التعهد بالعطش
يوحنا ذهبي الفم
"كما يشتاق الإيل إلى جداول المياة هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله" (مز 42). هذا هو أسلوب الأحباء، لا يحتفظون بحبهم سراً لكنهم يفشونه لجيرانهم، ويقولون أنهم في علاقة حب، فالحب هو متوهج بالطبيعة، والنفس لا تستطيع إخفائه في صمت. هكذا نرى أيضاً تصريح بولس بمحبته لأهل كورنثوس قائلاً: "فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون. قلبنا متسع" (2 كو 11:6)، أي: أنا غير قادر على الصمت والإحتفاظ بحبِّي لنفسي، لكنني دائماً وفي كل مكان أحملكم في ذهني وعلى لساني. بطريقة مماثلة أيضاً، هذا الرجل المبارك (داود) يحب الله ويحترق بالحبَّ، لا يستطيع تحمل السكوت، لكنه يقول مرةً: "كما تشتاق الإيل إلى جداول المياة هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله"، ومرةً أخرى يقول: "يا الله إلهي أنت. إليك أُبكر. عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء" (مز 63). وبما أنه عاجز عن إظهار حبه، يبحث عن مثال لكي يوصل مشاعره إلينا، حتى يمكنه بذلك أن يجعلنا مشاركين في هذا الحب. ليتنا إذن نثق بكلامه، ونتعلم الحب بطريقة مماثلة.
لا تقل لي: كيف أحب الله الذي لا أراه؟ فنحن نحب العديد من الناس الذين لا نراهم، مثل أصدقائنا في البلاد الأجنبية، أطفال وآباء وأقرباء. إن عدم رؤيتهم لا يمثل بالنسبة لنا أي عقبة بل على العكس هذه الحقيقة ذاتها كثيراً ما تلهب محبتنا بالأكثر، وتزيد أشواقنا. لذلك يقول بولس عن موسى أنه ترك الكنوز والغنى وبهاء القصر الملكي، وكل مباهج الشهرة في مصر، وإختار أن يذل مع شعب الله، ولكي يعطينا السبب، بأنه عمل كل هذا من أجل الله، أكمل قائلاً: "لأنه تشدد كأنه يرى من لا يرى" (عب 11). أنت لا ترى الله لكنك ترى الحقائق المخلوقة، ترى أعماله، السموات والأرض والبحر. الإنسان الذي يحب، حتى ولو رأى أعمال المحبوب، صندله، ثوبه، أو أي شيء آخر يخصه، يلتهب بالحبَّ. أنت لا ترى الله لكنك ترى خدامه، أصدقائه، أعني القديسين الذين يتمتعون بثقته. أهتم بهم وأخدمهم، وسوف تشبع رغبتك. نحن عادة نحب ليس فقط أصدقائنا بل أيضاً أولئك المحبوبين لديهم. إذا قال أحد أولئك الذين نحبهم: أنا أحب فلان، ثم تصادف وقابلت هذا الفلان، تعتبر نفسك سعيد الحظ ، وتبذل كل جهد وتعب في الإهتمام بهذا الشخص، كما ولو أنك قد رأيت حبيبك شخصياً. من الممكن ممارسة هذا أيضاً في حالة المسيح، هنا والآن، إذ أنه قال: أنا أحب الفقراء، وإذا تلقوا معاملة جيدة، أنا أكافئ كما ولو أنني شخصياً أتمتع بالعطية.
أن الأمور الثلاثة التالية عادة تُسبّب الحبَّ بشكل خاص فينا: الجمال الجسماني، الإحسان الواسع، أن تكون محبوب من قِبل الشخص. كُل أمر من هذه الأمور بحد ذاته يمكنه إثارة الحب فينا. أعني، حتى ولو لم نتلقى أي شيء صالح من شخص ما، ونسمع أنهم مستمرون في محبتنا، يمدحوننا ويحترموننا، نحبهم فوراً ونكون مولعين بهم، كما ولو كانوا قد أحسنوا إلينا. أما بالنسبة لمحبة الله، هذه الأمور ليست هي فقط التي تجعلنا نحبه، إلا أنه مع ذلك يمكننا رؤية هذه الأمور الثلاثة بدرجة فائقة منقطعة النظير، بحيث لا يمكن للكلمات التعبير عنها.
أولاً، جمال الطبيعة المباركة التي بلا عيب، فائقة الجمال جداً ولا تقاوم، تتجاوز كل منطق، وتتحدى كل فهم. ولكن أيها الأحباء، عندما تسمعون ذكر الجمال، لا تتصوروا أي شيء جسماني، بل مجداً روحياً، وجمالاً رائعاً لا يوصف. لكي يعبر عن ذلك، قال النبي: "السيرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة. باثنين يُغطي وجهه وباثنين يُغطي رجليه وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس" (إش 6)، من جراء الدهشة والتعجب أمام هذا الجمال وهذا المجد. داود أيضاً بدوره أدرك هذا الجمال نفسه، بعد أن أخترقه هذا المجد الذي للطبيعة المباركة، وقال: " تقلد سيفك على فخدك أيها الجبار بجلالك وبهاءك" (مز 45). وموسى أيضاً إشتاق لرؤية هذا المجد، مجروحاً بهذا الحب، وعاشقاً لهذا المجد (خر 33). لذلك قال أيضاً فيلبس: "أرنا الآب وكفانا" (يو 14). إلا أنه على أية حال، مهما تكلمنا وقلنا، فلن ننجح في وصف ولو القليل من هذا الجمال الرائع المحتجب.
هل تود بدلاً من ذلك أن تُعدد إحساناته؟ لا تستطيع اللغة أيضاً على تصويرها. لذلك قال بولس: "شكراً لله على عطيته التي لا يعبر عنها" (2 كو 15:9)، وأيضاً "ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو 9:2)، وأيضاً "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقة عن الاستقصاء!" (رو 11). فأي كلمات يمكنها وصف المحبة التي أظهرها الله من نحونا؟ يوحنا في إندهاشه أمامها، هتف قائلاً: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 16:3).
من الناحية الأخرى، إذا كنت تُفضّل سماع كلماته الخاصة وتتعلم إشتياقاته، إستمع إلى ما يقوله من خلال النبي: "هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها. حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك" (إش 15:49). وكما قال داود "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياة هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله"، هكذا أيضاً يقول المسيح: "كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا" (مت 23)، ويقول أيضاً: "كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه" (مز 103)، وأيضاً "لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه" (مز 103). وكما يبحث داود النبي عن مثال ليظهر إشتياقاته، هكذا الله أيضاً يستعمل الأمثلة ليوضح لنا المحبة التي عنده من أجل خلاصنا. وكما تكلم النبي عن غزال عطشان وأرض ظامئة، تكلم الرب عن محبة الدجاجة لفراخها، ومحبة الأب للبنين، وإرتفاع السموات عن الأرض، وتحنن الأم على رضيعها، ليس بكونه يحب فقط بنفس المقدار الذي تحب به الأم رضيعها، بل لأنه ليست هناك أمثلة للحب بالنسبة لنا أفضل من تلك الحدود والمعايير والأمثلة. إذ أنه لا يحبنا فقط بحسب المقدار الذي تحب به الأم الحنونة أطفالها، بل أكثر بكثير، لنسمع ما يقوله: "حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك". قال هذا ليظهر أن إشتياقاته من نحونا أشد حرارة وتوهجاً من أي مودة وحنان بشري. لتأخذ هذا كله في الحسبان، تأمله في داخلك، ولتنتج حباً متوهجاً وتُشعل لهباً ساطعاً.
بما أن بيننا نحن البشر، لا شيء يمكنه إشعال الصداقة مثل إستعادة مواقف الطيبة واللطف، لنفعل ذلك أيضاً فيما يخص الله . دعنا نتأمل كل ما فعله من أجلنا، السموات ذاتها، الأرض، البحر، النباتات وأنواع الزهور الكثيرة، الماشية، الزواحف، الأسماك في البحر، الطيور في الجو، النجوم في اسماء، الشمس، القمر - باختصار كل الأشياء المرئية - البرق، النظام الدقيق الذي للكون، تعاقب النهار والليل، فصول السنة. لقد نفخ فينا روحاً، منحنا عقلاً، شرفنا بالسيادة العُليا. بعث إلينا بالرسل، أرسل الأنبياء، وبعد ذلك أرسل لنا ابنه الوحيد. ويحثك على تتميم خلاصك شخصياً ومن خلال ابنه الوحيد، وبولس لا يتوقف على أن يكون سفيره: "كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله" (2 كو 5). ولم يتوقف حتى عند هذا الحد، بل أخذ باكورة طبيعتنا و"أجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً" (أف 1).
الآن وقت مناسب لنقول: "من يتكلم بجبروت الرب. من يُخبر بكل تسابيحه" (مز 106)، وأيضاً: "ماذا أرد للرب من أجل كل حسناته لي" (مز 116). فما الذي يمكنه مضاهاة هذه الكرامة، إذ أن باكورة جنسنا - الذي أهين إلى مثل هذه الدرجة ورُفضَّ - جالس في مثل هذه الرفعة العظيمة ويتمتع بمثل هذه الكرامة؟!
لتتأمل ليس فقط في إحسانات الله العامة، بل أيضاً في الإحسانات المقدمة لك خاصة، مثل تبرئتك من إتهام في وقت ما أفتري فيه عليك، مثل إنقاذك من قطاع طرق في ظرف ما عند منتصف الليل وهروبك من حيلهم، مثل إعفاءك من دين في وقت ما كان مفروضاً عليك، مثل شفاءك من مرض عانيت منه بشكل مريع. تأمل في جميع أفضال الله عليك في حياتك بأكملها، وسوف تجد عدداً ضخماً جداً، ليس فقط في حياتك كلها بل حتى ولو تأملت يوماً واحداً من حياتك، لأنه إذا أراد الله أن يلفت إنتباهنا إلى كل الإحسنات التي يمنحنا إياها كل يوم، والتي نحن نجهلها وغافلين عنها، سنكون عاجزين حتى على إحصائها. كم من الشياطين تطير في السماء؟ كم عدد القوات المعادية؟ إذا سمح لهم فقط بإظهار منظرهم المفزع والقبيح، ألا نفقد رشدنا؟ ألا نهلك؟!
متأملين في كل هذا، وكل الخطايا التي نرتكبها، بإرادتنا أو بغير إرادتنا، سنكون في حالة مملوءة بالعرفان والحب، إذ إنها ليست بمسألة طفيفة كون الله لا يتخذ إي إجراء تجاه ذنوبنا. عندما تنظر إلى الذنوب التي ترتكبها كل يوم، وكل الإحسانات التي يقدمها لك كل يوم، مقدار طول الآناة التي تتمتع بها، مقدار المغفرة التي تحصل عليها - إذ أنه لو أتخذ الله أي إجراء كل يوم، لن تعيش ولو لفترة قصيرة، كما قال النبي: "إن كنت تراقب الآثام يارب يا سيد فمن يقف" (مز 130) - سوف تقدم الشكر له ولا تشتكي من أي شيء يحدث لك. بل على العكس، سوف ترى أنك حتى ولو قاسيت مصاعب عديدة، لن توفي حتى الجزاء الكافي، وهكذا من خلال هذا الإستعداد سوف تُشعل رغبة مفعمة بالحياة، وتقول مع المؤلف المُلهم: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياة هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله".
من المناسب الآن بحث لماذا جلب هذا الحيوان لإنتباهنا؟ إن الإيل بطريقة ما مخلوق عطشان، ولهذا السبب يأخذ نفسه بشكل ثابت إلى ينابيع المياة. هو عطشان بالطبيعة، وأيضاً بأكله الأفاعي وتغذيته بأجسامهم. أفعل أنت هكذا، كل الأفاعي الروحية، حطَّم الخطية أرضاً، عندئذ تكون قادراً على العطش بأشواق نحو الله. كما أن الضمير الشرير يجعلنا ملوثين ويدفعنا لليأس، هكذا عندما نسحق الخطية ونطرد الفجور نكون في حالة متطلعة إلى الشوق الروحي، وندعو الله بغيرة وحماس عظيم، ونُشعل الحب بشكل أشَّد حرارة، ونغني هذه اللازمة (قرار المزمور) ليس فقط بالكلام بل أيضاً بأعمالنا ذاتها.
أنه لهذا السبب، في الحقيقة، غنّى داود المبارك هذا المزمور لنا - أو بالأحرى نعمة الروح القدس - ليس لمجرد أن نتلو الكلمات، بل لكي نضعها موضع التطبيق بأعمالنا ذاتها. لذلك لا تفكر بالدخول هنا (الكنيسة) لمجرد ترديد الكلمات، بل لكي تعتبر اللازمة (القرار) كميثاق عندما ترنمها. فعندما قلت: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياة هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله" قد أبرمت عهداً مع الله، لقد وقّعت على سند بدون ورقة أو حبر، معترفاً بالكلمات أنك تحبه فوق كل شيء، وأنك لن تفضل أي شيء آخر عليه، وأنك محترق بالحب نحوه.
لذا إذا صادفت عند خروجك إمرأة جميلة - لكن بأخلاق منحطة - تغريك وتدعوك إلى محبتها، قل لها: أنا لا أستطيع الذهاب معك، قد أبرمت عهداً مع الله في حضور الأخوة والكهنة والمعلمين. لقد قدمت نذراً بالإيمان ووعدت بمحبته بقولي قرار المزمور الذي يقول: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياة". أنا أخاف كسر الميثاق، من الآن فصاعداً سوف أضع محبتي له للممارسة العملية.
إذا لمحت مالاً في السوق أو ملابس مذهبة، أو أناس آخرين تتبختر مع الخدم والخيول التي بالألجمة الذهبية، لا تتأثر بهذا العرض، بل غني لذاتك مرة أخرى، وذكّر روحك بالقرار الذي كنا نغنيه الآن: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياة هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله"، الذي بترتيلنا إياه إتخذناه لأنفسنا وجعلناه ملكنا.