إيمان بلا رياء
الراهب القمص بطرس البراموسي
هذا ما نطلبه باستمرار أن يكون إيماننا بلا رياء: "بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ" (غل 5: 6). فالإيمان الحقيقي هو قلب نابض بعمل الله في حياة الإنسان باستمرار. هو ثقة داخلية بأن "كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ" (رو 8: 28). والإيمان الحقيقي هو ".. الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى" (عب 11: 1).
ولا يُفْهَم الإيمان لشخص ما أنه قد تربَّى في أسرة متدينة، تؤمن بوجود الله، ولكن لا يعني هذا بخروج الإنسان من أسرة تقيَّة أن يصير مؤمنًا تلقائيًّا بوجود الله. فلكل قاعدة شواذ.. وإنما الإيمان يوجد له معانٍ كثيرة أكثر من ذلك، فهو يشمل الحياة الروحية كلها..
ففي أحد المرات عجز التلاميذ عن إخراج شيطان من إنسان مصروع، فذهبوا يشتكون للسيد المسيح، لماذا لم يخرج أو لماذا لم نقدر أن نُخْرِجهُ، فقال لهم: "لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ" (مت 17: 20). في الشكل الظاهري من المؤكد أن الرسل والتلاميذ يؤمنون الله، وإلا ما تبعوا المسيح ابنه الوحيد الظاهر في الجسد، ولكن من الداخل لم تكتمِل بذرة الإيمان حتى تنمو ولا تصير شجرة كبيرة تتآوى فيها طيور السماء.. فالإيمان الشكلي يكون منزوع القوة والفعالية، شكل جون جوهر، مُمارسة دون معايشة. فالإيمان الكامل الذي بلا رياء يصنع العجائب. فالسيد المسيح أوضح لنا قوة الإيمان وعمله في قوله: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ" (مت 17: 20). نقرأ ونعجب من هذا.. ما هذا الإيمان الصغير جدًا مثل أصغر بذور النباتات -حبة الخردل- الذي لهُ قوة نقل الجبال..
ولذلك قال لنا الحكيم بولس الرسول: "جَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ (اختبروا أنفسكم)، هَلْ أَنْتُمْ فِي الإِيمَانِ؟ امْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ" (2 كو 13: 5).
فكلام الشفاه لا يعبر عن القلب أو عن الإيمان الداخلي .. قد يرائي الشخص في صلاته وفي كلامه المعسول الذي يوحي للكل أنه رجل إيمان، ويحفظ الآيات ويكررها على أذن سامعيه، فيطِّبونه ويقولون فيه كل ما يريد أن يسمعه منهم من مديح وتطويب، وفي وقت ما يسمح الله بأيَّة ضيقة أو مُضايقة أو حدثًا قد يؤثِّر على صفو حياته ويكدرها.. فنرى الإنسان الداخلي والصورة الحقيقية للشخص تبدلت وتحولت إلى النقيض، فمن الشكر إلى التذمر، ومن ترديد الآيات الكتابية والتنغُّم بها إلى التشكيك في وعود الله، ومن صورة الإنسان الروحاني الذي يلتمس الكل بركته إلى إنسانًا قلقًا ومضطرِبًا ومُتَسَرِّعًا في اتهام الله بالإهمال له، ومن وعظ الآخرين بالتمسك بالإيمان الحسن مهما أوتي من آلام واضطهادات إلى شخص هارِب من المواجهة ومن المجتمع الذي يسلبه حقوقه، ومن إنسان طيب وهادئ الطباع إلى إنسان عال الصوت، غليظ الحنجرة، متعجرفًا في كلامه وطلباته وسلوكه مع الآخرين.. وتتبدَّل الأشخاص وتسقط الأقنعة وتبلى الملابس الحسنة ليظهر الداخل الحقيقي.. وقد يكون هذا السلوك المذموم هو ما يجعل السيد المسيح يرفض الشخص وينفي معرفته به في يوم الدين: "كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!" (مت 7: 22، 23). قال السيد المسيح هذا لأنه قد أوضح في العدد السابق لذلك السبب: "لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت 7: 21).
أيها الحبيب، إن عبارة "يَا رَبُّ، يَا رَبُّ" التي نقولها عشرات المرات يوميًّا لا تفيدنا مطلقًا إن لم نكن في ثقة كاملة بتدبير الرب لحياتنا، الماضية والحاضرة والمستقبلة.. وليكن لنا الإيمان الحقيقي والثقة الكاملة في إلهنا الذي خلقنا وهيّأ لنا كل شيء، ووضع لنا كل الأمور تحد استخدامنا، ولنبعد عن التذمر والتزيُّن الخارجي بالفضيلة والممارسات الروحية دون تذوُّق حلاوتها، لأن "الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ لَفَّقُوا عَلَيَّ كَذِبًا، أَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ قَلْبِي أَحْفَظُ وَصَايَاكَ" (مز 119: 69).