أغسطينوس في تاجست
في 13 نوفمبر 354 م بمدينة تاجست من أعمال توميديا بأفريقيا الشمالية وُلد أغسطينوس، وكان والده باتريكس وثنيًا فظ الأخلاق شريرًا، لذلك لم يكن يهتم بحياة ابنه الروحية ولا بسلوكه الخلقي، بل كانت آماله جميعًا تنصب في رؤيته رجلًا عظيمًا ذا جاه وغنى عظيم.
أما والدته مونيكا المسيحية فقد احتملت شرور زوجها ووالدته - التي كانت تسمع لوشايات الخدم - بصبرٍ عجيبٍ دون أن تشكي لأحدٍ منها، بل على العكس كانت تلوم النساء اللواتي يشكين من أزواجهن، ناصحة إياهن على طاعتهم. وبذلك استطاعت بصبرها أن تجذب حماتها إليها، التي عرفت وشايات الخدم، فعاقبتهم على ذلك، أما زوجها فقد اكتسبته أيضًا، إذ اعتنق المسيحية قبيل انتقاله إلى السماء.
أما عن جهادها مع أولادها الثلاثة فلسنا نعلم كثيرًا عنه، إلا عن جهادها مع ابنها الأكبر "أغسطينوس" الذي يعتبر من كبار قديسي الكنيسة ومعلميها ومن أعظم فلاسفة العالم. أما ابنتها التي لا نعرف اسمها فقد صارت رئيسة دير للراهبات، وابنها الآخر تفيجوس فقد صار أبًا لأسرة تقية خرج منها راهبتان تحت إرشاد عمتهما (عن مجلة مدارس الأحد السنة الخامسة عشر عدد 4).
هذبت مونيكا ابنها أغسطينوس وأرضعته لبن الإيمان ومبادئه وكما قال إن تعاليمها كانت راسخة في ذهنه حتى في أسوأ أحواله.
شب أغسطينوس فأدخله والده إلى المدرسة. وهناك التقى بمعلمين كانوا في ذلك الوقت لا يهتمون بسلوك الإنسان وحياته، حتى ولو أساء التلميذ في حق زملائه وفي حق معلميه أنفسهم، بل كانوا يهتمون بنبوغهم العلمي المجرد، لذلك تدهورت حالة أغسطينوس وساءت حياته، وأخطأ في حق زملائه ومعلميه ووالديه. أما عن دراسته فكان رغم ذكائه محبًا للعب ميالًا إلى الكسل، لذلك كانت توقع عليه عقوبات كثيرة، مما جعلته يكره اللغة اليونانية التي كان يُجبر على تعلمها، ويحب اللاتينية التي تعلمها ممن حوله.
جاء عنه أنه مرض يومًا فأرادوا عماده، غير أنه شُفي سريعًا، فأرجأت والدته عماده (يبدو أن مرضه هذا والرغبة في عماده كانت في طفولته)، ولعل ذلك يكون خطأ منها أو لعلمها بشرور ابنها واستهتاره بحياته، خاصة وأن والده هو المشجع له على الشر.
لما بلغ أغسطينوس من العمر ستة عشر عامًا أراد والده أن يرسله إلى قرطاجنة ليتمهر في البيان، فأخذ يعد له ما يلزمه لسفره عامًا كاملًا، فزج الفراغ بأغسطينوس إلى الاصطحاب بجماعة من الأشرار، فاقتدى بهم وسلك على منوالهم، حتى صار يفخر بالشرور، وينسب إلى نفسه شرورًا لم يرتكبها. ومما يرويه عن نفسه أنه اتفق مع شرذمة من أصدقائه على سرقة شجرة أجاص (كمثري)، وفي نصف الليل قادهم إليها وقطعوا منها ما قطعوا وهو يعلم بأن الكمثري لم تنضج ولا تصلح إلا للخنازير، كما يعلم أن بمنزله شجرة أجود منها، لكن هدفه كان قيادة جماعة من الناس إلى السرقة والتزعم عليها.
حزنت مونيكا لما رأت ابنها ينجرف إلى هذه الهوة العميقة فأخذت تنصحه، أما هو فكان يزدري بنصائحها إذ يقول في اعترافاته "ولكن أمي التقية قد تكلمت، وصوتها على ما أرى صدى صوتك فإنها كانت تلح عليَّ بشديد التحريض لاعتزال الغواني وكل أسباب الفجور. وأما أنا فما كنت أعيرها أذنًا صاغية، ولا اكترثت بأقوالها، لأنها أقوال امرأة، حال كونها صادرة من لدنك...".