إرفعوا الربّ إلهنا
المزمور التاسع والتسعون
1. المزمور التاسع والتسعون هو مزمور ينشده الله ملك اسرائيل الذي جاء ينظّم شعبه بعد رجوعه إلى بلاده. الله ملك في هيكله وفي الكون، ومُلكه مُلك مثاليّ. وإن كانت الابعاد المعاديّة ناقصة في هذا المزمور، إلاّ أن الشعب ينتظر ولا شك ملك الله المخلّص في اسرائيل المستقبل، الذي سيعيش بحسب برّ الله وقداسته. مجّدوا الرب الهنا واسجدوا أمام عرشه. هذه اللازمة التي تتردّد، مرتين بصورة كاملة، ومرة بصورة ناقصة، تشدّد على السجود الواجب لله القدوس أمام عرشه، أكان ذلك السجود أمام تابوت عهده، أم على جبله المقدّس، وهو سجود يعبّر عن قبول الشعب المختار بمتطلبات العهد والعمل بما يأمر به الرب.
2. الرب القدوس هو ملك صهيون العادل.
آ 1- 5: الله هو الديّان في شعبه. يبدأ هذا القسم بشكل ظهور الرب الجالس على عرشه، وكل شيء يرتجف حوله. يأتي الرب العظيم، الذي يرتفع بقامته فوق جميع الآلهة وفوق جميع الأمم. الله عظيم ومرهوب، وهو الاله القوي الذي ترتبط قوته بمحبته. فعرشه ثابت على العدل وهو لا يميل ولا يلتوي. ولا نعجب إن أخذ الله بيده مقاليد العدل والحق في شعبه. لقد رأى الرعاة الفاسدين، فأبعدهم عن القطيع وأخذه بيده ليقوده إلى مراعي الحياة (حز 34: 1 ي).
آ 6- 9: الله اله العهد، وقد ارتبط بشعبه عبر أشخاص اختارهم مثل موسى وهارون وصموئيل. هؤلاء الثلاثة كانوا يتوسّلون إلى الله من أجل الشعب، وكان الله يستمع إليهم ويجيبهم بكلام نبوي (85: 9)، وإن بقي محجوبًا عنهم عبر الغمام لئلا يخسر شيئًا من تساميه وسرّه. ولماذا استمع الرب إليهم؟ لأنهم حفظوا عهده وكانوا أمناء لشرائعه. والرب هو هو، لا يقبل النقاش والمساومة، ولا يرضى أن تنتقص متطلباته. هو مستعدّ أن يغفر، ولكنه مستعد أن يعاقب: إنه الاله القدوس.
3. يعلن المزمور: الرب قد ملك. فتأتي النتيجة: الشعوب ترتعد. إن آلهة الشعوب ترتعد أمام الرب. ولكن المرتّل ذكر الشعوب وأغفل ذكر الآلهة لأنه يعتبرها باطلة فارغة. ويعلن المزمور، الله جالس على الكاروبيم. والكاروبيم هم أشخاص سماويون يحيطون بالعرش. وهكذا يكون الرب ملك السماء والأرض. اسم الرب مرهوب، وعندما يتلفّظ به اسرائيل، ترتجف الآلهة والشعوب، وترتعد الخليقة كلها.
هذا الاسم يُلفظ به في أورشليم، لأن الرب يجلس بطريقة منظورة في أورشليم، ولأن تابوت العهد في أورشليم، ومن أورشليم يدلّ على أنه سلطان على كل شيء. إنه القدوس، وحده القدوس. وهذه القداسة تعني في هذا المزمور أن لا قياس بين الله والإنسان، بين الله والآلهة. الله هو القدوس، هو صاحب كل المبادرات، أما مبادرته الأهم، فهي أنه يقدّس شعبه وأتقياءه ومدينته ليكشف عن ذاته للبشر.
4. يطلب منا هذا المزمور أن نعترف بالرب الملك، كما يطلب منا أن نسجد أمامه لأنه قدوس (وتتردّد العبارة ثلاث مرات). هذه الكلمات استوحاها المرتّل من أشعيا (6: 1- 3) الذي رأى السيد جالسًا على العرش وحوله السرافيم، فذكَّر الذين ينشدون هذا المزمور أن اله العهد يُعبد بالخوف والرعدة، وقداسته تملأ الكون. وهذا الاله القدوس هو الاله الديّان الذي يرحم، ولكنه أيضًا يعاقب بشكل خاص الظلم وقساوة القلب والكبرياء والانانية كما نقرأ في رسالة القديس يعقوب (5: 1 ي). كما أنه يدعونا بشخص يسوع المسيح إلى أن نصلّي دومًا "ليتقدّس اسمك" متطلعين إلى يوم يملك الله على الكون، وتعمّ قداسته الشعوب كلها.
5. ما يطلبه الرب الملك
بعد الإعلان "الرب ملك" تأتي النتيجة المباشرة: "الشعوب ترتعد". نحن هنا أمام ظاهرة ادخال الاساطير في عالم التاريخ. آلهة الشعوب ترتعد ولكن المرتّل يتجاوز هذه الكائنات التي لا يهتم بها. وهذا ما يساعدنا على أن نفهم كيف أن شعب اسرائيل يرى خلال عبادته الشعوب ترتعد. وبعد هذا تأتي العبارة الثانية: "الرب يجلس على الكاروبيم" الذين هم أشخاص من عالم الاسطورة ومن عالم السماء وأشخاص يرتبطون بتابوت العهد. وهكذا يجلس الله ملكًا في السماء وعلى الأرض. الآن الأرض ترتعد لأن اسم الرب اسم مخيف. وحين يتلفظ به شعب اسرائيل تخاف الآلهة والشعوب والخليقة كلها.
لا شكّ في أن هذا الاسم يعلن في أورشليم حيث يجلس الله ملكًا بطريقة منظورة وحيث يقيم تابوت العهد. ومن أورشليم يبرز الله سلطانه على كل شيء وعلى كل إنسان. نفهم العبارة "هو القدوس" كما فهمها أشعيا: هو وحده القدوس. هذه القداسة الالهية هي أولاً صفة سلبية وتدلّ على أن الإنسان والآلهة والخلائق لا تقاس مع الله. القداسة هي الكلمة الأولى والكلمة الأخيرة التي يستطيع الإنسان أن يقولها عن الله. فإن كان الله هو القدوس فكل مبادرة تعود إليه، وهذه المبادرة تقوم في أن يقدّس شعبه والبشر ومدينته، في أن يكشف عن ذاته للبشر.
بهذه القداسة صنع الله ما يقدر وحده أن يصنعه. أولاً: أقام الحق والعدل. ثانيًا: اختار شعبه، نسل يعقوب، وملكًا ليحلّ في شعبه هذا الحق، هذا العدل. فاحترام هذه القداسة الالهية يعني احترام هذا الحق. ونعمة الاختيار وعطيّة الشريعة هما ما نسمّيه الوجهة الايجابية لقداسة الله التي تتجاوب معها طاعة البشر.
ويصوّر المزمور عمل هذا الاله القدوس والملك كما رآه أشعيا (6: 1 ي). اختار وسطاء بينه وبين شعبه ليعرّف شعبه إلى حقّه وقداسته ويورد المرتّل ثلاثة أسماء: موسى، هارون، صموئيل. حين كانوا يتكلّمون كان الله يجاوبهم. وحين كانوا يتشفّعون كان الله يستجيب صلاتهم. فيا ليت الله يرسل أمثال هؤلاء إلى شعبه.
6. كيف يستجيب الله لنا؟
ألا تفكرون يا إخوتي أن الذين كانوا يضجون بآلات الموسيقى لا يستاؤون من صومنا؟ أما نحن فلا نستاء منهم بل لنصم لأجلهم. لأن الرب الهنا الذي يقيم في قلبنا يأمرنا أن نصلّي من أجل أعدائنا، أن نصلّي من أجل الذين يضطهدوننا، وحين تفعل الكنيسة هذا تكون قد جاءت نهاية المضطهدين. استجيبت حين فعلت هذا وهي تستجاب أيضًا حين تفعله. كانوا الاقوى لشقائهم وجاءت نهايتهم من أجل سعادتهم الخاصّة. فكيف انتهوا؟ ابتلعتهم الكنيسة. وإذا بحثت حيث كانوا فلن تجدهم. إبحَث عنهم في التي ابتلعتهم فتجدهم في أحشائها. انتقلوا إلى الكنيسة، صاروا مسيحيين. زال المضطهدون وتكاثر المبشّرون بالإنجيل.
لهذا حين نرى في أعيادهم هؤلاء الذين يستسلمون لملذاتهم البغيضة والممقوتة، نصلي إلى الله من أجلهم لكي يجد الذين يفرحون بالموسيقى لذة في سماع صوت الله. فكيف يمكن لاصوات لا تحمل معنى أن تستعذبها الاذن ويبقى القلب جامدًا أمام كلمة الله؟ وحين نصوم في أيام أعيادهم نسأل الله ونصلي من أجلهم ليميلوا بأنظارهم إليه. وحين ينظرون إلى نفوسهم يحسّون بالقرف. فإن لم يكن الأمر هكذا، فهذا يعني أنهم لا يرون أنفسهم.
إن السكران لا يشمئز من نفسه بل يجعل الإنسان العفيف يشمئز. أعطني إنسانا يجد فرحه في الله. إنسانا جديًا يتوق إلى السلام الأبدي الذي وعده الله به. وقل لي: إذا رأى واحدًا مثله يرقصه على صوت الموسيقى ألا يشفق على مثل هذا الجنون؟ إذن نشفق عليهم لأننا نعرف شرورهم وقد تحرّرنا منها. وإن كنا نشفق عليهم فلنصل لأجلهم ولنصم لكي تستجاب صلاتنا. فأصوامنا لا تطابق أيام أعيادهم. أصوامنا تقع في الايام السابقة لعيد الفصح أو لأوقات جعلها المسيح احتفالية. أما الآن فالمطلوب أصوام أخرى: حين يبتهجون، نريد أن نبكي لأجلهم. وفرحهم يدعونا إلى البكاء ويذكرنا أنهم تعساء. ولكن حين نرى اخوتنا الكثيرين الذين تحرروا من هذه الحالة التي كنا فيها في السابق، لا نيأس. إن غضبوا أيضًا نصلي ونتابع الابتهال إلى الله ليمنحهم أيضًا الفهم ليسمعوا معنا هذه الكلمات التي تسبِّب لنا فرحًا: "الرب عظيم في صهيون، ومتعال فوق جميع الشعوب". (أوغسطينس).