كلمات الله وكلمات البشر
المزمور الثاني عشر
1. المزمور الثاني عشر توسّل ينشده المرتّل طالبًا معونة الرب ليستطيع العيش في عالم زالت منه القيَم. هل تتغلّب كلماتُ الناس على كلمة الرب، هل يسود الكذب حيث يجب أنَ تملك الأمانة والصدق والرحمة؟ أقوم الآن، يقول الرب. كان هذا المزمور، في البداية، صلاة شخص فرد، قبل أن يصير صلاة الجماعة فتتلو القسم الأول (2- 5) تاركة للكاهن أو النبي أن يتلو القسم الأخير (آ 6- 7): المساكين والاتقياء هم حصة الله الذي يدافع عنهم ويعزّيهم ويشجّعهم في ضيقاتهم.
2. كلمة الله قبالة كلام الكذب الذي يصدر عن الانسان الكاذب.
آ 1- 3: توسّل وشكوى: هنا يصوّر المرتّل خطيئة البشر: الباطل والرياء.
آ 4- 5: نداء إلي الرب ليتدخّل فيدين الانسان المتكبّر: إفناء الشفاه الكاذبة واللسان الطويل.
آ 6: كلمة نبويّة: يعلن الله أنه سيتدخّل، فيدين المتكبّر ويخلّص المساكين.
آ 7- 9: كلام يبعث على الثقة: كلمة الله حقّ تبدّد المنافقين وتحفظ أحبَّاء الله.
هذه الحالة صوّرها الانبياء (أش 7: 1؛ 59: 13؛ هو 4: 1) وقال فيها مي 7: 2: "قد هلك الصفيّ من الأرض، وليس بشر مستقيم. جميعهم يكمنون للدماء، وكل منهم يصطاد أخاه بشرك". تجاه هذه الحالة، يدعو المرتّلُ الربّ لكي يتدخّل. وعندما يرى المرتّل حالة الكفر التي يعيشها شعب الله، يحسّ بالألم، فتنقلب صلاته دعوة على المنافقين ليقطع الرب ألسنتهم ويُسكت شفاهَهم، ونداء إلى كلمة الله لكي تحميه وسط عالم يسيطر عليه الشرّ.
3. كلمة الانسان تميّزه عن بقية الخلائق، ولكنها لا ترفعه إلى مستوى الله، بل تساعده على أن يصرخ إلى الربّ طالبًا النجدة. فكلمة الله وحدها قديرة. كلمة الله وحدها صافية كالفضّة النقيّة المصفّاة. أما كلمات البشر فلها قوّتها، وهي تحارب كلمة الله. هي كلمات كذب، لها ظاهر الفضة وهي معدن بخس الثمن. ولهذا يتعلّق المرتّل بكلمة الله، لأنها اليقين الوحيد الذي يستطيع أن يتمسّك به في هذا العالم، ولأنها تفعل فعلها في العالم. أقوم الآن، يقول الرب، وأعطي الراحة للبائسين المضايقين.
4. كان يسوع خلال حياته محاطًا بأعداء أرادوا مرارًا أن يوقعوه في أشراكهم (يو 8: 6؛ مر 12: 13)، كما كان بقربه أحد رسله، صاحب الشفة الكاذبة والقلب المخادع. ولكنه بقي ذلك الحقّ الأمين (رؤ 19: 11) الذي أعطاه الآب النصر والعزة (رؤ 12: 10) والخلاص والراحة. والكنيسة الأمينة لكلمة المعلّم تُضطَهد عندما تقول كلمة الحقّ، ويموت منها أناس عديدون بسبب إعلانهم عن كلمة الحقّ باسم الرب.
وفي عالم كثُر فيه الكلام فأخذ الواحد حذره من الآخر، في عالم زال منه معنى الحبّ والأمانة وأخذ الانسان يُظهر غير ما يُبطن، نحن بحاجة إلى هذا المزمور نتلوه اليوم أكثر من أي يوم. هكذا نعيش المحبّة التي تصدّق كل شيء (1 كور 13: 7) وتستر جمًا من الخطايا. كما نتذكّر كلام القديس يعقوب عن الانسان صاحب القلبين (1: 8)، وصاحب اللسان الممتلئ بالسمّ المميت (3: 8). ولا ننسى أن علينا نحن المؤمنين أن نكون نورًا للعالم وسط جيل ضال ملتوٍ فاسد (فل 2: 15).
5. كلمة الله وكلام الناس
ما عاد الناس يثقون بالله، بل بكلامهم، الذي صار بالنسبة إليهم سيّدًا وربًا. لقد حلّ كلامُهم محلّ كلام الرب في نظرهم، فصار لهم وسيلة للوصول إلى السلطان.
وهنا يتعارض دورُ الكلمة في شعب الله ودور الكلمة في سائر الديانات، وتتعارض كلمة الله وسلام الشر. في سائر الديانات، يكون الانسان سيّد نفسه، وهو يستطيع بكلمته أن يتحكّم بالآلهة وبقدرتهم. حينئذ يحسب نفسه ربًا، ويريد أن يتحكّم أيضًا بقريبه بالسحر أو بالكذب، فيقود الآخرين في طريق معوجّة تسير بهم إلى الهلاك. أجمل، وقد تألّه الانسان بكلمته، فما عاد يعرف ولا يمارس المحبّة والرحمة والأمانة.
أما في إيمان شعب الله، فالكلمة لا تؤلّه الانسان، ولا تبرّر امتيازاته بالنسبة إلى الفقراء، بل تحفظه في مكانته كخليقة. بهذه الكلمة يطلب المؤمن المساعدة، ويصرخ ملتمسًا العون. غير أن كلمة الله وحدها قديرة، وهي صادقة وشفّافة كفضة لا زغل فيها. ثم إن الرب يقولها من أجل البؤساء يخلّصهم ويعزّيهم.
أجل، إن إيمان المرتّل يدعوه، لكي يتعلّق بقوّة بكلمة الله التي فعلت في البدء وما زالت تفعل. هذه الكلمة ستتأنّس في شخص يسوع المسيح فتحمل لنا قدرة الله، وثقة ما بعدها ثقة، ووعدًا بالحياة لا يخيب.
6. الفضيلة أمر مضنٍ وهي تقدّم صعوبات جدّية خصوصًا حين يعيش الذي يمارسها وسط عدد قليل جدًا من أهل الخير. هكذا تكون الطريق صعبة خصوصًا حين يكون المسافر وحده وبدون رفيق له في سفره. فجماعة الاخوة المتّحدين هي تشجيع قويّ. لهذا قال القديس بولس: "أنظروا بعضكم إلى بعض لتندفعوا إلى المحبّة والأعمال الصالحة" (عب 10: 24). لهذا، فما يجعل الآباء الأقدمين جديرين بكل مدائحنا، ليس أنهم ساروا دومًا في طريق الفضيلة، بل لأنهم مشوا فيها وحدهم ساعة لم يُرَ على الأرض بذار فضيلة، ولا انسان يتبع الفرائض (الالهيّة). هذا ما يعبّر عنه الكتاب حين يقول: "كان نوح بارًا وكاملاً وسط رجال عصره" (تك 6: 9).
لهذا، نحن نُعجب بابراهيم ولوط وموسى، لأنهم كانوا كالنجوم المضيئة وسط ليل عميق، كالورود بين الأشواك، كالنعاج وسط الذئاب. ولأنهم تبعوا طريقًا تعارض سلوك الآخرين كلهم، ولم يميلوا عنها. فإذا كان من الصعب أن نقاوم العدد الكبير... إذا كان من الصعب أن نوجّه السفينة ضد عنف الرياح والأمواج... فكم هو صعب ممارسة الفضيلة حين نكون وحدنا ضدّ الجميع. لهذا نرى الملك القديس الذي تجرّأ وحده فكان لها أمينًا تجاه الجميع، فتوسّل إلى عناية الله وقال: "خلّصني يا رب". أي، أنا بحاجة إلى عون من العلاء، إلى قدرة تنزل من السماء، إلى الحماية الالهية. فأنا أسير في طريق معاكس لطريق سائر البشر، ولهذا يكون سندُ عنايتك الأبويّة أمرًا لا استغني عنه.
هو لا يقول: "خلّصني لأنه لا يوجد قدّيس". بل: "خلّصني لأن القديسين زالوا". أي، إن القدّيسين الذين وجدوا على الأرض قد أدركتهم الرذيلة، فسقطوا في الشرّ الذي استولى عليهم. هذا ما خافه القديس بولس حين كان يقول للكورنثيين: "أما تعلمون أن قليلاً من الخمير يكفي لكي يفسد المجموعة كلها" (1 كور 5: 6). وقال أيضًا: "الخطب الرديئة تفسد السلوك الحسن" (1 كور 15: 33).
"كل يكلّم قريبه بالباطل، وشفاهم مليئة بالكذب. يتكلّمون بقلب وقلبين". ويترجم مفسّر آخر: "يتكلّمون بقلبين". يشير الملك النبيّ هنا إلى واقعين يحملان الخطأ: قالوا كلامًا باطلاً. قالوه لقريبهم. هذه الكلمات الباطلة هي أكاذيب أو أمور غير مفيدة كليًا. فالقديس بولس يدخل الحقيقة عينها في هذه التوصية: "لا يكذب بعضكم على بعض" (كو 3: 9). وما يحزن القلب هو أن الفساد كان عامًا...
"أقوم الآن، يقول الربّ، بسبب شفاء الذين لا عون لهم، وأنين المساكين. أجعلهم في موضع آمن وأفعل هذا بحريّة تامّة". وحسب ترجمة أخرى: "أتمّ خلاصه بشكل ساطع". تأمّلوا هنا قدرة التواضع. فالمساكين يقاسمون (الله) قدرته، والرب يمنح عونه للمساكين في وسط محنهم، للمساكين ذوي القلوب التائبة. ما يهتمّ الله له ليس الحياة السعيدة. ولا الفضيلة، بل الألم، وهو ينتقم الانتقام العادل. كما أن احتمال الجور بشجاعة له استحقاقه في نظر الله، كذلك تكون عنايته عظيمة تجاه الذين هم ضحيّة الاضطهاد. (يوحنا فم الذهب).