رحبعام بن سليمان
بعد موت سليمان انقسمت مملكة إسرائيل إلي قسمين: المملكة الشمالية؛ وتتكون من عشرة أسباط، وعاصمتها السامرة، وملك عليها يربعام بن نباط الذي كان أحد عبيد سليمان. والمملكة الجنوبية؛ وتتكون من سبطي يهوذا وبنيامين، وعاصمتها أورشليم، وكان رحبعام بن سليمان ملكًا عيها. ثم توالى الملوك بعد ذلك في كل من المملكتين، كما نجد في أسفار الملوك وأخبار الأيام.
من هو رحبعام؟
هو ابن سليمان الذي تولى الحكم بعده، وعلى يديه، وبسببه، انقسمت المملكة العظيمة. وعلى قدر ما كان الأب حكيمًا، على قدر ما كان الابن جاهلاً، وتمت فيه أقوال سليمان: «فكرهت كل تعبي الذي تعبت فيه تحت الشمس حيث أتركه للإنسان الذي يكون بعدي. ومن يعلم، هل يكون حكيمًا أو جاهلاً، ويستولي على كل تعبي الذي تعبت فيه وأظهرت فيه حكمتي تحت الشمس؟» (جامعة 2: 18، 19). وفي قصة رحبعام، المدوَّنة في1ملوك12-14 و2أخبار الأيام10-12؛ نجد دروسًا عديدة.
نشأة رحبعام
عندما وُلد رحبعام أطلق سليمان هذا الاسم الذي يعني "مرحب الشعب" أو "موسع الشعب"، ولعله كان يتمنى أن يرى ازدهار المملكة على يديه، لكن للأسف حدث العكس تمامًا؛ إذ لم يكن رحبعام حكيمًا. وربما لعبت نشأته دورًا في هذا:
1- تربى رحبعام في مناخ غير صحي. فرغم تقوى سليمان في بداية حياته، إلا أنه للأسف تزوج بنساء أجنبيات أدخلن معهن عبادة الأوثان، وجلبن غضب الرب؛ وكانت أم رحبعام «نعمة العمونية» واحدة من هؤلاء. ولم يتنبه سليمان إلى الخطر الذي يهدد ابنه، مع أنه صاحب المبدأ الهام «رَبِّ الولد في طريقه (بداية طريقه)، فمتى شاخ أيضًا لا يحيد عنه» (أمثال6: 22). ونشأ الولد في القصر محاطًا بالترف والتنعم، وهو يطلب فيُجاب طلبه في الحال، ويتكلم فيُمتدح كلامه، ويشير بأصبعه فيجد عشرات الخدم يلبّون النداء. لذا كان مدللاً بلا تأديب، خلافًا لقول أبيه «العصا والتوبيخ يعطيان حكمة، والصبي المُطلق إلى هواه يُخجِل أمه» (أمثال 15: 29).
أحبائي الشباب هل نستمع لنصائح الكتاب: «الابن الحكيم يقبل تأديب أبيه، والمستهزئ لا يسمع انتهارًا»، وأيضًا «الأحمق يستهينُ بتأديب أبيه، أما مُراعي التوبيخ فَيَذْكَى» (أمثال1: 13، 5: 15)؟
2- كما أن أصدقاء رحبعام، الذين تربوا معه وعاشروه منذ الصغر، قد تركوا فيه أعظم الأثر. لم يكن منهم واحد يخاف الله أو يتمسك بشريعته. لذا لما استشارهم في قرار خطير يتعلق بالمملكة، أظهرت إجابتهم ما فيهم من غرور وكبرياء وخفة وسطحية وانعدام الحكمة والبصيرة. حقًا إن «المساير الحكماء يصير حكيمًا. ورفيق الجهال يُضر» (أمثال20: 13).
هذه العوامل انتجت شابًا متكبرًا أنانيًا ضعيف الشخصية، ضيق الأفق، وصفه أحدهم بأنه "وافر الحماقة ويعوزه الفهم". وقد ظهر هذا بوضوح في مواقفه المختلفة.
مواقف رحبعام
1- موقفه من الله:
في بداية شبابه لم تكن له علاقة حقيقية بالله، ولا استناد قلبي عليه. لم يفعل كأبيه سليمان ولا كحفيده يوشيا. فسليمان في باكورة حياته عندما تراءى له الرب قائلاً: «اسأل ماذا أعطيك؟» قد أقرّ بضعفه وقال له: «أنا فتى صغير لا أعلم الخروج والدخول. فأعطِ عبدك قلبًا فهيمًا لأحكم على شعبك وأميز بين الخير والشر، فحسن الكلام في عيني الرب» (1ملوك 3: 7-10)، ويوشيا «إذ كان بعد فتى (16سنة) ابتدأ يطلب إله داود أبيه» (2أخبار 34: 3).
أما رحبعام «فلم يهيئ قلبه لطلب الرب» (2أخبار 14: 12). ولا ننسَ أن رحبعام كان له رصيد عظيم من الإرشاد والنصح فيما كتبه أبوه خاصة في سفر الأمثال. كان يمكنه أن يعرف طريق الحكمة ومخافة الرب وأُتيحت له الفرصة ليذكر خالقه في أيام شبابه. لقد ملك في سن الحادية والأربعين؛ ولو كان قد عرف الرب منذ حداثته لكان عنده متسع من الوقت ليصبح حكيمًا، لكنه لم يرغب في هذا الأمر ويبدو أن حياة التقوى وما يصاحبها من حكمة كانت ثقيلة عليه وغير مرغوبة منه فانصرف عنها وتم فيه قول الرب «من يُخطِئُ عَنّي يَضرُ نفسه. كل مُبغضيَ يُحبون الموت» (أمثال8: 36).
ربما تسألني لماذا لم يستفد من مصادر الحكمة المتاحة له؟ لأنه لم يقدرها ولم يطلبها. فسليمان يقول: «يا ابني.. إن دعوت المعرفة، ورفعت صوتك إلى الفهم، إن طلبتها كالفضة، وبحثت عنها كالكنوز، فحينئذ تفهم مخافة الرب، وتجد معرفة الله. لأن الرب يعطي حكمة. من فمه المعرفة والفهم» (أمثال2: 3-6).
2- موقفه من الشعب:
أتى كل الشعب إلى رحبعام وعرضوا أمامه معاناتهم قائلين: «إن أباك قسَّى نيرنا وأما أنت فخفِّف الآن من عبودية أبيك القاسية ومن نيره الثقيل الذي جعله علينا فنخدمك»، وكانوا غير مغالين في طلبهم، بل عبّروا عن استعدادهم لخدمته. والإنسان، كما قال أحدهم، أمام القرارات الصعبة الحساسة يحتاج لأمرين يخطئ إذا تجاوزهما: أولاً الإرشاد الإلهي، ثانيًا خبرة الحكماء والمتقدمين. وإذ لم يتمكن من الحصول على الأمرين وقُدِّر له أن يتخلى عن واحد منهما، فعليه أن يطلب بكل إلحاح وإصرار مشورة الله، خاصة عندما يقف على مفترق الطرق. طلب رحبعام من الشعب مهلة ثلاثة أيام، ولو كان خصصها لطلب وجه الرب ليمنحه الحكمة والفطنة في التصرف لكانت النتائج اختلفت كلية عما صارت إليه.
3- موقفه من الشيوخ:
استشار رحبعام الشيوخ الذين كانوا يقفون أمام سليمان أبيه وهو حي، فأجابوه بكل ما لديهم من حنكة وخبرة: «إن صرت اليوم عبدًا لهذا الشعب وخدمتهم وأحببتهم وكلمتهم كلامًا حسنًا، يكونون لك عبيدًا كُل الأيام». وفي كلامهم نرى روح الاتضاع واللطف وحسن الكلام. ولكنه للأسف ترك مشورة الشيوخ واستشار الأحداث الذين نشأوا معه ووقفوا أمامه، فأجابوه «هكذا تقول لهم: إن خنصري (الأصبع الأصغر) أغلظ من متني أبي (حقوي أبي). والآن أبي حملكم نيرًا ثقيلاً وأنا أزيد على نيركم. أبي أدبكم بالسياط وأنا أؤدبكم بالعقارب»!! كانت العظمة عند الشيوخ تقوم على أساس الخدمة والرفق والحنان والكلمة الحلوة. والشيوخ - ولعلهم عاصروا داود وسليمان- قد أدركوا الفرق بين الاثنين.
فداود كان خادمًا للشعب وكافح وغامر بحياته من
أجله، وتعامل معه باللين والوداعة؛ لذا أحبه الشعب والتف حوله. أما سليمان فقد ملأ بطونهم طعامًا، لكنه ألهب ظهورهم بالسياط واستعبدهم. أما العظمة عند الشباب فكانت تقوم على التسلط والاستبداد، وهذا نابع من الغرور والكبرياء والثقة المفرطة في الذات. وللأسف مال رحبعام لمشورة الأحداث وارتكب ثاني خطأ، فلقد تجاوز مشورة الرب وتجاهل مشورة الشيوخ. وثار الشعب وظهرت بوادر الانقسام ولما أراد رحبعام قمعهم بمنتهى الحماقة وأرسل أدورام الذي علي التسخير، فرجمه جميع الشعب بالحجارة فمات. لذا أسرع الملك وصعد إلى المركبة وهرب إلى أورشليم مذعورًا خائفًا. وللأسف انقسمت المملكة.
أحبائي الشباب هل تعلّمنا دروسًا من حياة رحبعام؟ هل رأيتم خطر تجاهل رأى الوالدين والأشخاص المتقدمين وذوي الخبرة؟ هل لاحظتم عاقبة التصلف والغرور والاعتداد بالذات؟ هل تحذرتم من إهمال مشيئة الرب وعدم الخضوع لإرادته؟