يحكى شيخ من البرية ويقول : كان شابٌ اسمه مقارة، اتفق له وهو يرعى ويلعب مع صديقٍ له، فقتله بغيرِ تعمدٍ، ولم يعلم به أحدٌ. فمضى لوقته إلى البريةِ وترهب، وأقام ثلاث سنين في البردِ والحرِ، في أرضٍ ليس فيها ماءٌ. وبعد ذلك بنى كنيسةً داخل البريةِ، وأقام فيها خمساً وعشرين سنةً، واستحق نعمةً من الله، حتى إنه قويَ على الشياطين، وفرح في نسك الرهبنةِ.
وأقمتُ بالقربِ منه زماناً، ولما صار لي عليه دلالٌ، فتشتُهُ عن فكرِهِ بسبب خطيةِ القتلِ، فقال: «أقمتُ أياماً كثيرةً متعباً، لأجلِ هذا الفكر، وهو يلازمني ليلاً ونهاراً، ويقلقني جداً، وآخر الأمرِ أراحني الربُّ من حزنِ القلبِ بسببه، حتى لقد شكرتُ القتلَ الذي فعلتُه بغيرِ اختياري، لكونه كان سبباً لخلاصي، وبنعمةِ الربِ صرتُ، إذا تعرضتْ إليَّ الشياطينُ، بفكرِ تعظيم القلبِ، ويقولون لي: قد صرتَ رجلاً عظيماً أكثرَ من الرهبانِ كلِّهم، فأجيبهم قائلاً: «والقتل الذي فعلتُه، ما أشد عذابي في الجحيم بسببه». فيمضون عني. ومرةً أخرى يقولون لي: «أيها القاتل، لماذا تقعد في هذه البريةِ، وليست لك توبةٌ، فتتعب في الباطلِ، امضِ إلى العالمِ واصنع إرادتك لئلا يفوتك الأمران»، فأقول لهم: «الربُّ الذي صنع الرحمةَ مع عبدِه موسى، يرحمني أنا أيضاً»، وكنتُ أعزي نفسي وحدي بأن موسى لم يستحق أن يرى الله، إلا بعد أن هرب من مصر، ودخل البريةَ، لأجلِ الذي قتله بغيرِ اختياره.
وما قلتُ هذا ليطيبَ قلبُ أحدٍ بالقتلِ، بل ليعرفوا أن أسباباً كثيرةً مختلفةً تجتذبُ الناسَ إلى الفردوس؛ فواحدٌ يهربُ لأجل الفقرِ والاستدانةِ، وآخر يهربُ من جورِ المتسلطين، وآخر بسببِ زنى زوجته، وآخر من شرِّ أسياده، وبالجملةِ فإن قوماً يهربون من الخوفِ الدنيوي، وقوماً يحبون الله، ويؤثرون خلاصهم، فيصيرون رهباناً بإرادتهم.