك طاقات من نور، تشرق على ذهنك.. والتأمل يعوّدك العمق... واعرف أن موهبة التأمل هي للكل: للأبرار كما هي للخطاة: فالخطاة لهم قدرة عجيبة على التأمل، وإنما في مجال الخطيئة. فالذى يحب خطيئة معينة، ما أسهل أن يسرح فيها، ويتأملها بعمق، وتملك على فكره وقلبه ومشاعره، ويؤلف حولها قصصًا ولو في خياله والتأمل موهبة للأدباء والشعراء ومؤلفى الروايات والحكايات.. كذلك فإن الخطاة الذين لهم موهبة التأمل – اذا تابوا – يحولون موهبة تأملهم في مجال روحى، كما فعل القديس اوغسطينوس في كتابه (الاعترافات)، وفي كتابه (مدينة الله)، وفي مؤلفات أخرى... التأمل في الطبيعة: ليس مجرد التأمل في مجال الطبيعة، إنما بالأكثر فيما تحمل من روحيات.. كقول داود النبى في المزمور "السموات تحدّث بمجد الله. والفلك يخبر بعمل يديه. وهكذا نتدرج من الطبيعة إلى عظمة خالقها، كقول أحمد شوقى أمير الشعراء: هذى الطبيعة قف بنا يا ساري حتى أريك بديع صنع الباري لهذا كانوا يدرّسون الفلك في الكليات اللاهوتيه. لأن النظام الدقيق العجيب الذي فيه، يثبت وجود خالق كلى القدرة استطاع أن يوجده... إن التأمل في السماء والسماويات، لاشك يرفع عقل الإنسان وقلبه إلى فوق، ويسمو به كثيرًا عن مستوى المادة والماديات... ويرتبط التأمل بالسماء تأمل آخر في الملائكة وكل القوات السمائية... وإن كان هذا التأمل أعمق منا، فلنتأمل في أرواح الأبرار الذين انتقلوا إلى السماء، وبخاصة منهم اولئك الذين يرسلهم الله في خدمات على الأرض، ودرجات كل من هؤلاء... ثم ماذا عن الأبدية، والمجد العتيد في ملكوت الله؟ أليست كل هذه موضوعات للتأمل؟ وإن كان ذلك فوق مستوانا، فلنهبط إلى الأرض ونتأمل الخليقة المحيطة بنا، وقدرة الله في صنعها: الزهور من حيث جمالها، وتعدد ألوانها، وعطرها وتناسقها. هذه التي لم يكن سليمان في كل مجده يلبس كواحدة منها. ولو تأملنا الفارق العظيم بين الزهور الطبيعية وغيرها من الزهور الصناعية التي مهما إفتنّ الإنسان في صنعها تبقى بلا حياة، بلا رائحة بلا نمو. هنا عظمة الخالق سبحانه! نفس الوضع اذا تأملنا في طيور السماء، في تعدد أنواعها وأشكالها، ونغمات أصواتها، وطباعها ورحلاتها وقناعتها، يزيد صورة الله من عظمة الله في خلقه... صدقونى حتى حشرات بسيطة كالنملة أو النحلة يمكن أن تكون مجالًا للتأمل: حقًا، إننى في حياتى كلها لم أرى نملة واحدة واقفة بلا عمل! إنها دائمة الحركة، دائمة العمل، لا تهدأ. كما أن جماعات النمل درس عجيب في التعاون والنظام، وفي حمل أشياء في عشرات حجمها، وهى تسير في طابور طويل متجهه نحو هدف ثابت، وباتصالات بعضها بالبعض! النحلة أيضًا، التي قال فيها أمير الشعراء أحمد شوقى: مملكة مدبَّرة بامرأة مؤمرّةْ تحمل في العمال والصناع عبئ السيطرةْ أعجبْ لعمال يولون عليهم قيصرةْ إن النظام المذهل الذي تعيشه مملكة النحل هو مجال لتأمل عميق... كيف خلق الله النحل بهذه الأمكانيات والقدرات؟! وكيف تستطيع أن تجمع الرحيق وتصنعه شهدًا؟! وكيف تصنع خلاياها بهندسة متقنة عجيبة؟! وكيف تصنع غذاء الملكات؟! ما أعجبها! وما أعجب خالقها! إن الإنسان الروحى يستطيع أن يتأخذ كل شيء مجالًا للتأمل. ويمكن أن يستخرج من الماديات ما تحمله من دروس روحية. إن جسم الإنسان – وهو مادة – إلا أنه مجال واسع للتأمل يكفى أن تتأمل كل عضو فيه، وعلم وظائف الأعضاء: المخ مثلًا وما فيه من مراكز عجيبة، للنظر والسمع والحركة والكلام. بحيث اذا لم يصل الدم إلى مركز منها، يبطل عمله ويصير صاحبه معوقًا!... كذلك القلب – وهو كقبضة اليد – ولكنه جهاز دقيق جدًا، تتوقف عليه حياة الإنسان، كما المخ أيضًا، ويعوزنًا الوقت إن تحدثنا عن كل أجهزة الجسم البشرى، وكيف تعمل متناسقة في اتزان عجيب. وبعض هذه الأجهزة اذا تلف، لا يقدر كل التقدم العلمى على إرجاعه إلى وضعه الطبيعى... اليس هذه إعجازًا يدل على قدرة الله في خلقه؟! لذلك كانوا قديمًا يدرّسون علم الطب، لأنه يعمّق الإيمان بقدرة الخالق... وإن كانت قدرات الجسد هكذا، فكم بالأكثر قدرات الروح!! التأمل في الأحداث... ليس من صالحنا أن تمر علينا أحداث التاريخ مرورًا عابرًا، دون وقفات من التأمل في يد الله في التاريخ... هل التاريخ مجرد علم وأحداث، أم فيه أيضًا عبر لمن يعتبر؟! وفيه أيضًا عمل الهى يحتاج إلى تأمل. إننا لا يمكن أن ننكر يد الله في التاريخ!! هل نستطيع مثلًا أن ننكر يد الله في الأحداث التي غيرّت مصير روسيا والأتحاد السوفتى وقضت على إلحادٍ استمر أكثر من سبعين عامًا، وانتهى بسرعة عجيبة غير متوقعة، مما يدل على تدخل يد الله فيه؟! حقًا إن فصل التاريخ عن الله وتدخله، هو عمل غير روحى... هناك أيضًا موضوعات أخرى للتأمل: كالتأمل في الصلاة وكلماتها. لقد قيل عن الروحيين أنهم "من حلاوة الكلمة في أفواههم، ما كانوا يستطيعون بسهولة إلى كلمة أخرى من عبارات الصلاة". أما الذين يتلون عبارات الصلاة بسرعة وسطحية، فإنهم لا يستفيدون روحيًا... كذلك التأمل أيضًا في الموت والدينونة ونهاية العالم تهب المصلى مشاعر من وجوب السهر الروحى والإستعداد وأيضًا التأمل في أحدى الفضائل وعمقها وطرق التعبير عنها.. والتأمل في صفات الله الجميلة، ويده القوية.. والتأمل في سير الأبرار والشهداء... نرى في كل ذلك غذاءً شهيًا للنفس. |
29 - 09 - 2012, 01:30 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
..::| VIP |::..
|
رد: التأملات: عمقها، وأنواعها
ميرسى على الموضوع الجميل
ربنا يباركك |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
بعض التأملات في المزمور الأول |
نتابع التأملات في سفر الرؤي(رؤ4: 6- 11)ا |
+ سفر يونان سفر التأملات + |
التجارب وأنواعها |
عمقها |