رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
البابا كيرلس شموع لا تنطفئ يمر الزمان وتعبر الأيام وتموج دنيانا بأحداث كثيرة تسمى تاريخا، تحكى فيها الأوراق والمعاصرون لها عن شخصيات عظام عاشوا وصنعوا أعمالاً هذا خير وهذا شر. ولكن ونحن نقلب الأوراق ونفحص الأشخاص يتوقف التاريخ عند أشخاص مختلفين بصمات حياتهم تشع نوراً، وكلماتهم تحمل عمقاً، وتختفى سطور الأحداث من أذهاننا والذى يبقى أيقونة وملامح وصورة تحمل روحاً تحتضن وجودنا. أينما ذهبنا نشعر بهم ونتذكر وجودهم ليس بالكلمات فقط بل بأرواحهم أيضاً. هؤلاء هم شموع لا تنطفئ وفى شهر مارس ونحن عابرون على أيامنا نرى شمعتين نوراهما لا يزالان ينيران طريق الكثيرين فهما ليسا من التاريخ لأنهما حاضران معنا بوجودهما الروحى. الأول هو البابا كيرلس السادس الذى انتقل من عالمنا فى 9 مارس، والثانى هو البابا شنودة الثالث الذى انتقل يوم السابع عشر من ذات الشهر. ولد البابا كيرلس السادس فى 2 أغسطس عام 1902 فى بلدة طوخ النصارى. ثم انتقل والده إلى الإسكندرية للعمل، وحصل البابا على البكالوريا، ثم عمل فى شركة للملاحة هناك. واشتاق إلى أن يعيش للرب فذهب إلى دير البراموس بوادى النطرون وصار راهباً باسم مينا المتوحد، ونال درجة الكهنوت عام 1931، وبعدها دخل الجبل ليعيش متوحداً يقضى يومه كله فى العبادة والصلاة. وحدثت مشكلة لسبعة رهبان فى الدير والتجأوا إليه، فأخذهم ونزل إلى البابا يؤانس وقتها الذى أنصفهم وأرجعهم إلى ديرهم. ولكنه طلب أن يسكن فى طاحونة أثرية بجبل المقطم، وهناك ظل يصلى ويتعبد حتى قامت الحرب العالمية الثانية عام 1941 فطرده الإنجليز من الطاحونة لأنهم شكوا فيه أن يكون جاسوساً. فذهب إلى كنيسة بابليون الدرج، ثم طلب منه البابا أن يعمر دير الأنبا صموئيل بجوار مغاغة. وبعد إتمام المهمة رجع وبنى كنيسة فى زهراء مصر القديمة باسم مارمينا وسكن فى قلاية بجوارها وبنى بيتاً للمغتربين كان يخدمهم. وكان يصلى أغلب اليوم قداسات وتسابيح ومزامير، فكان منارة وقدوة حقيقية للشباب. وفى تلك السنوات كانت الكنيسة تمر بمشاكل كثيرة وانتقل البابا يوساب واختير القمص مينا ليكون البابا وجلس على كرسى مارمرقس فى 10 مايو عام 1959. وبدأ عصر التنوير فى الكنيسة القبطية على يديه فاستنارت الأديرة والكنائس بتعاليمه وأبوته الحكيمة فقد كان يحمل قوة روحية كبيرة فقد كان يصلى وهو بطريرك طول الليل ويختم سهره الروحى بقداس يومى. وكانت صلواته مسموعة فقد كان الشعب المصرى كله مسيحيين ومسلمين يقصدونه ليصلى لهم لثقتهم فى قوة صلاته وقربه من السماء. ومن الأمور التى لا يعرفها الكثيرون قصة ذكرها الكاتب محمود فوزى فى إحدى كتاباته (يوماً تخفى مجموعة من جماعة الإخوان المسلمين فى زى كهنة ورهبان وطلبوا مقابلة الرئيس على وجه الأهمية واتصل القصر بالبابا كيرلس وقالوا له يوجد رجال دين مسيحى يطلبون لقاء الرئيس وكانت هذه الأيام أيام صوم عند الأقباط فقال البابا كيرلس قدموا لهم شايا باللبن والأقباط لا يأكلون أو يشربون شيئاً فيه دسم فى الأصوام فإذا شربوا فأعلموا أنهم مزيفون، وفعلاً قدموا لهم شايا باللبن وشربوه فقبضوا عليهم ووجدوا بطاقات هويتهم مزيفة وأنهم يحملون خنجرا كانوا سيغتالون به الزعيم). وسلم روحه الطاهرة عام 1971. وفى 2 يونيو 2013 أقر البابا تواضروس والمجمع المقدس بانضمامه إلى مجمع قديسى الكنيسة القبطية. والشمعة الثانية المضيئة التى فى هذا الشهر هو قداسة البابا شنودة الثالث الذى رحل عن عالمنا ولكنه لا يزال صوته يتردد فى آذاننا، وصورته محفورة فى قلوبنا وعقولنا. فقد تربينا أنا وكل جيلى على تعاليمه وقد تتلمذت أنا شخصياً على يديه، واقتربت منه ابناً لأبيه. وبينما ولد وعاش فى حياة صعبة إلا أنه كان له قلب حان على الجميع فقد ولد باسم نظير جيد فى 3 أغسطس عام 1923، وتوفيت أمه بعد ولادته مباشرة. والتحق بجامعة فؤاد الأول وحصل على ليسانس الآداب فى التاريخ 1947، ثم التحق بالكلية الإكليريكية وصار مدرساً فيها. وترك كل شيء وذهب إلى دير السريان بوادى النطرون ليترهب ويحيا حياة العبادة ورسم راهباً باسم أنطونيوس السريانى 1954. ثم انفرد فى قلاية فى الجبل متوحداً لمدة سبع سنوات حتى عام 1962 حين استدعاه البابا كيرلس السادس ووضع عليه اليد ليصير أنبا شنودة أسقف التعليم والكرازة، وفى هذه الفترة كتب كتباً روحية وقصائد كثيرة. وظل أنبا شنودة يعلم كأسقف للتعليم حتى انتقال البابا كيرلس وجلس على الكرسى المرقسى خلفاً له فى 14 نوفمبر 1971. وبدأت تستنير الكنيسة بتعاليمه وأبوته الحانية. وحدث خلاف مع الرئيس السادات على أحداث طائفية حدثت، ولكن الخلاف الأكبر كان حين دعاه السادات ليسافر مع الوفد المرافق له إلى إسرائيل فرفض البابا شنودة وقال: لن أدخل القدس إلا مع إخوتى المسلمين والفلسطينيين. ثم حدثت أحداث الزاوية الحمراء التى أصدر بعدها الرئيس السادات حملة اعتقالات واسعة وأعاد البابا إلى الدير مقيداً حريته. وظل خمس سنوات كان يدير الكنيسة من دير الأنبا بيشوى، وكانت الجموع تذهب إليه لتنال البركة الباباوية منه. ثم عاد إلى الكاتدرائية عام 1985. وظل يخدم الكل صغيراً وكبيراً، غنياً وفقيراً، يسندنا جميعاً بتعاليمه وصلاته، فقد كان يقضى نصف الأسبوع فى الدير، طيلة هذه الفترة كان ناسكاً لا يأكل إلا قليلاً ولا يشتهى شيئاً من الأرض. احتمل آلاماً كثيرة نفسية وجسدية، قلت له يوماً فى لقاء خاص: كيف تحتمل كل هذه الآلام، فابتسم وقال لي: مادام لى مخدع للصلاة هو يحمل معى آلامى. وانتقل عن عالمنا الفانى يوم السبت 17 مارس 2012. وكتبت له قصيدة أنهيتها بقولي: يا أبى وإن رحلت عن عالمنا ستظل دائماً فى عالمى. وهذه حقيقة إنه معى دائماً فى فكرى وقلبى وأحضانه التى لم أزل أشعر بها إلى الآن. |
|