التجسد الإلهي
لقد تأثر القديس كيرلس بفهمٍ صوفيٍ (مستيكيٍ) رائعا وعميق لقدره الله الكائنة فيه، تلك القدرة التي تجعل تجسد الله الكلمة هو السبيل الوحيد والأهم الذي من خلاله يختبر الإنسان المسيحي حضور الرب وأثار نعمته وفاعليتها الإلهية.
يقول القديس كيرلس: إن الهراطقة يقولون إن الكلمة الله لم يصر جسدا، أي لم يولد بحسد الجسد من امرأة، ويبطلون بذلك تدبير الخلاص، لأنه إن لم يُخلي الكلمة ذاته ويأخذ ما يخلصنا بسبب محبته للبشر، ما كان في إمكاننا أن نكتسب كل ما له ونظل مقيدين بقيود فقرنا وباللعنة وبموت الخطية. لأن تجسد الله الكلمة أبطل كل ما حل بالطبيعة البشرية من لعنة ونتيجة.
إذن لو اقتلعوا جذر خلاصنا، وهدموا أساس رجائنا، ما الذي يبقا معنا بعد هذا؟ لأنه كما قلت إن لم يصر الكلمة جسدا ما كانت قوة الموت قهرت ولا الخطية أبطلت بأي طريقة وظللنا نحن مقيدين بسبب عصيان الإنسان الأول “ادم” بدون أي إعادة تجديد الذي هو تغيير للأفضل بواسطة المسيح مخلص الجميع.
نجد اللغة عند نسطور تظهر مفهوما أوليا عن الفارق بين اللاهوت والناسوت، بمعني انه من الممكن للذهن المسيحي عند قراءة أو سمع تلك الألفاظ أن يقدر مدي دخول الإله في علاقة شركه وقرب مع البشرية. لذا أن ألفاظ نسطور عن” المصاحبة” لم تكن دقيقه وكانت مشوشه حول تلك المسألة الخاصة، بما إذا كان “يسوع البشري” الله أم لا.
حيث يفهم من كلامه عن المصاحبة التامة للعنصر اللاهوتي والبشري، أن الله والمخلوق مختلفان اختلافا جذريا، بمعني أن الله اللوغوس الذي صاحب الطبيعة البشرية هو الله بالكامل لا يحده ولا يعوقه بشريه يسوع. فبالنسبة لنسطور كانت الحياة البشرية للإنسان يسوع “مشتركه بعض الشيء” مع اللوغوس بالمصاحبة، لكنها ليست تلك الحياة التي تتسيّد عليه أو تخضعه بأي شكل.
ويقولون إن الكلمة اتّحد بهذا الإنسان بطريقة جديدة جاعلًا إياه يذوق الموت وفق ناموس البشر، ويقيمه من الموت مصعدًا إياه إلى السماء وواضعًا إياه ليجلس عن يمين الله (انظر أف ١: ٢٠- ٢١)، هكذا صار فوق أي رئاسة وسلطان وقوة وربوبية، وأيّ اسم ليس فقط في هذا العالم بل في الدهر الآتي، إذ هو في مصاحبة لا تنفصل مع الطبيعة الإلهية، وقد ارتضى أن يسجد له من كل الخليقة، الخليقة كلها تقدم العبادة له بصلة ذهنية لله»
لذلك تعاليم ق. كيرلس عن التجسد يسير في اتجاه مضاد لما يقوله نسطور، لأنه وجود مفهوم (الشركة أو المصاحبة) تعليم يتنافى مع التقليد المسيحي المستلم في نقطتين:
الأولى: بحيث ذلك يجعل هناك قليلا من التمييز بين يسوع وبين أي من الأنبياء القدامى الذين يمكن أيضًا أن يقال عنهم إن الله يلهمهم ويوحي إليهم أو إن الله يسكن فيهم.
يقول ق. كيرلس: أن الهراطقة دائما ما ينزلقوا لمثل هذا المستوى من الجهل حتى انهم يعتقدون ويقولون إن كلمة الله الابن الوحيد نفسه لم يصر مثلنا، لكنه أخذ انسانًا. لكن بأي طريقة يريدون لنا أن نأخذ هذا الكلام؟ ربما يريدون أن نأخذ شخص المسيح مثل شخص عُيِّن من قِبَل الله لكي يحمل أمرًا يديره هو، مثل نص: “لست أنا نبيا ولا أنا ابن نبي، بل أنا راعي وجاني جميز، فأخذني الرب من وراء الضأن وقال لي الرب اذهب وتنبأ لشعبي إسرائيل” (عا ٧: ١٥). لأنه بينما كان راعيا جاني جميز جعله نبيًا وأرسله لكي يكون خادما لمشيئته.
الثانية: قالوا إن الإنسان الذي من زرع داود والذي اتصل بالكلمة نال المساواة والكرامة، ولأنه تألم ومات حسبت له كرامة الابن. ولكن إذا نال هذا الإنسان كرامة مساوية لكرامة الابن الكلمة فواضح أنه آخر غير الابن الكلمة. وهذا يعني انه آخر مع آخر أو واحد مع واحد أي أن المسيح أكثر من واحد. وهكذا إذا انقسم المسيح إلى اثنين فواحد منهما (الإنسان) لا يمكن أن يكون مساويا للآخر في الطبيعة وحتى إذا أكرم فطبيعته أقل.
وحيث أن الجالس عن يمين الآب هو الابن الواحد، فعليهم أن يقولوا لنا من هو الذي يجلس عن يمين الآب في الأعالي؟ ومن هو الذي يشترك مع الآب في الربوبية؟ أليس افتراء وتطاول أن نجعل من العبد مساويًا للرب؟ والمخلوق ينال ذات الكرامة مع الخالق؟ والعبد الخاضع للعبودية يجلس مع ملك الكل الذي هو فوق الكل أي كل ما يحسب في عداد هذا الكل؟
حيث يرى ق. كيرلس إن التجسد والغاية النهائية منه هو الصميم إذ يقول «بالرغم من أن كلمة الله الابن الوحيد صار مثلنا وانضوى تحت هيئة العبد بحسب الطبيعة البشرية، فإن هذا يشهد لحقيقة أنه حر بحسب الطبيعة، قائلًا عند دفع الجزية: «إن البنين أحرار» (مت ١٧: ٢٦). إذن، فقد قبل صورة العبد أخذًا خواص الإخلاء وبدون أن يحتقر تشبهه بنا. لأنه لم يكن من الممكن أن يكرم العبد بطريقة أخرى إلا بجعل خواص العبد خاصة به، لكي تصير بهية بمجده الخاص.
لأن المتفوق ينتصر دائمًا، وهكذا تم إزالة عار عبوديتنا. لأن الذي كان أسمى منا، صار مثلنا، والحر بحسب طبيعته، دخل إلى قيود حياتنا. بهذه الطريقة منحنا -إذن- الكرامة، فدعينا نحن أبناء الله واكتسبنا أباه الحقيقي الخاص به أبًا لنا؛ كل ما هو بشري صار له. بالتالي، عندما نقول إن الابن الحقيقي أخذ صورة عبد، فإننا نقصد كل سر تدبير التجسد.
لكننا نحزن عليهم بسبب حبنا لهم، ونقول لهؤلاء الذين فضلوا أن يؤمنوا هكذا: «يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلًا قتلى بنت شعبي» (أر ٩: ١)، لأنهم انحرفوا إلى رأي شرير «إذ هم ينكرون الرب الذي اشتراهم» (٢بط ٢: ١)»
وقد أصر القديس كيرلس وركز على لفظ “اتحاد” حينما كان الأنطاكيون يستخدمون لفظ “مصاحبه أو علاقة” ويقول ق. كيرلس: «لماذا يتركون كلمة «اتحاد» بالرغم من أنها كلمة مفهومة بسهولة، وقد أتت من الآباء، ويستخدمون كلمة «مصاحبة»؟ إن كلمة «اتحاد» لا تعني خلط اثنين معًا، بل تظهر بالأفضل أن الاثنين صارا في وحدة واحدة بسبب اتحادهما معًا. وعلى أية حال، لا يطلق تعبير «وحدة واحدة» فقط على الأشياء التي تنتمي إلى نوع واحد بسيط، بل يطلق على اثنين أو أكثر يكونان مختلفين في الأنواع»
حيث إن مسألة التجسد بالنسبة للقديس كيرلس لم تكن من أجل الله بل كانت من اجل فداء الجنس البشري. «طالما صار الكلمة انسانًا، مات من جهة الجسد لأجل العالم، وجعل ألمه قادرًا على أن يقدم فداء للعالم»
وبهذا، فإن «التدبير – إيكونوميا» يعني خطة عملية تعني شيئًا تفعله وتتممه. وقد شرح ذلك ق. أثناسيوس بوضوح إذ قال: فإله الجميع عندما خلقنا بكلمته الذاتي ولأنه كان يعرف أمورنا أكثر منا ويعرف مقدما إننا رغم أنه قد خلقنا صالحين إلا أننا سنكون فيما بعد مخالفين للوصية، وإننا سنطرد من الجنة بسبب العصيان، ولأنه هو محب البشر وصالح فقد أعد من قبل تدبير خلاصنا بكلمته الذاتية.
لأننا حتى إن كنا قد خدعنا بواسطة الحية وسقطنا فلا نبقى أمواتًا كلية، بل يصير لنا بالكلمة الفداء والخلاص لذي سبق إعداده لنا لكي نقوم من جديد ونظل غير مائتين، وذلك عندما «خلق» هو من أجلنا «بدء الطرق» وصار «بكر الخليقة» و«بكر إخوة» وقام «باكورة الأموات» ….
ففي التجسد يعمل الله بين الخليقة، وهو لا يعمل مجرد عمل يشبه من يمثل دورًا يؤديه على خشبة مسرح العالم، بل هو عمل سري، وهو بمثابة تحويل الحياة البشرية إلى حياة جديدة جذريًا: [وكون أن المسيح بقيامته، أعاد خلقتنا لحياة جديدة، كيف لأحد أن يشكك فيه؟ لأنه قدمنا في ذاته إلى أبيه، كأحياء من الأموات، كما هو مكتوب: «كذلك أنتم أيضا احسبوا أنفسكم أمواتا عن الخطية، ولكن أحياء الله بالمسيح يسوع ربنا» (رو ٦: ١١) ….
وهذا التحول الدينامي، الذي هو بمثابة «تقديس» أو «سمو إلهي» للحياة، هو أمر حاسم في فكر القديس كيرلس، هو في الحقيقة حجر الزاوية أو العمود الأساسي. لذلك، فالذين اتهموا القديس كيرلس، أخفقوا تمامًا في تقدير فكره، بخصوص إن الرب الإله اختبر حقًا كل ما للإنسان من مشاعر أصيلة لكي يحول المائت إلى عدم الموت.
ويدرك القديس كيرلس أن تجسد الله وتأنسه، ليس حدثًا ساكنًا (ستاتيك)، بل هو نموذج وأصل العملية بأكملها. هو يشير إلى اتحاد الله بالإنسان اتحادًا لا ينفصم، في شخص يسوع الابن الوحيد الله الآب، فهو الله والإنسان حقًا في آن واحد. وهو الأمر المؤسّس على شخص المسيح الواحد الوحيد، وهو ليس مجرد سر حضور الله بيننا، بل سر كيفية تحول حياتنا البشرية الشخصية إلى حياته الإلهية.
حيث إن وقبل التجسد الإلهي كان «الإلهي» و«الإنساني» يمثلان من حيث الوجود والكيان فئتين مختلفتين. وكانت بينهما هوّة واسعة وكبيرة، هوة بين الخالق والمخلوق، ليس فقط على المستوى الأخلاقي، بل على المستوى الوجودي أيضًا. أما بعد التجسد، فإن نظام الوجود قد تغير تغيرًا جذريًا. ففي التجسد أصبح الواقعان أو الكيانان الحقيقيان واللذان كان اتحادهما أو ارتباطهما معًا على المستوى الفلسفي واللاهوتي مستحيلًا، قد اتحدا بشكل عملي وظاهر في المسيح.
ورغم أن هذا الاتحاد مستحيل، لكنه تم كفعل بسيط من أفعال قدرة الله اللامحدودة، والرب غير المنظور صار الآن منظورًا، وغير الجسداني صار الآن متجسدًا. وغير المحدود قَبِلَ محدودية حياة أرضية، وغير المائت ارتضى لنفسه أن يموت ويحيا.
كان القديس كيرلس يطبق مثل هذه المضادات الظاهرية (بارادوكسا) في اللغة. ومثل هذا التباين كان يعطي فكرة رفعة ودفعة روحية وقوة شديدة، حيث كان يعرف جيدًا كيف يوظفها لتؤثر تأثيرًا قويًا في كرازته، فهو يتهم نسطور بأنه سريع الحكم على ما لا يليق بالله أن يكونه، بمنطق بشري قاصر. ومثلما يرى ق. كيرلس، فإن نسطور قد نسى أن المنطق البشري بعد السقوط – هو منطق سطحي وضحل بسبب الخطية والرؤية المحدودة القاصرة الناشئة عن فساد طبيعتنا….