القمص صليب حكيم
أمثلة من حياة الآباء لمقاومة تيارات العالم:
وأجمل مثال لتأكيد مبدأ العزلة الفكرية والجسدية عن أفكار ومسالك الغرباء بالرغم من التواجد الطبيعي بينهم هو حياة الآباء الأوائل مثل أبينا إبراهيم أب الآباء -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- الذي كان ساكنًا في وسط الكنعانيين الوثنيين ولكنه لم يشاركهم عبادة الأوثان.
وكان يحيا بقلبه وفكره في إيمانه بالله الذي دعاه وأعلن له ذاته، بل إنه لما أراد أن يخطب لابنه اسحق أرسل عبده كبير بيته إلى أهله قائلا له "أستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني اسحق" (تك24: 42).
ولوط كان يعيش وسط أناس غرباء في سدوم ومع ذلك حفظ نفسه وبناته من نجاستهم بعدم الاختلاط بهم وبعدم تزويج بنتيه منهم فشهد له الكتاب بأنه كان بارًا ويقول عنه "إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2بط2: 8)، لذلك نجاه الله من النار والكبريت اللذين أنزلهما على سدوم وعمورة لشرهما ونجاستهما.
ويوسف الشاب الأعزب المضطهد الذي كان يعيش غريبًا في بيت سيده المصري، كان مملوءًا نعمة وقوة روحية ومحبة، وخوف الله في قلبه، كما كان طاهر السيرة عفيف الجسد. لذلك عندما داهمته الخطية من زوجة سيده، ترك ثوبه في يدها عازفًا عن طغيان فسادها صارخًا "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله" فأعطاه الله الحكمة والنبوة ووهبه تفسير الرؤى والأحلام، ورفعه من السجن والعبودية إلى الرئاسة والملك إذ جعله مدبرًا لكل أرض مصر ومنقذًا للعالم من مجاعة قاتلة.
0) - صورة (5) - صور سفر دانيال، رسم جيمز بادجيت (1931-2009)، إصدار شركة سويت ميديا
والثلاثة فتية الذين وضعهم الملك وسط بعض الوثنيين ليختار منهم مدبرين لمملكته "وجعلوا في قلوبهم أن لا يتنجسوا بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه" (دا1: 8) فأظهر الله مجده فيهم إذ وهبهم حكمة عشرة أضعاف فوق كل المجوس والسحرة والوثنيين الذين في كل المملكة" (دا1: 20).
وعندما ولاهم الملك على أعمال ولاية بابل حفظوا أنفسهم من عبادة الأوثان ولم يسجدوا لتمثال الذهب الذي صنعه نبوخذ نصر الملك فأظهر الله مجده فيهم بقوة أعظم إذ نجاهم من نار الآتون المتقد سبعة أضعاف أكثر مما كان معتادًا (دا3: 9). بل إن تأثيرهم الروحي كان عظيمًا جدًا، وظهر فيما اعترف به نبوخذ نصر الملك وهو وثني عن إله الثلاثة فتية القديسين ونادى قائلا: "مني قد صار أمر بأن كل شعب وأمة ولسان يتكلمون بالسوء على إله شدرخ وميشخ وعبدنغو فإنهم يصيرون إربًا وتجعل بيوتهم مزبلة إذ ليس إله آخر يستطيع أن ينجي هكذا" (دا3: 29).
كما أن دانيال الذي لم يحد عن عبادة إلهه فنجاه من جب الأسود دفع الملك أن يشهد له قائلًا: "من قبلي صدر أمر بأنه في كل سلطان مملكتي يرتعدون ويخافون قدام إله دانيال لأنه هو الإله الحي القيوم إلى الأبد وملكوته لن يزول وسلطانه إلى المنتهى وهو ينجي وينقذ ويعمل الآيات والعجائب في السموات وفي الأرض" (دا6: 26، 27).
وفي حياة بولس الرسول ظهرت قوة تأثير إيمانه في كثير من المواقف نذكر منها موقفه عندما كان في قيوده يحاكم أمام أغريباس الملك حيث قال أغريباس لبولس "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا" فأجابه بولس "كنت أصلي إلى الله أنه بقليل وبكثير ليس أنت فقط بل أيضًا جميع الذين يسمعونني اليوم يصيرون هكذا كما أنا (أي يصيرون مسيحيين مثلي) ما خلا هذه القيود" (أع26: 28، 29).
وكثير من القديسين والشهداء كان لهم تأثير قوي في الوثنيين والأشرار مثل الشهيد العظيم مار جرجس الذي ما كادت تنقشع ظلمة إحدى ليالي عذاباته حتى استطاع أن يحول في تلك الليلة ذاتها الفتاة الوثنية التي سلطوها عليه في حبسه لكي تسقطه في الخطية - استطاع أن يحولها ويقودها للإيمان بالمسيح وتنال إكليل الشهادة قبل أن يناله هو نفسه.
ومثل الفتاة العذراء التي قلعت إحدى عينيها بمخراز منسجها، وقدمتها للشاب الذي كان يريد أن يستميلها إلى الخطية، والذي ما أن رأى قوة تمسكها بعفافها بمثل هذه الصورة، حتى ندم على ما كان وخرج مسرعًا إلى البرية وسلك طريق الرهبنة(1).