رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
البابا شنودة كيف تقتنى الوداعة؟ ولماذا تفقد؟ اقتناء الوداعة هناك من وُلدوا من بطون أمهاتهم ودعاء، بطبع هادئ لم يتعبوا في اقتنائه، إنما نالوه عن طريق الوراثة، أو هبة من الله وهبهم إياها، بعكس البعض الذين يُولدون بطبع ناري يميل إلي العصبية أو إلي العنف.. ولسنا عن الوعاء بالطبع أو الميلاد أو الهبة، نتكلم هنا.. إنما نتحدث بصفة عامة عن كيفية اقتناء الوداعة أو تعوَدها.. والإنسان الذي يصل إلي الوداعة بجهاد وضبط النفس ومحاولات للسيطرة على أعصابه وعلى إرادته، هذا يكون أجره عند الله أكبر. إنه يجاهد -ربما بتداريب كثيرة- لكي يضبط ذاته، ويضبط أفكاره وألفاظه، وحركاته، ويقتنى كل أنواع الهدوء.. ويتخلص من الغضب والنرفزة بكل أنواعها وكل نتائجها. إنها وداعة ليست طبيعية وإنما مكتسبة. مثالها القديس موسى الأسود، الذي كان غضوبًا وقتالا وحاد الطبع، بل كان مخيفًا أيضًا. ولكنه بضبط النفس، وبالتدريب والصبر، وبحكمة المرشد ومعونة الله، صار وديعًا جدًا. وقد اختبروا وداعته يوم سيامته قسًا، ونجح في الاختبار. ومادام الله يطلب منا أن نكون ودعاء، فلابد أنه قد وضع في إمكانية طبيعتنا الوصول إلي هذه الفضيلة، وتنفيذ وصيته فيها (مت 11: 29). *تدرب يا أخي إذن على الهدوء، وابدأ مثلًا بهدوء الصوت: في حديثك العادي، أبعد عن الصوت العالي. وحاول أن يكون صوتك منخفضًا خفيفًا ولا شك أن هذا أمر سهل. تدرج منه إلي الصوت الهادئ غير الحاد. فلا تتكلم بعنف ولا بشدة، محتفظًا بأعصابك حينما تتكلم، متحكمًا في نبرات صوتك.. فإن تدربت على هدوء الصوت، تدرَب أيضًا على هدوء الملامح. لأن الشخص الغضوب، يظهر غضبه في ملامحه، وفي نظرات عينيه، وفي تجهمه وتقطيب جبينه. فإن وجدت أنك قد وصلت إلي هذا كله، أو إلي بعض منه، قل لنفسك: إن شكلي الآن أصبح لا يليق، بل ربما أصبح منفرًا.. وحينئذ حاول أن تُهدئ ملامحك وستجد أنك مضطر في نفس الوقت أن تهدئ انفعالاتك الداخلية.. *نقطة ثالثة: وهي هدوء الحركات. الشخص الغضوب قد يظهر غضبه في عدم هدوء حركاته، وبخاصة في حركات يديه في العسكرية لا يستطيع جندي أن يحدَث أحد رؤسائه وهو يحرك إحدى يديه، بل يُقال له "اثبت".. كذلك أنت، حاول أن تضبط ليس فقط حركات يديك، بل حركاتك، وكن هادئًا في جلستك، وفي مشيتك، لا تتململ، ولا تظهر العصبية عليك، ولا تبدو أمام الناس منفعلًا.. *وفي كل ذلك تدرَب على هدوء ألفاظك. غير الودعاء تصدر عنهم ألفاظ قاسية عنيفة، أو ألفاظ متهكمة تثير محدثيهم، أو ألفاظ تدخل في نطاق الشتيمة والإهانة. أو أنهم في غضبهم: إذا تكلموا لا يراعون دقة الألفاظ فتمسك عليهم أخطاء. وقد يكونون في كلامهم غير مهذبين، يستخدمون ألفاظًا جارحة، أو غير لائقة، أو ألفاظًا تخرج عن حدود الأدب والوقار والحشمة. وكل هذا ضد الوداعة.. أما أنت فحاول أن تضبط ألفاظك. وإن لم تستطع ذلك في غضبك، إذن حاول أن تضبط غضبك. أو على الأقل: إن غضبت، اصمت. وقل "ضع يا رب حافظًا لفمي، وبابًا حصينًا لشفتي" (مز 141: 3). * على أن أهم من هذا كله، هدوء القلب ووداعته. فالوداعة في أصلها هي وداعة القلب. القلب الوديع يكون وديعًا في كل شيء: في صوته، في ملامحه، في ألفاظه، في أعصابه، في حركاته. لأن كل هذه مظاهر خارجية تعبر عن حالة القلب من الداخل. ومع ذلك فالتدريب عليها يوصل إلي وداعة القلب، أو ينبه القلب إلي الالتزام بالوداعة. * على أن وداعة القلب ترتبط بفضائل أخري كثيرة. لعل في مقدمتها التواضع. فالإنسان المتواضع يتصرف في وداعة. والسيد المسيح جمع الفضيلتين معًا في آية واحدة، حينما قال "تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29)؟ كذلك المحبة أيضًا إن عاش الإنسان فيها، يحيا بالضرورة في حياة الوداعة. فالمحبة كما قال الرسول: تتأنَّى، وترفق، ولا تقبح، ولا تحتد، ولا تظن السوء، وتحتمل كل شيء، وتصبر على كل شيء (1كو 13: 4-7). وكل هذه من صفات وعناصر الوداعة أيضًا. كذلك الوداعة ترتبط بفضائل اللطف، والهدوء، وطول الروح، وسعة الصدر، والتسامح، وربح النفوس، والحكمة. فمن يقتنى هذه الفضائل وأمثالها، يقتنى الوداعة أيضًا. والوداعة تُقتنى أيضًا بعمل النعمة في القلب. ويحتاج الإنسان أن يطلب ذلك في صلاته، وأن يتجاوب عمليًا مع عمل النعمة فيها ويشترك مع الروح القدس الذي يقوده إلي الوداعة. فإن اقتنينا الوداعة، نحرص ألا نفقدها. فما أسباب فقدها. أسباب فقد الوداعة هناك أسباب إذا سلك فيها الإنسان بطريق خاطئ، فإنها تفقده وداعته، أو لا تساعده على اقتنائها من بادئ الأمر. نذكر من بينها: السلطة والمركز والغنى وسائر نواحي العظمة: أحيانًا يتولى إنسان منصبًا رفيعًا، فيظن أنه من مستلزمات المنصب أن يأمر وينهى ويزجر وينتهر، ويتعالى وينظر إلي الآخرين من فوق. وهكذا يفقد وداعته وتواضعه أيضًا، ويدخله روح التسلط.. ولكن ليست المناصب العليا أمرًا مانعًا للوداعة. فهناك عظماء ودعاء، جمعوا بين الرئاسة والوداعة. مثل داود النبي وهو قائد للجيش في عهد شاول الملك (1 صم 18: 5)، كان وديعًا ويختلط بالناس في محبة "وكان جميع إسرائيل ويهوذا يحبون داود لأنه كان يخرج ويدخل أمامهم" (1 صم 18: 16). والسيدة العذراء وصلت إلي أعلي مركز تصل إليه امرأة، إذ أن جميع الأجيال تطوبها (لو 1: 48) ومع ذلك لم تفقد وداعتها. والسيد المسيح نفسه في كل مجده، كان وديعًا. لكن الذي يستغل المنصب والعظمة استغلالًا خاطئًا، فهذا الذي يفقد الوداعة، مثل الكتبة والفريسيين (مت 23). وهامان في سفر أستير. * ويدخل في نطاق العظمة أيضًا: الغنى والمال: وعلى الرغم من ذلك نقرأ في التاريخ عن أغنياء كانوا ودعاء، وكانوا يختلطون بالفقراء والمحتاجين يحلَون لهم مشاكلهم مثل المعلم إبراهيم الجوهري وأخيه المعلم جرجس الجوهري. * وقد يفقد البعض وداعتهم، إذا ما دخلوا في مجال إصلاح الآخرين، بطريقة خاطئة. ويظن هؤلاء أن وسيلة الإصلاح لا تأتى إلا بالعنف والشدة. أو أن الدفاع عن الحق لا يتم إلا بالتشهير، وإدانة المخطئين أو من يظنونهم مخطئين، بسَبهم علنًا وتحريض الناس ضدههم. ويحسبون أنهم بذلك يخلعون الزوان من الأرض، بينما يخلعون الحنطة معه (مت 13: 29). ولا يضعون أمامهم قول السيد الرب "أخرج أولًا الخشبة من عينك وحينئذ تبصر جيدًا أن تخرج القذى من عين أخيك" (مت 7: 5). مشكلة أولئك وأمثالهم أنهم يفقدون وداعتهم، ويرتكبون العديد من الخطايا، دون أن يدركوا ذلك، بل على العكس يفتخرون بما يفعلون..! وأكثر من ذلك يحسبون أنفسهم أبطالًا ومصلحين..! * يذكرني هذا بأشخاص يُعهد إليهم بتنظيم أحد الاجتماعات. وباسم العمل على حفظ النظام، ينتهرون، ويصيحون. بل ويمنعون ويطردون ويستخدمون كل القسوة في عملهم، وأحيانًا لا نسمع ضوضاء في الاجتماع، إلا ما يصدر من أصوات المنظمين! لماذا لا يعمل أولئك على حفظ النظام في هدوء، وفي غير عنف. مثل عصا الراعي التي ينظم بها مسيرة غنمه، بالإشارة واللمس دون أن يضرب. لذلك يقول المرتل في مزمور الراعي "عصاك وعكازك هما يعزيانني" (مز 23: 49). * البعض يفقد وداعته باسم الصراحة وقول الحق: وباسم الصراحة يجرح شعور الآخرين بطريقة منفرة مؤذية. والعجيب أنه يقول في افتخار "أنا إنسان صريح. أقول للأعور أنت أعور، في عينه"! ولماذا يا أخي تجرحه وتؤلمه بصراحتك هذه، الخالية من المحبة، ومن اللياقة؟! أما كان ممكنًا أن تستخدم أسلوبًا آخر؟! إن السيد المسيح كان صريحًا مع المرأة السامرية، في رفق بأسلوب لم يجرح فيه مشاعرها، بل امتدحها فيما تستحق فيه المديح (يو 4: 17، 18). وبهذا الأسلوب الرقيق الرفيع، اجتذبها إلي الإيمان. *وقد يدخل في موضوع الصراحة هذه العتاب. فقد يوجد إنسان -بالعتاب- يربح أخاه. بينما آخر، بفقده للوداعة في عتابه يفقد صديقه أيضًا. وقد قال الشاعر في هذا: ودَعْ العتاب فربَ شرً كان أوله العتابا *إنسان آخر يفقد وداعته بسبب الحزم. والحزم ليس معناه بالضرورة العنف. فما أسهل أن يكون الإنسان حازمًا ووديعًا. يأخذ موقفًا أزمًا، وفي نفس الوقت يشرح سبب هذا الحزم بطريقة مقنعة لا تفقده محبة من يستخدم الحزم معهم. وهكذا يفعل الأب مع أبنائه، يتصرف بحزم ممزوج بالمحبة والإقناع. وبمثل هذا الحزم أيضًا يتصرف رئيس مع مرؤوسيه، ولكن بحزم بعيد عن الغضب والنرفزة، بل بحكمة رصينة هادئة. بهذا الحزم منع الرب داود النبي من بناء الهيكل، شارحًا السبب في ذلك (1 أي 28: 3، 6). وفي نفس الوقت لم يجرح شعور داود، ولم يتعارض ذلك مع محبته له. * البعض يفقد وداعته بسبب الحرص على كرامته الشخصية. وهذا أمر رديء فالكرامة الحقيقية هي أن يحتفظ الإنسان بالصورة الإلهية التي خُلق بها (تك 1: 26). ولكي نكون على صورة الله وشبهه، ينبغي أن نكون ودعاء مثله. *والبعض يفقد الوداعة في مجال الشجاعة. |
|