ترتيب التطويبات
القمص تادرس يعقوب ملطي
في العبارات الثمانية الأولى، كان يتحدث رب المجد إلى الجميع، أما ما جاء بعد ذلك فحدّث به بصفةٍ خاصةٍ الحاضرين. "طوبى لكم إذا عيَّروكم وطردوكم". فالعبارات السابقة كانت موجهة بصيغة عامة، لأنه لم يقل: "طوبى لكم أيها المساكين بالروح، لأن لكم ملكوت السماوات" ولم يقل: "طوبى لكم أيها الودعاء لأنكم ترثون الأرض"، بل قال: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض"، وهكذا حتى العبارة الثامنة حيث يقول: "طوبى للمطرودين من أجل البرّ لأن لهم ملكوت السماوات".
فالعبارات الثمانية تخص الماثلين أمامه رغم توجيهها بصيغة عامة للجميع، والحديث الأخير يخص الجميع بالرغم من توجيهه بصفة خاصة إلى الحاضرين معه.
لهذا يجب أن نتأمل بعناية في عدد العبارات الماثلة أمامنا وترتيبها.
1- بدأت التطويبات بالتواضع. "طوبى للمساكين بالروح" أي لغير المنتفخين، عندئذ تخضع الروح للسلطان الإلهي خوفًا من عقابها في الحياة الأبدية، رغم ما يبدو لها من سعادة في الحياة الحاضرة.
2- عندئذ تعرف الروح الكتب المقدسة الإلهية، حيث ينبغي لها أن تعرفها بوداعة وتقوى، لئلا تتجاسر وتنقد ما قد يبدو للجاهل غير معقولٍ، وتصبح غير قابلة للتعليم بسبب المناقشات السقيمة.
3- بعد ذلك تبدأ الروح في التعرف على مقدار أشراك هذا العالم التي تسقط فيها بسبب الخطايا الشهوانية، فتحزن على فقدانها للخير الأعظم، والتصاقها بما هو دنيء.
4- يظهر الجهاد بعد ذلك - في المرحلة الرابعة - حيث يبرز الجهاد، فيبتعد العقل عن الأمور التي سقط فيها بسبب لذة إغراءاتها. هنا يُجاع إلى البرّ، ويعطش إليه، ويكون الاحتمال (القوة) ضروريًا جدًا، حيث لا يمكن ترك ما فيه لذة بدون ألمٍ.
5- لهذا ففي المرحلة الخامسة يُعطى للمثابرين على الجهاد مشورة للتخلص من الأشياء (المهلكة)، فلا يستطيع أحد أن يتخلص من أشراك بؤس عظيمة كهذه بدون معونة من هو أعظم منه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى). يا لها من مشورة عادلة! فعلى الراغب في معونة من هو أعظم منه، أن يساعد من هو أضعف منه فيما هو قوي فيه، لذلك "طوبى للرحماء لأنهم يرحمون".
6- تأتي في المرحلة السادسة نقاوة القلب، ذلك القلب الذي يستطيع بالضمير الصالح للأعمال الصالحة أن يعاين الصلاح الأعظم. هذا هو الصلاح الذي يدرك بالذهن النقي الهادئ.
7- أخيرًا المرحلة السابعة وهي الحكمة نفسها، أي التأمل في الحق، متشبهًا بالله، عندئذ يقول "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون".
أما المرحلة الثامنة فكما لو كانت تعود إلى نقطة البداية، لهذا دعي ملكوت السماوات في كلى المرحلتين الأولى والثامنة. ففي الأولى: "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات" وفي الثامنة: "طوبى للمطرودين من أجل البرّ لأن لهم ملكوت السماوات". وكأنه يقول: من سيفصلنا عن محبة المسيح، أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف. (رو 45:8) فالأشياء التي تجلب الكمال سبعة، لأن الثامنة ليست إلا توضيح وإظهار لما هو كامل وذلك كالأولى، فكأنها بدأت من جديد...