منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 13 - 02 - 2022, 04:05 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,171

الاختلاء والراحة مع يسوع المسيح

الاختلاء والراحة مع يسوع المسيح




النص الإنجيلي (مرقس 6: 30-34)

30 واجتَمَعَ الرُّسُلُ عِندَ يسوع، وأَخبَروه بِجَميعِ ما عَمِلوا وعلَّموا. 31 فقالَ لهم: ((تَعالَوا أَنتم إِلى مَكانٍ قَفرٍ تَعتَزِلونَ فيه، واستَريحوا قَليلاً)). لأَنَّ القادِمينَ والذَّاهِبينَ كانوا كَثيرينَ حَتَّى لم تَكُنْ لَهم فُرصَةٌ لِتَناوُلِ الطَّعام. 32 فمَضَوا في السَّفينَةِ إِلى مَكانٍ قَفرٍ يَعتَزِلونَ فيه. 33 فرآهُمُ النَّاسُ ذاهبين، وعَرَفَهُم كثيرٌ مِنهُم، فأَسرَعوا سَيراً على الأَقدامِ مِن جَميعِ المُدُن وسبَقوهم إِلى ذلك المَكان. 34 فلَمَّا نَزَلَ إِلى البَرّ رأَى جَمعاً كثيراً، فَأَخذَتْه الشَّفَقَةُ علَيهم، لِأَنَّهم كانوا كَغَنَمٍ لا راعِيَ لها، وأَخَذَ يُعَلَّمُهم أَشياءَ كثيرة.

المقدمة

يطلق إنجيل مرقس على التلاميذ اسم "الرسل"(مرقس 6: 30). وقد أكملوا رسالتهم وهم الآن يقدمون تقريرهم للسيد المسيح فيأخذهم منفردين ليستريحوا (مرقس6: 31) قبل أجراء معجزة الخبز والسمك الأولى (مرقس 6: 35-44). وهذه الأفكار هي عزيزة على قلب مرقس الإنجيلي؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

أولاً: تحليل وقائع النص الإنجيلي (مرقس 6: 30-34)

30واجتَمَعَ الرُّسُلُ عِندَ يسوع، وأَخبَروه بِجَميعِ ما عَمِلوا وعلَّموا.

تشير عبارة "اجتَمَعَ" إلى عودة الرسل من الجليل حيث أرسلهم يسوع للتبشير؛ ولم يصرح مرقس البشير أنَّ قتل يوحنا المعمدان كان علة رجوعهم كما يلمح إليه متى الإنجيلي (متى 14: 13). أمَّا عبارة "الرُّسُلُ" فتشير إلى الاثني عشر رسولا بصفتهم مرسلي يسوع، وإنجيل مرقس لا يستخدم كلمة " الرسل" إلا مرة واحدة. وكلمة رسول تعني "المُرسل" أو المبعوث" وأصبحت الكلمة لقباً رسمياً لتلاميذ يسوع الاثني عشر بعد موته وقيامته (أعمال الرسل 2: 14). أمَّا عبارة "عِندَ يسوع" فتشير إلى إعادة الرسل النظر في أعمالهم وتعليمهم ومهمتهم مع يسوع ليجدوا معنى لها ولحياتهم، حيث لم يعد معنى لعملهم وتعليمهم مهما بلغا من روعة ونجاح بدون العلاقة مع يسوع. لأنّه هو المعلم والسيّد والراعي الذي منحهم النعمة. فهم بحاجة إليه كي يحفظهم من الضلال (مزمور 23) ويعاينوا الله في حياة الناس. لان حاجة الإنسان إلى المسيح هو مقياس الحياة، والانتماء إلى المسيح هو سرّ الحياة؛ أمَّا عبارة "وأَخبَروه بِجَميعِ ما عَمِلوا وعلَّموا" فتشير إلى الرسل الذين يقدِّمون ليسوع عرضا عن مهمتهم وتقريراً عمّا علّموا وعملوا ,ما عاشوه في الرسالة، بفرح وحماس وتعب. ويجمل الرسل رسالتهم في وجهتين هما: العمل والتعليم. يرتبط يسوع والرسل كعمَّال في عمل واحد وهو عمل يسوع. الرسول هو من يجدّ ويعمل، لا من يرى أمورا كثيرة ولا يعمل شيئاً. يكشف مرقس مدى التزام الرسل مع يسوع وتضامن يسوع معهم. إذ اختارهم من البدء ليكونوا معه. يحسن بنا نحن أيضا أن نتدارس من خلال اجتماعاتنا وتبادل آراء أعمالنا ومشاريعنا وأمور الساعة على ضوء الإيمان، لنفهمها جيداً ونعمل على تحسين نشاطاتنا الرسولية القادمة.

31 فقالَ لهم: تَعالَوا أَنتم إِلى مَكانٍ قَفرٍ تَعتَزِلونَ فيه، واستَريحوا قَليلاً. لأَنَّ القادِمينَ والذَّاهِبينَ كانوا كَثيرينَ حَتَّى لم تَكُنْ لَهم فُرصَةٌ لِتَناوُلِ الطَّعام.

تشير عبارة "تَعالَوا أَنتم إِلى مَكانٍ قَفرٍ" إلى دعوة يسوع للرسل، بعد عودتهم من الرسالة، لمشاركته في عزلته وخلوته. هذه الدعوة عينها يوجهها يسوع لنا اليوم، يدعونا لمشاركته حميميته لمجرّد إتمامنا لرسالته، فكم هي عظيمة ثقته بنا! أمَّا عبارة “مَكانٍ قَفرٍ" في الأصل اليونانيἔρημον τόπον (معناها موضع خلاء) فتشير إلى أرض غير صالحة للفلاحة والزراعة (مزمور 107: 35 وأشعيا 14: 17) وهنا تدل على الجهة الشمالية الشرقية لبحيرة طبرية في منطقة الطابغة حيث قام يسوع بتكثير الخبز والسمكتين. أمَّا في إنجيل لوقا يبدو هذا الموضع كان في ارض بيت صيدا شرقي بحيرة طبرية (لوقا 9: 10) وتُعرف هذه الأرض باسم " سهل البطيحة". فمَكانٍ قَفرٍ لم يكن في الكتاب المقدس مكاناً يقصده المرء للاستجمام والراحة، بل مكان صراع وعطش وجوع وتجربة ومسيرة شاقة. إنه المكان الذي يختاره الله لشعبه كي يتعلم فن الاتكال على الله وفن المشاركة مع كل متطلبات ذلك. أمَّا عبارة "تَعتَزِلونَ" في الأصلاليوناني κατ' ἰδίαν (معناها على انفراد) إلى علاقة حميمة وشخصية بين يسوع وتلاميذه، إذ تتيح مجال الصداقة والاستماع والمشاركة والمعرفة المتبادلة؛ وتتكرر هذه العبارة في وحي يسوع نفسه لتلاميذه في إنجيل مرقس: عندما انفَرَدَ يسوع بِتَلاميذِه فسَّرَ لَهم الأمثال" ( 4: 34) ، عندما " مضى يسوعُ بِبُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا فانفَرَدَ بِهِم وَحدَهم على جَبَلٍ عالٍ، وتَجَلَّى بِمَرأَى منهم" (مرقس 9: 2)، عندما كان لدى تلاميذه أسئلة صعبة ولا يريدون الإحراج " ولمَّا دَخَلَ البَيت، اِنفَرَدَ بِه تَلاميذُه وسأَلوه: ((لماذا لَم نَستَطِعْ نَحنُ أَن نَطرُدَه ؟" (مرقس 9: 28) " وبَينَما هو جالِسٌ في جَبَلِ الزَّيتونِ قُبالَةَ الهَيكَل، اِنفَرَدَ بِه بُطرُسُ ويَعقوبُ ويوحَنَّا وأَندَراوس وسأَلوه (مرقس 13: 3). تصبح خبرة "الاعتزال " مساحة تنمو الصداقة والرغبة في الإصغاء والمشاركة والمعرفة المتبادلة. أمَّا عبارة "استَريحوا قَليلاً" فتشير إلى تأمين قليلّا من الراحة للرسل بعد جولاتهم التبشيرية حيث أصبح واضحاً مدى فعالية القيام بعمل الله، يحتاج إلى فترات من الراحة والاستجمام لاسترجاع القوى لانطلاقة جديدة في رسالة مقبلة (لوقا 9: 10). فالجسد له حق في الراحة، لاسترجاع الهمّة وكسب قوّةٍ جديدة والتنشيط للبدء من جديد. والروح له حق في التجدَّد بالطاقة والنعمة. لان الجسم المُنهَك لا يُنتِج. والخطر الذي نقع فيه جميعاً يكمن في أن أشغالنا الكثيرة التي تنسينا أنفسنا لا بل تستهلكنا وترهق طاقتنا الجسدية والروحية. فمن المحبَّذ أن تمتزج حياة الخدمة بالتأمل بغير انقطاع. أمَّا عبارة " لأَنَّ القادِمينَ والذَّاهِبينَ كانوا كَثيرينَ" فتشير إلى الجموع المحيطة بيسوع بعضهم من المشاهدين لآياته، " فتَبِعَه جَمعٌ كثير، لِما رَأوا مِنَ الآياتِ الَّتي أَجْراها على المَرْضى."(يوحنا 6: 1) ، وبعضهم من المحتاجين إليه، للاستماع إليه " لأَنَّه كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن له سُلْطان، لا مِثلَ الكَتَبَة" (مرقس 1: 22) أو للاستماع إلى كلمته وطلب الشفاء كما جاء في إنجيل لوقا " لكِنَّ الجُموعَ عَلِموا بِالأَمْرِ فتَبِعوه، فاستَقبَلَهم وكَلَّمَهُم على مَلَكوتِ الله، وأَبرأَ الَّذينَ يَحتاجون إِلى الشِّفا" (لوقا 9: 11)؛ أو وبعضهم جاءوا لمصلحة في نفوسهم كما صرّح لهم يسوع " أَنتُم تَطلُبونَني، لا لِأَنَّكم رَأَيتُمُ الآيات: بلِ لِأَنَّكم أَكَلتُمُ الخُبزَ وشَبِعتُم" (يوحنا 6: 26) وبعضهم أخيرا من المراقبين إياه مثل الكتبة والفريسيين "بَلَغَ حِقْدُ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّينَ عَليهِ مَبلغاً شَديداً، فجعَلوا يَستَدرِجونَه إلى الكَلامِ على أُمورٍ كَثيرة" (لوقا 11: 53). ولعل من أسباب ذلك الازدحام اقتراب عيد الفصح فكان الناس يأتون إليه وهم ذاهبون إلى أورشليم (يوحنا 6: 1). فنحن من أيَّة فئة عندما نأتي إلى يسوع؟ أما عبارة "فُرصَةٌ لِتَناوُلِ الطَّعام " فتشير إلى انتهاز اقل فرصة ليأخذ الرسل لقمة تسكينا لجوعهم كالعادة. ورغم دعوة يسوع لهم إلى أخذ قسط من الراحة لتناول الطعام فإننا نجد الناس تلحّ في طلب رؤية يسوع.

32 فمَضَوا في السَّفينَةِ إِلى مَكانٍ قَفرٍ يَعتَزِلونَ فيه

تشير عبارة "مَكانٍ قَفرٍ" إلى مكان منعزل يجد فيه يسوع والتلاميذ الاختلاء والراحة، والثقة والمشاركة. يذهب المرء إلى هناك ليفتح نفسه أمام العطش والجوع نحو الله والآخرين وتعمق في العلاقة مع الله.

33 فرآهُمُ النَّاسُ ذاهبين، وعَرَفَهُم كثيرٌ مِنهُم، فأَسرَعوا سَيراً على الأَقدامِ مِن جَميعِ المُدُن وسبَقوهم إِلى ذلك المَكان.

تشير عبارة "فأَسرَعوا سَيراً على الأَقدامِ مِن جَميعِ المُدُن" إلى عدم إمكانية التهرب من الناس. لا يقدر يسوع ورسله أن يعتزلوا الجمع، وذلك بسبب العطش لغذاء الروح والجسد الذي يدفعهم للبحث عنه والسير إليه (يوحنا 6: 26). أمَّا عبارة "سبَقوهم إِلى ذلك المَكان" فتشير إلى امر غير معقول أن يسبق الناس الذين جاؤوا سيرا على الأقدام يسوع ورسله الذين ركبوا السفينة. نحن أمام لوحة فنية رسمها مرقس بوحي من الروح القدس. ولا يجوز أن نتوقف عند التفاصيل فقط.

34 فلَمَّا نَزَلَ إِلى البَرّ رأَى جَمعاً كثيراً، فَأَخذَتْه الشَّفَقَةُ علَيهم، لِأَنَّهم كانوا كَغَنَمٍ لا راعِيَ لها، وأَخَذَ يُعَلَّمُهم أَشياءَ كثيرة

تشير عبارة "فلَمَّا نَزَلَ إِلى البَرّ" إلى خروج يسوع من السفينة إلى البر كما جاء في إنجيل يوحنا " فصَعِدَ يسوعُ الجَبَل وجَلَسَ مع تلاميذِه. وكانَ قدِ اقتَرَبَ الفِصحُ، عيدُ اليَهود. فرَفَعَ يسوعُ عَينَيه، فرأَى جَمعاً كثيراً مُقبِلاً إِلَيه " (يوحنا 6: 3-5)؛ بعض الأحيان يستحيل علينا تحقيق مشاريعنا، لأن أمرًا غير منتظر عاجل يحدث ويقلب مشاريعنا ويتطلّب منّا ليونةً واستعدادًا لتلبية حاجات الآخرين. أمَّا عبارة "فَأَخذَتْه الشَّفَقَةُ" ἐσπλαγχνίσθη فتشير إلى تحرك أحشاء يسوع بدافع حبه الشديد (متى 6: 34). وهذا يدل على حنان يسوع ورحمته، لأنه كان يهتم بالشعب الذي كان كغنم لا راعي لهم، ولهم عطشٍ إلى ما لا يملكون، وتوقٍ إلى بلوغ السلام الحقيقي. هذه الشفقة تعكس قلب الرب ذاته في صورة فائقة من الرقة (ارميا 23: 1-4)، ويُظهر موقف يسوع حنان الله حيث أنه يشعر بالحنان تجاه الخراف الجائعة للإنجيل (مرقس 6: 34)، جوعها للخبز (8: 2)، وتأخذه الشفقة تجاه المحرومين أكثر من غيرهم: البرص (مرقس 1: 4)، والعميان (متى 20: 34)، والأمهات الثكالى والأخوات الحزينات (لوقا 7: 13، يوحنا 11: 33). إن حنان يسوع، مثل حنان الله، لا يتعب ولا يكلّ، وينتصر على الخطيئة، ويصل إلى حد الصفح عن أكثر الناس بؤساً: أعني الخطأة (لوقا 23: 34). فهو يتصرف كالراعي الصالح (حزقيال 34: 23)، على مثال موسى (عدد 27: 15-17) وداود (مزمور 78: 70) بل على مثال الله نفسه الذي اقتاد شعبه في البرية (مزمور 78: 52-53). هذه الشفقة تعكس قلب الرب ذاته في صورة فائقة من الرقة والحنان (ارميا 23: 1-4). كما تدلّ على شفقته في تعليم الشعب وأعطاهم الخبز والسمك. (مرقس 6: 35-44). ويعلق أوريجانوس " حين رأى نوعيّة الأشخاص المحيطين به، وجدهم جديرين أكثر بالشفقة. هو الذي يُعتبَر خارج الألم بصفته الله، ها هو يتألّم بسبب حبّه للبشر؛ لقد سيطر عليه التأثّر الشديد، فشفاهم من أمراضهم كلّها وحرّرهم من الشرّ"(شرح لإنجيل القدّيس متّى)". أمَّا عبارة " لِأَنَّهم كانوا كَغَنَمٍ لا راعِيَ لها" فتشير إلى صورة مألوفة في الكتاب المقدس، تُندد بعدم مبالاة الرؤساء المسؤولين (متى 9: 36) والافتقار إلى قيادة جيدة حيث أنّ الخراف بدون راعيها تضلّ الطريق، كما أنها معرّضة للأخطار. فهي لا تستطيع أن تحمي نفسها من اللصوص أو من الوحوش الضارية. ويعلق الطوباويّ اللاهوتي يوحنّا هنري نيومان " إنّه لمشهد محزن: يرزح شعب الله على التلال "مِثْلَ خِرَافٍ لا رَاعِيَ لَهَا". بدى من بحث في الأماكن التي طالما تردّد إليها الربّ وفي المسكن الذي أسّسه، فإنّه يهتمّ بالمسائل البشريّة، ويتبع مُرشدين غرباء ويسمح لآراء جديدة بأن تسيطر عليه، ويصبح لعبة الصدفة أو مزاج اللحظة وضحيّة الإرادة الشخصيّة". أمَّا عبارة " َغَنَمٍ " فتشير إلى إحدى الحيوانات الأليفة التي دجنها الإنسان منذ أقدم العصور، بل إنها أول حيوان داجن ذكره الكتاب (تكوين 4: 4) وكانت الأغنام عماد الحياة البشرية، ولا تزال حتى اليوم لما فيها من خيرات للإنسان، بلحمها وصوفها وجلدها ولبنها، ولقلة تكاليفها، ولوفرة الماء والعشب في مناطق كثيرة من الشرق، (تثنية الاشتراع 32: 14). وضرب الكتاب المقدس المثل بالخراف بعدد من صفاتها التي تتميز بها: من أنها لا تعرف صوت الغريب لذلك لا تأمن له (يوحنا 10: 5)، وتشتتها عندما لا يكون لها راع (2 أخبار 18: 16)، وضلالها عند شرودها (مزمور 119: 176)، ووداعتها وأمنها مع أعدائها (أشعيا 11: 6)، واستهدافها لأخطار الحيوانات الضارية (ميخا 5: 8). أمَّا عبارة " راعِيَ " فتشير إلى قائد ورفيق، ورجل قويّ قادر على أن يدافع عن قطيعه ضد الحيوانات الضارية (متى 1: 16). وهو أيضاً الرجل الذي يعامل خرافه برقَّة، ويعرف وجوهها (أمثال 27: 23)، ويتكيف وفق حالها (تكوين 33: 13-14)، ويحملها على ذراعيه (أشعيا 40: 11، ويعزّ الواحدة والأخرى "كابنته" (2 صموئيل 12: 3). وكانت كلمة راعي تستعمل في العهد القديم رمزاً لله وللمسيح ابنه (مزمور 80: 1)، الذي هو الملك السماوي، أو رمزاً لملوك الأرض (حزقيال 34: 10). اعتبر المسيح راعي الخراف الذي يعنى برعيته، أي البشر (يوحنا 10: 11)، و"الفرح التامّ" (يوحنا 15: 11) "والنَعيم على الدَّوام" (مزمور 16: 11). " وراعي نُفوسِنا وحارِسِها" (1 بطرس 2: 25). أمَّا عبارة " وأَخَذَ يُعَلَّمُهم أَشياءَ كثيرة" فتشير إلى اهتمام يسوع بحاجات الناس لتعلم الأمور المادية والروحية. أمَّا متى الإنجيلي فيُشدِّد على شفى المرضى في الجمع (متى 14: 14). فيسوع شفى وعلم. ويعلق البابا فرنسيس " رأى، أخذته الشفقة، أخذ يعلّم. يمكننا تسميتهم أفعال الراعي. إن نظرة يسوع ليست نظرة باردة ولا مبالية، لأن يسوع ينظر دومًا بأعين القلب. وقلبه حنون ومملوء بالشفقة لدرجة أنه يعرف كيف يرى أكثر احتياجات الأشخاص خفية. ومن جهة أخرى، لا تظهر شفقته على أنّها مجرّد ردّة فعل عاطفيّة إزاء وضع صعب يعيشه الناس، إنما موقف واستعداد الله تجاه الإنسان وتاريخه. فيسوع يظهر كتحقيقٍ لاهتمام الله بشعبه ورعايته " (الأحد 22 /7/ 2018). نرى هنا استعداد يسوع التام بالتضحية بالوقت والجهد والطاقة والراحة في سبيل خدمة الناس المحتاجين تمشيا مع مبدأه " لأَنَّ ابنَ الإِنسانِ لم يَأتِ لِيُخدَم، بل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس". فهل نحن نرحّب بمن يأتيني بحاجة، أثناء وقت راحتنا أو خلوتنا، بسعة صدر وبكلّ ترحيب وشفقة؟

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 6: 30-34)

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (مرقس 6: 30-34) يمكننا أن نستنتج انه يتمحور حول النقاط العملية وهي: العزلة الروحية أو الاختلاء والراحة والشفقة.

1)العزلة الروحية أو الاختلاء

يدعو يسوع رسله إلى العزلة "تَعالَوا أَنتم إِلى مَكانٍ قَفرٍ تَعتَزِلونَ فيه" (مرقس 6: 31). لكن العزلة في حد ذاتها شر يأتي من الخطيئة، "لا يَجبُ أَن يَكونَ الإِنسانُ وَحدَه" (تكوين 2: 18) ويريد الله أن يكون الخاطئ معزولاَ في وحْدة (أيوب 19: 13-22). ومع ذلك يمكن أن تصبح العزلة مصدر مشاركة إذا اتّحدنا بعزلة يسوع المسيح مثل عزلة الرسل مع يسوع (مرقس 6: 31-32). ولقد جادَ الله بِابنِه الوَحيد للعالم (يوحنا 3: 16) لكي يجد الناس من خلال يسوع (عمانوئيل) " الله معنا" (أشعيا 7: 14) الشركة مع الله والتخلص من عزلة الخطيئة.

دعا يسوع تلاميذه "أن يكونوا معه "(مرقس 3: 14). إذ جاء يطلب الخروف الضال وهو في عزلته (لوقا 15: 4) وجاء يسوع لينتزع عزلة الخطأة مثل المرأة السامرية (يوحنا 4: 27،) والزانية (يوحنا 8: 9). وبعبارة أخرى، علينا أن نعتزل وحدنا مع يسوع المسيح حتى نعيش الشركة مع الله ومع الجميع ونتخلص من عزلة وعبودية الخطيئة.

وكما اجتَمَعَ الرُّسُلُ عِندَ يسوع (مرقس 6: 30) كذلك نحن بحاجة إلى الاجتماع حول مائدة الرب يوم الأحد بعد تأدية واجباتنا في بحر الأسبوع؛ وذلك لنتمكن من إعادة النظر في حياتنا الروحية والرسولية. كما يتوجب علينا كل مساء أن نجتمع عند يسوع كي نُطلعه على جميع ما عملناه طيلة اليوم لكي نصحح عملنا بموجب إرادته القدوسة ونطور عملنا. لنترك بعد عملنا اليومي اهتماماتنا العالمية ونختلى بالربّ " ادخُلْ حُجْرَتَكَ وأَغْلِقْ علَيكَ بابَها" (متى 6: 6) فيملك على قلوبنا لأنه مصدر قوتنا. إن أعادة النظر في حياتنا مع يسوع لهي من أنواع الاختلاء الروحي أو العزلة الروحية.

2) الراحة

لم يدعو يسوع تلاميذه فقط للعزلة الروحية بل أيضا للراحة "استَريحوا قَليلاً" (مرقس 6: 31). تتنقل حياة الإنسان بين العمل والراحة. منذ البدء كرّس الله يوم السبت للراحة كأحد الوصايا العشر "ُأذكُرْ يَومَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَه. واليَومُ السَّابِعُ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ " (خروج 20: 8). وهناك سببان للراحة. فالراحة علامة الحرية كما إنَّها اشتراك في راحة الخالق. ومن هذا المنطلق، فان السبب الأول للراحة أنها رمز للتحرر، إذ لا بدَّ لبني إسرائيل أن يتذكروا أنهم أعتقوا من نير الأعمال الشاقة في مصر (تثنية 5: 15).

والسبب الآخر للراحة هو الاقتداء بالرب "اَستَراحَ الله في اليَومِ السَّابِعِ من كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه “(التكوين 2: 2). إن الإنسان الذي يحافظ على السبت يقتدي بالله، الذي بعد أن خلق السماوات والأرض، استراح واستعاد أنفاسه في اليوم السابع. وإن كان السبت يُقدَس، فلأن الله يُقدِّسه كما جاء في كلام الله "أَعطَيتُهم سُبوتي لِتَكونَ عَلامةً بَيني وبَينَهم، لِيَعلَموا أَنِّي أَنا الرَّبّ مُقَدِّسُهم" (حزقيال 20: 12). فالراحة "علامة للتوحيد بين الله ومؤمنيه" فهي تظهر أن المؤمن هو صورة الله: وهذا لا يعني فقط أنه حرٌ. بل أني ابن الله.

السبت لا يعني أن تتوقف عن العمل وحسب، بل أن يُكرّس المؤمن قواه محتفلا بفرح بالخالق وبالفادي. ويمكن أن نسمي السبت "نعيماً"، لأن من يحترمه يتَنَعَّمُ بِالرَّبّ" (أشعيا 58: 13-14). هذا بالإضافة إلى فائدة الراحة على مستوى الطبيعة انه ينبغي أن ترتاح الحيوانات والعمال (تكوين 23: 122). إن دعوة يسوع رسله للراحة بعد رسالتهم الشاقة، بمثابة دعوة لنا أيضا للراحة للحصول على التوازن تجاه التوترات وتعب النهار وحره حيث أن الراحة الذي يدعو إليها يسوع هي راحة للجسد، وقوّة للروح.

نجد المعنى الحقيقي للسبت في قول يسوع المسيح: "إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت. فَابنُ الإِنسانِ سَيِّدُ السَّبتِ أَيضاً " (مرقس 2: 27)، لأنه يحقق ما كان السبت رمزاً له. السبت في نظر يسوع هو يوم الخلاص المثالي كما صرّح للمرأة المنحنية الظهر في السبت "وهذِه ابنَةُ إِبراهيمَ قد رَبطَها الشَّيطانُ مُنذُ ثَمانيَ عَشرَةَ سَنَة، أَفما كانَ يَجِبُ أَن تُحَلَّ مِن هذا الرِّباطِ يَومَ السَّبْت؟ " (لوقا 13: 16). بل إن يسوع هو راحة النفس، لأنه يَعرض الراحة للنفوس التي تأتي إليه "تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم"(متى 11: 28). إن يسوع يقدّم الراحة الداخلية. فالسير في طريقه الصالح معناه "إيجاد الراحة" كما يقول ارميا النبي "ما هو الطَّريقُ الصَّالِحُ وسيروا فيه فتَجِدوا راحةً لِنُفوسِكم" (ارميا 6: 16)، ويعلق القدّيس غريغوريوس النيصيّ "اجعلني أعرف مياه راحتك، قُدني إلى العشب الدَّسِم، نادني باسمي، لأسمع صوتك، أنا خروفك، وليكن صوتك لي الحياة الأبديّة".

3)الشفقة أو الرحمة

يُشدِّد إنجيل اليوم أيضا على الشفقة. "رأَى يسوع جَمعاً كثيراً، فَأَخذَتْه الشَّفَقَةُ علَيهم" (مرقس 6: 34). في الكتاب المقدس لا فرق بين الشفقة والرحمة. وتضم "الرحمة" على معنيين مترابطين: الشفقة والأمانة. تعبّر الشفقة بالعبرية (רחמים راحاميم) عن الارتباط الغريزي الكائن بكائن آخر. ويتمركز هذا الإحساس بحسب العقلية السامية في بطن الأم (رحيم) רַחֲמֶיהָ (1 ملوك 3: 26). وهو الحنان الذي يظهر تلقائياً في التصرف من إبداء الشفقة بمناسبة حادث أليم (مزمور 106: 45). أمَّا اللفظة العبرية الثانية (חֶסֶד) فتترجم في اليونانية (έλεος)؛ وتعني الرحمة وتشير هنا إلى التقوى أي العلاقة الروحية التي تربط كائنين معاً، وتتضمن الأمانة نحو الذات.

الله هو مصدر الرحمة كما ورد في الكتاب المقدس " الرَّبُّ إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء، يَحفَظُ الَرَّحمةَ لأُلوَف الرب" (خروج 34: 6-7). ولا يتوقف مرنّم المزامير من أن يُطلق تسابيح الشكر " إِحمَدوا الرَّبّ لأَنَّه صالِح لانَّ للأبدِ رَحمَتَه " (مزمور 107: 1) وهكذا تدوّي، بلا انقطاع، صرخة صاحب المزامير: " إِرحَمْني يا أَللهُ بِحَسَبِ رَحمَتِكَ وبِكَثرَةِ رأفَتِكَ اَمْحُ مَعاصِيَّ"(مزمور 51: 1).

ظهرت الرحمة الإلهية على الأرض بصورة خاصة في ملامح المسيح يسوع، "عَظيمَ كَهَنَةٍ رَحيمً" (عبرانيين 2: 17). وأراد يسوع أن يُشبِّه إخوته في كل شيء، لكي يختبر شقاء هؤلاء الذين جاء لينقذهم. لذا اتّسمت كل تصرفاته بالرحمة الإلهية، فكان الفقراء هم المفضَّلون إلى قلبه الأقدس (لوقا 4: 18)، ويجد الخطأة فيه "صديقاً" لهم (لوقا 7: 34)، وهو، من ناحيته، لا يخشى معاشرتهم (لوقا 5: 27). وهذه الرحمة يُبديها يسوع بصفة عامة نحو الجموع (متى 9: 36)، فنراه تارةً يصنع رحمة نحو أرملة نائين (لوقا 7: 13)، وتارةً نحو هذا الأب المفجوع في ابنته (لوقا 8: 42). وأخيراً، يعامل يسوع المرأة والغريب معاملة الرحمة. وإن كان يسوع قد أشفق هكذا على الجميع، فلا عجب إن كان البائسون يقصدونه كأنهم يقصدون الله نفسه، صارخين إليه "رحماك سيدي" كيريا اليسون "Ἐλέησόν με, κύριε (متى 15: 22).

ولا عجب أيضا أن يوصي المسيح تلاميذه بالرحمة: "كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم" (لوقا 6: 36). فالرحمة شرط أساسي لدخول ملكوت السماوات "طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون"(متى 5: 7). هذه الرحمة يجب أن تجعلنا، أسوة بالسامري الصالح (لوقا 10: 30-37)، قريبين من الشخص البائس الذي تجمعنا به الصُدف، ورحماء بمن يكون قد أساء إليّنا (متى 18: 23-35)، لأن الله قد منحنا رحمته (متى 18: 32-33). ونحن نُدان بمقاس الرحمة التي نكون أظهرناها لشخص يسوع ذاته في الآخرين: المرضى والمُسِنّين، والجياع والعطاش والأسرى والفُقراء بيننا "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه "(متى 25: 31 -46). أمَّا الذين لا رحمة في قلوبهم فنصب الغضب الإلهي عليهم (رومة 1: 31).

خلاصة القول أنه يجب على المسيحي أن يُبدي المحبة و"العطف" (فيلبي 2: 1)، وأن يكون قلبه عامراً بالشفقة كما يوصي الرسول بولس "لِيَكُنْ بَعضُكم لِبَعضٍ مُلاطِفًا مُشفِقًا" (أفسس 4: 32). فلا يجوز له أن يغلق أحشاءه لأخ يقع في عوز، لأن محبة الله لا تستقر إلا في من يمارسون الرحمة كما يصرّح القديس يوحنا "مَن كانَت لَه خَيراتُ الدُّنْيا ورأَى بِأَخيهِ حاجَةً فأَغلَقَ أَحشاءَه دونَ أَخيه فكَيفَ تقيمُ فيه مَحبَّةُ الله؟ (1 يوحنا 3: 17).

الخلاصة

إن كان السيد المسيح هو الذي اختار تلاميذه ودعاهم ثم أرسلهم فإنه يليق بهم من حين إلى آخر أن يختلوا به ويحدثونه بكل شيء يخص الخدمة ليكون هو القائد الحقيقي لهم في كل تصرفاتهم. لقد أخذهم معه على انفراد في موضع خلاء ليجدوا فيه راحتهم وطعامهم. هكذا تمتزج حياة الخدمة بالتأمل بغير انقطاع، كل منهما تسند الأخرى. والعجيب أنه إذا انطلق بهم إلى موضع خلاء بحثت عنه الجموع وجرت وراءه. وكأنه قد مزج خلوة التلاميذ بالخدمة، لأن راحتهم الحقيقية هي في راحة النفوس المتعبة "تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم"(متى 11: 28).

دعاء

أيها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع ابنك، راعي نفوسنا وحارسها، إن نعود إليه للاختلاء به في مساء كل يوم كي نجد الراحة والقوة والمعونة بحضوره فننطلق إلى يومٍ جديدٍ في رسالة جديدة وكلنا ممتلئين بالإيمان والرجاء والمحبة ومُردِّدين مع صاحب المزامير " الرَّبُّ راعِيَّ فما مِن شيَءٍ يُعوِزني في مَراعٍ نَضيرةٍ يُريحُني. مِياهَ الرَّاحةِ يورِدُ في ويُنعِشُ نَفْسي" (مزمور 23: 1-2).



الأب لويس حزبون - فلسطين

رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
المسيح ينشر السلام والراحة للقلوب المنكسرة
نوم المسيح يؤكد ناسوته، وحاجته إلى النوم والراحة
مفتقدين للسلام والفرح والراحة المذخَّرة لنا في المسيح يسوع
اسم المسيح يُعطي البهجة والراحة والطمأنينة للنفوس
يا ربي يسوع المسيح انعم على الجميع بالسلام والراحة


الساعة الآن 03:02 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024