القس بيشوي فايق
إن كان الأشرار هم المتسببون في الكثير من الشدائد، التي تضر بإخوتهم في البشرية، فما هي الحكمة من وراء سماح الله لهم بالتسبب في الضيق، والضرر لإخوتهم؟
الإجابة:
إننا لا نقبل أفعال الأشرار الظالمة لإخوتهم في البشرية، ولا يمكن أن نبرر شرهم بأي حال من الأحوال، ولكن من خلال النظرة الشاملة المتأنية لما حدث من ضيقات على مر الزمن، والتاريخ يمكننا أن نتبيَّن وجود الكثير من النفع وراء الضيق.. وهذا ما يتفق مع إيماننا بأن مثل هذه الأحداث يسمح بها الله، الذي يدير الكون بحسب صلاحه وحكمته.
في النقاط التالية نتناول بالشرح قلة حكمة الإنسان، ومحدودية إدراكه لنتائج ومجريات ما يحدث حوله من أحداث.. ثم نتأمل في حكمة الله العالية الغير المدركة، وأخيرًا نتأمل في بعض بركات الضيق:
أولًا: محدودية الحكمة البشرية:
إن محدودية فهم، واستيعاب الإنسان تقف أمامه عائقًا في معرفة، وتفسير كل ما يحدث حوله. وفيما يلي بعض مما يدل على ذلك:
1. لم تصل البشرية إلى ما وصلت إليه الآن من علوم، واكتشافات دفعة واحدة، ولكن ذلك كان على مدى مئات، بل آلاف السنين وبعد جهد فائق لأعداد لا يمكن حصرها من البشر.
2. لا يوجد أحد من العلماء يقدر أن يستوعب بالفهم كل أنواع المعارف المتاحة الآن.
3. ليس من المنطقي، ولا من الحق أن يتجرأ بشر ليقف أمام الخالق العظيم مناقضًا فهمه، وحكمته في إدارة هذا الكون العظيم. إن عدم معقولية ذلك قد نمثله بطفل صغير في المرحلة الابتدائية يقف أمام جراح القلب الشهير.. متذمرًا على أسلوبه إجرائه جراحة قلب مفتوح لأحد أقاربه، وقد يحتار الطبيب في إجابة أسئلته نظرًا لعدم، أو قلة فهمه، إلا أنه قد يجيبه قائلًا: "أين كنت حين ابتكرت الطريقة الفلانية في الجراحة؟! وأين كنت حين كنت أعمل كأكبر، وأبرع جراح للقلب في مستشفى.. في لندن أو باريس...؟! وحين قمت بنجاح بعلاج الكثير من المشاهير أمثال... فلان وفلان ..؟!
لقد أجاب الله أيوب الذي أراد فهم حكمة الله مما أصابه من ضيق -موضحًا له أن عدم إمكانية الإلمام بحكمته- قائلًا: "فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَة وَقَالَ: "مَنْ هذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُل، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي. أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ" (أي38: 1 - 4). إن الخضوع والتسليم لله الصالح، وحكمته، التي لا حدود لها هو الأجدر، والأنفع ببني البشر.
ثانيًا: بعض خصائص الحكمة الإلهية:
الله له السلطان المطُلق على خليقته، وهو المتحكم في كل ما يحدث على الكرة الأرضية، فهو الذي يصون خليقته، وهو القادر أن يمنع عنها أي ضرر، أو يسمح بما يراه مناسبًا لخيرها حسب حكمته كقول الكتاب عن ابن الله الكلمة الأزلي: "الذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ" (عب1: 3).
أن قول الوحي الإلهي في النص السابق: "وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ " يظهر بوضوح سلطان الله المطلق على خليقته، وصونه لها بحكمته، لذا نرى أنه من المفيد أن نصف. فيما يلي بعض خصائص الحكمة الإلهية، لندرك بعض ما يميز هذه الحكمة الفائقة:
استحالة فهم وإدراك حكمة الخالق العظيم تمامًا:
لا يمكن فهم الكثير من الأحداث التي تحدث تحت الشمس، وتسبب حيرة للإنسان، إلا من خلال اقتناء حكمة الخالق، التي تفسر الكثير من الغوامض، وهذا بالطبع مستحيل على البشر الضعفاء كقول الكتاب: "يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ" لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟" (رو11: 33 - 34).
أما المفيد للإنسان فهو طلب حكمة الله في اتضاع، والتسليم بعظمته والخضوع له، ومن يتذمر على الله لسماحه بحدوث أحداث تبدو ضارة، يمكن تشبيهه بالطفل الصغير الذي ينظر للنار، التي أحرقت أصابعه من قبل من منظور واحد فقط، وهو ضررها، ذلك لأنه لم يكتشف استخدامات أخرى لها، والعيب ليس في طبيعتها، بل في عدم معرفته نفعها.
لا شيء يقف ضد حكمة الله:
لقد اتخذ الوحي الإلهي من الماء مثالًا ليبين لنا كيف بالحكمة يوظف الله الشيء الواحد لصنع مشيئته الصالحة، فالسحاب قد يكون طوفانًا (تسونامي Tsunami) للتأديب، أو قد يكون لري الأرض، أو يسكبه الله من السماء كمطر يروي العطاش، الذين يرجون رحمته، وذلك كقوله عن سحب السماء: "فَهِيَ مُدَوَّرَةٌ مُتَقَلِّبَةٌ بِإِدَارَتِهِ، لِتَفْعَلَ كُلَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ الْمَسْكُونَةِ، "سَوَاءٌ كَانَ لِلتَّأْدِيبِ أَوْ لأَرْضِهِ أَوْ لِلرَّحْمَةِ يُرْسِلُهَا" (أي37: 12- 13). وهكذا استعمل العلماء الميكروبات، أو الزواحف السامة لاستخراج أمصال لخير البشرية.
إن الإنسان الخاضع لمشيئة الله الصالحة تتحول كل الأشياء في حياته (حتى ولو أدت به للاستشهاد) للخير كقول الكتاب: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ" (رو8: 28).
الحكمة تُهيئ لك من الضرر نفعًا.
لقد أعلن الوحي الإلهي أن الله يستغل تلك الأحداث، التي قد يتعرض لها الناس سواء كانوا أفرادًا، أو شعوبًا، أو ممالك (والتي يعتبرونها ضيقات وشدائد)، وفق خطة دقيقة نافعة لخلاص الناس قائلًا: "صَنَعَ الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ، وَأَيْضًا جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ، الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ" (جا3: 11). ولذلك يجب على البشر الاستفادة من كل ما يمر بهم من أحداث ليجنوا من ورائها خيرًا سواء في حياتهم على الأرض، أو بالأولى في حياتهم الأبدية. لقد نصح الحكيم أيضًا سامعيه بذلك قائلًا: "فِي يَوْمِ الْخَيْرِ كُنْ بِخَيْرٍ، وَفِي يَوْمِ الشَّرِّ اعْتَبِرْ. إِنَّ اللهَ جَعَلَ هذَا مَعَ ذَاكَ، لِكَيْلاَ يَجِدَ الإِنْسَانُ شَيْئًا بَعْدَهُ" (جا7: 14).
الحكمة تُوظف الضيقات والشدائد لمجدنا:
إن وقت الضيق يمثل لعبيد الله الأمناء الحكماء فرصة للنصرة، والخروج من الضيق بمجد عظيم، وذلك بقيادة روح الله القدوس لنا. أما إبليس فيستغل وقت الضيق ليقدم للخاطئ (الخالي من حكمة الله) حلولًا ضد وصية الله، ومشيئته الصالحة، وهكذا يسقطه.
إن الضيقة تحسب لعبيد الله على سبيل امتحان يرفعهم، ويؤهلهم لنيل المجد (نرجو الرجوع لسؤال سابق يشرح معنى المفهوم الكتابي لمعنى امتحان الله للبشر).. بينما تُحسب للجهال على سبيل تجربة لهلاكهم. لقد شبه الرب ذلك بالمثل التالي قائلًا: "فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُل عَاقِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُل جَاهِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا!" (مت7: 24 - 27).
ثالثًا: بعض بركات الضيق:
· مِن الجافي يخرج حلاوة:
إن الله هو القدير، الذي لا يمكن أن يعيق شر الشيطان أو الأشرار صلاحه، وهو القوي، الذي لا يضطرب من شر الأشرار فيسارع بالقضاء عليهم قبل الأوان، الذي سبق فعينه بحكمة. إنه الضابط لكل شيء والمتحكم في كل الأمور لتعمل وفق مشيئته. هو ذو السلطان الذي لا يحدث أمر تحت الشمس، إلا بسماحه وبمعرفته، وهو يقدر أن يمنع حدوث أي أمر متى أراد، ولكنه لحكمته يستغل أي أمر، حتى ولو كان الشر ذاته، ليحوله خيرًا كقول الوحي الإلهي على فم شمشون: "فَقَالَ لَهُمْ:"مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أُكْلٌ، وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ" (قض14:14). فيما يلي نتأمل في حكمة الله من طوله أناته على الأشرار، وذلك بحسب علمنا البشري المحدود.
الضيق مقياس وشهادة:
إن الضيقات أعظم مقياس يظهر عظمة بني البشر، ولهذا يتغنى الناس بالقول "الضيقات تظهر معدن الإنسان"، والضيقات أيضًا أعظم مدرب، ومحفز لاكتساب الفضائل.. ففي الضيق تتجلى الفضائل، ولولا الشدائد لما ظهرت الفضائل؛ فالشجاعة والصبر والإخلاص والحب والإيمان و... و... فضائل لا وجود لها، إلا في صحبةٍ ورفقةٍ مع الشدائد، وذلك كقول الكتاب: "أَنَّهُ فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ" (2كو8: 2). وأيضًا قوله: "فِي كُلِّ تَعَبٍ مَنْفَعَةٌ، وَكَلاَمُ الشَّفَتَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَى الْفَقْرِ" (أم14: 23).
تحدي الضيق فرصة لمعرفة الله والالتجاء إليه:
إن إبليس يستغل ضعف البشر وقت الشدة، ليوجه شكوكه وأفكاره المحبطة للمتألمين، ليفقدهم رجاءهم، وإيمانهم (كما حدث مع أيوب الصديق)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. أو قد يخدعهم، ويغريهم بالخروج من الضيقة، بفعل أمور تخالف مشيئة الله كما حدث في محاولته الفاشلة مع الرب يسوع في التجربة على الجبل.
إن الضيقات تمثل لأولاد الله نوعًا من التحدي يدفعهم للثبات في الله بالسهر في الصلاة كقول الرب يسوع: "وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ:"صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ" (لو22: 40).
الضيق طريق النصرة:
إن وراء كل نصرة تعب وجهاد وأحيانًا ضيق وألم، ولا سبيل لنصرة أو غلبة دون ذلك. لقد تغنى معلمنا بولس الرسول بهذه الحكمة فهتف لله شاكرًا قائلًا: "وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ" (2كو14:2).