رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
عيد جسد المسيح ودمه ومعانيه
الاحد الحادي عشر من السنة (يوحنا 6: 51-59) تحتفل الكنيسة في كل سنة بعيدِ جسد المسيح ودمه المقدّسَين بعد عيد أحد الثالوث الاقدس، وتعمَّم هذا العيد على الكنيسة جمعاء سنة 1264. ويُسلط إنجيل هذا العيد الأضواء على يسوع الذي هو خبز الحياة (يوحنا 6: 51-59)، وذلك ان سيدنا يسوع المسيح أسس سر الإفخارستيا كعلامة حضوره ببننا من خلال جسده ودمه، جسده الذي بذله من أجلنا وأجل العالم، ودمه الذي أراقه من اجلنا وأجل العالم حتى ننال جميعا قوة وقداسة وحياة ابدية؛ يُدخلنا حضور يسوع المسيح الحقيقيّ في سرّ القربان الأقدس جسدًا ودمًا وروحًا ولاهوتًا في جوهر سرّ الخلاص. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 6: 51-59) 51 أَنا الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد. والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العالَم تشير عبارة "أَنا الخبزُ الحَيُّ" الى شخص يسوع، نفسِهِ، جسدِه ودمِه، الذي فيه الحياة. ويُعلق سيدلو باكستر الواعظ المشهور: "ان يسوع لم يأتِ ليقدم لنا خبز الحياة، لأنه قال: "أنا هو خبز الحياة". إنه مبدأ حياة حيث يجد فيه المؤمن اشباع جوعه الداخلي؛ يسوع يُقدِّم نفسه على أنه خبز الحياة، لأنه كما أن الإنسان حين يأكل الخبز العادي يتحوّل الخبز لأنسجة ودم وتكون له حياة كذلك حين يتناول جسد المسيح ويتحد به تكون له حياة ابدية. ويعلق كاهن سِستِرسياني بودوان دو فورد ( 1190)،" يدعى يسوع "الخبزُ الحَيُّ لأنّه يملك في ذاته الحياة الّتي تدوم، ولأنّه يمكن أن ينجّي من الموت الروحيّ وأن يعطي الحياة". أمَّا عبارة " الخبزُ الحَيُّ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء" فتشير الى يسوع الخبز الذي يعطي حياة أبدية للإنسان مقارنة مع المَنَّ الذي أُعطي في البرِّية؛ فالمَنَّ الذي نزل من السماء لم يكن إلاّ رمزا نبوياً الى يسوع خبز الحياة النازل من السماء، ويعطي العالم الحياة الابدية. لم يستطع المَنَّ ان يمنع الموت (يوحنا 6: 49) أمَّا من يأكل من خبز الحياة الذي يُعطيه يسوع لن يموت ابدا (يوحنا 6: 50-51). الخبزُ الحَيُّ أعظم من المَنَّ الذي هو مادة لا حياة فيها، وإذا تُركت فسدتْ سريعا، ولا يكفي آكله سوى يوم ٍواحدٍ. أمَّا عبارة "مَن يَأكُلْ مِن هذا الخُبزِ يَحيَ لِلأَبَد" فتشير الى يسوع الذي يقدِّم جسده في هيئة خبز نأكله ونتَّحد به لنيل الحياة الأبدية، لأنه حيٌ ومُحيي، والحياة موجودة في شخصه كما صرَّح الى تلاميذه " لِأَنِّي حَيٌّ ولأنَّكُم أَنتُم أَيضاً سَتَحيَون" (يوحنا 14: 19). وهذه الحياة تشتمل على كمال القداسة والسعادة فالذي ينالها لا يدخل في الدينونة لأنه يتبرَّر، ثم يتقدّس ثم يتمجّد. لكنه لا ينجو من موت الجسد، لكن هذا الموت سيُهزم كما يصرِّح بولس الرسول:" ابتَلَعَ النَّصْرُ المَوت" (1قورنتس 15: 54). أمَّا عبارة "الخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا" فتشير الى الخبز الذي يعطيه يسوع بتقديمه جسده، وهذا ما ندعوه سر القربان الاقدس او الإفخارستيا. والإفخارستيا كلمة يونانية خµد…د‡خ±دپخ¹دƒد„خ¯خ± صدرت عن رسالة بولس في كلامه عن يسوع في تأسيس سر القربان " وهو أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ خµل½گد‡خ±دپخ¹دƒد„ل½µدƒخ±د‚، ثُمَّ كَسَرَه وقال: هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري " (1 قورنتس 11: 24). واما عبارة "سأُعْطيه أَنا " فتشير الى عبارة " أَبي يُعطيكُم خُبزَ السَّماءِ الحَقّ " (يوحنا 6: 32) مما يدل على إرادة الآب والابن أن يحيا الجميع أبديا وليس موقتا كما حدث مع شعب العهد القديم الذي حصل على مَنْ السماء فأكله وعاش أياما على الأرض ثم مات أبديا (خروج 16: 35). أمَّا عبارة "هو جَسَدي" في الأصل اليوناني دƒل½±دپخ¾ (ومعناه لحم ودم) فتشير الى ما يكوّن حقيقة الانسان، بما فيه من إمكانيات وضعف (يوحنا 1: 14)، وتقابلها كلمة "بشر" في العربية أي المخلوق الضعيف إزاء الخالق القوي الكبير. وهذه اللفظة اطقت على تجسد كلمة الله "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً" دƒل½°دپخ¾ (يوحنا 1: 14)، ولذلك فإنها تدل على قيمة التجسّد من أجل الخلاص. منح يسوع طبيعته البشرية ليكون قوتا للإنسان. واستخدم يسوع مجاز الجسد بدل مجاز الخبز كونه ذبيحة. أمَّا عبارة " جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العالَم" فتشير الى البُعد الفدائي الذي يمتاز به موت يسوع. لم يحببنا الله بالكلام بل أخذ جسدًا حقيقيًا. لقد "احتاج" إلى جسد كي يبذل نفسه من أجل الإنسانية ويُخلّصها. وهكذا كشف المسيح هنا عن نيَّته في بذل جسده على الصليب كفارة عن الخطايا. فالمسيح لم يُخلص الناس بمجرّد تجسُّده بل بموته على الصليب بدلا عنهم لكي ينالوا الغفران والمصالحة مع الله وموهبة الحياة الأبدية. وهذا وفق ما أنبأ به أشعيا (فصل 53) ويوحنا المعمدان من ان المسيح هو "حمل الله" (يوحنا 1: 36)، وهو الفصح الحقيقي "فقَد ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وهو المسيح" (1 قورنتس 5: 7) وما الإفخارستيا إلاَّ ذبيحة المسيح نفسها على الصليب لكي نأكل خبز الحياة ـ وما خبز الحياة الاَّ تناول جسد الرب ودمه؛ ومن هذا المنطلق، هناك صلة بين يسوع، مصدر الحياة وبين موته، كما صرّح: “الرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف (يوحنا 10: 11). أمَّا عبارة " العالَم " فتشير في انجيل يوحنا الى اليهود والأمم الوثنية، لان ذبيحة المسيح كافية للجميع ومعروضة على الجميع “إِنَّه كَفَّارةٌ لِخَطايانا لا لِخَطايانا وحْدَها بل لِخَطايا العالَمِ أَجمع" (1 يوحنا 2: 2)؛ ويعلق القدّيس أفرام السريانيّ (نحو 306 -373)، " فالمَنُّ (خبز موسى) لم يكن كاملاً فقد أعطي فقط للشعب العبراني. أمّا ربّنا، فقد أراد أن يكون عطاءه أشمل من عطاء موسى وأن تكون دعوة الشعّوب أكمل من دعوة موسى" (عظة في شرح للإنجيل). وأمَّا في انجيل لوقا فتشير لفظة العالم الى التلاميذ "هذا هو جَسدي يُبذَلُ مِن أَجلِكُم (22: 19) كذلك في رسالة بولس " إِنَّه مِن أَجْلِكُم" (1 قورنتس 11: 24). أمَّا هنا يوجّه يسوع كلامه توجيها مباشرة الى الحاضرين من المؤمنين المشتركين في الإفخارستيا، وأمَّا في إنجيل متى (26: 28) وفي إنجيل مرقس 14: 24) فيُراق دم يسوع " مِن أَجْلِ جَماعةِ النَّاس ". هدف الحياة هو الحياة الحقيقية هي التي يعطيها الكلمة المتجسد يسوع المسيح بذبيحة جسده ودمه. إن الخبز الوحيد الذي يُغذّي ويمنح الحياة هو جسده، وأن الطريقة الوحيدة للوصول إلى حبّ الله تتمّ من خلال هذا الجسد. 52 فخاصَم اليَهودُ بَعضُهم بَعضاً وقالوا: كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جسدَه لِنأكُلَه؟ تشير عبارة "خاصَمَ اليَهودُ بَعضُهم بَعضاً" الى جدال بين اليهود بسبب الاختلاف في فهمهم كلام يسوع ، فالبعض فهم الكلام على المستوى الروحي، والبعض الآخر فهم الكلام على المستوى الجسدي فرفضه حيث ان شرب الدم كان محرمًا عند اليهود (التكوين 9: 4)، لأن الروح في الدم، لكن ذبيحة المسيح تختلف عن باقي الذبائح حيث أنه يعطينا حياته التي في دمه لتقديسنا كما جاء في الرسالة الى العبرانيين " ما أَولى دَمَ المسيحِ، الَّذي قَرَّبَ نَفْسَه إلى اللهِ بِروحٍ أَزَلِيٍّ قُرْبانًا لا عَيبَ فيه، أَن يُطَهِّرَ ضَمائِرَنا مِنَ الأَعمالِ المَيْتَة لِنَعبدَ اللهَ الحَيّ! "(العبرانيين 9: 13 – 14)؛ لقد أخطأ اليهود فهم معنى كلام المسيح كما أخطأه نيقوديموس (يوحنا 3: 4) والمرأة السامرية (يوحنا 4: 11)؛ أمَّا عبارة " كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جسدَه لِنأكُلَه " فتشير الى استفسار انكاري أي لا يقدر ويتضمن الاستهزاء بقول المسيح إذ عمل المسيح هو مخالف للشريعة، إذ ان الشريعة الموسوية تحرم شرب الدم كما امر الرب موسى "أَنقَلِبُ على آكِلِ الدَّمِ وأَفصِلُه مِن وَسْطِ شَعْبِه. لأَنَّ نَفْسَ الجَسَدِ هي في الدَّم، وأَنا جَعَلتُه لَكم على المَذبَحِ لِيُكَفَّرَ بِه عن نُفوسِكُم، لأَنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عنِ النَّفْس" (الاحبار 17: 10-11). ويُعلق القديس كيرلس الكبير مندهشا "اليهود الذين آمنوا أنه بأكل لحم خروف الفصح ونضح دمه على الأبواب يهرب الموتُ منهم، ويُحسبوا مُقدَّسون، ولن يعبر بهم المُهلك، وكيف لا يؤمنون بأن تناول جسد حمل الله ودمه يهبهم الحياة الأبدية؟". ولذلك فإن سبب جدال اليهود ومنازعتهم هو عدم الايمان كما يقول أشعيا "إن كنتم لا تؤمنون فلن تفهموا"(أشعيا 7: 9). لهذا كان من الصواب أن يتأصل فيهم الإيمان أولًا ثم يأتي بعد ذلك الفهم للأمور التي يجهلونها. أمَّا بولس الرسول فقد استخدم تعبير الجسد والدم في حديثه عن التناول "أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: ((هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري)). وصَنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكَأسِ بَعدَ العَشاءِ وقال: ((هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري" (1 قورنتس11: 23-26). 53 فقالَ لَهم يسوع: الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة. تشير عبارة "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم" الى الأهمية والتأكيد الذي اعتاد المسيح ان يصرِّح بها ان ما ظهر لليهود مُحالا ومضحكا هو شرط ضروري للخلاص. أمَّا عبارة "إذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ" فتشير الى شرط ضروري للخلاص. وأمَّا عبارة "دَمَه" فتشير الدم الى ذبيحة الجلجلة على الصليب والى الموت الذي يهب الحياة. ويدل هذا الاعلان عن قرار يسوع بإعطائه جسده ذبيحة من أجل حياة العالم. وكل قداس هو نفس الذبيحة. ولذلك فإن سر الإفخارستيا الذي نأكل فيه جسد المسيح ونشرب دمه هو امتداد لذبيحة الصليب. السر معناه نوال نعمة غير منظورة تحت أعراض الخبز والخمر المنظورة، فما نتناوله هو خبز وخمر، وفي الحقيقة يقول لنا إيماننا هو جسد ودم.المسيح. وأشار يسوع المسيحَ مخلِّصَنا إلى هذا الخبزِ وهذه الخمرةِ الى ما ورد في سفرِ الأمثال، حيث جاء: "هَلُمُّوا كُلُوا مِن خُبزِي وَاشرَبُوا مِنَ الخَمرِ الَّتِي مَزَجْتُ" (أمثال 9: 5). أمَّا عبارة "ابنِ الإِنسانِ " فتشير الى المسيح كونه ابن الله المُتجسِّد، لأنه لا يستطيع ان يموت يسوع دون التجسد. أمَّا عبارة "فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة" فتشير الى عدم نيل اليهود حياة روحية والرجاء للحياة الأبدية الاَّ بإيمانهم بالمسيح. لا يكفي لليهود ان يروا اعمال المسيح ويسمعوا كلامه لكي ينالوا الحياة ان لم يتخذوا المسيح بالإيمان قوتا لنفوسهم. 54 مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير. تشير الآية “مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" الى تأكيد الآية السابقة "إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة" لانهما بمعنى واحد سوى ان الآية الأولى تنفي الحياة لغير المؤمن والآية الثانية تعطي الحياة، لانّ! المسيح هو مصدر الحياة والمؤمن يتحد به بالإيمان فيشترك في الحياة الأبدية. وتبدأ تلك الحياة في الانسان عندما يقتات بالإيمان به. أمَّا عبارة " أَكل" في الأصل اليوناني د„دپل½½خ³د‰ (معناه مضغ، قضم) فتشير الى استعمال يوحنا الإنجيلي مفرد حسِّي لوصف الاشتراك في الإفخارستيا وهو شبيه بأكل العشاء الفصحى حيث كانت العادة الجارية عند اليهود ان يُحسنوا مضغ أطعمة عشاء الفصح خاصة خروف الفصح. ونلاحظ هنا ان يوحنا الانجيلي يُشدّد على واقعية جسد يسوع ضد البدعة الظاهرية القائلة ان يسوع لم يأخذ جسداً حقيقياً من مريم. أمَّا عبارة "مَن أَكل جَسَدي" فتشير الى صيغة المُتكلم. فالانتقال من صيغة الغائب "إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ" (يوحنا 6: 53) الى صيغة المتكلم "مَن أَكل جَسَدي" دليل على معادلة بين ابن الانسان وبين يسوع. أمَّا عبارة "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي" في الاصل اليونانيل½پ د„دپل½½خ³د‰خ½ خ¼خ؟د… د„ل½´خ½ دƒل½±دپخ؛خ± خ؛خ±ل½¶ د€ل½·خ½د‰خ½ خ¼خ؟د… (معناها الأكل الدائم والشرب بمعنى الشركة الدائمة) فتشير الى اشتراك في حياة يسوع وموته الذي ينتج عنه نيل الحياة الأبدية والقيامة في المستقبل. أمَّا عبارة "فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة" فتشير الى حياة الآب السماوي، "فكَما أَنَّ الآبَ له الحَياةُ في ذاتِه فكذلِكَ أَعْطى الِابنَ أَن تَكونَ له الحَياةُ في ذاتِه (يوحنا 5: 26) ويعطى الابن الحياة الأبدية للذين يأكلون جسده ويشربون دمه. فقد قال يسوع "أنا خُبزُ الحَياة" (يوحنا 6: 48). وحيث ان يسوع "خبز الحياة" يُعطي لمن يأكل جسده أن يحيا به، كما هو يحيا بالآب (6: 27-28) أوصى يسوع بالأكل من هذا الخبز "خُذوا كُلوا! إنَّ هذا الخبزَ هو جسدي للحياة الأَبدِيَّة"(متّى 36:26). أمَّا عبارة "أُقيمُه اليَومِ الأَخير" فتشير الى الوعد بالقيامة للمرة الرابعة في هذا النص (يوحنا 6: 39، 40، 44). والقيامة هي ملحق لعطية "حياة ابدية". ان نفس المؤمن لا تنال كمال الحياة الأبدية الاّ متى قام الجسد وشارك الروح في السعادة كما جاء في تعليم بولس الرسول "نحنُ الَّذينَ لَنا باكورةُ الرُّوحِ نَئِنُّ في البَاطِن مُنتظِرينَ التَّبَنِّي، أَيِ افتِداءَ أَجسادِنا" (رومة 8: 23)، فالقيامة هي حياة مع الله في الحياة الحاضرة، ولكن القيامة لا تتحقَّق في كمالها إلاّ في اليوم الاخير. القيامة تبدأ الآن، وتكتمل في اليوم الأخير كما قالت مرتا ليسوع "َعلَمُ أَنَّه سيَقومُ في القِيامَةِ في اليَومِ الأَخير (يوحنا 11: 24). والإفخارستيا هي خميرة القيامة للمؤمنين (يوحنا 6: 39-40). وكما ان الخبز المادي يسدُّ جوع الحياة الجسدية، كذلك الخبز الروحي يسدُّ جوع الحياة الروحية. الخبز النازل من السماء الذي أعطاه موسى (عدد 11: 7) يقوت ليوم واحد ولا يمنع الموت، أمَّا المسيح فهو يقدِّم ذاته خبزا روحيا نازلا من السماء، الخبز الذي يقود الى الحياة الابدية. وبعبارة أخرى، يعلن يسوع هنا ان الاشتراك في حياته وموته، ينتج عنه الحصول على الحياة الابدية والقيامة في المستقبل. والجدير بالذكر ان هناك تشابه، بين آية " مَشيئةُ أَبي هيَ أَنَّ كُلَّ مَن رأَى الِابنَ وآمَنَ بِه كانَت له الحياةُ الأَبَدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير " (يوحنا 6: 40) التي تتكلم عن الإيمان وبين آية (يوحنا 6: 54) التي تتكلم عن سر الإفخارستيا بوضوح، وهذا التشبه يُشدد على أهمية الإفخارستيا والإيمان. الإيمان وحده فقط لا يكفي فلا بُد من التناول من جسد ودم سيدنا يسوع المسيح في سر الإفخارستيا. 55 لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ" تشير عبارة "جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ" الى جسد المسيح ودمه، وهما غذاء حقيقي للنفس كما جاء في العشاء الأخير. واستخدم بولس الرسول تعبير الجسد والدم في حديثه عن التناول" كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي" (1 قورنتس 11: 26). أمَّا عبارة " حَقّ " في الأصل اليوناني ل¼€خ»خ·خ¸ل½µد‚ (معناه حقيقي) فتشير الى امر حقيقي غير مزيَّف بل يختص بحاجة الإنسان الحقيقية، والحاجة الحقيقية تختص بالروح والحياة الأبدية وليس مجرد عمل إعجازي دنيوي مظهري كما يطلب اليهود "أَيُّ آيةٍ تَأتينا بِها أَنتَ فنَراها ونَؤمِنَ بكَ؟ ماذا تَعمَل؟" (يوحنا 6: 30). لم يفصح المسيح هنا عن السر الذي سيتم بالخبز والخمر، انما تركه ليصنعه أمام التلاميذ ليلة الخميس المقدسة في العشاء الأخير مع تلاميذه. أمَّا عبارة " طَعامٌ حَقّ وشَرابٌ حَقّ" فتشير الى العشاء الاخير حيث الخبز (الطعام) والخمر (الشراب)، هما جسد المسيح ودمه، وهما يُحققان غاية الطعام والشراب. وغاية الطعام والشراب هي ضمان الحياة. وهذه الحياة هي مشاركة مع الآب والابن. فالمسيح الذي تجسّد (يوحنا 1: 14) ألا يستطيع ان يكون حاضرا تحت اعراض الخبز والخمر؟ ويسوع الذي كثّر الخبز والسمك (يوحنا 6: 1-15) ألا يستطيع ان يكثِّر حضوره تحت أعراض الخبز والخمر؟ انه سر الايمان. وقد أكَّد القديس اوغسطينوس على الايمان بالحضور الحقيقي بقوله "هذا الخبز الذي ترونه على المذبح، وقد قدسه كلام الله، هو جسد المسيح؛ وهذه الكأس، او بالحري ما في هذه الكأس، وقد قدَّسه كلام الله، هو دم المسيح" (العظة 227). 56 مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه. تشير عبارة "مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي" الى قول الرب يسوع عن أكل جسده وشرب دمه، إنه امر لم يقدر رؤساء اليهود ان يحتملوه، لان الشريعة تحرم شرب الدم (الاحبار 17: 10). وبالرغم من ذلك، إن جسد المسيح ودمه هما غذاء حقيقي للنفس. وقد اكّد بولس الرسول هذه الحقيقة باستخدام تعبير الجسد والدم في حديثه عن التناول " أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري. وصَنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكَأسِ بَعدَ العَشاءِ وقال: هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري" (1قورنتس 11: 23-26). أمَّا عبارة " ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه" الى اتحاد حميم بالمسيح والمشابهة له، والموافقة في الإرادة، والتمتع برضاه، والامن من الخوف، والتعزية في الضيق، والنجاة من الدينونة، وكل ذلك ناتج عن تمثل طبيعة الرب كما جاء في تعليم بولس الرسول " فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي" (غلاطية 2: 20). أمَّا عبارة " ثَبَتُّ فيه " الى اتحاد يسوع بالمؤمنين تلبية لصلاته الكهنوتية " فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني " (يوحنا 17: 21). فيا لها من مسؤولية فردية وجماعية! 57 كما أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَني وأَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي. تشير عبارة "الآبَ الحَيَّ" الى صفة الآب أنه حي كما جاء في وحي موسى النبي" أَي بَشَرٍ سَمِعَ صَوتَ اللّهِ الحَيِّ مُتَكَلِّمًا مِن وَسَطِ النَّارِ مِثلنا وبَقِيَ على قَيدِ الحَياة؟ " (تثنية الاشتراع 5: 26)؛ أمَّا عبارة "ارسَلَني" فتشير الى ارسال الله الآب ابنه الى العالم ليتجسَّد؛ "أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَني وأَنِّي أَحْيا بِالآب" فتشير إلى اتحاد المؤمن الذي أكل جسد الرب وشرب دمه شبيه بالاتحاد الكائن بين الآب والابن. أمَّا عبارة "إني أَحْيا بِالآب" في الأصل اليوناني خ؛ل¼€خ³ل½¼ خ¶ل؟¶ خ´خ¹ل½° د„ل½¸خ½ د€خ±د„ل½³دپخ± (معناها انا أحيا بالآب) فتشير الى علة حياة الابن هو الآب، يعني أنه من الآب، وليس الآب منه. أن الآب ليس سبب حياة الابن انما الابن حي بنفس حياة الآب، فالابن لا يحيا وحده، لكن حياة الآب هي حياة الابن بلا انفصال. وقد قال الابن عن نفسه "أَنا القِيامةُ والحَياة " (يوحنا 11: 25)؛ فالمسيح إذاً له نفس حياة الله بسبب اللاهوت المُتحد بجسده. ويُعلق القديس كيرلس الكبير على لسان يسوع "من يأخذني في نفسه بالاشتراك في جسدي سيَحْيا، ويُطَّعم بالكامل فيّ، أنا القادر أن أهبه حياة، لأنني من أصل واهب الحياة، أي الله الآب"؛ أمَّا عبارة " الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي" فتشير الى تناول القربان الاقدس، فمن تناول جسد الرب ودمه يأخذ الحياة التي في المسيح، وهي حياة أبدية. وهذ الحياة هي دخول في الاتحاد بالابن عن يد الآب. وهذا الاتحاد مع يسوع من خلال القربان الاقدس هو شبيه بالاتحاد الكائن بين الآب والابن، فنحن نحيا بالمسيح كما هو حي بالآب. فإذا أكلنا الجسد وشربنا الدم فنحن لا نعود نحيا وحدنا بل نحيا حياة المسيح النابعة من نفس ينبوع الآب. وهكذا يتم الرباط الإلهي بين الإنسان والله الآب بجسد المسيح الذي نناله من الإفخارستيا. 58 هُوَذا الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِن السَّماء غَيرُ الَّذي أَكلَهُ آباؤُكُم ثُمَّ ماتوا. مَن يأكُلْ هذا الخُبْز يَحيَ لِلأَبَد. تشير عبارة "الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِن السَّماء" الى تكرارها للمرة العاشرة في هذا الفصل نظراً لأهمية موضوع الخبز مُبيِّنا انه هو الخبز الحقيقي الذي نزل من السماء ليس كالمَن ِّ، إنه يقوت العالم بتقديم نفسه ذبيحة لله يقتات بها الخاطئ بالإيمان. يتكلم يسوع عن الخبز لكنه فيه حياة أبدية. إن هذا الامر يصعب فهمه، لهذا لا بد من خيار نقوم به. فالرسل كانوا قد أعلنوا إيمانهم عن طريق بطرس، والتزموا بما يطلبه يسوع. أمَّا آخرون فتردَّدوا وتراجعوا وانقطعوا عن مصاحبة يسوع: "كَثيرٌ مِن تَلاميذِه لَمَّا سَمِعوه قالوا: هذا كَلامٌ عَسير، مَن يُطيقُ سَماعَه؟" (يوحنا 6: 60). أمَّا عبارة "أَكلَهُ آباؤُكُم ثُمَّ ماتوا" فتشير الى اليهود الذين لم يعيشوا إلى الأبد بواسطة المَنَّ. إن قيمة "المَنَّ" محدودة، وهي لا تقابل بالخبز الذي يمنحه يسوع. أمَّا عبارة "مَن يأكُلْ هذا الخُبْز يَحيَ لِلأَبَد" فتشير الى الذين يتناولون جسد المسيح فهم يموتون وقتيًا لكنهم يحيون أبديًا، لأن المسيح يمنحهم حياة أبدية. تلخص هذه الآية التعليم الوارد في الآيات السابقة. 59 قالَ هذا وهو يُعلِّمُ في المجمَعِ في كَفَرْناحوم. تشير عبارة "هذا" الى كل ما في هذا الفصل من آية 26 الى آية 59؛ أمَّا عبارة "يُعلِّمُ في المجمَعِ" فتشير الى تعليم يسوع العلني في المجمع، كما أنبأ أشعيا "لم أَتَكَلَّمْ في الخُفْيَة في مَكانٍ مُظلِمٍ مِنَ الأَرض " (أشعيا 45: 19)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ان يسوع علّم في المجمع لسببين: الأول لكي يقتنص أكبر عدد ممكن من أعدائه، والثاني أنه أراد تأكيد عدم معارضته للآب". أمَّا عبارة "كَفَرْناحوم" في العبرية ×›ض°×¤ض·×¨ض¾×*ض·×—וض¼× (معناه قرية ناحوم)، فتشير الى المكان التاريخي الذي دار فيه الحديث عن خبز الحياة. وهي قرية واقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لبحيرة طبرية (متى 4: 13-16) وكانت مركز جباية (مرقس 2: 1) ومركز عسكري روماني (متى8: 5). وجعلها يسوع مركزا له حتى انها دُعيت "مدينته" (متى 9:1). وفيها شفى يسوع حماة بطرس المحمومة (متى 8: 14-17) والمقعد (مرقس 2: 1-13) ومرضى كثيرين (متى 8: 16). ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 6: 51-59) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 6: 51-59)، نستنتج انه يتمحور حول نتائج سر الإفخارستيا، خبز الحياة. ومن هنا نتساءل: ما هي ظروف العظة عن سر الإفخارستيا، وما هي نتائج سر الإفخارستيا؟ 1) ظروف عظة الإفخارستيا بعد سر عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 12)، وسر الولادة الجديدة مع نيقوديمس (3: 1-21)، وسر الماء الحي مع السامرية (4: 54) يُدخلنا يسوع في سر الخبز الحي. فبعد معجزة الخبز والسمكتين التقى يسوع والجمع في كفرناحوم. واراد يسوع ان يُفهم الجمهور الحقيقة التي ترمز اليها معجزة الخبز. فاخذ يتحدث معهم حيث هم وكما هم: إنهم يأتون الى يسوع طلبا للخبز الذي أكلوه، ولم يتبيّنوا الحقيقة فقال لهم يسوع "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَنتُم تَطلُبونَني، لا لِأَنَّكم رَأَيتُمُ الآيات: بلِ لِأَنَّكم أَكَلتُمُ الخُبزَ وشَبِعتُم" (يوحنا 6: 26). فكشف عن الخبز الحقيقي الذي يُشبع جوع الإنسان. ويُعلق القديس اوغسطينوس " نادرًا ما يُطلب يسوع من أجل يسوع نفسه". وانطلق يسوع من اهتمامات الشعب المادية في كسب الخبز لعيالهم. ودعاهم الى التطلع الى أعلى "لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان" (يوحنا 6: 27). فسألوه "ماذا نَعمَلُ لِنَقومَ بِأَعمالِ الله؟" (يوحنا 6: 28). عندئذ أوضح لهم يسوع ما يجب ان يفهموه "عَمَلُ اللهِ أَن تُؤمِنوا بِمَن أَرسَل" (يوحنا 6: 29)، ولكن قبل ايمانهم به سألوه آية مماثلة لأعاجيب موسى التي تُبين ان رسالته من الله قائلين: "فأَيُّ آيةٍ تَأتينا بِها أَنتَ فنَراها ونَؤمِنَ بكَ؟ ماذا تَعمَل؟ آباؤُنا أَكَلوا المَنَّ في البَرِّيَّة. كما وَرَدَ في الكِتاب: أَعْطاهم خُبزاً مِنَ السَّماءِ لِيأكُلوا" (يوحنا 6: 30-31). فاخذ يُحدِّثهم عن الإفخارستيا، خبز الحياة. فمعجزة تكثير الخبز تُظهر عطاءه الخبز الخالد والمائدة القربانية حيث يُشبع شعبه الى الابد في سر الإفخارستيا. 2) معاني عظة الإفخارستيا روت الاناجيل متى وهو تقليد كنيسة القدس (متى 26: 26-29)، ومرقس وهو تقليد كنيسة القدس (مرقس 14: 22-25) ولوقا وبولس وهو تقليد كنائس انطاكيا أو آسية الصغرى (لوقا 22: 15-20، 1 قورنتس 11: 23-25) عن الإفخارستيا وتأسيس هذا السر. الإفخارستيا هي لفظة يونانية خµل½گد‡خ±دپخ¹دƒد„ل½³د‰ تذكر بالبركات التي تُشيد بأعمال الله: الخلق والفداء والتقديس (لوقا 22:19، 1 قورنتس 11:24، متى 26:26). أمَّا إنجيل يوحنا لم يروِ عن تأسيس سر الإفخارستيا، انما اكتفي بالتكلم عن نتائج الإفخارستيا وهي الحياة الأبدية والقيامة والثبات في المسيح وتكريس الذات للمسيح. المعنى الاول: الحياة الابدية والقيامة عادت الجموع في الغد تبحث عن يسوع، لا للتمتع بصانع الآيات، وإنما لأنها أكلت وشبعت (يوحنا 6: 26)، لذلك قدَّم لهم السيد المسيح مائدة جديدة مختلفة: جسده ودمه المبذولين طعامًا يهب الحياة الأبدية والقيامة. فقال لهم "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 54). الحياة الأبدية يشير كلام يسوع "أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي" الى ما ندعوها الإفخارستيا او القربان المقدس. تُشركنا الإفخارستيا "أكل جَسَدي وشرِبَ دَمي" في "يسوع القائم" والحي. إذ يتحوّل هذا الجسد القائم فينا الى بذار حياة الهية. وتحوُّل جوهر الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح هو ثمرة هبة المسيح ذاته للبشر، هبة حب أقوى من الموت. لهذا السبب الإفخارستيا هي طعام للحياة الأبدية. وهذه الحياة تتطلب الاتحاد بالمسيح والتغذي يجسده ودمه الأقدسين كما يتغذى يسوع من العلاقة مع الآب ويحيا به (يوحنا 6: 57). ويُعلق القديس كيرلس الكبير "يليق بالأبدي أن يعطي ما هو أبدي، لا أن يعطي تمتعًا بطعامٍ وقتي بالكاد يقدر أن يدوم للحظاتٍ قليلة. ويليق بالذي نزل آنذاك أن يجعل المشتركين في تناوله أسمى من الموت والاضمحلال". تحتاج حياتنا إلى الغذاء إلا أن الغذاء غير كاف لتجنب الموت. أما الحياة الخاصة بيسوع، فهي لا تعرف الموت. يُظهر يسوع نفسه حياةً للبشر مقدَّمة تحت رمز الخبز من خلال سر القربان "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 54)، ولذلك فإن المَنَّ الذي نزل من السماء لم يكن الا رمز، لان خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي الحياة. فقد كان بعض علماء الشريعة اليهود يَعدّون عطية "المَنَّ" اليومية في البرية زمن الخروج أكبر خوارق (خروج 16: 15)، فعلى المسيح المُرسل في نظرهم ان يُجري من المعجزات ما يفوق معجزة "المَنَّ". فأخذ اليهود يطلبون من يسوع آية تُثبت انه قادرٌ على منح الحياة. فاثبت لهم يسوع ان المَنَّ الذي أعطاه موسى لأجداد اليهود في البرِّية لم يستطع ان يمنع الموت عنهم (يوحنا 6:49). أمَّا هو فيقدِّم ذاته " الخُبزَ النَّازِلَ مِنَ السَّماء الَّذي يأكُلُ مِنه الإِنسانُ ولا يَموت" (يوحنا 6: 50). وأشار يسوع هنا الى الخبز النازل من السماء الذي اعطاه موسى لأجداد اليهود، وكان خبزاً ماديا موقَّتا، وكان يقوت الناس ليوم واحد، وكان عليهم ان يحصلوا على المزيد منه كل يوم، ولم يقدر هذه الخبز ان يمنع الموت عنهم. أمَّا يسوع هو أعظم من موسى، فيُقدّم ذاته خبزا روحياً نازلا من السماء يقود الى الحياة الابدية. هذا هو الاختلاف الّذي يُميّز الإفخارستيا عن المَنِّ. لقد كان المَنُّ مجرّد خبز أرضيّ، يُغذّي الجسد، لكنّه يترك النفس والروح دون قوّة. أمَّا الإفخارستيا فهي الربّ الإله ذاته الّذي يجعل جسده ودمه جسدَنا ودمَنا ويمنحنا قوة للحياة الابدية. نستنتج مما سبق ان يسوع رفع نظر اليهود الى خبز أهم من المَنِّ، الى خبز الله، مبدأ الحياة الذي يبقى الى الابد، وليس كالمَنِّ الذي يُفنى. والمَنُّ ما هو الاَّ ظل لخبز الحياة الذي يقدِّمه يسوع، إذ أوضح يسوع انه خبز الحياة في كلامه: "جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ" (55). وتمَّ ذلك في العشاء الربَّاني لما قدَّم جسده مأكلا ودمه مشرباً، في الخبز والخمر، سر جسد يسوع الذي يُبذل من أجلنا وسرّ دمه الذي يُراق عنا لمغفرة الخطايا. فالإفخارستيا هي المَنُّ الحقيقي، هي الخبز الذي يعطي الحياة للعالم، بمجرد الاتحاد الوثيق بيسوع. ويستعمل يوحنا مفردات حسّية لوصف الاشتراك في الإفخارستيا " مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 6: 57) كما يبدو واضحا أثناء العشاء الاخير حيث ان الخبز والخمر هما جسد المسيح ودمه، ضمان الحياة الابدية. والحياة الابدية هي المشاركة مع الآب والابن (يوحنا 6: 57)، وهذه الحياة هي أبدية حيث لا يستطيع الموت ان يدمّرها. ومن ثم أي إنسان يقدّم نفسه بالإيمان ليسوع المسيح المُخلص من خلال القربان يعيش آمِنا لثقته في وعد الله بالحياة الابدية. فالمؤمن يصل إلى الحياة الأبدية بالقربان المقدس، وبالعكس، بدون القربان لن يصل الانسان الى الحياة الأبدية. ولذلك لمَّا تكلم عن " الوليمة السماوية" دعا تلاميذه من جديد "لَن أَشرَبَ بعدَ الآن مِن عَصيرِ الكَرْمَةِ هذا حتَّى ذلك اليَومِ الَّذي فيهِ أَشرَبُه مَعَكُم جَديداً في مَلكوتِ أَبي" (متى 26: 29). تكمن "الحَياةُ الأَبَدِيَّة" في ان يسوع ينقلنا من الموت الى الحياة. لا ينتمي المؤمن بعد الآن الى الموت، بل هو يحيا القيامة منذ الحياة الحاضرة، فحتى وإن مات، فهو يتقبل الحياة كما جاء في قول يسوع "مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة" (يوحنا 5: 24). ويؤكد سفر التكوين، أن الله خلّد الإنسان، لأنه كان يعيش في بستان تنمو فيه شجرة الحياة. وكذلك يؤكد سفر الرؤيا، آخر سفر في الكتاب المقدس، ان الله سيمنح الخلود لكل غالب (رؤيا 2: 7). ويؤكد لنا يسوع هنا ان الايمان به يعيد الينا الحياة الخالدة " لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن" (يوحنا 3: 15). ويُعلق القديس اوغسطينوس " يسوع يود أن يعلن ذاته من هو. إنه يقول من يؤمن بي يقتنيني. لأن المسيح نفسه هو اللَّه الحقيقي والحياة الأبدية. لذلك يقول: من يؤمن بي يدخل فيّ، ومن يدخل فيّ أكون له. وماذا يعني "أكون له"؟ تكون له الحياة الأبدية". القيامة لا يهبْ يسوع من خلال الإفخارستيا الحياة الأبدية فحسب إنما أيضا القيامة. والإفخارستيا هي خميرة القيامة للمؤمنين " فمَشيئةُ أَبي هيَ أَنَّ كُلَّ مَن رأَى الِابنَ وآمَنَ بِه كانَت له الحياةُ الأَبَدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 40)، فالقيامة ملحق ضروري لعطية "حياة ابدية". ويندهش القديس كيرلس الكبير من اليهود الذين "آمنوا أنه بأكل لحم خروف الفصح ونضح دمه على الأبواب يهرب الموت منهم، ويُحسبوا مقدسين، ولن يعبر بهم المهلك، وكيف لا يؤمنون بأن تناول جسد حمل الله ودمه يهبهم الحياة الأبدية؟". ان مناولة جسد الرب ودمه يُحيينا ويغيّرنا من الداخل. إنه الوعد بأن نحصل على حياة الله ذاته فينا. إن من يتناول جسد الرب ودمه سوف يقوم من الموت الجسدي الى الحياة الابدية مع الله كما جاء في تعليم سيدنا يسوع المسيح "كما أَنَّ الآبَ الحَيَّ أَرسَلَني وأَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي" (يوحنا 6: 57)، ويؤكد يسوع بأن من يتناول القربان المقدس فهو يحيا فيه وبالعكس من لا يتناول القربان المقدس فلن يحيا في المسيح. إن القربان المقدس هو جسد المسيح الذي ذُبح على الصليب ومات ثم قام في اليوم الثالث بقوة القيامة. وحيث أن القربان المقدس هو استمرار لذبيحة الصليب فهو استمرار لموته وقيامته. فالقربان المقدّس هو قوة قيامة المسيح وقيامة من يتناول القربان المقدس، ويُعلق القديس إيرناوس الأسقف " فكما أنَّ الخبزَ الأرضيَّ، لا يبقى بعدَ الابتهالِ إلى الله والصلاةِ عليه خبزًا عاديًّا، بل يصيرُ أفخارستيا، ويصيرُ مركَّبًا من عُنصُرَيْن، أحدُهما أرضيٌّ والثاني سماوي، كذلك أجسادُنا، لا تبقى بعدَ أن تتغذّى بالإفخارستيا معرَّضةً للفساد بل يُحيِيها رجاءُ القيامةِ أيضًا" (في الرد على الهراطقة 4و18، 1-2 و4 و5) ويؤكد يسوع "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 54)، عند مجيئه ثانية كما جاء في تعليم بولس الرسول "في لَحْظَةٍ وطَرْفةِ عَين، عِندَ النَّفْخِ في البُوقِ الأَخير. لأَنَّه سيُنفَخُ في البُوق، فيَقومُ الأَمواتُ غَيرَ فاسِدين ونَحنُ نَتَبدَّلُ" (1 قورنتس 15: 52). القربان المقدس هو قوة ألوهية المسيح التي هي قوّة قيامته وقيامتنا. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "إن كان بلمسة جسده المقدس وحدها تمّ إقامة ابنة يايرس (لوقا 8: 54) وإقامة الشاب وحيد أمه (لوقا 7: 12-14) واعطى حياة لجسد تحلَّل، فكيف لا ننتفع نحن بالتناول الذي نشترك فيه، وننال الواهب الحياة والخلود؟ ". وفي هذا الصدد يقول تعليم المسيحي الكاثوليكي: "ان سر القربان الاقدس هو سر تقوى، وعلامة وحدة، ورباط ووليمة فصحية، فيها نتناول المسيح غذاء، وتمتلئ النفس بالنعمة، ونعطى عربون الآتي" (تعليم الكنيسة 1323). ونستنتج مما سبق انه كما ان حياتنا مع على الأرض بحاجة للغذاء المادي هكذا حياة مع المسيح بحاجة للغذاء الروحي، والقربان المقدس الذي يستمده يسوع من علاقته مع الآب السماوي. فلذلك علينا أن نواصل علاقتنا مع الآب والابن لنحيي أنفسنا وحياتنا في الدنيا والآخرة. ويعلق القدّيس يوحنّا ماري فِيَنّي (1786 -1859)، " لو كنّا نستطيع فهم كلّ الخيرات المخفيّة في المناولة المقدّسة، فلا يعود هناك حاجة أكثر من ذلك لإرضاء قلب الانسان. فإزاء هذا السر الرائع، نحن نتصرّف كشخص يموت من العطش بالقرب من نهر؛ فما عليه سوى أن يحني رأسه! أو كشخصٍ يبقى فقيرًا بالقرب من كنز؛ إذ ليس عليه سوى أن يمدّ يده!" (أفكار مختارة من القدّيس يوحنّا ماري فِيَنّي). المعنى الثاني: الثبات المتبادل في شخص المسيح والآخرين الثبات في المسيح الثبات في يسوع المسيح هو النتيجة الثانية للإفخارستيا كما قال يسوع: " مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه (يوحنا 6: 56). فهناك ثبات متبادل. المؤمن يثبتُ في المسيح "ثَبَتَ فِيَّ " كما يثبت ويتحد الغذاء بالجسد، ويتحوَّل الخبز الذي يأكله إلى أنسجة في الجسم. وهذا الثبات تعني أنه يصبحُ جزءاً لا يتجزّأ منا ونصبحُ جزءاً لا يتجزأ منه. فجسده يتفاعل تفاعلاً عضوياً روحياً مع جسدنا فيحوّل أجسادنا على صورة جسده المجيد. هكذا من يتحد بجسد المسيح يصير من " أَعْضاءُ جَسَدِه" (أفسس 5: 30)؛ ويُعلق القديس كيرلس الكبير "إذ نقترب إلى تلك النعمة الإلهية والسماوية، ونصعد إلى شركة المسيح المقدسة، ونصبح شركاء الطبيعة الإلهية (2 بطرس 1: 4) ونرتفع إلى الحياة وعدم الفساد". يدعونا يسوع من خلال سر الإفخارستيا أن نكون واحدًا معه، وأن نتَّخذ من حياته مثالًا لحياتنا وأن نحيا به كما هو يحيا بالآب. ويُعلق القديس أوغسطينوس "يُعرفُ المؤمنون جسد المسيح إن لم يهملوا في أن يكونوا جسد المسيح، ويصيروا جسد المسيح إن أرادوا أن يعيشوا بروح المسيح". ويثبت المسيح في المؤمن من خلال الإفخارستيا كما قال " ثَبَتُّ فيه" في حياته، حيث ان سر القربان ليس كباقي الاسرار يمنح فيها المسيح قوة لتعطي النعمة، بل يمنح نفسه، لان القربان الاقدس هو المسيح نفسه، ينبوع النعم كما يقول القديس توما الأكويني (3/ 65: 3). ومن هنا جاء تصريح بولس الرسول " فالحَياةُ عِندي هي المسيح" (فيلبي 1: 21). ويُعلق القديس أوغسطينوس وكأن يسوع يناجيه بقوله "أنا خبز الأقوياء. أنت لن تحولني إلى ذاتك، كما يحوِّل الجسد الطعام، بل أنت ستتحول إليّ" (اعترافات 7، 10، 18). وهنا ندرك كلام الله الى بولس الرسول "حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف "، وجواب بولس لله " فإِنِّي بِالأَحرى أَفتَخِرُ راضِيًا بِحالاتِ ضُعْفي لِتَحِلَّ بي قُدرَةُ المَسيح" (2 قورنتس 12: 9). ويؤكد يسوع المسيح أن من يتناول القربان المقدس "ثَبَتَ فِي المسيح والمسيح ثَبَتُّ فيه " (يوحنا 6: 51)، وبالعكس إن من لا يتناول القربان المقدّس فلن يكون هناك ثباتا متبادل بينه وبين المسيح. وفي هذا الصدد يقول القديس ايرينيوس "إن الإنسان إمَّا أن يكون فارغًا أو مملوءً. فمن يقبل الله ساكنًا فيه يكون مملوءً، أمَّا من ليس له معرفة بالآب السماوي وليس له الروح القدس ولم يقبل المسيح حياة له يكون فارغًا". فكل إنسان مدعو ليُقيم مع الله وفي الله. "اُثبُتوا فيَّ وأَنا أَثبُتُ فيكم" (يوحنا 15: 4). الثبات في المسيح هو الاتحاد الحميم والوثيق بالرب. من خلال الخبز والخمر المقدسين، الذين يحضر فيهما حقيقة جسد ودم المسيح، وهكذا يُحوِّلنا يسوع إلى ذاته ويُشركنا في عمل الخلاص. الثبات في المسيح هو موضوع العهد الجديد الذي يعبِّر عنه الكتاب المقدس عبر التاريخ، بعبارات رائعة "وأَجعلُ مَسكِني في وَسْطِكم، وأَسيرُ في وَسْطِكم وأَكونُ لَكم إِلهاً وأَنتُم تَكونونَ لي شَعْباً " (الاحبار 6: 11-12). وقد دعيت أورشليم السماوية " مَسكِنُ اللهِ مع النَّاس، فسَيَسكُنُ معهم وهم سيَكونونَ شُعوبَه وهو سيَكونُ ((اللهُ معَهم))" (رؤيا 21: 3). هذه هي العطية الأبدية، يسكن الله معنا ويقبلنا عنده كشعب سماوي له، وهو يكون لنا إلهًا يتجلى فينا. فسكنى الله فينا ينزع عنا فراغنا الداخلي الذي لن يُشبعه إلاَّ الله نفسه، إذ لا تشبع النفس التي على صورة خالقها إلاَّ بالله خالقها. نحن، من خلال القربان الاقدس، نكون في شركة مع إلهنا بشكل ملموس. ونحن بحاجة إلى أنّ نظلّ في حضوره الحقيقي. ويُعلق القديس كيرلس الكبير " جاء المسيح ليكون فينا ونحن أيضًا فيه". وفي هذا الصدد يقول القديس هيلاريون، أسقف بواتييه "بخصوص الجسد والدم لا يوجد أي مجال للشك. فإنه الآن بإعلان الرب نفسه وإيماننا، هو جسد حقيقي ودم حقيقي. وما يؤكل ويشرب يعبر بنا لكي نكون في المسيح والمسيح فينا. الثبات مع الآخرين الإفخارستيا هي شركة ليست فقط مع المسيح، انما مع الآخرين. وإن كلمة " شركة ومناولة "، التي نستعملها للإشارة إلى الإفخارستيا التي تلخِّص في ذاتها البعد العامودي والبعد الافقي لهبة المسيح. لان تعبير المناولة هو عميق بحيث يشير فعل أكل خبز الإفخارستيا. بالواقع، عندما نقوم بهذا الفعل، ندخل مع الآخرين في شركة مع حياة المسيح بالذات من خلال الإفخارستيا المقدسة كما جاء في تعليم بولس الرسول" أَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟ فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد " (1 قورنتس 10، 16–17). وبينما يتحوَّل الخبز الجسدي في جسمنا ويسهم في إعالته، في الإفخارستيا نحن بصدد خبز مختلف: لسنا نحن من نحوِّله، بل هو يُحوِّلنا، فنضحي بهذا الشكل مطابقين ليسوع المسيح، وأعضاء في جسده، فنصبح أمرًا واحدًا معه. ويدعى سر القربان "شركة"، لأننا بهذا السر نتحد بالمسيح الذي يجعلنا شركاء في جسده وفي دمه لنكون جسداً واحدا "فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد" (1 قورنتس 10: 17). ويعلق البابا فرنسيس " حين نأخذ هذا الخبز ونأكله، فإننا ننضمُّ لحياة يسوع، وندخل بشركة معه، ونلتزم بتحقيق الشّرِكَة فيما بيننا، وبتحويلِ حياتِنا إلى عطية، لاسيّما حيال الأكثر فقرًا"(صلاة التبشير الملائكي الأحد، 07 حزيران 2015). واستعملت الجماعة المسيحية الأولى عبارة "كسر الخبز" للدلالة على اجتماعاتهم الإفخارستيا "كانوا يُواظِبونَ على تَعليمِ الرُّسُل والمُشاركة وكَسْرِ الخُبزِ والصَّلَوات" (اعمال الرسل 2: 42)؛ وهم يعبّرون بذلك عن الشركة بينهم، إذ إنَّ جميع الذين يتناولون من هذا الخبز الواحد المكسور أي المسيح، يدخلون في الشركة معه "أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟" (1 قورنتس 10: 16). المعنى الثالث: تكريس الذات للمسيح كرّس يسوع حياته من اجل شعبه، وعاش كلياً من أجله، ويطالبنا بان نعيش من أجله. "أَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي" (يوحنا 6: 57). كرًّس يسوع حياته لله ابيه من خلال الإفخارستيا. وفي الواقع، من أهم رموز القربان المقدس ذبيحة حمل الفصـــــــح (خروج 12: 5) التي ترمز إلى المسيح، فصحنا الحقيقي الذي ذُبح لأجلنا على عود الصليب. ولذلك فإن المسيحيين الآن هم في غنى عن هذه الذبائح، لانَّ المسيح رُفع عن الصليب ذبيحة طاهرة كاملة لأجلهم كما جاء في الكتاب: "تَأَلَّمَ يسوعُ أَيضًا في خارِجِ الباب لِيُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِذاتِ دَمِه" (عبرانيين 13: 11). فهم يقدِّمون الذبيحة الإلهية، ذبيحة الإفخارستيا التي وعد بها يسوع وأسَّسها. ويعلق القديس فولجنسيوس الأسقف "إنَّ مشاركتَنا نفسَها في جسدِ الربِّ ودمِه، تَعني أنّنا نموتُ للعالمِ، وأنّ حياتَنا تصبحُ محتجِبةً مع المسيحِ في الله (قولسي 3: 3)، وأنّنا نصلبُ جسدَنا بما فيه من أهواءٍ وشهواتٍ (غلاطية 5: 24). (في الرد على تعاليم فابيانس فصل 28، 16-19). وكرّس يسوع حياته من أجل أبيه، وعاش كلياً من أجله، ويطالبنا أن نعيش من أجله. لذلك كل مسيحي مدعو ان يكرِّس ذاته للمسيح ويكون قربانا حيَّاّ مع المسيح: "وأَنِّي أَحْيا بِالآب فكَذلِكَ الَّذي يأكُلُني سيَحْيا بي." (يوحنا 6: 57)، وهذا الامر يتطلب ان يعيش الواحد من اجل الآخر. وعندما يكرِّس الإنسان حياته للسيد المسيح يصير بكليته مطّوبًا، حيث تصير نفسه وكل أعضاء جسمه مع قلبه وفكره وكل طاقاته مقدسة، وتعمل لحساب ملكوت الله. "إن كان هذا الامر ينطبق على كل مؤمن، فكم بالأحرى على رسل المسيح وتلاميذه الذين ينالون مواهب خاصة بالخدمة" كما يقول أحد آباء الكنيسة العلامة أوريجانوس. لذلك يتوجب علينا ان نوقف حَيَاتَنا لِخِدْمَةِ الله والآخرين وبِلاَدِنا. ونستنتج مما سبق ان يسوع قرّب ذاته قربان خلاص ووهب نفسه لنا جميعا في موته وقيامته. "فاذا تناولنا جسده المبذول من أجلنا نلنا قوة، وإذا شربنا دمه المسفوك من اجلنا نلنا قداسة". فلنقترب إذًا من مائدة المناولة ب الحبّ والاحترام الفائق لننال مفاعيل المناولة، وهي الحياة الأبدية والقيامة والثبات في المسيح والكنيسة مكرِّسين ذواتنا للمسيح له المجد والعزة والاكرام ابد الدهور. خلاصة بعد تكثيره للخبز (يوحنا 6: 1-15)، وبعد عبور البحيرة الهائجة (يوحنا 6: 16-21)، يتوقف يسوع في مجمع كفرناحوم ويفسّر معجزة الخبز، كاشفا عمق سر الخبز المُتجسد، سر الحب بين الله والانسان وسر الحب بين الاخوة فيما بينهم. إنّ هذا السرّ لا يتمّ فهمه أوّلاً ومن ثمّ الإيمان به. بل ان نؤمن به وبالتالي نفهمه. ينبغي ان نقبل السرّ في البداية، ونعيشه، ونجعله يصبح جزءاً من جسدنا ودمنا، ونُحوّله إلى حياتنا اليوميّة. وبعد أن نعيشه ونحقّقه فينا، نبدأ بفهمه. ولم يبقَ للرسل إزاء سر الإفخارستيا الاَّ الخيار: إمَّا ان يعلنوا إيمانهم بيسوع القرباني، وإمَّا ان يتركوه. أمَّا بطرس، هامة الرسل فبادر في هذه اللحظة الحرجة وقال باسم الاثني عشر "يا ربّ، إِلى مَن نَذهَب وكَلامُ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ عِندَك؟" (يوحنا 6: 68). ونحن نقف كل يوم أمام هذا الخيار. فكل مرة نتناول القربان الاقدس ونكرم سر الإفخارستيا نعيش كلمات يسوع " مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير " (يوحنا 6: 54)، "مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه" (يوحنا 6: 56)، "من يأكُلُني سيَحْيا بي" (يوحنا 6: 57). ان جسد المسيح هو بشرى العالم الأسمى، ولا يمكن ان نحصل على خبز أفضل منه قوة وحياة أبدية "لْنَقَرِّبْ للهِ عن يَدِه ذَبيحَةَ الحَمْدِ في كُلِّ حين" (عبرانيين 13: 15) ولنكسر خبزنا مع اخوتنا على مثال يسوع خبز الحياة ولنجدِّد إيماننا وحبَّنا للإفخارستيا وللرب يسوع. وفي هذا الصدد يقول البابا فرنسيس "ليكن عيدُ جسد الربّ مصدرَ إلهامًا، وليُغَذِّ دائمًا في كلّ منّا الرغبَةَ والالتزامَ من أجلِ مُجتمعٍ مِضيافٍ ومُتَضامِن"(صلاة التبشير الملائكي الأحد، 07 حزيران 2015). دعاء أيها الآب القدوس، يا من أرسلت ابنك يسوع المسيح ليقرّب لك ذاته قربان خلاص، واوصيتنا ان نقرّب هذا القربان ذكرا له، اجعلنا ان نتناول جسده المبذول من اجلنا لننال قوة، ونشرب دمه المسفوك من اجلنا لننال قداسة، فنتمّم رحلة حياتنا إلى أن ندخل في فرح القدّيسين على مائدة ملكوتك السماوي. آمين قصة حقيقية: دم المسيح في فصل صيف عام 1263، كان كاهن ألمانيّ يقوم برحلة حج إلى روما. وقد توقف في بلدة بولسينا قرب أورفياتّو للاحتفال بالقداس الإلهي في كنيسة القديسة كريستينا. في ذلك الوقت، كان لديه شكوك حول وجود السيد المسيح الحقيقي في سر القربان المقدس، متأثرًا بالجدل المتزايد بين بعض اللاهوتيين، الذين، ولأول مرة في تاريخ الكنيسة، بدأوا في إثارة الشكوك حول الوجود الحقيقي لجسد ودم السيد المسيح في الخبز والنبيذ المكرّسين. وبينما كان الكاهن يحتفل بالذبيحة الإلهية، وبعدما تلى صلاة التقديس وبارك الخبز والخمر، توقّف ونادى قائلاً: "هل هذا حقًا أنت يا ربي؟"، وإذا بالبرشانة المقدّسة تحمرّ ويسيل منها الدم، حتّى تبلّلت الصمدة وأغطية المذبح. أبلغ الكاهن مسرعًا بهذه المعجزة البابا أوربان الرابع الذي كان في ذلك الوقت قريبًا من أورفياتّو، ليرسل الحبر الأعظم بدوره مندوبين للتحقّق. وما زالت هذه الصمدة المخضّبة بدم المسيح محفوظة في علبة زجاجيّة في كاتدرائية أورفياتّو حتّى يومنا هذا. وعلى أثر هذه الأعجوبة أصدر البابا أوربان الرابع براءة رسوليّة في 11 آب عام 1264 عمّم من خلالها على الكنيسة جمعاء هذا العيد باسم "Corpus Domini"، أي عيد جسد المسيح، بعد مرور عام واحد من المعجزة الإفخارستيا في بولسينا. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
إننا نتغذى بجسد المسيح ودمه |
إن جسد المسيح ودمه هما غذاء حقيقي للنفس |
جسد المسيح ودمه، وهما غذاء حقيقي |
هذه التي نسميها جسد المسيح ودمه |
جسد المسيح ودمه، نخبر بموت الرب |