رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يسوع والمرأة الزانية والمشتكين عليها
الأحد الخامس من الصوم: يسوع والمرأة الزانية والمشتكين عليها (يوحنا 8: 1-11) النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11) 1 أ َمَّا يسوع فذَهَبَ إلى جَبَلِ الزَّيتون. 2 وعادَ عِندَ الفَجرِ إلى الهَيكلَ، فأَقبَلَ إِلَيهِ الشَّعبُ كُلُّه. فجلَسَ وجَعلَ يُعَلِّمُهم. 3 فأَتاهُ الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ بِامرَأَةٍ أُخِذَت في زنًى. فأَقاموها في وسَطِ الحَلقَةِ 4 وقالوا له: ((يا مُعَلِّم، إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود. 5 وقد أَوصانا مُوسى في الشَّريعةِ بِرَجْمِ أَمثالِها، فأَنتَ ماذا تقول؟)) 6 وإِنَّما قالوا ذلكَ لِيُحرِجوهُ فيَجِدوا ما يَشْكونَه بِه. فانحنَى يسوعُ يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض. 7 فلَمَّا أَلحُّوا علَيه في السُّؤال اِنتَصَبَ وقالَ لَهم: ((مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!)) 8 ثُمَّ انحَنى ثانِيةً يَخُطُّ في الأَرض. 9 فلَمَّا سَمِعوا هذا الكَلام، انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ. وبَقِيَ يسوعُ وَحده والمَرأَةُ في وَسَطِ الحَلْقَة. 10 فانتَصَبَ يسوعُ وقالَ لَها: ((أَينَ هُم، أَيَّتُها المَرأَة؟ أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟)) 11 فقالت: ((لا، يا ربّ)). فقالَ لها يسوع: ((وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إلى الخَطيئة)). مقدمة يصف يوحنا الإنجيلي في إنجيل الأحد الخامس (يوحنا 8: 1-11) السيد يسوع المسيح في هيكل أورشليم، في الأيام الأخيرة قبل آلامه، وهو يُعلّم الشعب ويعفو عن المرأة الزانية تأكيدا لتصريحاته "أَنا لا أَحكُمُ على أَحَد" (يوحنا 8: 15)، وبهذا الأمر يكشف رحمته تجاه الخطأة ومغفرته لهم، ويدعونا أن نلقي ما نمسك في أيادينا من حجارة التحقير والإدانة والتي نرغب أحيانا في أن نرمي بها الآخرين. وأصبحت هذه المرأة الزانية مثالا لمن يتوب عن ضعفه وخطئه وماضيه. فقصتها تفتح أمام كل نفس باب الرحمة الإلهية. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: تحليل وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11) 1 أَمَّا يسوع فذَهَبَ إلى جَبَلِ الزَّيتون. تشير عبارة "فذَهَبَ إلى جَبَلِ الزَّيتون" إلى الاستراحة في بيت أحد أصدقائه لعازر وأختيه مريم ومرثا (يوحنا 11: 1) أو في بستان الجسمانية غربي الجبل حيث اعتد التردد (يوحنا 18: 2) أو قضاء ليلته في الصلاة (لوقا 7:21-38). لأنه كان في النهار يعلم في الهيكل في أيام عيد المظال (يوحنا 7: 14)، وفي الليل يخرج للمبيت في جبل الزيتون. أمَّا عبارة "جبل الزيتون" فتشير إلى الاسم المأخوذ من شجر الزيتون الذي كان موجودًا في الجبل بكثرة. ولا تزال توجد فيه بعض أشجاره الكبيرة الحجم والقديمة العهد إلى الآن في بستان الجسمانية. ويشرف هذا الجبل على القدس من الجهة الشرقية (1 ملوك 11: 7). ويُكثر ذكر هذا الجبل في العهد القديم باسم "جبل الزيتون" (2 صموئيل) و"الجبل" (نحميا 8: 15) و"جبل الهلاك" (2 ملوك 23: 13). ويفصل وادي قدرون هذا الجبل عن اورشليم (2 صموئيل 15: 14). وقد حُسبت المسافة بين أقصى قممه الشمالية وبين اورشليم بسفر سبت (أعمال الرسل 1: 12)، وكانت هذه المسافة حسب تعليمات الربيين ألفي ذراع (ما يعادل 914م) من منزل الشخص (عدد 35: 5) أو نحو سبع غلوات ونصف أي حوالي1387 م (خروج 16: 29). ومن هذا الجبل توجَّه يسوع إلى اورشليم في أحد الشعانين، ومنه بكى يسوع على المدينة ومصيرها القريب (لوقا 19: 37-44)، وقد تحدَّث يسوع أيضا من سفح ذلك الجبل عن خراب الهيكل وتدمير المدينة (متى 24: 3)، وأخيراً منه صعد يسوع إلى السماء. ويُسّمي العرب جبل الزيتون في الوقت الحاضر جبل الطور (أي جبل ذو شجر وثمر). 2 وعادَ عِندَ الفَجرِ إلى الهَيكلَ، فأَقبَلَ إِلَيهِ الشَّعبُ كُلُّه. فجلَسَ وجَعلَ يُعَلِّمُهم تشير عبارة "الفجر" إلى عند بداية شعاع الشمس بالظهور معترضا في الأفق أي في الصباح المُبكر جاء السيد المسيح إلى الهيكل لكي يُعلم الشعب كما جاء في أسفار الحكمة "أَنا أُحِبُّ الَّذينَ يُحِبُّوَنني والمُبتَكِرونَ إِلَيَّ يَجِدوَنني" (أمثال 8: 17). أمَّا عبارة "الشَّعبُ" فتشير إلى جموع كثيرة حيث كانت الحركة مستمرة ومتزايدة منذ الصباح الباكر كما يؤكد لوقا الإنجيلي" كانَ الشَّعبُ كُلُّه يأتي إِلَيه بُكرَةً في الهَيكَلِ لِيَستَمِعَ إِلَيه"(لوقا 21: 38)؛ أمَّا عبارة " أَقبَلَ" في الأصل اليوناني ἤρχετο فتشير إلى استمرارية حضور الشعب إلى يسوع رغبة ً في سمع أقواله والاستفادة منها. أمَّا عبارة "الشَّعبُ كُلُّه" فتشير إلى عدد كثير من اهل المدينة وغيرهم ممَّن أتوا إليها للعيد. كانت الحركة الشعب مستمرة ومتزايدة منذ الصباح الباكر كما ورد في إنجيل لوقا "وكانَ الشَّعبُ كُلُّه يأتي إِلَيه بُكرَةً في الهَيكَلِ لِيَستَمِعَ إِلَيه" (لوقا 21: 38). أمَّا عبارة " جلَسَ" فتشير إلى جلوس كمعلم، إذ كانت هذه عادة المعلمين أن يجلسوا وقت التعليم (متى 5: 1) لأنهم كانوا يُعلمون لساعات طويلة (لوقا 4: 20)، ويُذكّرنا هذا المشهد بموسى النبي الذي كان يجلس في المخيم من الصباح حتى المساء لحلّ المسائل التي كانت تنشأ بين الناس (خروج 18: 13) "إِنَّ الشَّعبَ يأتي إِلَيَّ لِيَستَشيرَ الله"، (خروج 18: 16) لمعرفة مراسيمه وشرائعه. أمَّا عبارة "الهَيكلَ" فتشير إلى البناء الذي أشاده سليمان الحكيم بن داود لأداء فرائض العبادة اليهودية لله. وقد دمّره البابليون سنة 581 ق. م. وأعاد بناءه اليهود بعدما رجعوا من بابل بقيادة زربابل 520-516 ق.م. ثم وسّعه هيرودس الكبير سنة 20 ق.م. وكان في الهيكل قسمان: قسم لا يدخله إلاّ الكهنة ويُقال له القُدس، وفي القدس مكان يُقال له قدس الأقداس لا يدخله إلاَّ عظيم الكهنة مرة في السنة؛ وقسم آخر يدخله اليهود وحدهم؛ وكان في خارج الهيكل عدة أروقة يحق لجميع الناس حتى الوثنيين الدخول إلى بعضها. فقد كان يسوع يذهب إلى الهيكل أثناء النهار، وفي الليل كان يذهب إلى جبل الزيتون. أمَّا عبارة "وجَعلَ يُعَلِّمُهم" فتشير إلى تعليم يسوع الشعب في أورشليم وفي الهيكل يوم العيد الأخير كله، أي اليوم الثامن من عيد المظال. لكن لم يذكر الإنجيل موضوع التعليم، والأرجح انه يدور حول حقيقة ملكوته وتعليم الكتاب المقدس في شان المسيح الموعود به. 3 فأَتاهُ الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ بِامرَأَةٍ أُخِذَت في زنًى. فأَقاموها في وسَطِ الحَلقَةِ تشير عبارة "الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ" إلى معلمي الشعب الذين كانوا يقرأون التوراة ويفسِّرونها وينسخونها، وكان تعليمهم تقليدياً وسلطتهم بشرية. والفِرِّيسيُّونَ هم مجموعة "انفصلت" عن الشعب وتعلّقت بشريعة موسى بحفظها بدقة، كما تعلقت بتقليد الشيوخ (متى 15: 2)؛ وأمَّا الكتبة لم يذكرهم يوحنا البشير في إنجيله سوى هذه المرَّة. إنهم معلمو الشريعة وقد اعتنوا بدراسة الشريعة والتقاليد لكي يفسّروها للشعب. وحُسبوا علماء الأمَّة اليهودية وكانوا أصحاب السلطة والمقام السامي، وابغضوا يسوع ولذلك اتفقوا مع الفريسيين عليه. أمَّا عبارة "بامرَأَةٍ أُخِذَت في زنًى " فلا تشير إلى اسم المرأة الزانية لأنها تمثلنا جميعًا، فقصتها تفتح أمام كل نفس باب الرحمة الإلهية. أمَّا عبارة "زنًى " في الأصل اليوناني μοιχείᾳ فتشير إلى كل اتصال جنسي غير شرعي. كأن يضاجع رجل امرأة غيره، أو فتاة مخطوبة لرجل آخر، أو فتاة حرة غير مخطوبة. وكان عقاب هذه الخطيئة الرجم والموت (الأحبار 20: 10 وتثنية الاشتراع 22: 22-29). أمَّا عبارة "فأَقاموها في وسَطِ الحَلقَةِ" فتشير إلى الإتيان بالمرأة إلى حيث كان يسوع يعلم ثم أحاطوا به هم وأتباعهم في محاولة لوضع مسافة بينهم وبين المرأة الزانية، إذ يبتعدون عنها، لأنهم يشعرون بأنّهم بعيدون عن الخطيئة وعن الشر؛ كما لو كانت الخطيئة تخصُّ هذه المرأة وحدها، وبالتالي يعرّضوها لحكم ودينونة الجميع. ولكن هل هناك أقسى وأشد من وضع هذه المرأة الخاطئة"في وسَطِ الحَلقَةِ"فيالهيكل، لتعريضها للنظرات القاسية من الجموع؟ 4 وقالوا له: يا مُعَلِّم، إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود تشير عبارة "يا مُعَلِّم" إلى لقب من الألقاب العظيمة عند اليهود ولم يلقبه أولئك العلماء به إكراما بل خبثا لاصطياده. وفي الواقع مناداة يسوع " يا معلم " هو نفاق ورياء الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّينَ لأنهم دعوه في اليوم السابق مُضللًا (يوحنا 7: 47). أمَّا عبارة "إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود" فتشير إلى الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ الذين لم يحترموا المرأة، بل أذلوها. إذ كان باستطاعتهم أن يحتفظوا بها ويسالوا يسوع بشأنها دون أن يقدّمونها أمام الشعب. وبالإضافة إلى ذلك تطلب الشريعة أن يُرجم الرجل والمرأة معا وليس فقط المرأة الزانية "إِن أُخِذَ رَجُلٌ يُضاجعُ امرَأَةً مُتَزَوِّجَة، فلْيَموتا كِلاهُما" (تثنية 22: 22). أين العدل الإلهي الذي "لا مُحاباةَ فيه"؟ (يعقوب 3: 17). أمَّا عبارة "المَشْهود " في الأصل اليوناني αὐτοφώρῳ (معناها ذات الفعل) فتشير إلى جُرْم الذي ارتكب بِمَرْأَى النَّاسِ. وكأن الكتبة والفريسيين تجسسوا عليها لانتظار اللحظة المناسبة لاتهامها علنًا. كان الزّنى في العهد القديم رمزا لخيانة الشعب لربّه، بقبوله بالاعتراف بآلهة أخرى كما جاء في سفر الحكمة "إنَّ فِكرَةَ صِناعَةِ الأَصْنامِ هي أصْلُ الزِّنى واْختِراعَها فَسادٌ لِلحَياة" (حكمة 14: 12). 5 وقد أَوصانا مُوسى في الشَّريعةِ بِرَجْمِ أَمثالِها، فأَنتَ ماذا تقول؟ تشير عبارة "أَوصانا مُوسى في الشَّريعةِ بِرَجْمِ" إلى حكم الشريعة على الزاني والزانية بالقتل كما ما ورد في شريعة موسى "أَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة"(أحبار 20: 10). ولم تُعين الشريعة نوع القتل. وفي أيام حزقيال النبي تمّ القتل بالرجم والقطع بالسيف معًا "يَجلُبونَ علَيكِ الجَماعَةَ وَيرجُمونَكِ بالحِجارة ويَطعَنونكِ بِسُيوفهم" (حزقيال 16: 40) ولكن إذا كانت الزانية بن الكاهن تُحرق " أَيَّةُ آبنَةِ رَجُلٍ كاهِنٍ تُدَنِّسُ نَفْسها لِلزِّنى، فقَد دَنَّسَت أَباها، فلْتُحرَقْ بِالنَّار" (الأحبار 21: 9). وفي عصر المسيح حكم اليهود أن يكون القتل بالرجم، كانت وسيلة الحكم بالموت في ذلك الحين هي الرجم. أظهر الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ بتصرفهم هذا أنهم غيورون ضد الخطيئة، لكنهم هم أنفسهم ليسوا مُتحرِّرين منها، كانوا كما قال لهم السيد المسيح مملوئين من الداخل نجاسة (متى 23: 27-28). ليتنا لا نلقي الحجارة على إخوتنا ونحن أنفسنا نستحق الرجم. أمَّا عبارة "بِرَجْمِ أَمثالِها " فتشير إلى موقف رجال الدين الذين أشاروا إلى الجريمة وحدَّدوا العقاب في نفس الوقت. قاموا بدور المُدّعي والقاضي في نفس الوقت، ولم يتركوا أية فرصة للدّفاع. والأسف الشديد: ما يزال هذا المشهد ماثلاً أمامنا حتّى اليوم. لا يزال بعض الناس يشيرون بإصبع الاتهام: هذا كذاب، انبذوه، هذا منافق، احتقروه، هذا كسلان، ارفضوه، هذا حرامي، اسجنوه، هذا كافر، اقتلوه، هذا زاني، اجلدوه، هذا مختلف، دمِّروه. تكلموا عن الزانية باحتقار بحيث لا تستحق الوجود على الأرض. لماذا لدينا الرغبة الكبيرة في رجم الآخرين؟ توصّل أحد الفلاسفة إلى القول إن "الإنسان هو عبارة عن ذئب للإنسان الآخر". لا يريد الربّ أن يحمل أحد الحجارة في يديه. لأنّ الحجارة والبغض والغضب تُشوّهنا، وتُؤذينا. أمَّا عبارة "رَجْمِ" فتشير إلى نظام الرجم عند اليهود بان تُربط يدا المجرم من الخلف، وهو نصف عارٍ، ويوضع على منصة ارتفاعها ثلاثة أمتار، ثم يدفعه شاهدان بكل قوة، فإن مات ينتهي الأمر، أمَّا إذا لم يمتْ يحمل أحد الشاهدين حجرًا ضخمًا ويضرب به على صدره، وغالبًا ما تكون الضربة القاضية. إذ أنَّ الزانية لا تستحق الوجود على الأرض، ولا السكنى في بيت، بل تُلقى في حفرة وتنهال عليها الحجارة. بعد الحكم السّريع عليها، بهذا النوع من الموت، دون إمكانية الدّفاع عن نفسها، ولا يُسمح لها بإثبات براءتها أو كيف حدث معها ذلك. ونوع الموت هذا، هو من أشنع وأوحش وأذلّ الميتات المعروفة. وهنا فقدَ الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ جوهر رسالتهم، وهو الدخول بكل نفس لكي تعرف مشيئة الله، وتتمتع بالحب الإلهي بل تمسكوا في الحرف القاتل. أمَّا عبارة "فأَنتَ ماذا تقول؟" فتشير إلى حكم المسيح في الوصية السابعة مطالبين تأكيد دينونة المرأة. لكنه سؤال كسيفٍ ذي حَدّين. 6 وإِنَّما قالوا ذلكَ لِيُحرِجوهُ فيَجِدوا ما يَشْكونَه بِه. فانحنَى يسوعُ يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض. تشير عبارة" لِيُحرِجوهُ" في الأصل اليوناني πειράζοντες (معناها مُجرِّبون) إلى نفس اسم إبليس المُجرِّب (متى 4: 1-3). انهم يريدون إيقاع يسوع في ورطة. فإذا افتى يسوع برجم الزانية ثار عليه الرومان، لانّ تعود لهم الصلاحية وحدهم إنزال عقوبة الموت (يوحنا 18: 31)، وإذا عفا يسوع عن الزانية، فأين الرحمة التي ينادي بها؟ إنه يُناقض رسالته التي تدعو إلى المحبة والمغفرة. وإذا افتى ببراءتها، ثار عليه معلمو الشعب، الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ، إذ إنه يخالف شريعة موسى، ويفتح بابًا للزنى. ويُعلق القديس أوغسطينوس "بهذه الكلمات والآراء ربَّما كانوا قادرين على إشعال الحسد ضد يسوع، وإثارة الاتهامات ضده، وتكون سببًا لطلب إدانته. ولكن هذه ضد من؟ لقد وقفت الحماقة ضد الاستقامة، والبطلان ضد الحق، والقلب الفاسد ضد القلب المستقيم، والجهالة ضد الحكمة". أمَّا عبارة " فيَجِدوا ما يَشْكونَه بِه" فتشير إلى فعل الكتبة والفريسيين في امر إعطاء الجزية لقيصر (متى 22: 17-18)، إذ ظنوا أنهم يوقعونه في مخالفة الشريعة الرومانية أو الشريعة اليهودية. فان حكم بقتل الزانية بمقتضى شريعة موسى شكوه إلى الرومانيين الذين لهم فقط صلاحية الحكم بالقتل (يوحنا 18: 31)، وإن حكم بإطلاقها شكوه إلى الشعب انه مخالف شريعة موسى فتكون دعوى المسيح باطلة. أمَّا عبارة "انحنَى يسوعُ" فتشير إلى حُزنه على ما وصل إليه حال الإنسان الذي خلقه حراً؛ إذ صار مستعبداً، فالمراءة الزانية مستعبدة لشهواتها وبالتالي إلى الشقاء والخزيّ، الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ مستعبدون للخطيئة والخبث. أمَّا عبارة "يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض" فتشير إلى هذا الذي سبق فكتب الوصايا العشرة بإصبعه على حجارة، وسلمها لموسى (خروج 31: 18). أراد يسوع أن يكتب يسوع بإصبع الله (يوحنا 11: 20) كما كتب الله، الشريعة، بالعهد الأوّل بإصبعه على اللوح الحجري الّتي يُطالب بتنفيذها الكتبة والفريسيين ضد المرأة، كذلك يكتب يسوع شريعة في العهد الجديد على قلب الإنسان مصدر للحياة والمغفرة كما جاء في نبوءة ارميا " ها إِنَّها تَأتي أَيَّام، يقولُ الرَّبّ، أَقطعُ فيها مع بَيتِ إِسْرائيلَ (وبَيتِ يَهوذا) عَهداً جَديداً، لا كالعَهدِ الَّذي قَطَعتُه مع آبائِهم، يَومَ أَخَذتُ بِأَيديهِم لِأُخرِجَهم مِن أَرضِ مِصْرَ لِأَنَّهم نَقَضوا عَهْدي مع أَنِّي كُنتُ سَيِّدَهم، يَقولُ الرَّبّ. ...هو أَنِّي أَجعَلُ شَريعَتي في بَواطِنِهم وأَكتُبُها على قُلوبِهم، وأَكونُ لَهم إِلهاً وهم يَكونونَ لي شَعباً. ولا يُعَلِّمُ بَعدُ كُلُّ واحِدٍ قَريبَه وكُلُّ واحِدٍ أَخاه قائِلاً: ((اِعرِفِ الرَّبّ))، لِأَنَّ جَميعَهم سيَعرِفوَنني مِن صَغيرِهم إِلى كبيرِهم، يَقولُ الرَّبّ، لِأَنِّي سأَغفِرُ إِثمَهم ولن أَذكُرَ خَطيئَتَهم مِن بَعدُ." (ارميا 31: 31-34). أو ربما قام يسوع بهذا العمل ليتجاهل عمدا سؤال الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّينَ ويريد الإجابة؛ أو تصرف يسوع كما لو لم يكن قد سمع المشتكون على المرأة؛ أو ربما يدل على عدم استساغته لما عرض عليه من سؤال (يوحنا 3: 17، لو 9: 56، 12: 14)، فعمله هنا يكون كقوله في موضع آخر "يا رَجُل، مَن أَقامَني علَيكُم قاضِياً أَو قَسَّاماً؟ " (لوقا 12: 14). أو مراعاة لمشاعر المرأة الزانية، ثبت نظره على الأرض وليس عليها. ويُعلق القديس يوحنا اذهبي الفم "إن سألت: ماذا كتب السيد المسيح على الأرض؟ أجبتك: يُحتمل أنه قد رسم شيئًا يسبب حياءً وخجلًا للكَتَبةُ والفِرِّيسيُّينَ، وتبكيتًا لخطاياهم". ربما كتب لهم خطاياهم ليرى كل واحد صورة نفسه دون أن يفضحهم أمام الآخرين، ويُضيف "لم يكتب يسوع على رخامٍ أو نحاسٍ بل على التراب، لأنه كتب خطاياهم إلى لحظات وتزول، كتبها على الأرض في التراب لكي تُدفن مع التراب وتنتهي. كتب في التراب لكي يحكم التراب على التراب". 7 فلَمَّا أَلحُّوا علَيه في السُّؤال اِنتَصَبَ وقالَ لَهم: مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر! تشير عبارة "فلَمَّا أَلحُّوا علَيه في السُّؤال" إلى موقفهم المستمر في السؤال، وتواصلهم في التشكيك به عندما يسوع لم يكترث بالإصغاء إليهم؛ لم يرد الكتبة والفريسين أن يحسبوا صمت يسوع دليلا على رفضه أن يقوم مقام القاضي بل قصدوا أن يجبروه على الجواب بإلحاحهم. أمَّا عبارة "مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر" فتشير إلى دعوة للتفكير والتدبير، قبل الحكم والتكفير، ودعوة لفحص الذات وللتنازل عن الكبرياء الروحي. دعاهم يسوع لتغيير موقفهم ومساعدتهم لرؤية الأشياء من وجهة نظر أخرى، إذ نقل يسوع المشكلة من وجهتها الشرعية وجابههم بمعناها الأدبي في حياتهم؛ وضع يسوع كلٌّ منهم أمام ضعفه وخطيئته وأمام مشكلة من الذي يستحق أن يُنفِّذ الحكم؟ وموقفه هذا لا يأتي للهروب من العدالة، لأنه لم يعترض على حكم الشريعة انه أتى لا ليُبطل الشريعة بل ليُكمل (متى 5: 17)، لكنه سألهم عمن يتأهل للبدء بالرجم. فمن يريد أن ينفِّذ القانون عليه أن يكون مع القانون، وليس من الخاطئين. ويُعلق القديس أوغسطينوس "هذا هو صوت العدالة لمعاقبة الخاطئة، ولكن ليس بواسطة الخطأة. ليُنفذ الناموس لكن ليس بمخالفي الناموس". وهنا يُذكر يسوع الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّينَ بما تقضيه الشريعة (ثنية الاشتراع 17: 5-7) كي يتجنب الفخ المنصوب له أو يُذكرهم بأنهم خاطئين فلا يدينوا لئلا يُدانوا (متى 7: 1-2). ومن هنا نقل يسوع القضية من امرأة وحيدة خاطئة، إلى الجمع كله بدءاً بالكَتَبةُ والفِرِّيسيُّينَ الذين أرادوا أن يحرجوه فأحرجهم. وكأن يسوع يقول لهم "لِماذا تَنظُرُ إلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك؟ والخَشَبَةُ الَّتي في عَينِكَ أَفَلا تَأبَهُوا لها؟ (متى 7: 3)، ويعلق القديس أوغسطينوس "لم يسقط السيد المسيح في الشباك المنصوبة له، بل بالأحرى سقطوا هم فيها". أمَّا عبارة "بلا خَطيئة" فتشير إلى خطيئة الزنى وما شاكلها من خطايا كما تبين من إنجيل لوقا (7: 27). أمَّا عبارة " يَرميها بِحَجَر " فتشير إلى الرجم كما أمرت الشريعة بل يبتدئ الشهود برجم المذنب (تثنية الاشتراع 17: 7). حوّل يوع بما قاله عن خطيئتها إلى خطاياهم وأمرهم أن يدينوا أنفسهم أولا ثم يدينوها إذ أقاموا أنفسهم مشتكين وقضاة. أبكم يسوع بهذا الجواب الكتبة والفريسيين دون أن يبرِّر المرأة ويدينها وأكرم شريعة موسى باعتبار أنها عادلة لائقة. والحجر هو رمز لرجم الشر. 8 ثُمَّ انحَنى ثانِيةً يَخُطُّ في الأَرض تشير عبارة "انحَنى ثانِيةً " إلىتكرار العمل مما يدلُّ على تصميمه على تجنُّب عمل الحكم على المرأة؛ وانه ليس لديه جواب غير ما ذكر. فهم كانوا قد أشاروا إلى ما كتب في شريعة موسى، وأما هو فشار إلى الشريعة المكتوبة في ضمائرهم بأصبع الله. أمَّا عبارة " يَخُطُّ في الأَرض" فتشير إلى ما جاء في بعض المخطوطات أنه كان يكتب على الأرض خطاياهم. كما ورد في إحدى الترجمات القديمة " كتب على الأرض خطيئة كل واحد فيهم". ويعلق القديس ايرونيموس: "إن يسوع دوّن خطايا مُتّهميها على التراب"، كتب في التراب لكي يحكم التراب على التراب، قرأ كل منهم فيها خطيته الخفيةِّ، لانَّ يسوع ما جِاء ليدين العالَم بل ليُخَلِّصَ العالَم" (يوحنا 12: 47)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "يُحتمل أنه قد رسم شيئًا يسبب حياءً وخجلًا للكَتَبةُ والفِرِّيسيُّينَ، وتبكيتًا لخطاياهم". وكأنه يقول للفِرِّيسيُّينَ "إن كنتم تدينونها، فالأولى أن تدينوا أنفسكم أيضًا، وإن آثرتم رجمها فبالأولى وجب رجمكم." وهكذا أنقذ السيد المسيح المرأة الزانية من الموت، دون أن يخالف الناموس، لأنه عادل ورحيمًا. 9 فلَمَّا سَمِعوا هذا الكَلام، انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ. وبَقِيَ يسوعُ وَحده والمَرأَةُ في وَسَطِ الحَلْقَة. تشير عبارة "انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد" إلى إدراك الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّينَ أنَّهم كلهم خطأة لدى محاسبة ضمائرهم وأنَّهم قد أُدينوا في بواعث قلوبهم، فانسحب قضاة هذه المرأة مثل قضاة سُوسَنَّة (دانيال 13: 1-64)، إذ علموا أن مؤامراتهم كانت عبثا ولم يبقَ لهم غرض من بقائهم. وانسحب الجميع إذ انكشفوا أمام الرب وضمائرهم. فتبين لهم انهم ليسوا أهلا لان يكونوا قضاة على تلك المرأة. فجرى عليهم مثلما جرى على الجنود الذين ذهبوا ليمسكوا يسوع " فلَمَّا قالَ لهم: أَنا هو، رَجَعوا إِلى الوَراءِ ووَقَعوا إِلى الأَرض" (يوحنا 18: 6). أمَّا عبارة "يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ " فتشير إلى انسحاب الشيوخ قبل الشباب جريا على عادة سبق الكبير الصغير. وبالتأكيد إن الشيوخ كانوا أكثر إدراكاً لخطاياهم من الشباب، بسبب سنوات عمرهم الأكثر، وان خطاياهم أعظم وتوبيخات ضمائرهم أـشد، أو أنهم فهموا قوة كلام السيد المسيح قبل غيرهم؛ وتعلموا انهم لن يكونوا قادرين من الآن فصاعدًا على اتهام أي شخص دون أن يتذكروا أنهم مُشاركون في الشر الذي يرونه في الآخر. ما يحدث لهذه المرأة من اتهام هو ما سيحدث ليسوع على الصليب. سيجد نفسه مُتهمًا بريئاً مُدانًا أمام قاضٍ سيكون عبدًا لدوره. أولئك الذين يتهمونه بحسب فكر يوحنَّا، هم فئة الكتبة والفريسيون، الذين يجدون أنفسهم مُتَّهمين وبالتالي يتركون الساحة ويقرروا الانسحاب من دائرة الاتهام الّتي بدأوها. أمَّا عبارة "بَقِيَ يسوعُ وَحده" فتشير إلى يسوع وحده بلا خطيئة لان جميع المشتكين من الكتبة والفريسين قد انصرفوا؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس: "بقي اثنان في الساحة المرأة البائسة والرحمة اللامتناهية". لم يبق سوى المسيح الديّان وحده. ولكنه في مجيئه الأول لم يأت ليدين بل ليكفر عن خطايا البشر بدمه. أما عبارة "المَرأَةُ في وَسَطِ الحَلْقَة" فتشير إلى وسط التلاميذ والجمع. لو قصد الكتبة والفريسيون أن تحاكم المرأة بالعدل لكانوا أخذوها وقتئذً إلى المعنيين للحكم". 10 فانتَصَبَ يسوعُ وقالَ لَها: "أَينَ هُم، أَيَّتُها المَرأَة؟ أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟ تشير عبارة "أَينَ هُم" إلى سؤال يسوع عن الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّينَ الذين كانوا يَشكون المرأة الزانية، وهذا السؤال إشارة إلى تبرئتها. وبانسحاب المُدعين والشهود سقطت القضية، وبقيت المرأة ولم تنسحب، وهذا دليل على بداية مشاعر التوبة والانسحاق عندها. أمَّا عبارة "أَيَّتُها المَرأَة" فتشير إلى مخاطبة يسوع للمرأة ا بكل احترام لإنسانيتها ومشاعرها وكرامتها. ولم يقل يا زانية أو يا ساقطة أو يا نجسة. خاطبها بلغة المحبة السماوية الحريصة على خلاص النفس البشريّة أعاد يسوع خلق المرأة كعروس له فهو العريس الذي تنتظره البشرية! وهي اليوم، دعوته لبشريتنا الخاطئة لكي يعيد إليها كرامتها. أمَّا عبارة "أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟" فتشير إلى عدم جُراءة الخطأة أن يحكموا على المرأة الزانية. بقي يسوع، القدوس البار، صاحب الرحمة أمام المرأة الزانية التي بقيت وحدها تقف أمام ديان العالم كله الذي ما جاء ليدين بل ليُخلص. 11 فقالت: ((لا، يا ربّ)). فقالَ لها يسوع: "وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إلى الخَطيئة. تشير عبارة "لا، يا ربّ" إلى جواب بلا تلعثم أو بكاء، بل بلهجة الواثق برحمة الله، دليل على تغيير عظيم في حياتها. اعترفت بيسوع أنه رب، وعرفت أنها تحرَّرت وتخلّصت من مُتَّهميها وطالبي قتلها. وحيث أنه لم يبقَ من مشتكٍ ولا شهود ولا إثبات، لم يبقَ من إمكان للحكم. فسقطت الدعوى من تلقاء نفسها. أمَّا عبارة "أَنا لا أَحكُمُ علَيكِ" فتشير إلى عرض يسوع على المشتكين أن يرجموها أن كانوا أبرياء، فلم يريدوا وهو لم يرد أن يدينها بالموت، أي انه لم يرد أن يمارس وظيفة القاضي في الأمور الأرضية كما صرّح أمام بيلاطس “لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم (يوحنا 18: 36). لم يحكم يسوع إله الرحمة على الزانية، لأن الرب لا يريد الموت للخاطئ، "بل أن يرجع عن طريقه فيحيا" (راجع حزقيال 33، 11)، فلم يسألها أيّ شيء عن خطيئتها، وعن ماذا اقترفت، ولم يوبّخها ولا ينظر إلى ماضيها بل حرَّرها من قيود حكامها المنافقين الخاطئين؛ وقد غفر لها إظهارا لرحمة الله الواسعة للخاطئين. ودعاها يسوع أن تقبل الغفران لذاتها ففتح أمامها أبواب الرجاء فنالت الخلاص والغفران ودعاها ألاَّ تخطأ بعد. لم يأتِ يسوع ليدين العالم بل ليخلصه كما حدث مع المرأة الخاطئة (لوقا 7: 36-50). لم يُنهِ يسوع عن تقييم بموضوعية، بل يُنهي عن الحكم على سائر الناس، فينسب إلى نفسه السلطان الخاص بالله الديان وحده "السَّمَواتُ تُخبِرُ بِعَدلِه لِأَن اللهَ هو الدَّيَّان" (مزمور 50: 6). وظهر يسوع ليُدين الخطيئة لكنه يريد خلاص الخطأة. انه لا يستخف بالخطيئة أو يتجاوز عنها بأي شكل، لان بِرَّ الله يدين الخطيئة. يسوع ليس القاضي فحسب، إنما هو أيضا المخلص. والدرس الذي علمه لليهود هو أن البشر ليسوا المُنفِّذين لعقاب الله. الحق الكائن في المسيح وبّخ الكذب في الكتبة والفريسيين، والطهارة الكائنة فيه أدانت الشهوة الكائنة في المرأة الزانية. أمَّا عبارة "إذهبي" فتشير إلى منح يسوع المرأة بركة وسلام مع غفران وقوة ترفض بها الخطيئة وتختبر معنى جديد للفرح ونوره. جاء يسوع ليعطي الناس فرصة جديدة في الحياة وهنا تتحقق نبوءة أشعيا النبي "هاءَنَذا آتي بالجَديد ولقَد نَبَتَ الآنَ أَفلا تَعرِفونَه؟ " (أشعيا 43: 19). وأمَّا عبارة "ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إلى الخَطيئة" فتشير إلى عدم تبرير يسوع للمرأة الزانية بدليل توصيته لها أن تقطع صلتها بماضيها المظلم وتتوب وتنظر إلى الأمام، وتأخذ قصدا لمستقبلها بان تبدأ حياة جديدة وان لا تعود إلى الخطيئة، فالخطيئة هي الدّاء، والمغفرة هي الدواء؛ وأمَّا إذا عادت إلى خطيئتها فلن تنال رحمة الله ويصدق المثل القائل: "عادَ الكَلْبُ إلى قَيْئِه يَلحَسُه " أو "ما اغتَسَلَتِ الخِنزيرةُ حتَّى تَمَرَّغَت في الطِّين" (2 بطرس 2: 22). المسيح هنا لم يتساهل مع الشر بل هو غفر مع توصية ألاَّ تخطئ ثانية. فالمسيح لا يقبل الخطيئة لكنه يقبل الخاطئ حين يعود بالتوبة. لقاء يسوع مع المرأة الزانية كان نقطة تحوّل في حياتها بفضل نظرته الرحيمة وبالتالي مغفرته المجانية لها. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 8: 1-11) نستنتج انه يتمحور حول نقطتين: إدانة الزنى ورحمة السيد المسيح للمرأة الزانية وما العبرة من هذه الرواية. 1) إدانة الزنى الزنى هو فعل ينتهك حرمة تابعية المرأة لرجلها أو خطيبها "وأَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة" (الأحبار 20: 10)؛ لذا حُرِّم الزنى تحريماً باتاً كما جاء في الوصايا العشر "لا تَزْنِ" (خروج 20: 14)؛ إذ أنَّ الرجل والمرأة، هي وهو، واحداً في أمانة متبادلة كما جاء في سفر التكوين "قالَ الإِنسان: ((هذهِ المَرَّةَ هي عَظْمٌ مِن عِظامي ولَحْمٌ مِن لَحْمي. هذه تُسَمَّى اَمرَأَةً لأَنَّها مِنِ آمرِئٍ أُخِذَت)) ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا" (تكوين 2: 23-24). وقد أدان الحكماء التردُّد على المومسات،" لا تَلْقَ المَرأَةَ البَغِيَّ لِئَلاَّ تَقَعَ في أَشْراكِها (سيراخ 9: 3). ولم يترَّدد السيد المسيح أيضا من إدانة خطيئة الزانية، إذ كشف عن كل أبعاد الأمانة الزوجية "سَمِعْتُم أَنَّه قيل: لا تَزْنِ، أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن نظَرَ إلى امرأَةٍ بِشَهْوَة، زَنى بِها في قَلبِه" (متى 5: 27-28)؛ وانطلاقا من هذا المبدأ يزني بالقلب من يشتهي الاقتران بغير قرينته. فالزنى هو ضد قانون الخالق العادل والمقدس فيما يختص بسعادة الجنس البشري (خروج 20: 14)، ويحتل الزنى المرتبة الأولى في "أعمال الجسد" "وأَمَّا أَعمالُ الجَسَد فإِنَّها ظاهِرَة، وهي الزِّنى والدَّعارةُ والفُجور" (غلاطية 5: 19). وبيَّن يسوع أن الزواج يربط الزوجين برباط غير قابل للانفصام فلا "يكونانِ اثنَينِ بعدَ ذلكَ، بل جَسَدٌ واحد. فما جمَعَه الله فلا يُفرِّقنَّه الإِنسان" (متى 19: 6). وأعلن القديس بولس الرسول عن عقاب تدنيس الرابط الزوجي بقوله "لِيَكُنِ الزَّواجُ مُكَرَّمًا عِندَ جَميعِ النَّاس، ولْيَكُنِ الفِراشُ بَريئًا مِنَ الدَّنَس، فإِنَّ الزُّناةَ والفاسِقينَ سيَدينُهمُ الله"(عبرانيين 13: 4). لذا تَحرم خطيئة الزنى دخول الملكوت " أمَّا تَعلَمونَ أَنَّ الفُجَّارَ لا يَرِثونَ مَلَكوتَ الله؟"(1 قورنتس 6: 9)، ومن خلال هذه الإدانات تسلّط كلمة الله الضوء على الأمانة الزوجية، التي هي في الوقت نفسه ثمرة الحب وشرطه. أدان يسوع خطيئة الزانية والعقاب النابع من دينونته العادلة، ولكن برحمته خلص المرأة الزانية ولم يحكم عليها. فقالَ لها يسوع: "وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إلى الخَطيئة (يوحنا 8: 11). إنه يرحم ولا يَرجم، بل أدان من يحكم عليها من الكَتَبة والفِرِّيسيُّينَ بقولهم "إِنَّ هذِه المَرأَةَ أُخِذَت في الزِّنى المَشْهود "(يوحنا 8: 4). فقد عاملهم بالعدل، أمَّا الزانية فعاملها بالرحمة. 2) عدل يسوع تجاه الفريسيين: خانت المرأة الزانية زوجها، وبموجب الشريعة الموسوية، تستحق الموت رجماً "أَيُّ رَجُلٍ زَنى بِآمرَأَةِ رَجُل (الَّذي يَزْني بِآمرَأَةِ قَريبِه)، فلْيُقتَلِ الزَّاني والزَّانِيَة" (أحبار 20: 10). ويعلق الكاتب البولنديَّ شوبنهاور "أُؤَكِّد أنَّ الإنسان من طبيعته، ليس فقط شرّيرا ويسمح لنفسه بصنع الشر، لكنّه لا يحتمل صنعه عند جاره". وتجاهل رؤساء اليهود الشريعة إذ احضروها بدون الرجل. وقد طالبت الشريعة برجم كلا الطرفين. ولكنهم استخدموا المرأة الزانية فخا لاصطياد يسوع. فلو قال ألاَّ تُرجم لأمسكوه بسبب انتهاكه لشريعة موسى. ولو حثَّهم على رجمها لشكوه إلى الرومان الذين لا يسمحون لليهود بتنفيذ حكم الإعدام بأنفسهم. كما لم يهمّهم أبدًا أمر المرأة بأنها أُخِذت في زنىً! لقد اتخذوا قضية المرأة الزانية مصيدةً ليسوع. في الواقع "انحنَى يسوعُ يَخُطُّ بِإِصبَعِه في الأَرض"(يوحنا 8: 6). لهذا الصمت والكتابة في التراب غايتان: الأولى، هي تسكين روع المرأة الزانية وإعطاؤها شعورا بالثقة. والثانية، هي رغبة يسوع في أن يُساعد خصومها وخصومه على الدخول إلى أعماق ذواتهم كي يكشفوا صورة نفوسهم الملوّثة بالخطيئة ويُقنعهم بصمته أن الخاطئ لا يجوز له أن يرجم خاطئا مثله. ولمّا الحُّوا عليه أن يحكم عليها، اتَّخذ موقف العدل تجاه من حكموا عليها، وموقف الرحمة تجاه المرأة الزانية. فلم يحكم عليها فحسب، بل أعادهم إلى ضميرهم بقوله "مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة" أي انظروا في داخل نفوسكم، قبل إصدار أحكام قاسية. عندئذٍ "انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ" (يوحنا 8: 11). ارتدَّ حكم الفِرِّيسيُّينَ المرائين عليهم: إذ ما من أحد قد يرجم نفسه بحجر. أدان يسوع الفِرِّيسيُّينَ والكتبة حين اعترفوا بخطاياهم من خلال انسحابهم الواحد تلو الآخر. إذ إن الفِرِّيسيُّينَ المرائين ينكرون رحمة الله ويُحبون أن يحكموا على الآخرين ويفرحون بأخطائهم ويعتقدون أنهم ينقذون الحقيقة برجم الخاطئين بحيث تصبح القوانين والشرائع حجارًا لرجم الآخرين. وفي هذا الصدد كتب القديس أمبروسيوس "حيث تكون الرحمة يكون الله؛ وأمَّا حيث تكون القساوة والتصلب والحكم فربما تجدون خدام الله ولكنكم لن تجدوا الله"؛ لان الرب لا يحتمل المنافقين والمرائين، ذوي الأقنعة والقلوب المزدوجة كما لا يحتمل الذين يتَّهمون الآخرين ويحاكمونهم؛ لأن جوهر المسيحية هو المصالحة بين الله والإنسان، وبالتالي يسوع يحارب قلب المرائين المتحجّر والقاسي: إن انتهاك حياة شخص آخر، مذنبًا كان أم بريئًا، بالحجارة أو بالسلطة هو رفض لله الذي يرحم هؤلاء الأشخاص الزناة والخطأة. أظهر الكتبة والفريسيون بتصرفهم هذا أنهم غيّورون ضد الخطيئة، لكن ظهر أنهم هم أنفسهم ليسوا مُتحرِّرين منها كما وصفهم السيد المسيح، إذ كانوا ممتلئون من الداخل نجاسة "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة. وكَذَلِك أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً"(متى 23: 27-28). لم يتحاشى السيد المسيح الشبكة التي نصبوها له، وإنما سمح لهم أن يسقطوا في ذات الشبكة، إذ شعروا بالعارٍ أمام الجمع. ولم يستطيعوا تنفيذ الناموس، ولم يوجد أحد منهم مستحقًا أن يرفع أول حجرٍ يلقيه بها المرأة الزانية. "انصَرَفوا واحِداً بَعدَ واحِد يَتَقدَّمُهم كِبارُهم سِناًّ"(يوحنا 8: 9). فقد حوَّل السيد المسيح أنظارهم من التطلع إلى تصرفات المرأة الزانية أو من انتظار الحكم عليها إلى ضمائرهم الداخلية، ليروا الفساد الداخلي، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى الله. لقد اكتشفوا فسادهم، وبدلًا من الاعتراف به وقبول مشورة طبيب النفوس هربوا كما حدث في معركة داود ضد بشالوم "فأَنَّقَلَبَ النَّصرُ في ذلِكَ اليَومِ إلى مَناحَةٍ عِندَ كُلِّ الشَّعْب" (2 صموئيل 19: 3). كل ما فعلوه أنهم خشوا الفضيحة والعار فهربوا لا إلى المسيح مُخلصهم، بل إلى خارج المسيح حتى لا يفضحهم نوره. إن كلمات يسوع وتصرفاته تُزيل الأحكام المسبّقة، لأنه برحمته يقودنا أبعد من الأحكام الأخلاقية، فهو يطلب من العين ألاَّ ترى الخطيئة في الآخر بل أن ترى النور فيه. فمن يدين أخاه يُدان، وبالحكم الذي يَحكم به على الغير يُحكم عليه "لا تَدينوا فَلا تُدانوا. لا تَحكُموا على أَحَدٍ فلا يُحكَمَ علَيكم" (لوقا 6: 37)، لان الحكم لله واضح في تعليم بولس الرسول "فلا تَدينوا أَحَدًا قَبْلَ الأَوان، قَبلَ أَن يَأتِيَ الرَّبّ، فهو الَّذي يُنيرُ خَفايا الظُّلُمات ويَكشِفُ عن نِيَّاتِ القُلوب، وعِندَئِذٍ يَنالُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ اللهِ ما يَعودُ علَيه مِنَ الثَّناء. (1 قورنتس 4: 5). وبعد أن حارب يسوع الشر في اللذين استعبدهم الشر، اهتم بالذين اعتبرهم المجتمع خاطئين وأولهم المرأة الزانية. ونستنتج مما سبق أن هناك تعارض بين تصرف الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ من جهة، وتصرف يسوع من جهة أخرى. يريد الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّينَ الحكم على المرأة، لأنهم يعتبرون أنفسهم حماة الشريعة والعدالة وتطبيقها بأمانة، فيدعوهم يسوع إلى إدراك كونهم بشرا خطأة، لا يمكنهم منح أنفسهم حق البَت في حياة أو موت مَن هم مثلهم. أمَّا يسوع فيريد أن يخلِّصها، لأنه يُجسِّد رحمة الله الذي بالمغفرة يَفدي، وبالمصالحة يُجدِّد. 3) رحمة يسوع تجاه الزانية يسوع هو الوحيد القادر أن يرمي الحجر الأوّل، هو الوحيد المعصوم من أي خطيئة. ومع ذلك، لم يحكم يسوع على الزانية، إنما أدان يسوع خطيئتها، ولكن برحمته غفر للمرأة الزانية وخلّصها. إنه ذهب أبعد من الشريعة! لم يقل للمرأة أنّ الزنى ليس خطيئةً، ولكنّه لم يحاكمها بحسب الشريعة. وهذا هو سرّ الرحمة. فالرحمة لا تمحو الخطايا؛ إنما يغفر الله الخطايا بواسطة الرحمة. فالله يغفر لنا بلمسة حنانه ورحمته. وقف يسوع أمام المرأة الزانية كمن يقف أمام شخص يهمُّه حياتها وتاريخها، وقف ليكون أقرب إليها ويُكلّمها، فقد فهم جوهر هذه النفس؛ وحاول أن يُدرك الحقيقة التي لديها، ويدعوها إلى التوبة. فلم يتوقّف عند الخطيئة وإنما عند ألمها وحاجتها. فهي تعيش بشعور بالذنب بسبب أخطائها الماضي، لكن يسوع يفتح أبواب سجنها ويُحرِّرها، لأنه يعرف أن الإنسان لا يُساوي خطيئته، والله لا يهمّه ماضيها إنما مستقبلها. فسألها يسوع أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟" (يوحنا 8: 10). وكأنّ به يقول لها: "أنتِ وحدكِ الآن أمام الله، بدون اتهامات وبدون أحكام! أنتِ والله فقط! فقالت: "لا، يا ربّ!"، لم تُبرّر نفسها بل اعترفت بخطيئتها. وقد وصف القديس أوغسطينوس هذا المشهد بقوله: "بقيت الرحمة والبؤس وجها لوجه". اخذ يسوع موقفا متعاطفا، ملؤه رقةً ورحمة ًوصفحاً، اخذ موقفا يتحدّى موقف الرأي العام. ولم ينظر إلى قضية الزنى في ظاهرها، بل نظر إلى داخل قلب الزانية. فلم يحكم عليها ولم يدنْها، بل غَّيَّر نفسها التي أقفرت وتوحشت بالخطيئة، وحوّلها إلى سلامه. فقال لها " وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ" (يوحنا 8: 11)؛ وبهذه الكلمات أعاد يسوع إلى المرأة الزانية شرفها وكرامتها. وفي هذا الصدد قال البابا فرنسيس "رحمة الله هي نور محبة وحنان كبير! إنها لمسة حنان الله على جراح خطايانا؛ لان مغفرة الله هي محبّة حقيقيّة تحثُّ الإنسان ليصبح أفضل ما بإمكانه أن يصير". يسوع لا يعرف إلا هذا الطريق: المسامحة، المغفرة " سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات (متى 17: 20). لم تكمن المرأة الزانية واقفة أمام حاكمٍ بل أمام مخلّصٍ إذ " فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم" (يوحنا 3: 17) ويعلق البابا يوحنا بولس الثاني " كم يجب أن تكون قيمة الإنسان غالية، حتى استحقّت هذا المخلِّص!". هو لا يسألها، لا عمّا صنعَتْ، ولا يطلب منها اعتذار عمّا صنعت. صامتة، مُخفِضَة الجفنين حياءً، مُصغِية لسماع الحكم عليها من فم أشهر محامي زمانها. فإذا بها لا تسمع كلمة: أنا أيضاً أحكم عليك بالرّجم، ربّما كما كانت تنتظر، بل: أنا لا أحكم عليك! بشرط: اذهبي ولا تعودي تخطئين. يسوع لا يعرف إلا هذا الطريق: المسامحة، المغفرة، لا سبع مرات، بل سبع مرّات سبعين مرّة. إذن هي ما كانت واقفة أمام حاكمٍ، لا يعرف إلا إصدار أحكامه المجحفة القاسية، بل أمام مخلّص: ما جئتُ لأحكم بل لأخلص "إذ إنّ الله ما أرسل ابنه إلى العالم، ليحكم به العالم، بل ليُخلِّص به العالم" (يو 17:3). وما هي إلا أيّام، وسيُعلّق على الصليب ليخلِّصها. ليحمل خطاياها معه فهو حَمَلُ الله الذي يحمل خطايانا. البابا يوحنا يولس الثاني كتب قي أوّل منشور له، في بداية الثمانينات من القرن الماضي، بعنوان "مُخلِّص البشر" كم يجب أن تكون قيمة الإنسان غالية، حتى استحقّت هذا المخلِّص! 4) العبرة والدروس يتمحور الإنجيل بعض الدروس التي أراد السيد المسيح أن يعلمنا إياها: أ) إدانة الخطيئة: يُعلمنا يسوع انه لا يتجاهل خطيئة الزنى أو يتجاوز عنها، بل أدانها. إن طهارة يسوع أدانت خطيئة المرآة الزانية. فالعهد الجديد ليس عهد تساهل مع الخطيئة. فإِذا كانَ الكَلامُ الَّذي أُعلِنَ على لِسانِ المَلائِكَةِ قد أُثبِتَ فنالَت كُلُّ مَعصِيَةٍ ومُخالَفَةٍ جَزاءً عادِلا، كَيْفَ نَنْجو نَحنُ إِذا أَهمَلْنا مِثْلَ هذا الخَلاصِ الَّذي شُرِعَ في إِعْلانِه على لِسانِ الرَّبّ" (العبرانيين 2: 1-3). يكره يسوع الخطيئة ويرفضها، ولكنه أيضاً يغفر لصاحبها إن تاب حقاً عن خطاياه. ب) رحمة الخاطئ: برحمته خلَّص يسوع المرأة الزانية ولم يحكم عليها. إنما طالب التوبة قائلا لها "إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إلى الخَطيئة" (يوحنا 8: 11). يقبل المسيح الخاطئ، ولكنه لا يقبل أن يستمر الخاطئ في خطيئته. فالله يغفر ويُحرِّر، ومغفرته تُعيد الإنسان إلى مسيرته المستقيمة. لقد أعلن "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم" (يوحنا 23: 35). فهو مَن دعانا لنغفر "سبعين مرّة سبع مرّات" (متى 18: 22). لا يجوز أن نعتبر الرحمة الإلهية ضعفاً، بل هي دعوة إلى التوبة. يُعيد يسوع الخاطئ إلى الدرب الصحيح كما جاء في نبوءة حزقيال "لعَلَّ هَوايَ في مَوتِ الشِّرَّير؟ يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ. أَلَيسَ في أَن يَتوبَ عن طرقِه فيَحْيا؟ "(حزقيال 18: 23). وفي الواقع، تكشف قصة تعامل السيد المسيح مع المرأة الخاطئة عن طبيعة السيد المسيح المُلتهبة بالحب نحو الخطأة. يُعلمنا السيد المسيح أن نقترب منه حتى لو كان لدينا خطيئة خطيرة، لأن الرب، وهو الشخص البارّ الوحيد، الذي لا يريد أن يُديننا، ولكنه يريد فقط أن نتغيّر. فيُحذرنا من اليأس والرجاء الباطل، فمن ييأس ظانًا أن اللَّه لا يغفر له يقتل نفسه باليأس، ومن يُهمل في التوبة بدعوى رحمة اللَّه تنقذه غدًا يهلك نفسه بالرجاء الباطل ج) عدم إدانة الآخرين: يعلمنا السيد المسيح أن نفعل شيئين: أحدهما هو إفراغ أيدينا وإسقاط حجارة إدانة الآخرين، لأنه لا يحق لأحد أن يُعلن حكمًا إلاِّ إذا كان بلا خطيئة من ناحية، ويُعلمنا أيضا، أن ندين كل خطيئة في حياتنا قبل أن ندين أخانا " مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!"(يوحنا 8:7) متذكرين كلمات الرب يسوع " لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُ " (متى 7: 1). فالمطلوب أن نجتهد في حفظ أنفسنا من الخطيئة أكثر مما نجتهد برفع الحجر لنرجم به غيرنا من الخاطئين. وليس في الشريعة عيب، ولكن العيب في البشر، وهو فساد الشهود. إن الحق في يسوع وبَّخ الكذب في الكتبة والفِرِّيسيُّينَ. لقد نقل يسوع المشكلة من وجهتها الشرعية إلى وجهتها الأدبية مجابها والكتبة والفِرِّيسيُّينَ في حياتهم، لان نفس الخطيئة التي تسكن في المرأة الزانية تسكن فيهم أيضًا وقد حدث معهم كما حدث في قصة سوسنة (دانيال 13: 1-64)، ونابوت اليزرعيلي (1 ملوك 21: 10، 13). يدعونا الرب إلى عدم الحكم الظالم على الآخرين بل نعلن لكل خاطئ غفران الله. وللأسف الشّديد كثيرا ما يتكرر أيامنا مشهد الاتهام الآخرين دون محاسبة الذات أو تحكيم العقل والضمير. من السهل علينا أن نرمي الحجارة. ماذا نفعل؟ الحجارة بين يدينا ماذا نختار؟ وإن وجدنا نفوسنا في موقف الديان والناقد والمحاسب للآخرين، فنتذكر الحجر، ونتذكر من يحق له أن يرمي بالحجر. كلنا خطأ، وكلنا بحاجة لرحمة الله! ه) يسوع وحده الديان: كل إنسان خاطئ أمام الربّ، وأن الربّ وحده ديان قلب الإنسان. فلنتقدم الآن بتوبة إلى المسيح الذي مازال يكتب خطايانا على الرمال فإذا اعترفنا بخطايانا غفرت لنا، ونحن نسمع صوت الرب على فم الكاهن "مغفورة لك خطاياك. لا تعود تخطئ. اذهب بسلام المسيح". الخلاصة وفي رحلات يسوع التبشيرية التقى يسوع المسيح مع ثلاث نساء كن قد ارتكبن جريمة الزنى، وهنّ: المرأة السامرية (يوحنا 4: 18)، والمرأة التي جاءته في بيت سمعان الفريسي (لوقا 7: 37)، والمرأة الزانية. وكانت تتميز معاملات يسوع مع كل واحدة منهن بشفقته ورقّته ورحمته وخاصة في الرواية الأخيرة. عندما كان يعلم يسوع في الهيكل، في صباح ما، قدَّم إليه اليهود امرأة أمسكت في زنى (يوحنا 8: 3-4) وكانوا يريدون أن يوقعوه في ورطة (يوحنا 8: 6) ووجَّهوا إليه سؤالاً عن العقاب الذي يجب أن يوقع على الزانية (يوحنا 8: 5)، فاذا أوصى يسوع بعدم الرجم، يجد نفسه مخالفا لشريعة موسى، وإذا أوصى بالرجم فانه سيتعارض مع قانون روما الذي يُقرِّر لنفسه الحق بإنزال عقوبة الموت. أمَّا يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض وذلك دلالة على انه لا ينطق بحكم. وعندما الحُّوا عليه في سؤالهم قال لهم " مَن كانَ مِنكُم بلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!" (يوحنا 8: 7) فاحسًّ اليهود انهم دينوا في بواعث قلوبهم. لقد نقل يسوع المشكلة من وجهتها الشرعية إلى وجهتها الأدبية في حياتهم. ولما بقي يسوع والمرأة وحدهما لم يشاء أن ينطق بحكم دينونتها، ولكنه أوصاها بان لا تخطئ أيضا (يوحنا 8: 11)، انه لا يستخف بالخطيئة أو يتجاوز عنها باي شكل، لان بِر الله يُدين الخطيئة. ولا يخبرنا إنجيل يوحنا عن اسم المرأة الزانية لأنها تمثلنا جميعًا، فقصتها تفتح أمام كل نفس باب الرحمة الإلهية، لتجد شريعة المسيح قانونها الداخلي الجذَّاب، فتنعم بالصوت الإلهي "ما جِئتُ لأَدينَ العالَم بل لأُخَلِّصَ العالَم " (يوحنا 12: 47). فلا تجد من يحكم عليها بالموت الأبدي، بل من يشتريها بالدم الثمين ويهبها برَّه السماوي، ويشفع فيها أمام الآب، ويدخل بها إلى الأحضان الإلهية. وتحوَّلت هذه القصة بفضل رحمة المسيح من وقوف في محكمة إلى دخولٍ في الملكوت. ويحُذرنا القديس أوغسطينوس من اليأس والرجاء الباطل "من ييأس ظانًا أن اللَّه لا يغفر له، يقتل نفسه باليأس، ومن يسترخي مهملًا في التوبة بدعوى رحمة اللَّه تنقذه غدًا يهلك نفسه بالرجاء الباطل". إنّ فرح الإنجيل يملأ قلب حياة جميع الذين يلتقون الرّب يسوع المسيح. فمن يستسلمون له يتحرّرون من الخطيئة والحزن والفراغ الداخليّ والعزلة. مع الرّب يسوع المسيح يُولد الفرح دائمًا وينبعث من جديد. لنصغي أخيراً إلى دعوة البابا فرنسيس: "أدعو كلّ مسيحيّ أينما وجد وفي أي ظروف كان، إلى أن يُجدّد اليوم لقاءه الشخصيّ مع الرّب يسوع المسيح، أو على الأقلّ، أن يأخذ قرارًا بأن يدعَ الرّب يسوع المسيح أن يلتقي به، أو أن يبحث عنه كلّ يوم باستمرار. لا يفكّر أحد أنّ هذه الدعوة غير موجّهة له، لأنّ لا أحد مستبعدًا عن الفرح الذي يحمله إلينا الرب" (البابا بولس السادس). دعاء يا ربّ، لقد خُدعنا بطرق عديدة وهربنا من حبّك، ومع ذلك هاءنذا نحن أمامك مرّة جديدة لتجديد عهدنا معك. إننا نحتاج إليك. خلّصنا يا ربّ واقبلنا مجدّدًا بين ذراعيك المفتوحتين". يا رب، أنت وحدك الذي يستطيع أن يرمينا بحجارة كثيرة، لأنّك الوحيد بدون خطيئة. ولكنك لا ترمينا بأية حجرة ولا تحكم علينا، نشكركً يا رب، من أجل حبّك ومن أجل مغفرتك. شكراً لأنّك تحبّنا حتى حين نقع في الخطيئة. شكراً لأنّك حوَّلتَ حجارتنا المتّسخة إلى حجارة ثمينة ذات قيمة. شكراً لك لأنّك أعطيتنا الإمكانية لمعرفة خطايانا وعيش لحظات المصالحة معك. أعطنا ألاَّ نرمي بعد الآن الحجارة على الآخرين. أعطنا أن نعيش في محبتك، أصدقاء لك وأصدقاء للجميع. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
يسوع والمرأة |
قصة يسوع والمرأة السَّامريَّة |
يسوع والمرأة السامرية |
قصة يسوع والمرأة السامرية |
المرأة المحكوم عليها بالموت (المرأة الزانية) يوحنا 8, 2 - 12 |