الرب سيّد التاريخ
المزمور السادس والستون
1. المزمور السادس والستون هو مزمور شكر تنشده الجماعة بقيادة الملك أو الكاهن لحمد الله على أعماله من أجل شعبه. أنشده الشعب في زمن الجلاء يوم كان يعيش ضيق الاسر والاشغال الشاقة، فرأى فيه المنفيون رجاء بالرجوع إلى أرضهم وأملاً بتبديل حياتهم. ثم أنشدته الجماعة بمناسبة ذبائح الشكر التي كانت تقدّمها إلى الله فتحمده على عمله الخلاصي في التاريخ.
2. شكر اسرائيل لله المخلّص وسيد التاريخ.
آ 1- 7: يبدأ المزمور بنشيد حمد باسم الأرض المدعوة إلى تمجيد اسم الرب والسجود على قدميه. فعمل الخلق، أو بالأحرى الانتصار على المياه الأولى، هو أساس الاكرام الواجب للرب الذي ما اكتفى بصنع ما صنعه للطبيعة، بل عمل أعمالاً عظيمة من أجل بني البشر. وينشد المزمور (آ 6- 7) عمل الله ضد المياه التي تراجعت أمام الأرض اليابسة في بداية الكون، وضد البحر الاحمر ونهر الاردن اللذين انقلبا طريقًا عبرها شعب الله سيرًا على الأقدام. وهكذا ننتقل من اله الكون إلى اله التاريخ، من الاله الخالق إلى الاله المخلّص. إن الرب يسود الكون بجبروته ويراقب الأمم بعينيه فلا ترفع رأسها. نشيد الشعوب تحية إلى الرب بسبب ولادة اسرائيل، ونشيد السماء تحيّة إلى الرب بسبب ولادة الأرض. ووراء هذين النشيدين حلم عبور جديد يردّ الشعب من بلد المنفى إلى أرض الرب.
آ 8- 12: نقرأ في هذه الآيات فعل شكر جماعي من أجل خلاص بسيط سيكون رمزًا لخلاص أهم، ألا وهو الرجوع من المنفى. ويدعو المرتّل الشعوب إلى الخضوع والسجود لله ومباركة اسمه من أجل شعبه الذي بقي حيًا رغم الضيق والاضطهاد. ويتكلّم باسم الشعب عن هذا الخلاص، مكتفيًا بذكر المحنة التي عاشها دون أن يقول شيئًا عن وضعه الحاضر: دخلنا النار والماء، فصرنا قريبين من الموت حرقًا أو غرقًا.... ولكنها كانت محنة موقتة أرادها الله لتنقية شعبه كالفضة في الاتون. من خلال تلك التي حلت بهم كان للشعب بصيص أمل جعله يتيقّن أن التاريخ ليس وليد القدر الأعمى، بل نتيجة إرادة الله الرحيمة.
آ 13- 19: ويصلّي المرتّل أمام الجماعة ومن أجل الجماعة صلاة شكر يقدر كل واحد أن يتلوها ليخبر باهتمام اله العهد بكل فرد من أفراد شعبه. وهكذا يكون خلاص كل مؤمن عربونًا لخلاص الشعب كله. الله استجاب وأصغى إلى صوت صلاتي. تبارك الله الذي لم يردد صلاتي ولا رحمته عني.
3. نجد في هذا المزمور كلامًا بصيغة المفرد (أنا أصعد، أنا أحدثكم) وكلامًا بصيغة الجمع (لقد بلوتنا يا الله) مما يدلّ أننا أمام مزيج من صلاة فردية وصلاة جماعيّة تكوّن الصلاة الحقّة في اسرائيل. الفرد يحمل في قلبه صلاة الشعب، والشعب يدخل في عواطف الفرد فيعطيها أبعادًا واسعة.
ونجد أيضًا ربطًا بين محطات تاريخ الخلاص. فاسرائيل يتذكّر أعمال الله العظيمة من أجله، وسيتطلع أيضًا إلى ما سيعمله لأجله. لم يكن الشعب يحتفل بالماضي، وكأنّ الحاضر غير موجود، أو كأن الله لا يعمل في الزمن الحاضر، بل كان يعلم أن الزمن الحاضر يحمل زخم التاريخ الماضي ويتطلع إلى الرجاء الكامن في المستقبل. الله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد. انطلق اسرائيل من محنته الحاضرة فربطها بخروجه من أرض مصر (آ 6) متطلعًا إلى الخلاص العتيد.
ينجو اسرائيل فينشد فرحه ويشرك الأرض بهذا الفرح لأن خلاص اسرائيل رمز لفرح الشعوب كلها. وما يحصل لشعب الله يهم الأرض كلها، لأن الأمم معنيّة بعمل الله وإن لم تتنبه له، لأن ما يحدث لاسرائيل سيحدث للأمم فيما بعد، وقد بدأ بعضهم يتقرب إلى الله ويطلب رضاه (آ 3).
4. ألغيت ذبائح الحيوانات في العهد الجديد، فأصبح يسوع المسيح ذبيحتنا الوحيدة المعلقة على الصليب (عب 9: 12؛ 10: 8). وهذه الذبيحة التي تمَّت مرة واحدة وفي مكان واحد، امتدت عبر الزمان والمكان لتصبح ذبيحة الكنيسة الدائمة عبر سر القربان المقدّس. ففي ذبيحة الافخارستيا يقدّم المسيح ذبيحته إلى الآب، ونقدّم نحن ذواتنا معه بأفراحنا وأحزاننا وآمالنا متمّمين في أجسادنا "ما ينقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة" (كو 1: 24).
5. تأمّل
يبدأ هذا المزمور بالمديح: "اهتفوا لله يا جميع الأرض. رتّلوا لمجد اسمه، وهلّلوا لمجده تهليلاً". ويتواصل في فعل شكر ترفعه الجماعة: "باركوا إلهنا أيها الشعوب، واسمعوا صوت التهليل. هو الذي أبقانا في الحياة". وينتهي في فعل شكر فرديّ لأن ما يناله الفرد تناله الجماعة، وما تحصل عليه الجماعة لا يمكن إلاّ أن يصل إلى كل فرد من أفراد الجماعة: "سأدخل بيتك بالمحرقات وأوفيك يا ربّ نذورًا تلفَّظت بها شفتاي ونطقتُ بها في الضيق".
تُدعى الأرض، لا السماء، لكي تنشد مجد اسم الله، وتسجد عند قدمي الاله الذي انتصر عليها حين حوّل البحر إلى يبس. "قدّموا للرب مجدًا وعزّة، قدّموا للرب مجدًا لاسمه، اسجدوا للرب في بهاء قدسه" (29: 1- 2). وأمام هذا العمل العظيم، تندهش الشعوب. فعمل الخلق أو بالأحرى انتصار الربّ على المياه هو الذي يجعل السماوات تركع له. وحين ننتقل ممّا عمله الله في الكون إلى ما عمله في التاريخ، نصل إلى عظائم الله من أجل الإنسان.
بعد هذا يبدأ شكر الجماعة. لا لما فعله الربّ في الخروج، ولا لما رواه أشعيا الثاني من خروج جديد. بل من أجل تحرير أو بالأحرى بداية تحرير حصل عليه الشعب اليوم. هم لا يتحدّثون عن الحاضر، بل يقفون عند الماضي. قاربوا الموت، وصلوا إلى النار والماء. حلّ بهم الدمار والحريق والغريق... بل كاد، ولم يصل إليهم في العمق. كانت تلك محنة موقتة نقّى بها الله شعبه كما ينقّي الصانع المعدن في البوتقة.
وأخيرًا يأتي المرتّل فينشد شكره باسم الجماعة. فخلاص كل واحد يبقى عربونًا لما يرجوه الشعب المختار من خلاص. فكل خلاص هو امتداد لذاك الذي حدث للشعب في سفر الخروج. هتفت الشعوب في الماضي. وهي مدعوّة إلى أن تهتف اليوم: "تعالوا اسمعوا يا خائفي الله".
6. صلّوا ولا تملّوا.
"مبارك الهي الذي لم يرذل صلاتي ولا حبّه بعيدًا عنّي". تفسّر هذه الآية بواسطة سابقتها: "تعالوا يا جميع خائفي الله، اسمعوا فأخبركم بما صنع لنفسي". وها هي الخاتمة: "تبارك إلهي الذي لم يرذل صلاتي ولا حبّه بعيدًا عني". فالذي يتكلّم هنا قد بلغ إلى القيامة. أما نحن فما زلنا في الرجاء. بل نقول: نحن فيها وهذا الصوت هو صوتنا.
ما دمنا عائشين هنا، نطلب من الله أن لا يبعد عنا صلاتنا ولا رحمته. أن يعطينا أن نصلّي على الدوام، وأن يحفظنا دومًا في رحمته. هناك عدد كبير أصيبوا بمرض الذبول في صلاتهم. كانوا يصلّون بحرارة حين كان ارتدادهم حديثًا. ثم بذبول. وبعدها بإهمال. فكأنهم أحسّوا نفوسهم في أمان. ولكن العدوّ ساهر وأنت نائم. ولقد نبَّهنا الرب نفسه في الإنجيل: "صلّوا ولا تملّوا" (لو 18: 1). وقدّم لنا مثل القاضي الظالم الذي لا يخاف الله، ويهزأ بالبشر. كانت أرملة تتوسّل إليه كل يوم لكي يسمع لها. وهو الذي لم تجعله الرحمة يلين، تراجع فقالت: "مع أني لا أخاف الله وأهزأ من البشر، إلاّ أن هذه المرأة تزعجني. فأسمع قضيّتها وأنصفها". وزاد الرب: "إذا كان القاضي الظالم فعل ذلك، أتظنون أن أباكم لا ينصف مختاريه الذين يصرخون إليه نهارًا وليلاً؟ نعم أقول لكم: إنه ينصفهم بسرعة". (أوغسطينس).